شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الناحية السياسية
لاح نجم العباسيين السياسي في الأُفق ومكة على حالها، يعنى المتدينون فيها والمتعلمون بحلقات الدروس والعبادة ويلهو مترفوها بمجالس اللذة بالشكل الذي سبق الحديث عنه في عهد بني أُمية.
أما السياسة فقد ظل ميدانها محدوداً يمارسها فيه بعض العلية من أقطاب العلويين. وعندما شرعت الحركة العباسية تأخذ دورها الجدي في أمصار العالم ونشط أبو جعفر المنصور أخو الخليفة السفاح يدعو لها في مكة حاول العلويون فيها أن يستثيروا الأهالي باسم البيت الهاشمي فلم ينجحوا كثيراً (1) وأعتقد أن أهم البواعث على إخفاقهم أن المكيين نسوا في غمرة لهوهم نعرة الخلافة وتورع أصحاب الورع منهم عن البحث فيها.
لهذا ما فتئ المنصور أن وجد السبيل سهلاً إلى غايته واستطاع بشيء من النشاط أن يجعل الآهلين فيها أمام أمر واقع فبايعوه بالخلافة للعباسيين وتركوا عظيم الهاشميين يومها ((النفس الزكية)) يفر بنفسه إلى أحضان البادية.
وما دمنا في صدد العلويين فمن الإنصاف للتاريخ أن لا ننسى أن العلويين بذلوا جهود الجبابرة في سبيل توطيد مركزهم لا في مكة وحدها بل وفي أمصار عديدة من الإسلام ولكن جهودهم أبت أن تثمر بفائدة أو تصل بهم إلى هدف.
وإذا أردنا أن نستعرض الجهود الخاصة بمكة فمن السهل أن نعود إلى ما سقناه في الفصل السابق لنجد أن ((النفس الزكية)) ما كاد يفر من مكة سنة 132 حتى استأنف ظهوره في المدينة عام 145 معلناً ثورته باسم العلويين وقد ساعده التوفيق ثم ما لبث أن خانه فقد انهالت عليه جيوش العباسيين تدك حصونه في طريقها حتى قضت عليه قتيلاً في السنة نفسها 145 وفرقت عنه جميع العلويين والمتشيعين.
وقويت يقظة العباسيين بعد الذي حدث فحرصوا على أن لا يولوا إمارة مكة إلاّ من أولاد البيت العباسي ليضمنوا غائلة العلويين فيها كما حرصوا على ضم الطائف وجدة إلى إمارة مكة في كثير من الأوقات ليوسعوا دائرة نفوذ من يختارونه لذلك إلى حدود البلاد التي كانت مظنة اشتباه عندهم.
إلاّ أن هذا لم يفت في عضد العلويين في مكة لأننا لا نفتأ أن نواجه في عام 169 ثورة ثانية ثم في عام 199 ثورة ثالثة، غير أن هذه الجهود جميعاً ضاعت هباء وراح أصحابها ضحية أهدافهم في الحياة.
وثار للمرة الرابعة علوي جديد في اليمن في عام 202 هو إبراهيم بن موسى الكاظم ومضى في جيشه إلى مكة فاستقل بها في عهد المأمون بالرغم من أن المأمون كان من أكثر الخلفاء عطفاً على أماني العلويين (2) ثم باء بالهزيمة التي باء بها أسلافه من قبله.
وهكذا ظلت مكة طوال أكثر هذا العهد الذي نؤرخه نهب الثورات التي شنها التنافس بين أصحاب السلطان من العباسيين وخصومهم فيها من العلويين.
لهذا لم يجد الاستقرار السياسي سبيلاً موطأ إلاّ في سنوات قليلة من هذا العهد، وقد ترتب على هذا أن عانت من الضيق وغلاء الأسعار شيئاً كثيراً في الفترات التي كانت تعاني فيها من بلاء الثورات.
ويجد الباحث السياسي أن تبعية مكة في هذا العهد كانت تبعية مباشرة يحكمها فيه خلفاء بني العباس حكماً مباشراً لا أثر فيه للاستقلال الذاتي، وليس أوضح دليلاً على هذا من تأمير أولاد بني العباس عليها في جل سني العهد ولا يحكمها أولاد العباس إلاّ ليستوحوا سياسة بغداد في كل ما يتعلق بأمورها الداخلية، ولا عجب في هذا فقد كان المسلمون لذلك العهد لا يعرفون الاستقلال الإقليمي أو النعرة باسم الوطنية فقد كان الخليفة هو قبلة جميع الأقطار الإسلامية إلاّ الخارجين عليه أو مدعي الخلافة دونه.
وهي نظرية قلّدوا فيها الأمويين وأيدها لهم الوعي الفارسي فقد كان الفرس يقولون بفكرة الحق الملكي المقدس وأنت تستطيع أن تلمس هذا في قول أبي جعفر المنصور ((إنما أنا سلطان الله في أرضه)) لذلك شعروا أنهم إنما يحكمون بتفويض من الله لا من الشعب وفي هذا ما يخالف شعور الحاكم في عهد الخلفاء الراشدين (3) .
عطف الخلفاء: ولا بد لنا من أن نسجل للخلفاء العباسيين في هذا العهد عطفهم على مكة بالرغم من ثوراتها عليهم ولعلّهم كانوا يفرقون بين عامة أهلها وغيرهم من رجال السياسة العلويين أو أنهم كانوا يريدون مداراة الأمر فيها بما يبذلونه من عطف إلى جانب الضربات التي يكيلونها لهم.
واستقبلت مكة في هذا العهد بعض الخلفاء الحاجين إليها. فقد حجّ إليها الخليفة أبو جعفر المنصور أربع حجج كانت في سنة 140 و 144 و 147 و 152 غير الحجة التي حجها قبل خلافته سنة 136 ثم حج حجته السادسة في سنة 158 ولكنه مات ولم يبلغها لأن المنية عاجلته في بئر ميمون على كيلومترات من مكة وهي بالقرب من منى (4) .
وحج المهدي سنة 160 و 164 أما الرشيد فقد بلغ الرقم القياسي الذي لم يبلغ شأوه خليفة فقد حج تسع حجج كانت في سنة 170 و 173 و 174 و 175 و 177 و 179 و 181 و 186 و 188 وفي حجة عام 173 أحرم من بغداد وبلغ من تواضعه أن صعد في عام 179 إلى منى فعرفات من مكة ماشياً وشهد جميع المشاهد ماشياً، وفي هذه السنة حضر العمرة في رمضان ثم ذهب إلى المدينة فبقي بها إلى أن وافى وقت الحج فحج بالناس وهو آخر خليفة حج من بغداد (5) وقد ذكروا أنه أول خليفة حمل إليه الثلج إلى مكة (6) .
وفي بعض حجات الرشيد أخلي له المسعى ليسعى فيه فتعلق ببغلته وهو يسعى عبد الله بن عمر بن عبد العزيز وصاح به يا هارون فقال لبيك يا عم قال أرق إلى الصفا فلما رقى قال إعلم أن كل واحد من هذه الخلائق يحاسب عن خاصة نفسه وأما أنت وحدك فتسأل عنهم أجمعين فبكى هارون بكاءً شديداً. ثم قال له: وأُخرى أقولها لك إن الرجل إذا أساء التصرف في ماله حجر عليه فكيف أنت تسرف في أموال المسلمين وتسيء التصرف فيها وأنت محاسب عليها بين يدي الله فازداد بكاؤه وأراد جنده أن يطردوه فكفهم عنه.
وبذل الخلفاء الحجاج من الإحسان ما يدل على مبلغ عطفهم على بلاد الحرم. فقد أنفق المهدي في سنة 160 ثلاثين مليون درهم و 300 ألف دينار وصلته من مصر ومائتي ألف دينار وصلته من اليمن و 150 ألف ثوب.
وبلغ عطاء الرشيد في مكة في إحدى السنوات التي حج فيها مليوناً ونصف مليون دينار (7) .
ولا يملك المؤرخ الباحث أن يمضي به القلم في هذه الأرقام الضخمة دون أن يسترعي انتباهه ضآلة الفوائد التي كانت تجنيها البلاد من هذه الأرقام على ضخامتها. فإن مثل هذا البذل السخي لو أنفق في مرافق للإنتاج لظلت آثاره باقية إلى اليوم في ثروة البلاد الإنتاجية ولتعودت البلاد شيئاً آخر لا يتفق مع قبولها الصدقات والعطايا ولكنهم كانوا لا يأبهون إلاّ بشراء القلوب وإرضاء كبريائهم بما يبذلون من بيوت المال.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :400  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 47 من 258
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج