شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
العقّاد بين نقد الشيخ صالح اللحيدانورؤية الدكتورة نعمات فؤاد ..
إذا ذكر المفكّرون في كلّ أمّة، والمبدعون في كلّ حضارة يكون عبّاس محمود العقّاد (1889- 1964) واحدًا من القلّة التي تركت أثرًا لا يمحى، وفكرًا لا يتضاءل في تاريخ العربيّة في عصرها الحديث، وهو يذكّرك في تنوّع معارفه وثراء ثقافته إضافة إلى الجَلَد والصّبر الذي لا يقوى عليه إلا أصحاب العزائم القويّة، يذكّرك في هذا وغيره بأديب العربيّة الكبير أبوعثمان عمرو بن محبوب الجاحظ (160- 255هـ).
وبلغت المؤلّفات التي كتبها الأستاذ العقّاد في حياته حوالي مائة مؤلّف في حقول متنوّعة منها الأدب والاجتماع والتاريخ واللغة والمذكّرات، والنّقد والفلسفة والسياسة والشخصيّات الإسلامية والعربية "أي العبقريات"، ومنها ما يدخل في باب الإسلاميات والتراجم، إضافة إلى الترجمة والقصة.
وقد أهداني الشيخ الفاضل والمتخصص في أشرف العلوم الإسلامية وهو علم الحديث النبوي ورجاله صالح بن سعد اللحيدان، كتابه الموسوم بـ"نقد آراء ومرويات العلماء والمؤرخين في ضوء العبقريات" الصادر عن دار راجح للدراسات والنشر والتوزيع، وقد صدرت الطبعة الأولى منه سنة 1425هـ -2004م، ويعترف الشيخ اللحيدان بقيمة "العبقريات" التي أجاد الأستاذ "العقّاد" في كتابتها كأي فنّ من الفنون الأخرى التي كتب فيها، فيقول المؤلف عن تلك الإجادة (والعقّاد في عبقرياته أجاد ومنح الثقافة جديدًا من الطرح المتميز)، ولكنّه يأخذ على المرحوم العقّاد عدم تثبّته من صحّة بعض المرويات التي استشهد بها، إضافة إلى أخذه بالمنهج النّفسي، ويتمنّى الشيخ اللحيدان لو أنّ الأستاذ العقّاد رجع إلى كتب نقد الرجال في الرواية مثل "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم، و"تهذيب الكمال" للمزي، و"تذكرة الحفّاظ" للذهبي، ويأخذ عليه اقتصاره على مطولات التاريخ وهذه فيها غث وسمين ورطب ويابس (مقدمة كتاب الشيخ اللحيدان، ص 6).
ولعل المرء يتساءل في أنّ إخضاع كتب مثل العبقريات لمثل هذا المنهج فيه شيء من طلب غاية الكمال التي لا يمكن تحققها عند أديب ومفكّر مثل العقّاد، ويعرف شيخنا -جزاه الله خيرًا- أنّ بعضًا ممن دوّنوا السيرة النبوية لم يكونوا ممن يوثق بهم عند رجال الحديث؛ ولكنّه موثوق بهم في صدق راية السيرة المباركة، بل إنّ بعضًا من كتب السيرة المتقدّمة أوردت أشعارًا لأمم بادت مثل "عاد" و"ثمود"، وقد أوضح المتخصّصون في نقد رواية الشعراء مثل "ابن سلام الجمحي" في كتابه (طبقات فحول الشعراء) والجاحظ في "الحيوان" و"البيان والتبيين" فساد مثل هذه الروايات، ولكن ذلك كلّه لم يقلّل من قيمة ابن هشام وابن إسحاق والواقدي وسواهم.
اتّفق مع الشيخ اللحيدان في ما أورده عن قوّة عارضة الشيخ محمّد صادق عرجون وخصوصًا في ما قرأته شخصيًّا عن شخصيّة الخليفة الثّالث سيّدنا عثمان بن عفان، وشخصيّة الصحابي المعروف سيّدنا خالد بن الوليد رضي الله عنهما، وكذلك في قراءته للسيرة النبوية الطاهرة، ولكنني اختلف مع الشيخ اللحيدان في المقارنة بين عرجون والعقّاد فكلٌّ له مجاله وأدواته الخاصة به، ومواضع تفرّده.
يرى الشيخ اللحيدان أنّ العقّاد (خير من طه حسين في كتبه التي بيّنتها من قبل، وخير من توفيق الحكيم في كتابه حياة محمّد) و(أهل الكهف)، وخير من أبي ريّه في كتابه عن (أبي هريرة) نقدًا ومرويات، ص 17.
العبد الفقير إلى الله يرى أن لا وجه للمقارنة بين جميع الأسماء التي أوردها الشيخ اللحيدان وبين العقّاد ويكفي العقّاد فخرًا وحبًّا لتراث أمّته ما نقد به دراسات بعض المستشرقين في الأدب العربي والدراسات الإسلامية؛ فهو يقول عنهم، عن معرفة ودراية كبيرتين بخلفيات المتطفّلين على تراث العربية، (فإذا صرفنا النظر عن عمل الكثيرين منهم في دراسة اللغة لأغراض دينية أو سياسية فهم قبل كل شيء مؤرخون أو أصحاب إحصاء وتسجيل، لم يعهد فيهم أنهم حجة في آداب بلادهم، فهم أحرى ألا يكونوا عندنا حجة في آدابنا العربية بخاصة في مسائل الذوق الفني واختيار الشعراء والحكم على الشعراء)، [أنظر: عباس محمود العقّاد، اللغة الشاعرة، مطبعة الاستقلال الكبرى، ص 114].
ويتعدى نقد "العقّاد" لهذا النفر من المستشرقين إلى ما تركوه وراءهم من حوار بين وأنصار، فيقول رحمه الله: "على أن موازين النقد الأدبي الذي اشتغل به هذا النفر من المستشرقين، لا تسلم على هيئة من جراء أخطائهم لأنهم ضللوا أناسًا من تلاميذهم فاتبعوهم في أكثر الأخطاء التي كانوا يقعون فيها من جراء عجزهم عن النفاذ إلى حقائق التاريخ وأسرار البلاغة)، المصدر السابق: ص 132.
والعقّاد في نقده للمستشرقين يدعو للاستعانة بموازين البحث العلمي على تصحيح تلك الأخطاء التي وقعوا فيها، وهذا ما اتبعه في تتبع أخطاء الدكتور سنكلر صاحب كتاب "مصادر الإسلام"، وقد رد الأستاذ العقّاد شبهة في القرآن الكريم، وهذا النقد وسواه يوضح معتقد "العقّاد" القوي وإيمانه بدينه اعتزازه بتراثه.
وقد حمدت للشيخ اللحيدان عند حديثه عن كتاب الشمائل المحمّدية للإمام الترمذي، وكان شيخنا يتمنى لو أن العقّاد رجع إليه عند حديثه عن شخصية النبي صلّى الله عليه وسلّم، والذي اتفق مع الشيخ اللحيدان في أنه قبل وبعد كل شيء هو نبي ورسول يوحى إليه ولا ينطق عن الهوى في ما يأمره به ربه عز وجل.
نعم لقد حمدت له -أي الشيخ اللحيدان- في إيجاد العذر للأستاذ العقّاد عندما ختم عبارته تلك بقوله: (ولكن العقّاد يعذر حسب فهمي لمجمل النصوص، لأنه أراد بعمله هذا الخير أحسبه كذلك والله حسبه)، وهذا المشرب الذي عليه الشيخ اللحيدان هو ما نفتقده عند البعض ممن يقدمون -هداهم الله- سوء الظن بعقائد الآخرين، ويتحملون من العذر كثيرًا عندما يفتشون في عقائد الناس والتي لا يعلم بسرائرها إلا رب العباد وشرع الله واضح في هذا الباب ولا يحتمل التأويل وهو الحكم بالظاهر وعدم التخرص أو الظن بمعتقدات الأمة.
على أنني أحببت أيضا أن أدوّن رأي الكاتبة المعروفة الباحثة في فنون الفكر والأدب، الدكتورة نعمات أحمد فؤاد، عن مردود كتب العبقريات في حقبة كانت الأمة تقف فيها على مفترق الطرق لكثرة المذاهب الفكرية المطروحة، وخصوصًا الماركسية التي أخذت بعقول بعض شباب الأمة ـ آنذاك ـ وعلى ضوء هذا السياق الحضاري والفكري تأتي قيمة أعمال العقّاد الفكرية وخصوصًا تلك المتصلة بالدين الإسلامي.. تقول الدكتورة نعمات (وعبقريات العقّاد فيها قيم بمثلها تقيم الكتابة والكتاب فالعقّاد في العبقريات الإسلامية يثبت الإيمان عند الحائر لا بتحلية الوقائع التاريخية أو التزويق الأدبي، ولكن بمناقشة المسائل الشائكة التي يجهر بها العدو ويخافت الصديق؛ ففي عبقرية محمّد صلّى الله عليه وسلّم ناقش دعوى انتشار الإسلام بالسيف، كما ناقش قضية الجزية التي جعلها الإسلام ضريبة حرية العقيدة يتحلل بها من لا يريد اعتناقه، وحتى هذه الجزية رفعها عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- عن أهل الكتاب للسن والحاجة)، أنظر: د. نعمات أحمد فؤاد، الجمال والحرية والشخصية في أدب العقّاد، سلسلة اقرأ، دار المعارف، ط2، ص 93، وتذكر الدكتورة نعمات أيضًا أن من الحقائق التي جلاها كتاب العقّاد عن سيدنا عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- حقيقة موقف الإسلام من الفتوح فهل في الأمر شهوة السيطرة واللهج بالحكم؟ أم هو تأمين الجزيرة مهد الإسلام من الدول العظمى التي تتهددها وتتحيفها وهي تتاخمها؟ ويرى المرحوم العقّاد بأن الإسلام لو يوجب القتال إلا حيث أوجبته جميع الشرائع وسوغته جميع الحقوق، كما ناقش العقّاد حريق مكتبة الإسكندرية، والتي رأى العبد الفقير إلى الله أن من خير من تصدى لها ـ إضافة إلى الأستاذ العقّاد كل من الشيخ عبدالله العلايلي، وجبرائيل جبور في كتابه (كيف أفهم النقد)، حيث يثبت المؤرّخ والأديب "جبور" بأنّ مكتبة البطالسة التي اشتهرت بها مدينة الإسكندرية قد أحرقها يوليوس قيصر حين غزا البلاد المصرية سنة 48 ق.م، أمّا المكتبة الصّغرى التي نشأت بعدها فلقد أتلفت بأمر الإمبراطور "ثيودوسيوس" حوالي سنة 389هـ، واندثرت مكاتب الإسكندرية من بعد ذلك فلم يكن من مكتبة عظمى يوم الفتح الإسلامي. [انظر: جبرائيل سليمان جبور: كيف أفهم النقد، دار الآفاق بيروت، ط1، 1403هـ/ 1983م، ص 203].
إنّني لم أجد في ما كتبه الشيخ الراوية صالح اللحيدان عن عبقريات العقّاد، ما يقلّل من قيمة هذا المفكّر والأديب والنّاقد، وما أحوج الأمّة إلى أمثال العقّاد في هذا العصر الذي اختلطت فيه الكثير من المفاهيم - بسبب حركة العولمة والتي لم يأخذ العرب والمسلمون-للأسف الشديد- إلا بالجانب الهزيل فيها، وتركوا كلّ ما يمتّ إلى العلم والبحث الجاد والتقنية المتطوّرة بسبب، وأن في حضارتهم وفكرهم وتراثهم لكثير ممّا يدخل في هذا الباب؛ ولكنهم خلّفوه وراء ظهورهم، جهلاً وضعفًا. وتمر الأمم من أمامنا وهي تسير في قطار الحياة مسرعة أو مهرولة ونحن نكتفي بموقف المتفرج أو الإمّعة، وكلا الأمرين مرفوض شرعًا وعقلاً.
آخر الكلام:
من شعر العقّاد الذي يرثي فيه الوطني محمّد فريد:
أطْلقت وجْدَانِي ومِثْلُكَ يُطْلقُ
فالنَّفسُ تألْمُ والجَوانحُ تُخْفقُ
مرَّتْ بِي الأيامُ أنكر كلَّما
يبدي الخيالُ وما يعيدُ المَنطقُ
أجفو الكلامَ، وقد يفوّتُ مُكتوٍ
ناجٍ، ويسكتُ في اللَّظى من يخنقُ
أسفي عليكَ وقد تقسّمَكَ الضَّنى
والشَّوقُ والألمُ المُلِحُّ المُصعِقُ
في عالمٍ يسعُ المدائنَ والقُرَى
فإذا طلبتَ الحقَّ فهو المأزَقُ
وغدوت كالشَّبحِ المُردِّدِ كلّما
دجت الحوادثُ يستثارُ فيُطْرقُ
مثلت لعينيَّ صورتَاكَ فَرابَنِي
نظير ولكنَّ الفجائعَ تصدقُ
أكذا تحور النَّفسُ في أجْسَادِها
أكذا يحول الرَّونقُ المتألِّقُ
في هذه سمتُ الحياةِ. وهذه
فيها الحياةُ بقيّةٌ تتعلَّقُ
وهنا الطِّماحُ المشرئبُّ وها هنا
سأمٌ على رغم التجلُّدِ مُحدقُ
شكلانِ ما اختلفَ اختلافُهُما على
بعد الوشيجِ مغرِّبٌ ومُشرِّقُ
حالت مَجالي البشر وانْطفأ السَّنَى
في وجْهكِ الضَّاحي وغاضَ الرَّونقُ
في خمسةِ الأعوامِ بدّلَ كُلُّهُ
إلا سماحة ماجدٍ لا تَخلقُ
وتساءلَ الأحبابُ كيفَ تَرونَهُ
فتلعثَمُوا حَذَرَ الجَوابِ وأطْرَقُوا
وأتَى النَّعي فقال كلُّ مروَّعٍ
اليومَ تبذلُ الدُّموع وتُهْرقُ
ما ماتَ قبلَكَ يا فريدُ مجاهدٌ
إلا وأنتَ السَّابقُ المُتفوِّقُ
 
 
 
طباعة
 القراءات :254  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 76 من 107
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج