شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
تلطيخ الكعبة
وفي شوال 1088 أصبح الناس فإذا الكعبة ملطخة بما يشبه العذرة، فاتَّهم الناس الشيعة بهذا جرياً على اعتقاد قديم لا أدري كيف تجيزه عقولهم، وهكذا اشتدت حمية الأتراك المجاورين والحجاج فأوقعوا ببعض الشيعة وقتلوا منهم أشخاصاً رمياً بالحجارة وضرباً بالسيوف. وينقل السيد دحلان (1) عن العصامي في تاريخه أنه رأى بعينه ما تلوثت به الكعبة فإذا هو من القاذورات وإنما هو من أنواع الخضراوات عجن بعدس وأدهان معفنات فصارت رائحته كريهة، وسواء صح هذا أو لم يصح فالواقع أن الإسلام في حاجة إلى التواد الذي يجمع كل المخالفين في جادة واحدة وأن أبناءه في غنى عن أن يوسعوا شقة الخلاف بينهم بما يتوهمونه في المخالفين منهم.
وشد ما يؤسفني أن يتوهم العامة إلى اليوم أن شيعة العجم لا يتم حجهم في مذهبهم إلاّ إذا لوث الكعبة الحاج، لو كنا نحتكم إلى منطق العقل لعلمنا أن صحة الفكرة تقتضي أن تلوث الكعبة في كل عام بالألوف المؤلفة من القاذورات تبعاً لعدد الشيعة من الحاج وهو ما لا يسلم به الواقع الملموس، ولكننا نلغي عقولنا بالنسبة لمخالفينا.
جمل فوق المنبر: وفي 22 ذي الحجة عام 1091 سال وادي إبراهيم بمكة على أثر مطر عظيم، واقتحم السيل المسجد حتى انتهى إلى ما يوازي نصف الكعبة وأزاح بعض الأعمدة عن أمكنتها، ومن غريب الاتفاق أن السيل حمل أحد الجمال حتى استقر به فوق المنبر، فلما انكشف الماء في الصباح وجدوا الجمل في مكانه في أعلى المنبر. وراح ضحية هذا السيل عدد كبير من الحجاج وخرب بسببه كثير من البيوت (2) .
وفي جمادى الأولى سنة 1093 وقعت فتنة بين الأتراك وعبيد بعض الأشراف في مكة، ويبدو من ملابساتها أن الأتراك كانوا يشعرون بميزة مستواهم المستمدة من سلطة عنصرهم، وكان الأشراف يأبون عليهم ذلك ويشعرون في نفس الوقت بميزة محتدهم ولا ينسون أنهم أصحاب البلاد الأصليين وحكّامها، فليس ببعيد أن تحتك هذه المشاعر، وأن تضطرم بينها نيران الفتن، وأن يندفع العبيد غاضبين لسادتهم فيتحرشون بالأتراك.
وفي الواقعة التي نحن بصددها كانت الفتنة قد استعمل فيها الرصاص فأصيب فيها بعض الأتراك ونهبت بعض البيوت وأقفلت الدكاكين أبوابها وتفاقم الأمر حتى اضطر الشريف بركات إلى الخروج بنفسه في معمعة الفتنة.
واستعان الشريف بركات ببعض العسكر المصريين في -الأورطة- التابعة للعثمانيين المرابطة في جدة، فكبر ذلك على الأشراف وعبيدهم، واتفقت كلمة عدد كبير منهم على الخروج إلى الحسينية ليجمعوا كلمتهم فيها على هجوم مكة فبلغ الشريف بركات ذلك فحاولهم وندب لهم أخاه ليقنعهم فقبلوا الطاعة على أن يضمن لهم ألاّ يسوقهم بعد اليوم بعسكر من مصر إذا وقع ما يوجب ذلك فرفض الشريف بركات بشرطهم وبذلك خمدت الفتنة (3) .
والذي يظهر أن صحة الشريف بركات تأثرت بما قاساه في هذه الفتنة كما تأثرت بخروج الأشراف مغاضبين له فانتكست، ثم ما لبث أن توفي في 29 ربيع الثاني عام 1094 وكانت مدة حكمه عشر سنين وأربعة أشهر وعشرين يوماً (4) .
سعيد بن بركات: وكان قد مكّن في حياته لابنه سعيد بن بركات فقد ولاه ولاية عهده بموجب مرسوم استصدره من تركيا، فلما توفي لم يجد ابنه سعيد من ينازعه، فتولى الإمارة وألبسه قاضي مكة خلعتها في الخطيم ثم كتبوا بذلك إلى تركيا فوافاه التأييد.
ولم يدم أمر سعيد بن بركات طويلاً حتى بدأ الخلاف بينه وبين الأشراف ولعلّ أهم ما دعا إلى ذلك أنه امتنع عن دفع حقوقهم في واردات مكة وهي ثلاثة أرباع المحصول وكان الأشراف قد اتصل بهم أن الخليفة في تركيا كتب إليهم بعد التعيين بدفع تلك الحقوق فأخفى ما وصله عند ذلك فاشتد شغب الأشراف ضده وطالبوه بالحضور إلى مجلس الشرع فصالحهم ورضي أن يدفع لهم.
ويبدو أن الأشراف استطاعوا على أثر ذلك أن يتصلوا بحقوقهم مباشرة فقد شرع كل فريق يندب لنفسه جباة ويتخذ له عسكراً لحراسة جبايته حتى استخدم بعضهم نحو مائتي موظف جعلهم جنوداً لحماية قومه وحصته في الواردات.
وتكلّف الأشراف بحراسة أجزاء خاصة بهم في البلاد مقابل شركتهم في الواردات فكان كل فريق منهم يتخذ لعمله عساكر حراساً (5) كما لو كانت البلدة موزعة بين أكثر من حكومة وأمنها مسؤول من أكثر من شخص.
ولا أستطيع أن أفهم أي معنى لهذا النظام ولماذا سنَّه الأتراك وكيف وافقوا عليه إن لم يسنوه وأي غرض كانوا يقصدون من ورائه كما لا أدري متى سن ذلك لأن مؤرخي مكة لم يذكروا شيئاً يتعلق بذلك قبل هذا وعلى كل حال فقد اضطربت الأحوال وأصبح في مكة أكثر من مسؤول كما أصبح لكل مسؤول إدارته الخاصة وموظفوه وجباته وعسسه فاشتد الاحتكاك بين هذه الإدارات وعانى الشريف سعيد من توزيع الاختصاص ما لا يطاق.
وأراد أمراء الحج في موسم 1094 أن يجمعوا بين المتخاصمين فلم يوفقوا لأن الشريف سعيداً كان يمانع أن يتخذ الأشراف لأعمالهم جنوداً مختصين بهم وكان الأشراف يرون أن ذلك حق لهم تقرهم عليه حقوقهم في واردات البلاد بموجب مراسيم خاصة (6) .
وزاد الأمر شغباً وذلك أن والي جدة التركي استولى في هذه الأثناء على بعض الغلال الواردة للأشراف لدى وصولها جدة فاغتنم الأشراف فرصة مجيئه إلى الحج ومنعوا خروجه من مكة حتى يدفع لهم ما اغتصبه فتفاقم الشر وأصرّ الأشراف حتى نزل الوالي على أمرهم وسلم إليهم ما يستحقونه وتعهد بعدم العودة إلى ما كان.
واستغل أصحاب الفساد اضطراب الأحوال في مكة وعجز الشريف سعيد عن توحيد السلطة فراحوا يعبثون بالأمن في الأسواق وضجّ الناس وكثرت حوادث القتل والاغتيال وعمت الفوضى (7) .
وفي هذا العهد صدر أمر الخليفة العثماني بإبعاد الشيخ محمد بن سليمان المغربي الذي تقدم ذكره في عهد بركات من بلاد الحرمين وكان قد أبعد قبل إلى المدينة ثم عاد إلى مكة فتبلغ فيها أمر إبعاده ولكنه أبى إلاّ أن يقضي حجه فلم يقبل منه وأرسل الشريف سعيد إليه بعض خدمه لإخراجه بالقوة وكان يسكن في مدرسة تطل على الحرم بجانب مدرسة الداودية فامتنع عن الخروج واتصل بعض أصحابه بالشريف ثقبة بن قتادة واستغاث به فتوسط في نقله إلى بعض أملاكه في خليص (8) ولما وافت أيام الحج أدى مناسكه ثم غادر البلاد ولم يعد إليها (9) .
هدايا سلطانة آشي: وفي هذا العهد وصلت هدايا قيمة من الذهب وبعض الطيوب النادرة من ((سلطانة آشي)) وقدر كبير من الصدقات لفقراء مكة فتقبلها الشريف سعيد على أنها مهداة له لأن أباه بركات كان قد ندب أحد خاصته ببعض الهدايا إلى الهند فمرّ مندوبه بسلطانة آشي فحملته تلك الهدايا إلاّ أن الأشراف أبوا إلاّ أن يأخذوا حصتهم -ثلاثة أرباع تلك الهدية- فرفض إجابتهم ثم اضطر لما رأى من شغبهم إلى مهادنتهم فأعطاهم نصيبهم منها ثم وزع على الفقراء حقوقهم في الصدقة بحضور الأشراف (10) .
ولما كثرت أعمال الشغب على النحو الذي ذكرنا آنفاً واتصلت الأخبار بعاصمة الخلافة -استامبول رأى أصحاب الأمر فيها أن خير ما يمكن عمله هو عزل الشريف سعيد عن الإمارة ولم يمضِ فيها أكثر من سنة واحدة.
عودة الحكم إلى ذوي زيد -أحمد بن زيد: وفي هذه الأثناء كان الشريف أحمد بن زيد موجوداً في تركيا لأنه استوطنها على أثر فراره يوم العيد من منى بصحبة أخيه سعيد بن زيد كما مر معنا سنة 1083 فرأى الخليفة أن يعهد إليه بالإمارة ليحل محل سعيد بن بركات فصدر مرسومه بذلك وقد قيل إن الشريف أحمد عرضت عليه أثناء إقامته في استامبول ولاية طرسوس كما عرضت عليه إمارة أخرى بجهة ((الروملي)) فلم يقبل واحدة منهما وقال إن تفضلتم بولاية بلادنا وإلاّ فإني باقٍ تحت أنظار السلطنة إلاّ أن السلطنة ما لبثت أن اضطرته إلى قبول ولاية كرك كلية فظل فيها نحواً من سنة ثم عاد إلى الآستانة وظل بها إلى أن تم اختياره لإمارة مكة في عام 1095 (11) .
وقيل إن السلطان عندما قابل الشريف أحمد يوم تقليده الأمر صافحه بغاية الإجلال وهو يكرر اللَّهمَّ صلِّ على محمد وعلى آل محمد.. ثم قال له يا شريف أحمد إن الحجاز خراب وأريدك لتصلحه (12) وهكذا عاد الحكم إلى ذوي زيد بعد أن غادرهم اثنتي عشرة سنة.
وتوجه الشريف أحمد على أثر هذا إلى الشام ليصحب الحج الشامي.
وانتهت الأخبار إلى مكة بقدوم الشريف أحمد فأسرع الشريف سعيد إلى استحضار الشريف مساعد بن زيد وقال له في مجمع من كبار الأشراف إن عمك الشريف أحمد في طريقه إلى مكة ليتولى أمرها بدلاً مني وسأغادر مكة بناء على ذلك بعد أن استودعك أهلي ليظلوا في صيانتك حتى يتم ترحيلهم فقبل مساعد ذلك.
وفي صبيحة الليلة التي سافر فيها الشريف سعيد انعقد مجلس في المسجد خلف مقام الحنفي حضره سائر الأشراف ووالي جدة والقاضي والمفتي والعلماء ووجوه الناس وقرروا إقامة ((مساعد)) في الإمارة وكالة عن عمه إلى أن يصل عمه مكة (13) .
ووصل الشريف أحمد إلى مكة في 2 ذي الحجة 1095 ودخلها في موكب حافل وجلس للتهنئة على عادتهم في ذلك ومدحه الشعراء الذين مدحوا من قبله وسيمدحون من بعده.
وما لبث أحمد أن نشر لواء العدل فاستقر الناس بعد اضطرابهم وأمنت الطرق (14) .
 
طباعة

تعليق

 القراءات :416  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 143 من 258
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج