شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
حركة ابن الزبير (1)
تقدم بنا أن يزيد بن معاوية كتب إلى واليه بالمدينة في عام 60 هجرية ليأخذ له البيعة من المعارضين في المدينة، كما تقدم بنا أن الحسين بن علي وعبد الله بن الزبير رأسا المعارضين واحتالا للخروج إلى مكة حتى إذا انتهيا إليها لم يلبث الحسين فيها إلاّ ريثما أعد عدته للخروج منها إلى شيعته في الكوفة مستجيباً لدعوتهم التي لقي حتفه فيها.
أما ابن الزبير فقد ظل في مكانه من مكة.. ولما وافاه خبر مقتل الحسين رأى الفرصة سانحة للنهوض بفكرة كان قد طال عليها السكوت؛ ولا نبعد كثيراً ونحن نسميها فكرة خاصة به، فابن الزبير كان يحس إحساساً عميقاً بأهليته للخلافة من أول يوم أمّره عثمان بن عفان على داره أيام الثورة ضده ولا يؤمره عثمان دون غيره من أصحاب الكفايات إلاّ وهو عارف مكانه من الكفاية الممتازة، ولقد سكت ابن الزبير يوم ولى المسلمون علياً الخلافة ولكنه ما لبث أن انضم إلى جيوش المعارضين من حزب خالته عائشة، ثم سكت عندما تناقلت الأخبار أن جيوش الشام بايعت معاوية ورأى بقية الأمصار تنضم إلى هذه البيعة بما فيها من أجلّة قريش وكبار الصحابة وعندما رأى معاوية يترضّاه ويتودد إليه ويبالغ في التودد إليه: ((مرحباً بابن عمة رسول الله وابن حواريه.. يا غلام احمل إليه مائة ألف وارفع إلي بجميع حوائجه!!)) (2) .
سكت كل هذه المدة الطويلة واقتصر نشاطه على العناية بأقاربه وحاشيته وفتح داره الكبيرة -بجوار باب دريبة- لزواره وقاصديه وعقد المجتمعات التي كانت لا تخلو من المجاهرة بآرائه في الحكم القائم ونقداته التي كانت تقلق بال عامل الأمويين في مكة عمرو بن سعيد بن العاص الأشدق.
وكان عمرو بن سعيد بن العاص تبلغه أنباء هذه المجتمعات ولكنه لا يملك إلاّ أن يتغافل لعلمه بمنزلة ابن الزبير من عامة الأهلين في مكة وما يتمتع به من جرأة نادرة المثال، كما أن معاوية في الشام كانت تصله أخبار ابن الزبير فيعالجها بحلمه ويقابلها بمعروفه وبره.
ومات معاوية رضي الله عنه وبويع ليزيد في عام 60 الهجري فتوثب ابن الزبير للعمل في خطوته الأولى وئيداً إلاّ أن منافسه الحسين بن علي كان يحتل في مكة وأمصار الإسلام مركزاً يطغى على منزلة ابن الزبير فلما وافاه خبر وفاة الحسين عام 61هـ نهض على قدميه ورفع صوته بالدعوة.
وحاول الأشدق والي مكة ليزيد أن يعالج الأمر في حرص وحذر وأن يحد بالمداراة نشاطه، فبث العيون حول أنصاره ورتب الجواسيس ليحصوا حركات أتباعه وسن ما يشبه نظام مراقبة الأجانب اليوم فجهز مكة بمختصين يكتبون أسماء القادمين إليها ويتعرفون هويتهم فمن وجدوه ذا علاقة خاصة بابن الزبير يمنعونه من الدخول إلاّ أن محاولاته جميعاً لم تفت في عضد ابن الزبير ولم تهن من عزيمته وجاءت أوامر يزيد بإرسال ابن الزبير مقيداً فلم يستطع الأشدق عمل شيء أكثر من أن يرسل إليه سلسلة من فضة (3) .
حملة لتأديب ابن الزبير: وتناقلت الأخبار في هذه الأثناء حوادث بدء الاضطرابات في المدينة فأمر يزيد عمرو بن سعيد أن ينتقل إلى المدينة فأناب عنه في مكة الحارث بن خالد المخزومي بعد أن أوصاه بالتيقظ لأعمال ابن الزبير فلم تنفع وصيته شيئاً لأن ابن الزبير أبى أن يعير يقظة الولاة اهتماماً وهو يشعر ببأسه في مكة واتفاق من فيها عليه (4) .
وبدا ليزيد في هذا العام 61 تأديب ابن الزبير، فأرسل إلى عمرو بن سعيد المنقول إلى المدينة أن يجهز على ابن الزبير فجهز له جيشاً من ألفي مقاتل أمر عليه عمر بن الزبير أخا عبد الله وأنيس بن عمر الأسلمي، فسار الجيش حتى عسكر بعضه في الأبطح وبعضه في ذي طوى فقابلهم ابن الزبير بجموعه وأبادهم ثم أسر أخاه عمر وكان ذلك في أواخر عام 61 وهي أول حملة تأديبية ضد ابن الزبير.
عصيان المدينة وإباحتها: ودخل عام 62هـ والاضطرابات على حالها في المدينة ومكة وكان أهل المدينة قد كتبوا قبل ذلك إلى عبد الله بن الزبير يقولون: ((أما إذا قتل الحسين فليس من ينازع ابن الزبير)) ثم ما لبثوا أن اجتمعوا على خلع طاعة يزيد وإخراج عامله فتطورت الأحوال في تلك السنة وانتهت بواقعة الحرة عام 63 وفي واقعة الحرة سجل سيف يزيد إلى جانب ما سجله في مقتلة الحسين مأساة جديدة تمثلت في أوامر يزيد باقتحام المدينة عنوة وإباحتها لجنده ثلاثة أيام (5) .
النخاولة: ويسيء المنصف بهذه المناسبة أن يقرأ ما رواه بعض المؤرخين بأن شيعة المدينة من سكانها اليوم ويسمونهم ((النخاولة)) من ذرية هاتيك الإباحة فذلك رأي يبدو فيه التعصب كأوضح ما يكون، وإلاّ فما علاقة تلك الذراري بالتشيع؟ وإذا كان أهل المدينة كما تقول بعض الروايات قد نبذوا ذراريهم من تلك الإباحة في ناحية من المدينة فلم لا يكون أولئك الذراري خجلوا من وسمهم وتفرقوا في البلاد؟ -إنَّ هذا أقرب إلى منطق العقل من تماسكهم إلى اليوم في طرف من المدينة وبقائهم فيها.
الواقع أن بعض المؤرخين يلغون عقولهم لدى نقل الروايات وأن بعضاً آخر تتحكم أهواؤهم في معتقداتهم فيسجلون لشهواتهم أكثر مما يسجلون للحقيقة والتاريخ.
والمؤسف أن بعض العامة في المدينة يتأثرون إلى اليوم بمثل هذه الروايات العابثة فينظرون إلى إخوانهم النخاولة مثل هذه النظرة ويؤكد ذلك في نفوسهم خروجهم على مذهب السنة. والواقع أن النخاولة (6) جزء من الشيعة في العالم الإسلامي وليس التشيع غريباً في بلاد العرب وقد عرفه التاريخ في جميع أدواره في أواسط كثيرة من أشرافهم وعامتهم وقد تعلم الناس نبذ النخاولة لأن العثمانيين كانوا حرباً على التشيع لأسباب سياسية وليس بين النخاولة وبين الإجماع إلاّ أن يعنى المسلمون بهم ويتفقوا على إقناعهم لينضموا بذلك إلى صفوف إخوانهم ويتحدوا وإياهم على كلمة واحدة تجمع هذا الشتات في وقت نحن أحوج ما نكون فيه إلى الجمع والتوحيد.
القتال في مكة وحرق الكعبة: وما انتهت واقعة الحرة في المدينة في أواخر عام 63 حتى صدر أمر يزيد إلى قائده مسلم بن عقبة (7) أن يتوجه في جيشه إلى مكة لقتال ابن الزبير فسار إليها ولما كان في بعض الطريق أدركته الوفاة فأوصى بقيادة الجيش إلى الحصين بن نمير (8) فتولاه واستأنف سيره حتى انتهى إلى مكة في أواخر المحرم سنة أربع وستين ونزل في ظاهرها.
وخرج إليه ابن الزبير في جموعه من مكة وبعض القبائل من أطرافها وعدد ممن التحق به من أشراف المدينة وبدأت المناوشات والتقى المتبارزون من الفريقين وظل شأنهم كذلك حتى بدا لجند الشام نصب المجانيق فنصبوها في 3 ربيع الأول سنة 64 ورموا الكعبة بالنفط والحجارة حتى احترقت كسوتها وتصدعت حيطانها (9) .
ولست ممن يرى أن الكعبة كانت مقصودة لذاتها بالرمي لأنني أعلم أن جيش الشام كان يستقبلها في صلاته ولا يرمي الكعبة رجل يصلي إليها ولا يرضى أن يقذفها بالحجارة كما في رأي بعض المؤرخين أو بالنار كما في رأي البعض الآخر.
والذي أستطيع أن أستنتجه أن ابن الزبير كان يعوذ بها ويحتمي خلفها فبدا للجيش أن يصيبه من ورائها وقد فعل، فنالت الأحجار بعض أركانها ويذكر بعض المعتدلين من الرواة أن أصحاب ابن الزبير كانوا يوقدون النار وهم حول الكعبة فعلقت النار في بعض أستارها فسرت إلى أخشابها وسقوفها فاحترقت (10) وهي رواية أقرب في اعتدالها إلى الواقع مما عداها من روايات التهويل والتشنيع.
نجاح ابن الزبير: وظل القتال على حاله حتى وافت الأخبار بنعي يزيد ففتر الحماس بين صفوف جند الشام ورأى الحصين بن نمير أنه يقاتل منذ اليوم إلى غير غاية فاجتمع بابن الزبير في ظاهر مكة وقال له: إن كان هذا الرجل قد هلك فأنت أحق الناس بهذا الأمر فهلمَّ وارحل معي إلى الشام فوالله لا يختلف عليك اثنان.
ولكن ابن الزبير حسبها خدعة فرد عليه رداً أساءه فنفر منه ابن نمير، وفي رواية أخرى أن ابن الزبير ندم على ما كان من غلظته فبعث إليه يقول: أما الشام فلا آتيه ولكن خذ لي البيعة من هناك إن شئت، ويعلق صاحب تاريخ الإسلام السياسي على هذا فيقول إن ابن الزبير كان متأثراً بالفكرة القومية وهي إعادة النفوذ والسيطرة إلى بلاد الحجاز كما كان في عهد النبي وأبي بكر وعمر وعثمان لهذا أبى أن يغادر الحجاز، كما يعلق صاحب التاريخ السياسي للدولة العربية فيقول إن بقاء ابن الزبير في مكة كان من أسباب ضعفه لعدم جواز القتال فيها وقتاله فيها يسيء إلى حرمة الكعبة.
وإني لا أستبعد تأثر ابن الزبير بالفكرة القومية فقد كان من أشد معاصريه تحمساً لها ولكني أفهم أن ذلك لا يمنعه من الرحيل إلى الشام لأخذ البيعة ثم العودة إليها بعد أن تستقيم له الأمور وتستقر شؤونها، إذن فلا بد من عامل كان له أثره في امتناع ابن الزبير، ولا أستبعد أن يكون ذلك هو خوفه من الخدعة التي أشارت إليها الرواية السابقة وليست الخدعة غريبة على مثل الحصين بن نمير فقد يكون أرادها ليحمل خصمه إلى الشام غنيمة باردة لمن يتولى الأمر فيها، وليس غريباً على مثل ابن الزبير وهو يضطلع بمهام خطيرة أن يكون يقظاً حريصاً.
ومهما كان الأمر فقد اختلف الفريقان في هذا الاجتماع السلمي ورأى الحصين بن نمير أنه لا حاجة له في قتال لا يعرف غايته ففك الحصار ورجع إلى الشام وبرجوعه كانت الخلافة قد وليها معاوية بن يزيد ثم تنازل عنها في ربيع الأول سنة 64 في اجتماع عام قال فيه ((أيها الناس إني قد وليت أمركم وأنا ضعيف عنه وقد تركت لكم أمركم فولوا عليكم من يصلح لكم)) واختلف المؤرخون في مدة خلافته بين نصف شهر وثلاثة أشهر.
واستتب الأمر لابن الزبير في مكة وما والاها وبايعه الناس فيها وفي المدينة ثم بايعه أهل البصرة وأهل الكوفة وأرسل إلى مصر ثم إلى أهل اليمن فبايعوا جميعاً كما أرسل إلى أهل خراسان فبايعوه واتفقت فرقة كبيرة من الخوارج على بيعته كما بايعه أهل حمص وفلسطين والعراق وسائر بلاد الشام إلاّ دمشق.
ورأى الناس في دمشق اتساع الأمر لابن الزبير فاجتمعوا إلى نائب دمشق لبني أمية -الضحاك بن قيس الفهري- وهو من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فخطب فيهم خطاباً جامعاً دعا فيه إلى مبايعة ابن الزبير (11) .
ورأى مروان بن الحكم أن الأمر سينتظم لابن الزبير في الشام كما انتظم له في بقية الأمصار فعزم على الرحيل إلى مكة لمبايعة ابن الزبير وليأخذ منه أماناً لبني أمية فسار في بعض الطريق فلقيه بعض بني أمية في خلق كثير وأثنوه عن أمره، وقالوا أنت كبير قريش، وخالد بن يزيد غلام وعبد الله بن الزبير كهل، وإنما يقرع الحديد بالحديد فلا تناوئه بهذا الغلام وارم بنحرك في نحره ونحن نبايعك أبسط يدك فبسط يده فبايعوه بالجابية في 3 ذي القعدة عام 64.
ثم سار بمن معه نحو أنصار ابن الزبير من أهل الشام وعلى رأسهم الضحّاك بن قيس فنشب القتال بينهم عنيفاً قليل المثال فقتل الضحاك وتفرق أصحابه وذلك في أواخر ذي الحجة من عام 64 وبذلك استقر الأمر لبني أمية في الشام وتمت البيعة فيه لمروان بن الحكم بينما استقر الأمر في بقية الأمصار لابن الزبير وبويع فيها خليفة على المسلمين (12) .
العصبية اليمنية القيسية: وإذا راق لنا أن نتتبع أسباب الخلاف في بلاد الشام بين أنصار ابن الزبير وأنصار بني أمية فسيبدو لنا الأمر أغزر مما يتراءى بين الأموية والزبيرية، فالمعروف أن بلاد الشام كانت تنزلها سلالات هاجرت أصولها القديمة من اليمن قبل الإسلام بعهود طويلة فطال استيطانها ثم ما لبثت أن طرأت عليها مع الفتح الإسلامي قبائل حجازية شاركتها الاستيطان وقد عرفوا باسم العدنانيين أو النزاريين ثم غلب عليهم اسم القيسيين.
وقد تكاثر اليمنيون والقيسيون فعموا بلاد الشام بما فيها الأردن وفلسطين.
ولا نشك في أن اليمنيين كانوا يتيهون على القيسيين بأصولهم فقد كانوا في أحد أدوار التاريخ سادة الجزيرة العربية وكان الخزاعيون حكّام مكة قبل قريش من اليمن كما كان الأوس والخزرج في المدينة يمنيين مثلهم كما لا نشك أن القيسيين وهم سلالة الفاتحين في صدر الإسلام يتيهون على اليمنيين بأنهم هداة البلاد فكان لهذه المفاخرة أثرها في التحيز للعصبية التي نهى عنها الإسلام.
ولقد مر بالإسلام عهد نسي فيه المتعصبون هذا التحيز ولكنه ما لبث أن أثير على أثر الفتن التي نشبت بسبب الخلاف على اختيار الخليفة وما لبث بعض الخلفاء من بني أمية أن استغلوا هذه الإثارة لتأييد مراكزهم، فهم رغم نسبهم إلى القيسية كان يحلو لبعضهم أن يصاهر اليمنية ليعتد بها إذا ناوأه بعض القيسية خصوصاً في الأوقات التي اشتد فيها ميل القيسية إلى البيت الهاشمي فلا غرابة إذا تفاقم التعصب واشتد أواره.
ولا غرابة أن نجد في الشام يوم حركة ابن الزبير من يدعو له وينادي بخلافته كما نجد فيها من يدافع بسلاحه ضدها لصالح الأمويين.
لم تكن هناك زبيرية وأموية بقدر ما كانت هناك قيسية تتمنى أن تنجح قبائل الحجاز ويمنية تتمنى فشل القيسيين ولو ضد مصلحة الأمويين أصهارهم.
لقد شعر معاوية أن في الشام احتكاكاً بين القيسية واليمنية فدارى ذلك في سياسة عديمة النظير وجاء اليزيد بعده فلم تعجزه المداراة ولكنه ما إن قضى حتى عادوا إلى الاحتكاك واستطاع مروان بن الحكم أن يستفيد من احتكاكهم وأن يستعين بسيوف اليمنيين وهم كثرة هائلة على القيسيين الذين أرادوها ربحاً للحجاز في شخص ابن الزبير (13) .
مؤهلات ابن الزبير: على أنه ليس كثيراً على ابن الزبير أن تتفق الأمصار على بيعته فقد كان ابن حواري رسول الله وأمه بنت الصديق وخالته عائشة وكان من القانتين لله المتمسكين بطاعته وكان إذا سجد وقفت العصافير على ظهره تصعد وتنزل لا تراه إلاّ جذم حائط. وليس كثيراً أن يصمد لدعوته ويثبت وقد عرف بالجلد وقوة العزيمة والصبر. حدث عمر بن عبد العزيز قال: قلت يوماً لأبي سليكة صف لنا ابن الزبير فقال: ما رأيت جلداً قط ركب على لحم ولا لحماً على عصب ولا عصباً على عظم مثله ولا رأيت نفساً ركبت بين جنبين مثل نفسه ولقد مرت آجرة من رمي المنجنيق بين لحيته وصدره فوالله ما خشع ولا قطع لها قراءته ولا ركع دون ما كان يركع.
وكان إلى هذا ذا أنفة وكانت له نفس شريفة كما كان فصيحاً قوي البيان جهوري الصوت إذا خطب تجاوبه أصداء أبي قبيس (14) .
في هذه مقومات الزعامة ومؤهلاتها فلا عجب إذا قاد المسلمين واضطلع بأعبائهم يضاف إلى هذا ما عرف من غيرته للبلاد التي أنبتت مجد الإسلام في الحجاز وتلهفه إلى إعدادها من جديد إعداداً قوياً يلمّ به شعث الإسلام ويسيطر من برجها على مقدرات العالم.. يضاف إلى هذا أن الاستياء من تصرفات الأمويين كان قد شمل جميع الأمصار وأصبح المسلمون في بقاع الأرض ينظرون إلى أحداث الأمويين الجسام -كمقتل الحسين وإباحة المدينة وغزو مكة وتحولهم من طريقة الشورى في الحكم إلى نظام الوراثة- نظرة فيها كثير من النقد والاستياء.
هذه الأسباب مضافة إلى مقومات الزعامة في ابن الزبير ساعدت على نجاح دعوته والتفاف المسلمين في الأمصار حولها (15) إلاّ أننا سنرى عما قليل أن هذا النجاح بالرغم من جميع مقوماته لم يلبث طويلاً حتى مني بالفشل وعادت الخلافة إلى بيوت الأمويين في دمشق بتأثير عوامل خاصة سنأتي عليها في السياق.
بوادر فشل ابن الزبير: ما كاد مروان بن الحكم ينجح في إخضاع أنصار ابن الزبير في الشام كما أسلفنا في عام 65 حتى جرد جيشاً قوياً وقاده بنفسه إلى مصر لطرد عامل ابن الزبير فيها وجيشاً آخر إلى جهة العقبة بقيادة ابنه عبد العزيز لمساعدته وقد نجح الجيشان واستولى مروان على مصر.
وعاد مروان إلى الشام وجهّز جيشاً إلى الحجاز وآخر إلى العراق ولكنه مات قبل أن تصل إليه نتيجة أحدهما ولما تولى الأمر بعده ابنه عبد الملك أبلى في تثبيت ملكه أحسن البلاء فقاتل من ثار عليه من شيعة الكوفة حتى هزمهم ثم زحف إلى العراق فطرد والي ابن الزبير منها ثم بلغته أنباء بعض القلاقل التي حدثت وراءه في الشام فعاد إليها حتى قضى على كل فتنة فيها (16) ووطد لملكه بذلك في أكثر الأمصار ولم يبق أمامه ما يمكن أن يسميه خطراً هاماً إلاّ مشكلة مكة في شخص ابن الزبير.
انحلال الزبيريين: ولقد كان عبد الملك بن مروان حكيماً أكثر مما يجب عندما رأى ابن الزبير يناجز الخوارج والشيعة العداء في العراق فتركه وما يناجز انتظاراً لليوم الذي تهن فيه قوته وتضعف، وقصة الخوارج قصة ألممنا بها يوم خرجوا على علي وجيشه منتقدين قبوله للحكم كما أن قصة الشيعة مررنا بها في وثبتهم للأخذ بثأر علي والحسين ابنه من ظالميه وقد ظلت ذيولها لا تنقطع وظل ابن الزبير يكوى بإحنها ويعاني في جهادها ما يعاني حتى إذ نفد الكثير من قوته، بدأ عبد الملك يزحف في جيوشه إلى الكوفة حيث يقاتل مصعب بن الزبير ضد فريق من الشيعة يرأسه المختار بن عبيد الله فقابله مصعب بجيش أضنته الحروب وقواد أضرهم إمساك ابن الزبير في الأموال وشعب كان موتوراً بقتل المختار زعيمه المهزوم.
ومضى الأمويون في طلائعهم بدر الأموال تمشي إلى مراكز القادة من الزبيريين وعذب الأماني تنثال إلى بيوت الرؤساء فيهم وبذلك انحلت عرى الزبيريين ووجد الأمويون طريقهم إلى النصر على جثث العراقيين والحجازيين وبه تم النصر لعبد الملك بن مروان بعد قتل مصعب بن الزبير في عام 71 وبويع له بالخلافة في الكوفة (17) .
حصار ابن الزبير في مكة للمرة الثانية: وما استقر الأمر للأمويين في العراق بعد الشام ومصر ومدن الإِسلام التي فتحوها حتى فكر عبد الملك بن مروان أن يختم جهوده باستئصال الزبيريين من منابتهم في مكة فسير الحجاج بن يوسف الثقفي (18) في جيش عظيم إلى مكة في عام 72 فمضى إلى العراق ثم نزل الطائف بلده التي ولد فيها وبدأ يرسل طلائعه إلى عرفة فتقابله سرايا ابن الزبير فينشب القتال بينهما فتنهزم خيل الزبيريين، ثم تقدم الحجاج إلى بئر ميمون وهي بين مكة ومنى ووافاه في بئر ميمون القائد الأموي طارق بن عمرو في جيشه قادماً من المدينة بعد أن فتحها وبايع فيها لعبد الملك ابن مروان.
وأهل هلال ذي الحجة عام 72هـ ومكة محصورة ولا سبيل للحجاج إليها ولما وافى يوم عرفات وقف الحجاج بجيشه ملبياً ثم ازدلف وإياهم إلى المزدلفة ومنى ولم يستطيعوا دخول مكة لإتمام مناسكهم فبقوا في إحرامهم ولم يستطع الزبيريون والأهالي في مكة أن يقفوا على عرفات فنحروا بدنهم يوم النحر وظلوا محصورين في مكة.
وتقدمت جيوش الحجاج في مستهل عام 73 حتى نزلت بين الحجون وبئر ميمون بعد أن أذن له عبد الملك بن مروان بدخول مكة وكان قد أوصاه بحصار ابن الزبير وأن يتجنب دخولها (19) .
ثم تقدموا حتى اتصلت بعض سراياهم ببعض أبواب المسجد الحرام مما يلي باب بني شيبه إلى ما يحاذي باب الصفا تقريباً ولاذ الزبيريون بالمسجد يتحصنون بالكعبة فأمر الحجاج بنصب المجانيق فنصبت ورمى بها المتحصنون للمرة الثانية في عهد ابن الزبير، فكانت الأحجار تنال الكعبة وتقع على جدارها (20) ويذهب بعض المؤرخين إلى أن الحجاج كان يرمي بها الكعبة فيتبادر إلى بعض الأذهان أنها كانت مقصودة وهي فكرة كان أحرى أن ينالها تدقيق العبارة؛ فالحجاج على قسوته وعناده ليس بالرجل الذي ينسى إسلاميته ويرمي قبلته التي يصلي إليها بحجارة المنجنيق إنما هي حمى الحرب وثورة الأعصاب أسلمت المسلمين مع كل أسف في كثير من أزمنة التاريخ إلى كبائر وأخطاء لا ندعي أنها كانت مقصودة لذاتها بقدر ما نرى أنها نتائج طبيعية لثورات من الغضب يفقد العقل فيها توازنه على أننا لا نبرئ الزبيريين فقد ساهموا بنصيب طيب من العناد وأحرجوا الأمويين بتحصنهم بالكعبة فكانت الحجارة تنال الكعبة بقدر ما تنالهم ولو استعانوا بشيء من هدوئهم لأدركوا وقتئذ تحرج الحالة واستحالة الدفاع في حصار تمده جيوش لا قبل لهم بها فأعلنوا طاعتهم استبقاء على دماء من حولهم واحتراماً لقدسية البيت الحرام.
الواقع أن الشجاع لا يستطيع أن يصيخ إلى نداء العقل ولقد كان عبد الله ابن الزبير على إيمانه بحقوقه في إمارة المسلمين واعتقاده بفساد الحكم في الشام ووثوقه بنفسه. كان الرجل الفذ الذي يستطيع أن يضطلع بأمور المسلمين.. ولقد كان شجاعاً من نوع ممتاز وحسبك أن تعلم أن الأمويين كانوا يحملون على باب من أبواب المسجد فيشد عليهم ابن الزبير وليس معه أحد حتى يخرجهم منه إلى الحجون (21) ولقد اجتمع إليه المكيون فقالوا: ألا تكلمهم في الصلح؟ فقال: والله لا أسألهم ذلك أبداً وضاق الناس بإصراره فجعلوا يتسللون إلى الأبطح طالبين الأمان من الحجاج فيؤمنهم حتى قالوا: إن عدد من تخلى عنه يومئذ لا يقل عن عشرة آلاف رجل ومع هذا لم يزعزع ذلك من ثباته شيئاً (22) .
 
طباعة

تعليق

 القراءات :468  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 31 من 258
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

محمد عبد الصمد فدا

[سابق عصره: 2007]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج