شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
-25-
صديقي:
هنئت.
كان حفلاً تجلّت البساطة فيه بأجمل ما تتحلّى به حفلات الزواج وأفراحه.
ولا أرى ما يدعوني لأن أخبرك بأني كنت واضحاً مع فتاتي، وأنها رضيت مني بعد أن أوسعتها لوماً بكل القواعد التي رتبتها لحياتنا الجديدة، ورضيت منها بكل ما احتاطت به لتضمن لنفسها نتيجة المعشوق المدلى بفتنته وجماله، وأنها بعد موافقة ذويها أعلنت الخطبة وتقرَّر الاحتفال بالزواج. وإذا كانت حفلات الزواج لديكم لا تعنى بمراسيم الفرح بقدر ما تعنى بالعصب والتكاليف المرهقة، وإذا كانت لياليها تمضي عندكم أكثر ما تمضي فاترة سخيفة لا يميزها عن غيرها إلاَّ فداحة النفقات وأوصابها، فإن حفلات الزواج عند هذا القبيل من الجن تعنى بكل شيء إلاَّ التكاليف، وتحتفي بألوان زاهية من المراسيم لا تكاد تُكلِّفهم شيئاً من النفقات، كانت الطبول تقرع دويها في مخاوف الشعاب، وكانت شغاف الجبال، ومسالك التلال، ودروب الوهاد؛ تنحدر بسيول من الجماهير لا تعرف أشكالها ولا تميز هيئاتها إلاَّ بما أناطت على ظهورها أو أكتافها من السلال الموقرة بأصناف الطعام وألوانه.
واستوعب الوادي بنجوده المتشابكة ولياته المتشعبة هذه الجماهير في زمر موزعة بتوزيع الأفياء في ظلال الدوح المتناثر بين الهضاب، وفي أكناف الصخور النائية في مدارج الجبال ودروبها، ومالت الشمس عن مدارها في الأفق فاتسعت ظلال الأفياء فبدأت موائد الطعام تمتد بامتداد الأروقة الظليلة، وبدأت كل زمرة تفرغ من سلالها بعض ما تحوي حتى استقام في كل ظل سماط، وحفل كل سماط بشتات الألوان استقلت به جماعته.. فكنت ترى أحشاء الوادي وحوافيه غاصة بالمتجمهرين صاخبة بضجيجهم العالي.
وشرع المتجمهرون في أعقاب فراغهم من الأكل يتفنَّنون في عرض ألعابهم فكان نافثوا الدخان من أفواههم تنعقد على رؤوسهم سحب من الغمام فيها الكثيف الغامق، والرقيق الشفاف، يتماوج ألوانه بين السنجابي والأزرق الزمردي ((واللازوردي))، واندلع اللهب في ثنايا الغمام، يشع شواظه، ويتطاير شرره فيلمع في حواشي الدخان المتصاعد، وتنعكس أشعته في حواشيه في بريق أخاذ. ونشط الشباب النطاط حول اللهب المستعر وبدأ التواثب فوق أعِنَّته يرتفع إلى أطباق عالية في حماس صاخب، وتعالت أصوات المغنين ترجع أصواتاً لها مثل تواقيع هدير السيول في مجاريها بين الصخور.
وقام بعض الشيوخ وعجائزه على أكتاف التلال يعرضون من فنونهم السحرية أشكالاً فيها الرائع المفزع، والمثير المدهش، والغريب المضحك.. كنت ترى أشلاءهم تتطاير في أجواز الفضاء ثم تعود في حركات بهلوانية إلى مستقرها من أجسامهم، وكنت ترى من يعمد إلى رأس صاحبه فينزعها كما ينزع البصلة من عروقها، ثم يقذفها كأنها الكرة لتختلط بعشرات الرؤوس مثلها في أجواز الفضاء، وتعود ليتناولها جسمها مرة، وغير جسمها أخرى، في أوضاع قد تختلف فيها مواقع الوجوه عن موضعها إلى ما يسامت الظهر والجنب، فترتفع ضحكات الضاحكين في جلبة صاخبة وضجيج يملأ صداه الوادي، واتخذت الفتيات الحسان بعض أشكال الطيور الشادية، والعصافير المغردة، وانطلقن في آفاق الوادي يرفرفن بأجنحتهن في زهو الفاتنات، ويصدحن بتغاريدهن في ألحان تذوب فيها العذوبة والرقة والجمال.
ومالت الشمس إلى مغيبها وراء القمم العالية، ودلف القمر يتخطر في بياض الفضة الناصع إلى كبد الأفق، ويرسل ذوبه إشعاعاً يشرق على عرضات المتجمهرين تحت الأدواح وفي سفح الهضاب، وفي مجاري السيول من الوادي، واشتد حماس اللاعبين وتنوعت تفانينهم، فبتنا في ليلة ما رأيت ولن ترى في حياتك ما عشت أروع منها جمالاً، وأحفل بأسباب الغبطة والمرح.
دعني أتركك الآن إلى زفة العروس وسنلتقي في رسالة أخرى.
قبِّل عني جبين أمي وناصيتها، ومواطن المشي من خطواتها إذا وافقت، وحاول أن تفعم قلبها بما لقيت من هناء، وأن تشيع في حناياها السرور الذي أحسه، والفرح الذي يغمرني.. وقل لها إذا شاءت أن تشاركني هذه الخطوة فإن استهواءها لا يكلّفني كثيراً، وأن رفيقة حياتي يسرها أن تقوم على خدمتها بيننا في وادي الجن السحيق، وتتوافر على العناية بها ورضائها.
وإلى الملتقى..
 
طباعة

تعليق

 القراءات :356  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 108 من 114
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذ الدكتور عبد الله بن أحمد الفيفي

الشاعر والأديب والناقد, عضو مجلس الشورى، الأستاذ بجامعة الملك سعود، له أكثر من 14 مؤلفاً في الشعر والنقد والأدب.