شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
شخصيّات موسوعيّة في تاريخ المدينة
الأستاذ عبدالستار بخاري ..!
ذكرت في المقالة السابقة الموسومة (العلوم الشرعية وملامح عن التعليم في المدينة المنورة) عددًا من المشايخ الذين تلقت الأجيال عنهم العلوم الشرعية وسواها كعلوم اللغة العربية والعلوم الأخرى مثل الحساب والجبر والهندسة والفلك، والذي يلاحظه المرء على تلك الشخصيّات هو موسوعيّتها الثقافية وأشير هنا مثلاً إلى شخصية الأستاذ عبدالستار بخاري والذي لازمته في الحرم النبوي الشريف لمدة من الزمن، فلقد كان واحدًا من أشهر القرّاء والحفظة لكتاب الله؛ فلقد كان زميلاً للشيخ السيد أحمد ياسين خياري في مدرسة القراءات المعروفة بالمدينة، وقد حدثني أستاذنا الفاضل محمّد حميدة -أمد الله في عمره- بأن الأستاذ عبدالستار نبّهه لبعض القراءات الخاصة لبعض الكلمات الواردة في القرآن الكريم مثل كلمة (نهر)، وهو علم لم يجده عند سواه، وتفسيري لهذا الأمر أن الأستاذ عبدالستار كان بجانب حفظه للقرآن مرجعًا هامًا في علم اللغة العربية ونحوها وصرفها، وأتذكر أنّني صلّيت برفقته في مسجد قباء، وكان مكتوبًا على المحراب حديث في فضل الصّلاة في المسجد، فسألني عن إعراب بعض الكلمات فيه، وأفاض في الحديث حتى وددت أنّه لم يسكت. كان يحفظ من أشعار السابقين واللاحقين الشيء الكثير، وعرفت رواية منه عن أشعار إبراهيم الأسكوبي، ومحمّد العمري، وسعد الدين برادة، وهذا الأخير فقدت الكثير من أشعاره ولم يبقَ منها سوى قصيدته المعروفة التي يتشوق فيها للمدينة ويشبهها بفتاة حسناء:
عَنْ دُرِّ مَبْسَمِها عَنْ دَمْعِ أجْفَانِي
عَنِ الشَّقيقِ، كَذا عَنْ خَدِّها القَانِي
عَنِ المُحيَّا عَنْ البَدْرِ المُنيرِ، وعَنْ
سُوْدِ الغَدَائرِ، عَنْ لَيْلاتِ أشْجَانِي
ومنها:
يَا لِلْهَوى لِسُويْعَاتٍ مَضَتْ بِقُبَا
ولِلْعَوَالِي بِقَلْبِي وخَزْمَرَانِ
قُرْبَانُ رُوْحِي أفْدِيهِ لِرؤْيَتِها
يا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أُحْظَى بِقُرْبانِ
وا حَرَّ قَلْبي على وادِي العَقيقِ فَكَمْ
أجْرَته عَيْنايَ مَنْظومًا بِعِقْيانِ
لذلكَ السِّيحِ سَاحَتْ عَبرتي وَغَدَتْ
تسقى النَّقا ولَكَمْ سَالتْ بِبطْحَانِ
ويعود الفضل في حفظها للمنشدين من أهل المدينة مثل الشيخ إبراهيم السمان المدني، والشيخ محمّد النجّار، والسيد حسين إدريس هاشم. ولقد أدرك العبد الفقير إلى الله هذه الشخصيات جميعًا، وكان الشيخ السمّان مؤذّنًا بالمسجد النّبوي الشريف، ورحل إلى الشام أثناء الحرب العالمية الأولى، ثم عاد إلى المدينة في الثمانينيات الهجرية، وكان قد بلغ سنًّا متقدمة من عمره المبارك، وتوفى رحمه الله وخلفه ابنه أحمد في الآذان لمدة من الزمن. أما الشيخ النجّار فلقد كان من حفظة كتاب الله، وكان لحلاوة صوته يدعونه بـ"بلبل المدينة المغرّد"، وسمعته لأوّل مرة ينشد المدائح في النبي صلّى الله عليه وسلّم في دار شيخ القرّاء بالمدينة فضيلة الشيخ حسن الشاعر -رحمه الله- سنة 1384هـ، والذي حفظ عدد من أئمة المسجد النبوي الشريف القرآن على يديه، ومنهم الشيخان عبدالعزيز بن صالح أشهر أئمة المسجد النبوي الشريف في العصر الحديث، والشيخ إبراهيم الأخضر؛ والذي يعدّ مرجعًا في علم القراءات. وكثير من الناس يتساءل لماذا تغيب عن الأسماع أصوات تحفظ كتاب الله تجيده، وتتقنه مثل الشيخ الأخضر، والشيخ خليل الرحمن القاري، والشيخ عبدالعزيز القاري، والشيخ محمّد أيوب، والشيخ صديق الميمني.
أعود للأستاذ عبدالستار وشخصيته الموسوعية؛ فلقد كان مع حفظه لكتاب الله يحفظ كثيرًا من روايات (البيان والتبيين) للجاحظ، و(يتيمة الدهر) للثعالبي، والأغاني (لأبي فرج الأصفهاني)، ولعلّ اطلاعه على هذا الكتاب أفاده في معرفة السُّلم الموسيقي، فكل صوت كما هو معروف يخرج من فم الإنسان له ذبذبات معينة يمكن إرجاعها إلى هذا السلم، والذي جمع بعض الرواة مقاماته في كلمة (بحمردسج) فالباء (للبنجكة) والحاء (للحراب) والميم (للماية) والراء (للرصد) والدال (للدوكا) والسين (للسيكة) والجيم (للجاركة). وبعض هذه الكلمات تعود في جذورها للغات أخرى كالفارسية مثلاً، والتي أثرت فيها اللغة العربية، مع أنها -أي العربية- من فصيلة اللغات السامية والفارسية من فصيلة أخرى، ودخلت ألفاظ أخرى في اللغة العربية واندمجت في سياق اللغة التي شرّفها الله بنزول الوحي بها، ومن يرد أن يعرف المزيد فليرجع إلى كتاب (المعرب) للإمام الجواليقي وغيره من المراجع في هذا الباب.
وكان أستاذنا عبدالستار بخاري من أشهر المؤذّنين في المسجد النبوي الشريف، وقد رفع الأذان منذ نهاية حقبة الدولة العثمانية، وذلك عندما حدثت واقعة (سفربلك) والتي هجّر فيها فخري باشا قائد المدينة العسكري في نهاية العصر العثماني أهل المدينة لتركيا وبلاد الشام سنة 1335هـ، وأخليت المدينة من معظم سكّانها، ومن لم يذهب إلى تلك البلاد قهرًا وظلمًا، غادرها إلى مكة المكرمة، وبعض الأسر المدنية لم تعد إليها إلى وقتنا الحاضر، وإشارتنا إلى واقعة (سفربلك) تتصل بالأستاذ عبدالستار حيث احتاجت حكومة الأشراف، والتي تسلّمت مسؤولية المدينة من فخري باشا سنة 1337هـ إلى أصوات حسنة ترفع الأذان فوقع الاختيار على الشيخين عبدالستار وحسين بخاري، واستمر هذا الأخير في أداء مهمته الإيمانية لحوالي منتصف الثمانينيات الهجرية؛ حيث مرض وكان يقوم بالمهمة ابناه عبدالعزيز وعصام حسين بخاري، ولقد توجّهت في كلمة سابقة إلى فضيلة الشيخين صالح الحصين ونائبه لشؤون المسجد النبوي الشيخ عبدالعزيز الفالح إلى تعيين الابن سعود عبدالعزيز بخاري في مهمة الأذان لمرض والده، والذي رفع الأذان من فوق منائر مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لمدة تقارب نصف قرن من الزمن، وانتشر صوته النّدي والمؤثّر في جميع بقاع المعمورة يدعو لفريضة الإيمان والتوحيد؛ بل إنني رجوت الشيخ الفالح، وهو رجل صاحب حكمة ودراية، رجوته شخصيًّا في منزل الأخ الكريم الأستاذ عبدالكريم الحنيني وكيل إمارة منطقة المدينة، حيث كان الاحتفاء بأمير المدينة الجديد عبدالعزيز بن ماجد وفقه الله في عمله، وقد وعد الشيخ الفالح خيرًا. وانتهز هذه المساحة لتذكير الشيخين الكريمين بذلك. وقد قام كلّ من فضيلة الشيخ محمّد بن سبيل ورديفه فضيلة الشيخ صالح بن عبدالله حميد-إبان مسؤوليتهما عن الرئاسة للحرمين الشريفين بتعيين عدد من أبناء المؤذّنين في الحرم المكي مثل أبناء المؤذنين: صالح فيدة، وعبدالله بصنوي، أحمد شحات، وعبدالحفيظ خوج، وإبراهيم عباس، وكذلك بمبادرة كريمة من الشيخ صالح بن حميد عيّن كلّ من أبناء المؤذّنين في المدينة ماجد حكيم وعبدالملك نعمان مكان آبائهم..
إنّ إكرام أهل الجوار مما حثّت عليه الأحاديث الصحيحة ومنها ما روي عن السيدة عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: المدينة مهاجري ومضجعي. فيها بيتي، وحقّ على أمتي حفظ جيراني، وفي حديث آخر: كلّ البلاد فتحت بالسيف والرمح، وفتحت المدينة بالقرآن وفيها قبري ومهاجري، وحقّ على كلّ مسلم حفظ جيراني من بعدي. [انظر: الأحاديث الواردة في فضائل المدينة، جمع ودراسة الدكتور صالح الرفاعي، منشورات الجامعة الإسلامية بالمدينة، ط1، 1413هـ - 1992م].
واختم مقالتي هذه بقصيدة شاعر المدينة المعروف الشيخ المحدّث محمّد بن أحمد العمري الواسطي 1280 -1350هـ وقد أخذ عنه العلم مؤرّخ المدينة وشاعرها الكبير السيد عبيد مدني، كما أخبرني الأستاذ المؤرّخ محمّد حسين زيدان أنه أخذ عنه شيئًا في علم الحديث، وقد وردت القصيدة، والتي قالها العمري في فظائع الحرب العالمية الأولى التي شهدتها المدينة، ومنها تهجيرهم وتشتيتهم، شتّت الله من شتّتهم وجمع شمل من جمع شملهم، وردت في كتاب (الشعر الحديث في الحجاز) للأستاذ عبدالرحيم أبوبكر، وفي كتاب أستاذنا الدكتور محمّد العيد الخطراوي والذي صدر أخيرًا بعنوان: (محمّد سعيد دفتر دار- مؤرّخًا وأديبًا)، وجزى الله الباحث والمؤرّخ والأديب الخطراوي على الاهتمام بتراث المدينة سيرة ورواية وأدباً.. يقول الشيخ محمّد العمري في قصيدته المشهورة:
دارُ الهدى خفَّ مِنكِ الأهلُ والسَّكنُ
واسْتَفرغتْ جَهْدها في ربَعْكِ المِحَنُ
عفا المُصلَّى إلى سَلَعٍ إلى أُحِدٍ
والحرَّتانِ، ومرأى أرضِها الحَسَنِ
أقوى العقيقَ إلى الجما، إلى جَشم
إلى قُباء التي يحيا بها الشَّجنِ
منازلُ شبَّ فيها الدِّينُ واكْتملَتْ
آياتُهُ، فاسْتعارَتْ نُورَها المُدُنُ
لأيِّ أرضٍ يشدُّ الرَّحلَ رَاكِبُه
يَبغي المَثوبةَ أو يَشْتاقُهُ عَطَنُ؟
أبعدَ رَوْضَتِها الفَيحا، وقُبَّتها الخَضراء
يحلُو بِعيني مُسلمٍ وَطَنُ؟
ما غُوطةُ الشَّامِ؟ ما نهر الأُبَّلةَ؟
ما حمراءُ غُرنَاطَةَ ما مِصرُ ما اليَمنُ؟
منازلُ نَفحتْ بالطِّيبْ واكتملت
بالنُّورِ يَأوي لها الفُرقانُ والسُّننُ
ما كنتُ أعرفُ ما للشّوقِ من أثَرٍ
حتّى ترحَّلَ بي عَنْ رَبْعِها البَدَنُ
يا راكبًا حملت شوقًا مطيَّتُهُ
نضوًا تغوَّله الأحزانُ والشَّجَنُ
قد أرْغَمَ الدَّهرُ أنْفي إذا فارقتُها
مروَّعًا قد جَفاني النَّومُ والوَسَنُ
كأنّني طائرٌ قُصَّتْ قَوَادِمُهُ
فَرَاحَ يَحْجِلُ، لا عشٌّ ولا وَكَنُ
يا أهلَ طَيبةَ والآلامُ عَاصفةٌ
والنّاعياتُ يبكينَ الأُوَلى دُفِنوا
عُودوا إلى الله، عَلَّ الله يُسْعِفُكُم
من فتنةٍ دُونها الأهوالُ الفِتَنُ
 
 
 
 
 
طباعة
 القراءات :344  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 32 من 107
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاثنينية - إصدار خاص بمناسبة مرور 25 عاماً على تأسيسها

[الجزء الأول - مقالات الأدباء والكتاب في الصحافة المحلية والعربية (1): 2007]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج