شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
حسن الصيرفي.. إبداع للكلمة وترسيخ
للانفتاح وتأسيس لوعي أدبي حديث..
 
تعوّدنا في زمن النشأة في بلد المصطفى صلّى الله عليه وسلّم أن نصغي لأشعار (حسن الصيرفي)، ينشدها أصحاب الأصوات الندية: ولقد تغذى وجدان هؤلاء الناشئة بكل جميل ومتقن في بلد يعشق فيه الناس الطيبون الجمال، وترفض أذواقهم كل فظ من القول، وقبيح من الفعال، في وسط تلك الغابات الكثيفة من أشجار النخيل التي كانت تحوط المدينة المنورة في قباء، والعوالي، وقربان، والعيون، كانت القمارى تُغرِّد على رجع صوت الآذان، ومديح المصطفى صلّى الله عليه وسلّم، في سماء المدينة المنورة تتعانق الأرواح، وتتلاقى الأحاسيس، ويرتفع إلى المقامات العلى نداء الألسنة التي تطيبت بذكر بارئها حمدًا وثناءً وتهليلاً واستغفارًا.
في (عقيقها) كانت تجتمع ثلة من مبدعين، ورثوا قول القصيد من أسلاف لهم وآباء. كان هذا في السبعينيات الهجرية-الخمسينيات الميلادية- ورثوه عن حسان بن ثابت، وكعب بن مالك، وعبدالله بن رواحة، وأبي قيس بن الأسلت الأوسي، ومن أجيال لاحقة أفسح لها ديوان الشعر مكانًا متميزًا لتفردها في العبارة الشعرية؛ كان منهم جعفر البيتي، وعبدالجليل برادة، وإبراهيم الأسكوبي، وأنور عشقي، وعمر الكردي الكوراني، ولحق بركبهم محمّد العمري الواسطي، وإبراهيم وعمر البري، وعبيد مدني، وعلي حافظ، وعبدالقدوس الأنصاري، وعبدالحق النقشبندي، وضياء الدين رجب، وأحمد العربي، ومحمّد سعيد دفتردار، وعبدالرحمن عثمان، وحسين قاضي.
في العقيق تأسست (أسرة الوادي المبارك) على نهج الأبارية، والأنورية، وأم الشجرة، والحفل الأدبي، وهي نواد ينشد فيها الأدب الرصين، وتتعانق فيها علوم الشريعة مع علوم الأدب والآلة وسواها، في كل واحد لا يعرف التشطير أو الانقسام.
نعم بين الجماوات، وفضاء عروة، وذي الحليفة، وعلى وقع هدير المياه في وادي العقيق، كان جيل يتهيأ، ومواهب تتشكل، وعقول تنقدح علمًا ومعرفة. نعم، إنه جيل عبدالعزيز الربيع، وعبدالرحمن رفة، وحسن الصيرفي، وعبدالسلام هاشم حافظ، ومحمّد هاشم رشيد، وعبدالرحيم أبوبكر، وماجد أسعد الحسيني، ومحمّد العامر الرميح، ومحمّد حميدة، ومحمّد العيد الخطراوي، وعبدالرحمن الشبل، ومحمّد كامل خجا، ونشر بعضهم إنتاجهم مبكرًا مثل الحسيني في (حيرة)، ومحمّد رشيد في (وراء السراب)، والصيرفي في (دموع وكبرياء)، ولحق زملاؤهم بهم فنشروا إبداعاتهم الشعرية والأدبية فتلاقت أصواتهم مع أصوات المبدعين من جميع أنحاء الوطن الواحد، الذي كانوا يجتمعون على حبه، ويتلاقون في رحابه على الإعلاء من قيمة العقل والفكر، الذي انبثقت شرارته الأولى من مدرسة الفقهاء السبعة، ومدرسة إمام دار الهجرة مالك بن أنس، الذي أبى أن يعمم خلفاء بني العباس (موطأه) في الفقه على حواضر العالم العربي، الذي كانت توحده الخلافة، وهو مسلك لم يدرك أبعاده ـ للأسف ـ بعض من اللاحقين، فكان الانحياز للرأي الواحد، والتعصب لظاهر النص بعيدًا عن قرائنه ومقاصده السامية.
كان المرحوم الصيرفي، الذي رحل في سلام وطمأنينة أخيرًا، قادرًا في إبداعاته الشعرية على استخدام اللفظ السهل وتطويعه.. ولهذا كانت قصيدة الصيرفي الأكثر قرباً من الوجدان الشعبي؛ مع أنه لم يكن يملك جزالة قصيد عبيد مدني، وضياء الدين رجب، وعبدالقدوس الأنصاري، كما أنه كان بمنأى عن التحليق في فضاء الفلسفة والتأمل في مظاهر الحياة، كما كان يفعل (ماجد الحسيني) في (حيرته)، ولأن الصيرفي كان يسعى للاقتراب من الواقع، وتجسيد معاناته، فلم يكن منضويًا تحت راية الرومانسية التي جسد شيئًا من رقتها وانسيابيتها الرشيد وعبدالسلام حافظ، وإذا كانت قدرات محمّد الخطراوي، ومحمّد العامر الرميح، ومحمّد كامل خجا، وعبدالسلام حافظ، مكنتهم من إبداع القصيدة العمودية التقليدية جنبًا إلى جنب مع قصيدة التفعيلة، التي كانت متساوقة مع تجديد السياب، ونازك الملائكة عربيًا، وحمزة شحاتة، ومحمّد حسن عواد، وغازي القصيبي وأسامة عثمان، وسعد الحميدين، ومحمّد العلي، وإبراهيم مفتاح محليًا، فإن مواهب (الصيرفي) تمثلت في قدرته على التقاط الكلمة (الدارجة) وتحويلها إلى أنشودة تغنى، ومن الذي لم تصل إلى أسماعه من أجيال الأمس (يا فاغية يا جميلة)، و(لا لا يالخيزرانة في الهوا ميلوك)، فرددها بينه وبين نفسه، مستمتعًا بذلك الإحساس العفوي الذي كان يتبطن نفس ذلك الشاعر القدير، ولكنه ـ أي الصيرفي ـ عندما كان يتغنى بالتاريخ، كما في قصيدته الذائعة الصيت (أمجاد المدينة)، كان قادرًا على أن يجاري شاعرًا كبيرًا مثل حافظ إبراهيم، وزنًا وقافية، وصورة شعرية أخاذة، وقد ذكر الصيرفي -رحمه الله- قبل عقد من الزمن -عندما كرمه الأستاذ الأديب عبدالمقصود خوجه، وكنت عندئذ أجلس بجانبه مزهوًا بصحبته- بأنه أبدع هذه الرائعة وهو يقف على مشارف (أحد)، حيث التاريخ وشواهد العظمة في حياة سيد المرسلين -صلّى الله عليه وسلّم- نبيًا وقائدًا وإنسانًا، وقف له التاريخ مُعظّمًا ومبجّلاً، عن استحقاق وجدارة تقصر دونها همم الآخرين، وطموحاتهم المتواضعة.
وقف الناس ينظرون مناري
كيف شع الهدى على كل نجد
أنا دار الإيمان والمثل العليا
ورمز الخلود في كل مجد
أنا إن بدد الزمان شعاعي
لن ترى النور هذه الأرض بعدي
أنا خير البقاع كرمني الله
بخير الأنام في خير لحد
في رحابي ترعرع العلم طفلاً
ومشى حارسًا جحافل أسدي
دوخوا قيصرا وطاحوا بكسرى
ومضوا يتبعون هندا بسند
ومضى طارق ببعض ألوف
يتحدى بعزمهم أي عد
يذرع الأرض، لا يهاب المنايا
ويدك الحصون من غير رعد
الأثير الذي به يتباهون
لقد كان لي كأطوع عبد
وجيوش السماء يوم حنين
نصرت معشري بأكرم جند
والأعاصير والرياح بسلع
مزقت شمل قاصدي بالتعدي
أنا هذا الذي ذكرت فمن ذا
يرفع الرأس بعد هذا التحدي
 
بموت الصيرفي -رحمه الله- تنطفئ شمعة، وتطوى صفحة، وتغيب عن دنيانا شخصية متعددة المواهب، أثرت بشكل لافت في أجيال متلاحقة في بلد الحب والطهر والإيمان، وبقي لهذه الأجيال أن تقول كلمتها عنه بكل حيادية وتجرد، فذلك صنيع الأمم التي تقدر أثر الكلمة والإبداع في حياتها ووجودها.
 
طباعة
 القراءات :220  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 68 من 107
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور سعد عبد العزيز مصلوح

أحد علماء الأسلوب الإحصائي اللغوي ، وأحد أعلام الدراسات اللسانية، وأحد أعمدة الترجمة في المنطقة العربية، وأحد الأكاديميين، الذين زاوجوا بين الشعر، والبحث، واللغة، له أكثر من 30 مؤلفا في اللسانيات والترجمة، والنقد الأدبي، واللغة، قادم خصيصا من الكويت الشقيق.