شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
أهم مدارس الأدب
مدارس الأدب أو إن شئت فسمها مذاهبه تعددت ألوانها واختلفت ضروبها عندما احتك الأدب العربي بما استحدث الغرب من ضروب الأساليب في آدابهم.
لقد كان لأسلافنا مدارس في الأدب يوم كان الأدب العربي حياً تشع أضواؤه في آفاق حضارتهم ولكنها كانت مدارس شبه محدودة كانت لا تشتهر إلاّ بشهرة أصحابها فثمة مدرسة عبد الحميد الكاتب، أو ابن المقفع، أو ابن العميد، أو أبي العلاء، أو ما إلى هؤلاء من مشاهير الكتاب.
ومع هذا كان بين نوابغ القوم ونقادهم من لا يعبأ بهذه المسميات وربما رآها تنطعاً في الفهم. فالأدب عندهم إحساس فطري لا يعتمد مدرسة لذاتها بقدر ما يعتمد صدى أحاسيس الأديب في عبارة صادقة. وتصوير دقيق وخيال مرهف غير مجنح وأداء ينبع من ذاتية الأديب في بساطة لا تتكلف التصنيع.
وبعض المحدثين من نقاد الأدب من يرى مثل هذا الرأي وأذكر أن لأبي شادي في كتابه رائد الشعر الحديث تعليقاً على الموضوع جاء في معناه ((إن لكل فنان أسلوبه في التعبير علينا أن نحترمه إذا استطاع أن ينتزع احترامنا وأن لا نتقيد بدكتاتورية المذاهب الأدبية، فذلك أسوأ ما يشوه الفن)).
ولو كنت قريباً من مكتبتي وأنا أنقل هذا المعنى لحفلت بإيراد النص كما كتبه أبو شادي وعززته بأقوال أكثر من ناقد من محدثين وقدامى.
بيد أن مثل هذه الأقوال لا تزال محدودة بأصحابها بينما شاعت فكرة المذاهب شيوعاً كاملاً على أثر احتكاك آدابنا بآداب اللامعين من أمم الغرب.
ونحن هنا إذا تراءى لنا أن نمر بهذه المفاهيم التي وزعت الأدب إلى مدارس مذهبية سنجد أمامنا ضروباً تتسع أو تضيق باتساع أو ضيق ما شاع من الآراء في شأنها. إلاّ أن هذا لا يمنعنا أن نلم بالمشهور منها.
المدرسة الكلاسيكية:
ويقول أصحابها أن أسلوبها يوناني أو روماني كانت أوروبا لا تعرفه في عصورها المنحلة يوم كانت لا تقيم وزناً للأدب كفن رائع فلما أظلّتها عصور النهضة القديمة بدأ أدباؤنا يحاكونه فشاع على أقلامهم وظل على شأوه بينهم إلى أن صافحتهم النهضة الأخيرة التي هيأت لمفاهيمهم أساليب مستحدثة تتماشى وما تغير من أساليبهم في الحياة.
الكلاسيكية إذن مدرسة اتباعية تحتذي خطوات أدباء سبقوهم إلى الحياة وكان لآدابهم فيها شأن كما كان لأدب عبد الحميد الكاتب وابن العميد والجاحظ وأضرابهم شأن في الأدب العربي.
وقد ذكروا أن (كلاسيك) كلمة لاتينية كانت تعني كبراء القوم أو المحافظين منهم على ما ورثوا من تالد فاستعارها الفن في أوروبا ليطلقها على قدامى الأدباء عندهم قبل النهضة الأخيرة وعلى من حذا حذوهم من المحافظين من أدباء اليوم.
المدرسة الرومانتيكية:
هي مدرسة الإبتداعيين الذين أنكروا بلاغة الكلاسيكيين وربما أسموها عجرفة أو اتهموها بالتصنيع وتنكروا لكثير من أساليبها في الصياغة ومالوا إلى التحرر لا في الصياغة والأسلوب فقط بل وفي طريقة التفكير. قالوا إننا نتفاءل بتجارب ما عرفها أسلافنا. فتتوقد أحاسيسنا وتصدر مشاعرنا عن جديد مبتكر وبذلك انطلقوا في خيالاتهم لا يلوون ومال مشاهيرهم إلى الفن الوجداني المجنح الذي يتحدث أكثر ما يتحدث عن عواطفهم وأشجانهم وأمانيهم الحالمة وما يشتعل في وجدانهم كصدى لمآسي الحياة فكان من محاسنهم صدق الأداء ودقة الوصف وعنايتهم بتجديد شباب الأدب كما كان من مساوئهم استغراقهم في أشجانهم واستكناه آلامها بما يثير أحاسيسهم.
على أن منهم من استغرقه وجدانه في صور موزونة فعالج مآسي الحياة في هدوء ودعا إلى المثل العليا في فصاحة بيان وتأمل غير مجنح فأخذ من الكلاسيكية اتزانها وبعض قيود بلاغتها كما أخذ من الرومانتيكية بعض حريتها وأصالاتها الفنية وهو أسلوب يبدو اليوم شائعاً بين كثير من أساطين الأدب العربي وتجد ملامحه واضحة أشد الوضوح بين كثير من مشاهير الكتّاب والشعراء في مملكتنا الفتية.
المدرسة الواقعية:
وعني بعض هؤلاء المتزنين أكثر ما عنوا بالمجتمع وتغلغلوا في شؤونه وشاركوا في حوادثه مشاركة فعّالة فلم يبيحوا للخيال أن يتيه بهم في متاهات وأوهام مجنحة فعاشوا يتناولون الأحداث في صميمها ويتابعون الوقائع ليصفوا مشاهدها كما تراءت لهم ويعلنوا آراءهم في تصحيح الأفكار وينادوا بانتهاج السبل التي يعتقدون صلاحها وهم مع هذا يعنون باللفظ الرصين والمعاني البليغة والتصوير الصادق ويجندون فنونهم للخدمات العامة وربما سخروا بمن يعتمد الفن للفن لأن الفن فيما يرون ما خلق إلاّ ليخدم الحياة.
ومن هؤلاء شعراء القوميات والمناسبات الوطنية وأحداث البلاد الصارخة والكتّاب الاجتماعيون وكتّاب البحوث العلمية والأدب النقدي البنّاء والقصصيون ممن يستهدفون الحياة وحتى كتّاب التمثيليات ممن يعالجون الشؤون العامة ويعنون بمصالح المجتمع.
المدرسة الرمزية:
وأصحابها أعمق من أن يفهمهم قارئ عادي. ففي زعم بعضهم أنهم يغوصون في الأعماق النفسية لينقلوا صداها إلى من يطيل التأمل ويحسن الفهم ولا أستبعد أن يكون من أهم البواعث على إشاعة هذا اللون الغامض هي الظروف المستبدة التي تحول أحياناً دون حرية الحرف ولا يرضيها الإفصاح وقد شوهد هذا في أكثر مناسبات الثورات عندما يعمد الكاتب إلى غموض الفكرة وإبهامها وتلتوي معانيه بالتواء غرضه منها.
على أن من أصحاب هذا الإبهام من استساغ الرمز للرمز كأسلوب له إبداعه الفني وهم يرون أن وراء الغموض ما يغري القارئ بلذة الحرص على استكناه ما يقرأ وربما أعاد القارئ القراءة وكررها ليستمتع بذات اللذة، ولأستاذنا العقاد رأي يشبه هذا المعنى ولا غرابة في ذلك ففي الكثير الذي يكتبه ما يلح عليك بقراءته مرة بعد أخرى وعشاق البيان الواضح لا يقرون هذا الاستمتاع ولا يجدون لذتهم في عنت الأسلوب الغامض.
المدرسة السريالية:
وأصحابها لا يتقيدون بقيد فكري أو أدبي ويرون الخروج على كل الصور والأساليب الموروثة فيتركون أحاسيسهم تملي عليهم شعرهم أو نثرهم ويكرهون أن يكون للعقل أو المنطق أيما إيحاء فيما يكتبون.
يرون أن العمل الفني يجب أن يصور مشاعرهم كأدق ما يكون التصوير وربما ابتكروا لتصويرهم كلمات لا يقرها عرف اللغة التي يكتبون بها ويبعدون في أساليبهم إلى أبعد ما يتسع له خيال المفكر وقد تطرف بعضهم حتى رأى أن الشعر الحر ليس حراً كما يريدون لأنه يلتزم بعض الأوزان التقليدية وأن على السريالي أن ينطلق إلى أقصى مدى في حرية الانطلاق حسبه أن يستوحي أحلامه وأن يسبح في فيض اللاشعور ليسجل خفقات فؤاده بدون أدنى رتوش يهيمن عليها عقله.
المدرسة الوجودية:
يمكن اعتبار الوجودية نزعة تناهض الأخلاق قبل أن تكون بدعة في فن الأدب -فالوجودي قبل أن يكون أديباً أو شاعراً كان لا يمثل إلاّ ذاته ولا يعنيه من شؤون الحياة إلاّ لذاته وأن ينعم بما يتراءى له فيها دون أن يقيده سائد أو عرف عام.
وهم في مجتمعاتهم الخاصة تختلط نساؤهم برجالهم بأشكال مثيرة ويستبيحون لأنفسهم في أعمالهم ونزهاتهم وأساليب حياتهم أوضاعاً لا يبالون فيها بقول ناقد ولا يأبهون لاشمئزاز معترض.
وتراءى فيما يبدو للفنيين منهم أدباء وشعراء وقصصيين أن يحرروا فنونهم على هذا النحو المتطرف فكانت لهم مدرستهم التي قطعت صلتها بسائر قيود الحياة وناهضت كل ما تعارفت عليه الأخلاق وانطلقت تحلق في أجواء لا نهاية لحدودها ولا هدف فيها إلاّ أن تستبيح لذواتها كلما تراءى لها دون نظر إلى المعقول منها أو غير المعقول.
وإذا كان بين شباب الجيل الصاعد من يحتفي بهذا التوزيع المذهبي فالذي عليه غيرهم أن الأدب أدب مطبوع تفيض به أحاسيس الكاتب أو الشاعر أو أدب مرصوف تصقله الصناعة وتذوق حواشيه.
وربما غالى أصحاب الأدب المطبوع فخرجوا به عن المقاييس العامة للعبارة والأسلوب مستوحين الجرس الموسيقي والبيان الخلاب والكلمة ينبض بها القلب ليخاطب القلب في صور معبرة عن شخصية الكاتب تسيل منها روحه قبل أن يسيل بها قلمه.
لا فرق عندهم بين مدرسة وأخرى ما دام الكاتب أو الشاعر مطبوعاً مرهف الإحساس دقيق التصوير عميق التأمل -يعطي الفكرة من نفسه أكثر مما يعطيها قلمه في أسلوب جزل التركيب عذب أخاذ. والأدب عند من أعنيهم لا يعني التسلية وإمتاع النفس بحمل الأداء أو رشاقته بقدر ما يعني خدمة الحق وحسن التوجيه ودراسة قضايا الإنسان في إخلاص وصدق وأن يتفاعل الكاتب مع بيئته ليشعر بشعورها ويألم لآلامها وينطق بما يعبر عن أدق أحلامها.
لقد مضت العهود التي احترف الأدب فيها المرتزقة كمهنة عاشت تخدم رجال العطاء وتتكلف الزيف في سبيل ما ينفعها وبات أصحابه اليوم مجندين لحمل المشاعل في مقدمة الصفوف لينيروا لشعوبهم الطريق السوي الذي يجب أن يرتادوه إلى أهدافهم السامية في الحياة. ويرى بعضهم أننا نعيش عصراً مادياً فإذا اعترفنا بحاجتنا إلى من يحمل المشاعل أمامنا من رجال القلم فليس لدينا من الوقت ما يتسع لأنغام الشعر تتراقص لها أشجاننا وفي هذا ما يغالط في صميم الحقائق فلسنا اليوم أحوج إلى شيء حاجتنا إلى الشعر ليثير كامن إحساسنا ويترجم عن خواطرنا ويلهب حماسنا ويغذي أرواحنا بما يدفعنا للعمل الجاد في سبيل كرامتنا.
قد يصح أن يقال هذا أو مثله لمن يقول الشعر للشعر كما يقال لأصحاب الفن للفن أما الشعر للحياة لإثارة ضمير نائم أو نفس هاجعة أو روح متخاذلة أو خيال راكد فتلك نعمة حية لا تستغني عنها أمة تتمنى أن تعيش لآمالها.
حتى الشعر للجمال لا يصح أن نستغني عنه بصورة مطلقة فالإنسان روح قبل أن يكون مادة وهو بهذا في حاجة إلى من يرهف إحساسه ويرقق مشاعره ويذكي ذهنه ليتوقد إدراكه وتشتعل مفاهيمه فيحسن التأمل ويتبصر الحقائق فيعطيها من نفسه ما تستحق من جهد وعناية.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :443  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 50 من 92
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

سعادة الدكتور واسيني الأعرج

الروائي الجزائري الفرنسي المعروف الذي يعمل حالياً أستاذ كرسي في جامعة الجزائر المركزية وجامعة السوربون في باريس، له 21 رواية، قادماً خصيصاً من باريس للاثنينية.