شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
((كلمة معالي فضيلة الشيخ عبد المحسن العبيكان))
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خاتم النبيين وإمام المرسلين سيدنا محمدٍ وعلى آله وصحابته أجمعين والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد..
فإنني عاجز عن إسداء الشكر لصاحب السعادة الشيخ الكريم عبد المقصود خوجه الذي منحني هذه الفرصة الثمينة لأجل أن ألتقي بإخوة أحبهم وأعزهم وأتشرف بلقياهم، وكذلك شرّفني بهذا التكريم الذي أرجو من الله عزَّ وجل أن أكون مستحقاً له، كما أشكر صاحب الفضيلة الشيخ محمد الدحيم راعي هذه الاثنينية واللقاء، والشكر للقائمين ولجميع الحضور لتشجمهم الصعاب كي يصلوا إلى هذا المكان وربما تركوا ما هو مهم من أوقاتهم لأجل أن يلتقوا بأخيهم، هذا أولاً. ثانياً: فإنه طُلِب مني أن أتكلم في عدة محاور، وأن أستعرض بعض النقاط التي وردت في السيرة الذاتية، وأقول إنني منذ الصغر كنت ملازماً لوالدي ولكبار السن وللمشايخ الفضلاء الذين يزورونه ويزورون عمي الشيخ محمد العبيكان الذي كان سفيراً للمملكة العربية السعودية في السودان، وقد كان الزوار كُثر، وقد كان هناك الوجهاء والمشايخ الذين يكثرون الزيارة فأستفيد من هؤلاء استفادة كبيرة جداً، من علومهم وخبراتهم، وأحرص ألا أكون بعيداً عن هذه المجالس التي يُستفاد منها، فهذا قد منحني بعض العلم، من ناحية التجربة ومن ناحية الثقافة أو العلم الشرعي.
كذلك كنت أكثر من قراءة كتب الفقه، وأتمعن فيها كثيراً، وشُغفت بقراءة تلك الكتب مع بقية الكتب، حتى إنني في بعض الأحيان وفي أوقات الامتحانات قد أصرف بعض الوقت لقراءة "تحفة الأحوذي شرح جامع الترمذي" بدل أن أقرأ ما هو واجب عليَّ أن أقرأه في تلك الأيام للتحصيل أو لنيل الشهادة، ثم أدركت بعد مدة من القراءة والتمحيص أننا لسنا ملزمين بما ذكره الفقهاء -رحمهم الله تعالى- في التصوير والتمثيل، فكما هو معلوم هناك قواعد أصولية وهذه لا جدال فيها لأنها مستقاة من نصوص الكتاب والسنة، كذلك هناك قواعد فقهية، وضعها الفقهاء -رحمهم الله تعالى- لأجل أن تدخل تحت كل قاعدة عدة فروع يستفيد من ذكرها طلبة العلم والمُفْتُون، والمتخصصون، ولكن ليست هذه الفروع محصورة في هذه القاعدة، بل يمكن أن يدخل تحت هذه القاعدة كثيرٌ من الفروع التي لم يذكروها، وتُرِك مجال الاجتهاد للفقهاء في كل عصر ومِصر، لأجل أن يتجدد الفقه وألا نكون جامدين على كلامٍ قد سُطِّر في زمنٍ ماضٍ قد لا يصلح تطبيقه في هذا العصر. وبخلاف النصوص فالكتاب والسنة نصوصهما تقبل أن تكون صالحة لكل زمان ومكان، والقواعد كذلك، لكن الفروع والتمثيل والتصوير قد لا تصلح وهناك اجتهادات كثيرة قد نوافق بعض الفقهاء عليها وقد نخالفهم والرجوع فيها إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، كما قال الإمام مالك: كلٌّ يؤخذ من قوله ويُرد إلا صاحب هذا القبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا نجد أن كل واحد من الأئمة له عدة اجتهادات، وله عدة روايات وله عدة أقوال في المسألة الواحدة، وهذا معلوم عند أهل العلم، لأن الاجتهاد يتغير، وقد يتغير الفهم للنص الوارد في الكتاب أو السنة. وهذه الفهوم يحتملها هذا النص أما الفهم البعيد عن النص وظاهر النص فهو غير مقبول ولكن الفهوم التي يمكن أن يدل عليها ظاهر النص، فلا يجوز لأحد أن ينكر على من فهم من هذه النصوص شيئاً فهماً هو غير ما فهم ذلك الآخر، ولهذا أضرب مثالاً: لما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى ونجاه الله وصحابته رضي الله عنهم من كيد قريش في غزوة الأحزاب، قال صلى الله عليه وسلم: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يصلينَّ العصر إلا في بني قريظة، فمن الصحابة رضي الله عنهم من فهم أنه لا بد من أن تكون الصلاة في بني قريظة حتى ولو خرج وقت العصر، ومنهم من قال: بل النبي صلى الله عليه وسلم قصد الاستعجال والإسراع إلى الذهاب إلى بني قريظة، ففريق صلى في الطريق وفريق لم يصلِّ حتى خرج الوقت إلا في بني قريظة، فالرسول صلى الله عليه وسلم أقر الفريقين وإن كان قد صوَّب فريقاً على الفريق الآخر، ولكنه أقر الاجتهاد الذي قال عنه كما في صحيح البخاري وغيره: إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر واحد.
إذا نظرنا إلى أن الفقهاء -رحمهم الله- عندما يتكلمون عن النفقة مثلاً للزوجة وما يعده لها من سكن وما يلزمه، فيقولون يضع لها حصيراً وليس بملزمٍ مثلاً لأن يعطيها خفاً لتخرج به لأن خروجها من بيتها ليس بلازم عليه، منهم من يقول لا يجب عليه أن يعطيها أجرة الطبيب ولا أن يأتي لها بالدواء لأن ذلك ليس من لوازم النفقة، منهم من يتكلم عن الرحى ومنهم من يتكلم عن الأمور أو الأشياء التي كانت موجودة في ذلك العصر. أما اليوم هناك السائق وهناك السيارة وهناك المكيف وهناك الثلاجة، فالذي يجمد على هذه الأقوال لن يستطيع أن يحكم في المحكمة بحكم واضح، لو رجع إلى تلك الكتب لما وجد فيها الثلاجة ولا وجد فيها المكيف ولا وجد فيها هذه الأمور التي جَدَّت في هذا الزمن، إذن لا بد أن يرجع إلى القاعدة، الله عز وجلَّ ورسوله صلى الله عليه وسلم ذكرا النفقة والكسوة والسكنى لكن لم يرد تحديد لا في كتاب الله ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم عن تحديد الكسوة في الشتاء ثوب وفي الصيف ثوب ولا يعطيها إلا مثلاً كما قالوا في السنة مرتين، ثم ذكروا أشياء من أنواع الألبسة وأنواع الأطعمة وأنواع الأثاث ما لا توجد في هذا العصر، إذن نحتاج إلى الفقهاء الذين يرجعون إلى الأصول وإلى القواعد الفقهية، إذا نظرنا مثلاً أنا أذكر لكم بعض الأمثلة: إلى صور قتل العمد فذكروا تسع صور لا يوجد فيها القتل بالصعق الكهربائي مثلاً، لأنه ليس موجوداً في ذلك الزمن، فلو أتى قاضٍ ونظر في هذه الكتب كتب الفقهاء لم يجد فيها مثل هذه المسألة، فماذا يفعل؟ هل يجعله من صور قتل العمد، أو لا يجعله من هذه الصورة إذن يحتاج إلى أن يرجع إلى الضابط الشرعي لقتل العمد مثلاً، الأمثلة كثيرة والوقت لا يتسع، لكننا نقول يجب علينا أن نرجع إلى الأصول وما لم يحدده الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم يرجع فيه إلى العُرف، فينبغي ألا نجمد على أمثلة أو صور كُتِبت باجتهادات في زمنٍ قد تصلح فيه ولا تصلح في الزمن الآخر، بل قد تكون هناك اصطلاحات ليست معروفة ولا مفهومة بل وكلمات موجودة في ذلك الزمن قد لا يفهمها من هم في هذا الزمن، بل يختلف الناس من قطر إلى آخر في عاداتهم وتقاليدهم ونحو ذلك، فإذن المرجع في هذا بعد النصوص هو عُرف الناس في ما لم يحدد في الشريعة، والكلام يطول نحو هذا.
ولهذا ذكرت بعض المسائل في موقعي على الإنترنت والتي قد يجهلها بعض الناس وقد يحتاجها القضاة وقد تخفى على بعضهم فذكرتها، وهناك من المسائل التي -كما ذكر سعادة الشيخ- هناك من شن هجوماً شديداً حولها بينما لم أتكلم بهذه المسائل ابتداءً وإنما هناك من سبقني من أهل العلم ومن الثقاة ومن الأئمة فسطَّرْتُ في بحوث ما ظهر لي بعد أن ذكرت من سبقني إلى هذا من أهل العلم ومن ثقاة الأئمة وبيَّنت ذلك، وقد كان هذا الموقع موضحاً لكثيرٍ ممن أشكل عليهم الأمر، فأتتني رسائل كثيرة واتصالات يطلب أصحابها العفو والصفح لأنهم ظنوا أن هذا مجرد رأي لم يُبنَ على أسس صحيحة وظنوا أنه لم يسبقني إلى هذا أحد من الأئمة، وإلا فلا يمكن أن يجرؤ شخص على تخطئة الإمام البخاري، والإمام سعيد بن المسيب، والإمام ابن حجر، الذي ذكر من أجاز حل السحر من باب النُشْرَة ذكر ذلك بعد أن صَدَّر البخاري -رحمه الله- هذا الباب بما نقل عن سعيد ابن المسيب وذكر ما نُقِل عن عائشة (رضي الله عنها) في عدم إنكار النبي صلى الله عليه وسلم عليها لما قالت: ألا تَنَشَّرت؟ لما ذكر ذلك وذكر الأدلة وذكر من قال به من أئمة الشافعية كإمام المفسرين أبي جعفر الطبري والبويطي، وذكر عن جماعات من أهل العلم ولم يذكر خلافاً في المسألة ولم يذكر أن هناك من قال بعدم الجواز، وبعد البحث لم أجد سوى عدد قليل هم الذين حرّموا ذلك، أما العدد الكبير فهم يجيزونه، ومن أراد أن يعرف هذه الأقوال فليرجع إلى هذا الكتاب "الصارم المشهور" فيجد فيه المراجع التي نقلت عنها كلام العلماء هناك وجه للمالكية فقط، وهناك قليل من الحنابلة أما الإمام أحمد وأصحابه فهم مطبقون على الجواز ولا نعرف عن الحنفية أحداً خالف، وعلى كل حال لا أستطرد في هذا فقد يأخذ وقتاً طويلاً.
لقد اعتدت أن أذكر بين فينة وأخرى مسألة مهمة يبتلى بها الناس وقد لا يجدون عند البعض فتوى صريحة فيها، ومن آخر ما كتبت: من استأجر حانوتاً أي محلاً تجارياً ثم حصل أن تعطل النفع أو نقص بسبب مشروع أقيم في هذا الطريق، وكذلك مثلاً: من استأجر بيتاً وهو موظف ثم نُقِلَ -وخاصة العسكري- فلم يستطع أن يستكمل هذه المدة، فهل تذهب عليه هذه الأجرة؟ وجدت كلاماً للإمام ابن حزم نقله عن بعض السلف في كتابه "المحلّى" وأيضاً لشيخ الإسلام ابن تيمية ما يدل على أن العقد ينفسخ أو أن له الحق في فسخ العقد وألا يُلزم بدفع ما تبقى من مدة الأجرة، وهذه الكثير قد لا يعرف هذه المسألة.
وهناك أيضاً بحث جديد في التكبير الجماعي في العيد وهذا الذي رأيت الكثير وللأسف ينكرونه ويشددون فيه فبحثت بحثاً وهو الآن معدٌّ وننتظر إن شاء الله أن يُنشر في هذه المسألة ذكرت فيها الأدلة من الآثار ومن ظاهر أو مما تدل عليه بعض النصوص وأيضاً من كلام الفقهاء -رحمهم الله تعالى- فالذين أنكروا حتى الشيخ محمد بن إبراهيم -رحمه الله- لما رُفِعَ إليه ما أنكره البعض من التكبير الجماعي في زمنٍ سابق في المسجد الحرام قال: أنا لا أعرف وجه هذه الكيفية لكن لا يصل الأمر إلى التبديع -أو كما قال رحمه الله- ثم وجدت أن الإمام الشافعي -رحمه الله- نصَّ وكذلك عددٌ من العلماء من أصحاب المذاهب نصّوا على جواز التكبير الجماعي، وهو ما يستفاد من أنهم كبروا تكبيراً واحداً بعد أن كَبَّر عمر رضي الله عنه في مِنَى، وهذا يدل على أنهم كبروا تكبيراً جماعياً بل صريح في سنن البيهقي بأنهم كبروا تكبيراً واحداً.
وأيضاً الذكر أو أعظم الذكر هو القرآن وقد نصَّ العلماء على جواز أن يقرأ الجماعة القرآن جميعاً بصوت واحدٍ مجتمعين، نصَّ على ذلك عدد من الأئمة ومنهم الإمام النووي، بل والإمام ابن تيمية -رحمه الله- ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، يتلون كتاب الله، ما اجتمعوا، أي أنهم اجتمعوا على هذا الذكر الجماعي، مستثنى من ذلك ما هو بعد الصلاة لأنه لم يكن من فعل النبي صلى الله عليه وسلم ولا صحابته، لكن التكبير والتلبية لم يرد دليل على المنع، والأصل في العبادة أنها تؤدى إذا أطلق الأمر فيها ولا يجوز لأحد أن يقيدها إلا بدليل، فلما جاء الأمر بالتكبير، ولما جاء الأمر بالتلبية لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن صحابته أنهم قالوا لا بد أن تكبر وحدك، ولا يجوز أن يكبر الجماعة مجتمعين، بل حتى ضجت لما قيل إن عمر رضي الله عنه كبر فكبر الناس بتكبيره حتى ضجت مِنَى، كيف تضج إلا بالتكبير الجماعي؟ لو كان كل واحد يكبر وحده لما حصلت هذه الضجة، أنا لا أريد أن أستطرد في ذكر الأدلة لأنكم إن شاء الله ستقرؤونها وتقرؤون ما نقلت عن أهل العلم في هذه المسألة، ويجب علينا أن نتجرد من الجمود وأن نتجرد من التبعية والتقليد الأعمى، بدون أن نعرف أصل هذه المسألة أو دليل هذه المسألة.
سأتكلم عن تجربة ربما في القضاء أو نحوه، فهناك قد يُخطئ البعض في تكييف الواقع وتكييف القضية حتى يطبق عليها الحكم الشرعي، فمثلاً: هناك قضية قتل، كانت بها في الحقيقة إشكالات كثيرة وبها أدلة تثبت وأدلة تنفي أن هذا الرجل هو القاتل، فمكثت سبعة عشر عاماً وهي تدور بين نقضٍ وبين إصدار حكم، ثم كُلِّفت برئاسة لجنة ومعي اثنان فالحمد لله انتهت هذه القضية وقد كانت إما أن تُصدَّق من هيئة التمييز فتنقض من المجلس أو تُنقض من التمييز، وهكذا تكررت فيها الأحكام، فلما عرفت الأسباب والحيثيات فأصدرت ولله الحمد الحكم ومعي واحد من الثلاثة ثم صُدِّقت من هيئة التمييز ومن مجلس القضاء واقتص من الجاني.
هناك قضايا كثيرة تحتاج إلى التكييف.. هناك مثلاً قضية في وقفٍ مكثت عشر سنين وهي تدور بين المحاكم، وأشكلت على الكثيرين، ثم كُلِّفت ولله الحمد بتوضيح ما في هذه القضية من إشكال وهي بجانب الحرم.. المسجد الحرام، ووقفٌ له ثمنه الكبير، فاطلعت على أسباب الخطأ من الصكوك القديمة فظهر ولله الحمد الحق، وصُدِّقت من المجلس الأعلى للقضاء بالهيئة الدائمة في خلال ثلاثة أيام، على كل حال، لماذا؟ لأن كثيرين ممن يبادرون في نظر القضية أو في إصدار الفتوى لا ينظرون أولاً إلى تكييف الواقعة أو التكييف الفقهي لهذه المسألة، حتى يوقعوا الحكم بعد التكييف، مثل الطبيب الذي يشخص الداء، فإذا لم يشخص الداء حقيقةً فإنه سوف يعطي الدواء الذي لا يصلح لعلاج هذا الداء، فيتسبب إما في إتلاف هذا الشخص أو حصول الأضرار الكبيرة عليه، لكن إذا شَخَّصَ الداء عند ذلك استطاع أن يعطي الدواء المناسب وينجح بإذن الله عزَّ وجل.
هناك من أهم الكتب التي ألفتها والتي أحب أن أتكلم عنها، كتاب "غاية المرام شرح مغني ذوي الإفهام"، لما استعرضت كتب الفقهاء والشروح لم أجد وخاصة في الفقه الحنبلي شرحاً في هذا العصر ولا قبل هذا العصر بسنوات طويلة، كلها شروح قديمة، ويحتاج هذا العصر إلى أن يوجد شرحٌ يتناسب مع العبارات التي يفهمها والمصطلحات التي يفهمها أهل هذا العصر، والتي لا توجد في مثل تلك الكتب، فبحثت ووجدت أنني مخيَّرٌ بين أمرين: إما أن أوجد حاشيةً جديدةً "للروض المربع" الذي هو عمدة الفتوى والقضاء في هذا البلد، لأن حاشية ابن قاسم -رحمه الله- وأيضاً حاشية الشيخ العنقري -رحمه الله- قيل إنها مُسَوَّدة ولذلك قد يوجد فيها أخطاء وبعض النقول التي تحتاج إلى تصحيح ونحو ذلك، فإما أن أؤلف حاشية لهذا الكتاب أو أن أشرح مختصراً وخاصة أن المختصر "مغني ذوي الإفهام" ألفه الإمام جمال الدين يوسف بن عبد الهادي الحنبلي الذي ولد عام 840 وتوفي عام 909هـ، اختصر هذا الكتاب اختصاراً قوياً وهذه عادة الفقهاء إذا أرادوا أن يُحفظ هذا المختصر، أي أن يختصروه بعبارات يصعب على الكثير فهمها، لكنه أشار إلى الخلاف وأشار إلى الإجماع، فيذكر بالرموز وبالصيغة فيقول (عين)، وبالصيغة على أن هذه المسألة مجمع عليها أو أنه وافق الإمام أحمد الشافعي أو أبو حنيفة أو الإمام مالك أو الثلاثة أو نحو ذلك، كما أنه ذكر أربعة آلاف مسألة غريبة وفعلاً لما بحثت عن بعض مسائله الغريبة لم أجد أحداً قد ذكرها من فقهاء المذاهب الأربعة، وقد انفرد بذكرها فأحببت أن أشرح هذا المختصر، لأنه في ظني أنفع، ثم استشرت شيخنا الشيخ عبد العزيز بن مرشد فأشار عليّ أن أشرح هذا المختصر، فاستعنت بالله وشرحته وكان الاتجاه إلى أن يكون هذا الكتاب موسوعة علميةً تحتوي على الأدلة من الكتاب والسنة، مع ذكر الحكم على الحديث بالصحة أو الضعف ونحو ذلك، مع توضيح العبارات الفقهية أيضاً والمصطلحات من كتب أهل اللغة أو القواميس الفقهية، وكذلك ذكر مذاهب العلماء من الصحابة ثم التابعين وتابعيهم ومن الأئمة الأربعة وغيرهم إلى عصرنا الحاضر، مع ذكر قرارات المجامع الفقهية وهيئة كبار العلماء؛ لتكون استفادة طالب العلم قوية وسريعة بحيث تجتمع له الكتب الكثيرة في مثل هذا البحث في هذا الكتاب؛ فيستغني عن إمضاء وقت طويل في بحث مسألة وهذا ما كنت أعانيه، فربما أمضي ثلاث ساعات في بحث مسألة، لكنني لو أردت الرجوع إلى مسألة قد مضت في ما طبع من الكتاب يمكنني في خلال خمس دقائق أن أصل إلى جميع الأقوال فيها والأدلة والترجيح، فتكون هناك قطع في القول أو هناك إيجاز كبير واختصار للوقت الطويل في الوصول إلى معرفة جميع الأقوال التي قيلت في هذه المسألة مع الأدلة والمناقشة ورد بعض الفقهاء على بعض، ثم يستخلص القارئ ما إذا كان من طلبة العلم ما يظهر له من رجحان هذا القول أو ذاك.
هذا باختصار والآن ولله الحمد نسير في هذا التأليف وقد وصلنا إلى باب الحجر، وإن شاء الله مستمرون، وقد يبلغ هذا الكتاب أربعين مجلداً، وإن شاء الله يتم طبعه كاملاً.
هناك من العلماء الذين فقدناهم -رحمهم الله- من كانوا لا يعيبون على من خالفهم، ولا يغلظون عليه بل يحترمون رأيه وإن خالفوه، وهذا هو الواجب على طالب العلم، فكلما اتسع أُفق العالم وكلما تزود من العلم والفقه اتسع قبوله للخلاف ولسماع آراء الآخرين ولتقبل آراء الآخرين وإن كان قد يخالفهم في الرأي، لأن لكل إنسان فهمه واجتهاده، فقد يجتهد الإنسان في وقت ولكنه قد يغير هذا الاجتهاد كما ذكرنا عن الأئمة -رحمهم الله.
هناك علماء قرأنا عليهم مثل سماحة الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد الذي كان عالماً فقيهاً حافظاً شديد الذكاء والفطنة وذا هيبة ووقار، وكان -رحمه الله- إذا تكلمت معه على صغر سني يبتسم ويستمع ثم لم أجد منه أي مخالفة لما رأيته ومما عرضته عليه، وإن كان سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله- قد يخالفني الرأي لكن مع الاحترام ومع التقبل ومع عدم الإغلاظ وهذا هو الواجب على طالب العلم وعلى العالم، أما أن يُقال إما أن تكون معي أو تكون ضدي فهذه مشكلة، بل الواجب أن تتسع الصدور لقبول الخلاف.
هناك مثلاً كما ذكرت في موقعي مسألة تتعلق بمتى تكون إقامة الدعوى على من بيده العين؟ أذكر أن هناك قضية نُظرت في المحكمة الكبرى في الرياض لما كنت قاضياً فيها، حكم فيها قاضيان أحدهما قد مات -رحمه الله- والآخر موجود وفي أعلى الرتب القضائية، القضية أن شخصاً استخرج حجة استحكام على بيت من الطين وهو ليس له، ثم أخذ هذا البيت لتوسعة شارع في وسط الرياض، واستلم التعويض فجاء صاحب البيت وأقام عليه دعوة، قال القاضيان دعوتك تقام على من بيده العين أي البلدية، وصُدِّقَ من هيئة التمييز ثم عُرِضَت عليَّ القضية فقلت هذا ليس بصحيح، تُقام الدعوة على من بيده العين إذا كان يُطالب بالعين، وليس يُطالِبُ بالبدل أو بالقيمة، فقلت العين الآن أصبحت شارعاً، والتعويض هو بدل العين، فخشيت أن أحكم ثم تُرفع إلى محكمة التمييز فينقضون الحكم لأنهم قد صدَّقوا على الذي قبله، فكتبت رأيي قبل أن أحكم إلى مجلس القضاء الأعلى عندما كان سماحة الشيخ عبد الله بن حميد رئيساً له، وبيّنت وجهة نظري فأصدروا قراراً بأن ما ذكره القاضيان خطأ وبأن الصواب ما ذكرته، عند ذلك تشجعت فحكمت بأن تُقام الدعوة على من استلم التعويض لأن التعويض هو بدل عن العين، لأنه لا يمكن وهو يقيم الدعوة على البلدية أن يقول: أعطوني الشارع!! أعطوني البيت! البيت راح انتهى، هو لا يطالب بالعين.
كذلك لو أن شخصاً أقام دعوى على شخص وجد إما سيارة أو دابة في يده، وقال هذه سيارتي أو دابتي، ربما السيارة في الاستمارة ونحو ذلك لكن إذا قلنا باستبعاد أن تكون هناك كتابات تدل على ذلك لكن الدابة أوضح، قال هذه دابتي، أو مثلاً أرض قال هذه أرضي، وهذه الآن في يد هذا الشخص، أو هذا بيتي، قال ذاك أنا اشتريته من شخص، أنا لا أعرفك، طبعاً مطلوب منه أن يأتي بالبينة لو استطاع أن يأتي بالبينة، أما إذا لم يستطع أن يأتي بالبينة وقال ليس عندي بينة ماذا يقال له؟ ليس لك إلا يمين المدعى عليه، هذا سيحلف على نفي العلم، يقول والله لا أعلم أن هذا البيت بيت المدعي، أنا اشتريته لا أدري من أين أتى به البائع، هنا سيحلف ثم تنتهي القضية، هل يُغلق عليه الباب ويُقال أقام الدعوى على من بيده العين، فانتهى الأمر، يقال تستطيع أن تقيم الدعوى على الشخص الذي باعك، وهو الذي سرق الأرض أو سرق الدابة أو مثلاً اغتصبها أو نحو ذلك، فيقيم عليه الدعوى فيقول أنا لا أطالبك بالعين لأنه لو طالب بالعين لقيل أقم دعواك على من بيده العين، يقول أنا لا أطالب بالعين ولكنني أطالب إما بالبدل أو بالقيمة لأنه تسبب في فوات هذه العين عليّ، فوَّتها عليّ فلم أستطع أن أحصل عليها، طبعاً ربما لا يكون عنده بيّنة ولو كان عنده بيّنة لأقامها على الشخص الذي بيده العين، لكنه يقول أنا أريد يميناً، فهذا ربما ينكل عن اليمين، فإذا نَكَلَ عن اليمين حكم القاضي عليه بالنكول، لأنه قد يخاف الله عز وجل ويخشى من مغبة اليمين، بعض الناس ربما حتى لو لم يخف من ربه عز وجل، يخاف أن يُعاقب عند القاضي فربما لا يحلف، فإذا نكل عن اليمين سيحكم القاضي على هذا الذي فوَّتَ العين فيقول: حكمت عليك بنكولك بأن تدفع للمُدَّعي قيمة العين التي فوتها عليه أو بدلها، طبعاً هذه تخفى على كثيرين، وهناك مصطلح أن تقام الدعوة بدون عين، مثال آخر -ربما الوقت يتسع- هناك مثلاً من كَفَل وضَمِنَ شخصاً في مبلغ من المال، طبعاً لو جاء إلى القاضي وقال: إنني كفلت هذا الشخص في مبلغ أريد أن يدفع لي الآن، قال القاضي: هل دفعته إلى صاحب الحق؟ قال: لا، قال: حق لك الآن في المطالبة بالمبلغ وأنت لم تدفع عنه.. عن المضمون، لكن هناك كما ذكر صاحب كَشَّاف القِنَاع ولم يذكره صاحب الروض المُرْبع واستفاد منه كثير من زملائنا القضاة في محكمة الرياض آنذاك، هناك دعوة أخرى فيقول: إنني أطلب من هذا المضمون أن يدفع لصاحب الحق ليخلص ذمتي من المبلغ، هنا يجب أن تُقبَل دعواه، لأنه يقول: لا تدفع لي الآن بل ادفعها لصاحب الحق حتى تُخلِّص ذمتي من شَغْلِها بهذا المبلغ.
الآن أكتفي بما ذكرت وأشكر الجميع على إتاحة هذه الفرصة والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد الأمين.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :791  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 20 من 199
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الأعمال الكاملة للأديب الأستاذ عزيز ضياء

[الجزء الخامس - حياتي مع الجوع والحب والحرب: 2005]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج