شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
عبدالله بصنوي
اليوم -يا سيدي- بعد ما يقرب من عقد من الزمن ونصف على رحيلك استعيد ذكرى حياة عشتها طولاً وعرضًا، كرامة نفس في غير تعال، وشجاعة في غير تعدٍّ على الآخرين حتى وإن أساؤوا إليك يومًا وكثيرًا ما فعلوا، وحلم لا تكدره التفاهات وصغائر الأشياء، وسخاء تبذله للأقارب والأباعد في غير منة ولا تفضّل، ويوم تعرّفت عليك منذ ما يقرب من أربعة وثلاثين عامًا أدركت أنني أمام رجل نسيج وحده، واكتفيت بك أبًا روحيًّا وصديقًا، وأمحضتني من الودّ صافيًا ما كنتُ فخورًا به في مسيرة حياتي، فلقد علّمتني أنّ من يصنع المعروف ويقدّم الجميل ينساه ولا يأتي على ذكره، وهذا لا يتّأتى إلا لأصحابِ الهمم العالية والأخلاق الرّفيعة.
كان أصدقاؤك في كلّ حي من أحياء البلدة الطاهرة.. وأنت إن صحّ القول تتغنّى بهم ولا ترضى أن يذكرهم أحد عندك بسوء، وعندما اعتزل الرجال والمطاليق في بيوتهم كنت تطلب منّي أن أرافقك لزيارتهم، ومشينا يومًا على الأقدام نقطع حي المسفلة على الأقدام حتى وصلنا كُدي، وطرقت باب منزل متواضع ففتح الباب فلمّا دخلنا وجدنا رجلاً قد أقعده المرض، وكانت فرحته كبيرة بقدومك، وكعادتك أشعرته بأنّك مقصّر في حقّه، وما كنت كذلك يا أبا محمّد، ولمّا انصرفنا همست في أذني: هذا يا أستاذ (حامد شلبي) أحد رجالات القرارة. وهمست بعبارات بلغت أذني تقول فيها: رجل بأمّة، وأمّة في رجل. وعلمت أنّ الأمّة لا تضيع والرجال لا يفقدون مواضعهم ولا تبتذل مكانتهم ما دام أنّ الله قد أكرم مجتمعًا طاهرًا بنفس كريمة مثلك تعيش فيه وتنثر الودّ على أحبابك، وإنّك لتنثره من نفس طبعت على التقوى، وجبلت على المعروف والإحسان.
لن أنسى يومًا عندما انتحى بك السيّد الفاضل المحدّث محمّد بن علوي المالكي -رحمه الله- جانبًا، وكان كعادته يجلّ كبار القوم سنًّا ومعرفة، وقال لك صديق عمرك أحمد شحات، أحد مؤذّني المسجد الحرام المعروفين، يشكو من جفوة بينكما وأنّ الرّجل من محبّته لك واعتزازه بك قد سمّى أحد أبنائه باسمك.
أخذت بنصيحة رجل العلم، وطلبت منّي أن أرافقك لداره في (المسفلة)، وكنت تفضّل أن تمشي على قدميك عندما تزور صديقًا أو تواسي أخًا وحبيبًا، وطرقنا باب الرجل إيّاه، وكانت دهشته كبيرة وفرحته أعظم بقدومك. وإذا أنت كعادتك تتحدّث بصوت منخفض لتقول لي: هذا مثلك من أهل الجوار، محبّته واجبة تيمّنًا بوصية المصطفى صلّى الله عليه وسلّم في حقّ جيرانه.
وسألتني ذات يوم ونحن نحثّ الخُطى إلى بيت الله الحرام، كأنّ الدور والأماكن شاخصة أمامي، منازل ودور زيني حسن، والسيّد علي برقة، وعبّاس قطّان، وعطا إلياس، وآل إدريس، والبازان، ومجلس حسين غزاوي بجانبه، فإذا أنت تمسك بيدي كما يمسك الأب بيد فلذة كبده، وتسألني متحيّرًا، ترى هل أبناء الحارة يجدون في أنفسهم شيئًا عليَّ؟! وكنت أعرف أنك قد أبعدت عنهم كثيرًا من الشرور عندما تأدّبوا بيدك لا بيد غيرك، فأجبتك إنّهم يحبونك، وإنّهم ليرون فيك قدوة ومثالاً، وكان إذا مرّ أبومحمّد من طرقات الحي لم يشخص ببصره إلى الأعلى، ويطأطئ تلك القامة الشامخة تواضعًا لله وبعدًا عن الصلف والكبرياء. ولأشد ما يمقت الله وعباده وأرضه وسماؤه ذلك الضَّرب من صفات الغطرسة أو سمات التعالي. كان إذا ما مرّ أمام شباب الحيّ قاموا له احترامًا وتركوا ما يلهون به في أيديهم. وإنّني لأتحدث عن جيل أضحى في سن الكهولة، وأعلم أنّ بعضًا ممّا كنا نفخر به عند شباب الأمس قد أصبح في باب الأسطورة، وإنّنا لنتغنى بما أضحى في حكم النّادر أو المنقرض؛ ولكن هذا لا يمنع من أن تتفتّح أعين النّاشئة على تلك الأخلاقيات التي كان يتحلّى بها كبار الأمس وصغارهم.
كان إذا غضب من أحدٍ لا يريدك أن تغضب معه، وإذا خاصم -وقليلاً ما كان يفعل- يطلب منك أن تنأى عن تلك الخصومة، وأتذكّر أنّنا في صعودنا أو هبوطنا بين بيت الله وحي الشامية، مررنا برجل يجلس وحيدًا؛ فألقيت التحية عليه، وأحسست أنّ الوالد البصنوي كان غاضبًا منه لأمر ما، ولكن بعد أن تجاوزنا الرجل توجّه إلي بالكلام ليقول: فرحت بإلقائك التحية على الرجل، إنني يا بني أتطلّع بأن تكون محبوبًا عند جميع سكان الحي. وطلبت منه مرّة أن يذهب مع صديق لنا ليتوسّط عند صاحب عمارة سكنية في حي أجياد وذكرت له المالك، أجاب مرحباً: اليوم بعد صلاة العصر تنتظرني أنت وصديقك عند باب (المقام) -يقصد (مكبرية) الآذان في الحرم الشريف-، نزل من درج المقام ولسانه يلهج بالذّكر والدّعاء، يزيّن محياه تاج العمامة التي كان يرتديها، وسجّادة الصّلاة على كتفه، وانطلقنا إلى حي (أجياد)، دخلنا على الرجل الذي نريد من الشيخ البصنوي أن يتوسّط عنده، ورأيت الشيخ يلقي التحية ثمّ يجلس بعيدًا عن الرّجل، وطلب منّي أن أتحدّث في شأن الوساطة، فاستغربت من طلبه؛ فلقد كان من المفترض أن يكون هو البادئ بالحديث، فاستجبت لطلبه، وعرضت حالة صديقي، فاستجاب مالك العمارة لبعض الأمور ورفض البعض الآخر، ثم قال: هذا كلّه من أجل خاطر صديقنا البصنوي، وانصرفنا دون أن يمدّ شيخنا يده للرّجل عند القدوم أو الانصراف، فأخذني شيء من الفضول فسألته عن الأمر، فأجاب: إنّني لا أتحدّث مع الرجل منذ زمن؛ ولكنّني لم أرد إخبارك عندما فاتحتني في حاجة صديقك. وكنت أظنّ أنّه الموقف الوحيد فإذا برجال من حي الشامية يخبرونني بأن البصنوي كان لا يبخل بجاهه أبدًا حتى في حالة فقدان الودّ بينه وبين من يطلب الآخرون التوسّط لديهم آخذًا بالتوجيه النّبوي في قضاء حاجات الآخرين، وهذا يدلّ على منحى هام، فمع أنّ الوالد البصنوي عُرف بأنّه عمدة لواحد من أكبر الأحياء في البلد الحرام؛ إلا أنّه كان جليسًا للعلماء، ويروي الكثير من الشيخ علي مالكي، مفتي المالكية في حقبة ماضية، وكان شيخنا الفاضل محمّد نور سيف هلال -رحمه الله- يتّصل به ليطلب منه التوسّط لبعض طلاب العلم عند الآخرين، فكان يفرح بمثل ذلك الاتّصال، ويجدُّ في قضاء حاجات هؤلاء الطلاب، ويرى أنّهم أحقّ بجاهه وسعيه.
واليوم أروي ما سمعته عن معالي السيد أحمد زكي يماني، والذي تعتبر أسرته العلميّة العريقة من سكّان حيّ الشاميّة، فلقد كان يأتمنه مثل غيره على شيء من صدقات ماله وخصوصًا في شهر رمضان المبارك، وكان من عادة أبي هاني أن يغادر مكّة أو المدينة ليلة العيد إلى جدّة، فلما كان اليوم الأول من أيام عيد الفطر في إحدى السنوات أخبره أحدهم أنّ رجلاً قدم من مكة لمقابلته، فأذن له بالدخول، فكانت المفاجأة أنّ القادم هو الشيخ البصنوي، ولم يكن من عادته النزول في مثل هذا اليوم من مكة، فأخرج الشيخ البصنوي نقودًا من جيبه ودفع بها إلى السيد زكي يماني، وقال له هذا ما تبقّى من صدقتك، فقال له الشيخ زكي: ولماذا يا شيخ عبدالله لا تحتفظ بالمبلغ المتبقّي وتوزّعه على ذوي الحاجة، فقال له ما معناه لقد نال من تلك الصدقة كلّ من أعرف وأريد أن أبرئ ذمّتي عند الله ثم عندك. وأعلم شخصيًّا أنّه كان يحرص أن تصرف الصّدقات التي يأتمنها عليه الآخرون في مواضعها الحقيقية وكان أحيانًا يمدّ المقربين منه بشيء من المال، فكان من باب الحيطة والحذر وحتى لا يقع في نفس الآخرين شكّ أو ريبة يهمس في آذان من يخصهم بمعروفه، "هذا بالمناسبة من حُرّ مالي"، تمييزًا لما يدخل جيوبهم عن مال الصّدقة الذي لا يصرفه إلا للمستحقين له شرعًا.
كان الوالد البصنوي -رحمه الله- يتذكّر أحبابه الذين اضطرتهم ظروف الحياة للبقاء في بيوتهم، وأتذكّر أنّه كان لا ينقطع عن زيارة أحد رجالات المسفلة وهم العم عبدالقادر البري، نديد للرجال هناك من أمثال: حسين صيرفي، وسليمان فوال، وشيخو، ودبي، وهو -أي العم عبدالقادر- مواظب على الصلاة في المسجد الحرام وحضور حلقات العلم المعروفة وخصوصًا شيخنا المحدّث الورع فضيلة الشيخ محمّد نور سيف -رحمه الله-، ويصفه العلاّمة المحدّث فضيلة السيّد علوي المالكي -رحمهما الله وجميع علماء الأمّة المحمّدية- وهذا هو المشرب الذي عليه مشايخنا وهو الترحّم على جميع من نقلوا رسالة العلم الشرعي للأمة -وليت البعض يكفّ عن تصنيف النّاس عقائديًّا ويحكم عليهم بهوى في نفسه بما تضجّ منه السماوات والأرضون، وتعفّ منهم ألسنة وشفاه-، أعود لسيرة العم عبدالقادر والذي كان هو وأخوة لنا يسعون لمجالس الخير وحلقات الذكر من أمثال السيد سراج فيلالي، وسراج أبورزيزة، وحسن فارسي، ومحمود رمضاني وإدريس كنو، ويحيى مالنتا، وعمر خصيفان، وعثمان معلم وصالح عبدالحي، وسليمان فوال، وسليمان بيطار، والمربي صالح خزامي، والسيد عقيل حمدي عم صديقنا الدكتور هاشم حريري وإخوته، وإبراهيم صيرفي، واليابا رجب، هؤلاء وسواهم كانوا أحبابّاً للشيخ عبدالله، ولكنني لم أرَ الوالد البصنوي يوقّر أحدًا من أحبابه كما يوقّر الشيخ أحمد ملا، والد الأستاذ والمؤذن بالحرم المكي الشريف علي ملا، وكان أبومحمّد في أوقات صفائه يسرد عليَّ كثيرًا من القصص المتصلة بحياة الشيخ الملا، وخصوصًا لجهة ورعه وتقواه، وأنّه كان يحفظ لسانه -رحمه الله- من الحديث في أحدٍ عند غيبته، وهو في هذا الباب شبيه بالسيّد علي بن يوسف، الذي احتضنه في شيخوخته صديقنا الشيخ سراج بكر عياد، وأتذكّر أنّني رأيت السيّد علي لأول مرة في منتدى الشيخ البصنوي في الشامية، ومنتداه -رحمه الله- كان للفقراء والمساكين والضعفاء، فلما انصرف السيّد علي من مكانه وجّه الوالد البصنوي الحديث إلي قائلاً: هذا رجل من أعيان سوق الليل لم يسمع النّاس منه كلمة سوء في حقّ أحد على طول معاشرتنا له.
وكان الوالد العم عربي مغربي، والد صديقنا الأستاذ عبدالرحمن مغربي، من هذا الطراز من الرجال الذين يترفّعون عن الدنيء من الأخلاق والسيئ منها.
وعندما رحلوا عرفنا كَمْ فقدت الأمة من رجال لم يتخرّجوا في جامعات، ولم ينالوا شهادات عليا، ولكنهم تخرّجوا في مدرسة الصّفاء والنّقاء والورع والتّقوى. وعندما أسرد شيئًا اليوم من سيرة هؤلاء الرجال فإنّ إخوة وأحبابًا من أمثال السيّد عبّاس مالكي، والسيّد أحمد حبشي، والأساتذة: أحمد عرفة، ومحمّد نور مقصود، وفاروق بنجر، وعبدالحليم تركستاني، وخالد الحسيني، وإبراهيم بخاري، والشريف هاشم بن عبدالله، وفؤاد عبدالحي، ومحمّد سعيد طيّب، ومحمّد خيّاط، وأحمد شافعي، والشّريف سعد الرّاجحي، والدكتور عدنان وزّان، وعمر خفاجي، واللّواء عبدالقادر مغربي، يعرفون ما يعرفه العبد الفقير إلى الله وأكثر، ولابد أن أقف على شيء من سيرة المرأة الصالحة حقًّا في حياة الشيخ البصنوي، فكما قيل وراء كل عظيم امرأة؛ فلقد كانت -رحمها الله- أمًّا لنا، وكان أبناؤها وبناتها الكرام -حفظهم الله- أخوة وأخوات لنا، ولا ننسى معروفًا وصنيعًا لوالدهم ووالدتهم -رحمهما الله-، وكذلك أبناء المرحوم الأستاذ حمزة بصنوي وفي مقدّمتهم الإنسان المهذّب اللّواء إبراهيم بصنوي، ولعلّي لا أبالغ إذا ما ذكرت في هذه العجالة: بأنّني لم أرَ رجلاً مهذّبًا في حديثه، رقيقًا في طبعه، أصيلاً في ثقافته مثل العم حمزة بصنوي، وعندما توفّي -رحمه الله- رثاه صديقه الأستاذ الكبير عبدالعزيز الرفاعي بمقالة ضافية في صحيفة الجزيرة، وقال إن أبا إبراهيم وعصام وإخوتهم كان كثير القراءة والاطلاع، وكان معجبًا بأديب العربية الكبير الأستاذ مصطفى صادق الرافعي، ومن محبته له أنّه حجّ مرّة بعد وفاة الرافعي وأهدى إليه ثواب حجّته، ونسأل الله أن يتقبّل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم.
وكان بين العم حمزة، والأديب والشاعر المعروف الأستاذ إبراهيم أمين فودة من المحبّة والوداد الصّادقين في الله ما يعجز قلم العبد الفقير إلى الله عن تصويره، وكنت أشبّه رقّة العم حمزة بالرقّة والتهذيب في القول الذي طبع شخصية العم الشيخ حليت بن عبدالله مسلم في بلد الجوار بمدينة الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وأتذكّر أنّ العم حليت قرأ مقالاً كتبته عن العم حمزة بعد وفاته؛ فلمّا قابلني في مدينة الحبيب صلّى الله عليه وسلّم أثنى مشجّعًا على ما كتبته لصداقة تربطه بالفقيد، ورأيته يمسح دمعة انسكبت على ذلك المحيا الوضيء الذي انعكس عليه نور كتاب الله، فلقد كان والدنا حليت من الحفظة للقرآن، وكان يقول لأبنائه البررة: "القرآن سميري أينما ذهبت". وأضيف إلى ما يعرفه البعض ولا يعرفه البعض الآخر بأن الشيخ حليت ممّن عرضت عليهم الإمامة في المسجد النّبوي على عهد فضيلة الشيخ عبدالعزيز بن صالح، إمام وخطيب المسجد النّبوي الشريف فاعتذر ورعًا مثل السيّد علي كماخي، والشيخ عمر جاد فلاته، والشيخ محمّد منصور عمر -رحمهم الله جميعًا-، ويعرف أستاذنا الفاضل محمّد حميدة -أطال الله بقاءه- الكثير من خلفيات هذا الموضوع وسواه.
كان منتدى الشيخ البصنوي في الشاميّة يؤمّه أصحاب الحاجات، فلا يرجع أحد منهم إلا -وبتوفيق الله- قد قضيت حاجته، وقد رأيت المغفور له الملك خالد -رحمه الله رحمة الأبرار- يناديه من بين النّاس باسمه في قصر السقّاف عند زيارته لمكّة في أواخر التسعينيات الهجريّة، ليسأله عن أسرة كان يعمل أحد أفرادها في عهد المغفور له الملك عبدالعزيز آل سعود بالقصر الملكي فأجابه الشيخ البصنوي بأنه يوجد بقية من أفراد تلك الأسرة وأنهم يسكنون جبل (عبادي)، فأمر جلالته قبل خروجه من مكّة -شرّفها الله- بمساعدة إنسانية لهم، فكان الوالد البصنوي -رحمه الله- يوصل في الحال ما يصله عن طريق الديوان الملكي لهم.
وكنا نسير يومًا في الدرب الذي يربط بين حي الشامية وحي القرارة، وكان يقوم في أول ذلك الطريق من جهة القرارة حانوت الرجل الصالح العم سرور باسلوم، وفي آخره من جهة الشامية منزل العم حسن بدوي -رحمهما الله-، وفي منتصف ذلك الطريق طلب أن أقف بعيدًا، وطرق باب المنزل الذي كان يسكنه الشاب النبيل والشهم عادل طيّب -رحمه الله- فلقد تعمّد -رحمه الله- المرور من ذلك الطريق ليسأل عن صحته، فلقد عرف من بعض أهل الحي بتوعك صحته.. وكان الشيخ عبدالله يترفّع عن المزاح مع من هم أصغر منه سنًّا، ولكنّ محبّته لعادل كانت تدفعه بأن يداعبه أثناء الحديث معه، وكان الأخ عادل صاحب قلب طيب، وروح تختلط فيها شهامة ابن الحارة ونبله، وبعده عن الدّنايا مع شيء من الظُّرف الذي عرف به سادتنا أهل مكّة، وكان ممّن يجيدون هذا الضرب من الفكاهة المحبّبة إلى النّفوس العم عبدالقادر صقعة، وكان من أحباب الشيخ عبدالله، وكان النّاس في جميع أحياء مكّة يسعون لأن يكون العم عبدالقادر موجودًا في مناسباتهم؛ فهو صاحب صوت شجي، ويعرف السلّم الموسيقي، ويحفظ شيئًا من شعر المديح النبوي الذي أبدعه أصحابه تشوّقًا لأرض الهدى والإيمان، ويجيد فن الحكاية الشعبيّة وحبكتها حتى ليجعل الجالسين في أحسن حالاتهم إنصاتًا، ويخالط علماء المسجد الحرام ويفيد من علمهم ويناقشهم في أهم المسائل الفقهيّة، وهو في نظري من الشخصيّات الموسوعيّة التي كان يتمتّع بها المجتمع المكّي في الحقبة الماضية.
كنت عندما أرى الابن المهذّب عبدالله طيّب، أستعيد صورة والده في نفسي وأبكي ماضيًا جميلاً طويت صفحاته بين برحة القطان وبرحة بنجر، وبازان الشاميّة؛ فلقد كان ما يجمع النّاس هو الصّفاء وطيبة النّفس وتقدير الصّغار للكبار، وعطف الكبار على الصّغار. رحم الله الوالد عبدالله بصنوي، والذي قليلاً ما يجود الزمن بمثله؛ استقامة، وشهامة، وسخاءً وعطفًا على الفقراء والمساكين، وقضاء لحاجات النّاس. وأزعم أنّه كثيرًا ما يضحّي بأوقات راحته في الظّهيرة أو في هزيع اللّيل ليدخل الفرحة على قلوب النّاس، وأنعم بها من خصال لا يقدر على التخلّق بها أو تمثّلها إلا كبار النّفوس، وكان الوالد البصنوي واحدًا من أصحاب تلك النّفوس.
آخر الكلام:
مما أورده مؤرّخ مكة المشهور محمّد بن إسحاق الفاكهي في كتابه "أخبار مكة"، ج4، ص 60، تلك الأبيات التي يرثي فيها الشاعر كثير بن كثير بن المطلب السهمي أهل الحجون:
عينيَّ جُودِي بِعبرةٍ أسْرابِ
بِدُموعٍ كَثيرةِ التّسْكَابِ
إنّ أهلَ الحصابِ قَدْ تَركُونِي
مُوزّعًا مُولعًا بأهلِ الخَرَابِ
كمْ بذاكَ الحُجُونِ مِن حَيِّ صِدْقٍ
مِنْ كُهولٍ أعفّةٍ وشبَابِ
سَكَنُوا الجِزْعَ جِزْعَ بيتِ أبِي
مُوسى إلى النَّخْلِ مِن صفِيِّ السّبابِ
أهلُ دارٍ تتابَعُوا للمَنايَا
ما عَلى الدَّهْرِ مِن بَعدِهمْ مِنْ عِتابِ
فارَقُوني وقَدْ علمتُ يقينًا
ما لِمَنْ ذاقَ مِيْتةً مِنْ إيابِ
أحزنتني حُمُولَهُمُ يومَ ولُّوا
مِنْ بِلادي وآذنُوا بالذَّهابِ
فَلِيَ الويلُ بَعْدَهُم وعَلَيهم
صِرْتُ خِلوًا وملَّنِي أصْحَابِي
 
 
طباعة
 القراءات :271  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 30 من 107
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج