شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
(16)
كرسي الأستاذية
توالت السنون بنا ونحن مأخوذون بمراكزنا التي كانت تتيح لنا ونحن في سن مبكرة أن نتحكم في مصائر مئات الأطفال (نشخط وننخط) ونتقاضى مع ذلك مرتبات شهرية محترمة إذا قيست قيمتها بمعدل نقدنا اليوم فهي تضاهي نحو عشرين ريالاً.
توالت السنون تمر بنا في ريح لم تكن هادئة كل الهدوء وكيف لها أن تهدأ وبين جدران المدرسة أشياخ لا يتميز بعضهم عن التلاميذ إلا بأجسامهم وأجسامهم فقط.
ومما أذكره أننا كنا يوماً في رمضان وكانت حصص الدراسة في برنامج رمضان تنتهي بأذان الظهر ينصرف التلاميذ على أثرها ولا ننصرف بانصرافهم؛ لأن المدرسة بردهاتها وفصولها الخالية مجال واسع للجري والنط واللعب بالماء نغرق به ثيابنا وأجسامنا ولا يهمنا في نشوة الجري أن يصيب أثاث المدرسة ما يصيبه من أذى.
كان مديرنا لا يشاركنا إلا في قليل من هذا العبث وربما وقف هو وآخر معه على كثب منا يضحكون لمرحنا في تعقل وربما وقف بعيداً منا يستعدي بعضنا على بعض مأخوذاً بنشوة لعبنا.
ولكنه ما عتم أن ضاق بنا وشعر أن مركزه الرسمي لا يبيح له أن يتضاءل فشخط ونخط على أمل أن يحفظ لنفسه ومدرسته بعض هيبتهما.. ولكن هيهات فليس في البيداء (خوّاف) وليس بينهم عاقل.
وحلت عطلة العيد في أخريات رمضان فكان من حق المدرسة بنايتها وصالاتها وغرفها أن تهدأ بانصرافنا عنها.. ولكننا لم ننصرف وأنى لنا أن ننصرف ونحن لا نملك متسعاً يجمعنا للعبث والجري غير بناية المدرسة.
كانت فرحة اتسع الوقت فيها فاشتط العبث واشتط رغم أننا صائمون وليس بيننا من تحدثه نفسه بالإفطار فاستأنف المدير شخطه في غير جدوى.. فأصدر أمره رسمياً بأن نغادر المدرسة إلى نهاية العطلة فلم نسمع، فاستصدر من وكيل المعارف أمراً بذلك فلم يسعنا إلا أن نمتثل كارهين وأن نغادر المدرسة آسفين.
ونُميَ إلينا أن مديرنا يختلف بعدنا إلى المدرسة ويتمتع بهدوئها وحده لا يشاركه أحد فعز علينا أن يطردنا ويستقل بها بعدنا.
قال قائلهم: من يبايعني على الثأر (والقائل هو شخصي بالطبع) فانفرد من الصف صديق الملمات ورفيق العزمات إذا اشتدت (الوكبات) عبد الله خوجه وهو يقول: أنا لها!!
وتساءل القوم عن ماهية الثأر وكيف يكون؟ قلت: نُحكم إغلاق باب المدرسة بالمسامير فنحرم المدير من غشيانها كما حرمنا فاستصوب أخو الملمات ما رأيت ومشى يتقدمني إلى العمل.
لم يستعص باب المدرسة علينا فقد كان قفله (شاشاليف) ولكن المسامير كيف نحكمها دون طرق يسمعه (الحادي والمنادي) يا أخا الملمات؟!
وهنا طرأت فكرة: نحن نخزن في أعلى المدرسة بضعة عشر عوداً نستعملها للرايات في أيام الزينة والأعياد.. هيا بنا نحملها إلى الباب.. ونرى!!
ولو اطلعت علينا ونحن نختلس خطانا في درج المدرسة متلصصين متنقلين بالأعواد لهالك أن يكون للمدرسة أساتذة من هذا الطراز ولملئت منهم رعباً.
ركزنا جميع الأعواد خلف الباب دون أن نشدها إليه ثم أفرجنا منه ما يكفي لخروجنا وعدنا نشده في قوة حتى ثبتت خلفه الأعواد بشكل لا يدع مجالاً لحركته.
ولكن المدير كان أذكى بكثير مما ظننا فإنه عندما عاد إلى المدرسة وعندما حاول فتح الباب بكل قوته فاستعصى عليه نظر من فجوة القفل أو من خصاص الباب فشهد الأعواد المركوزة خلفه تمنعه من الحركة ففهم (القولة).
استدعى نفراً من موظفي البلدية جيران المدرسة ليطلعوا على ما رأى ويوقعوا على محضر بواقع الحال ثم رجا إلى بعضهم أن يتسلق (بلكونة) البلدية إلى المدرسة ويزيح الأعواد عن الباب ففعل وبذلك أحبط كيد المبطلين.
واللذيذ في الأمر أنه رفع يشكو أمره إلى وكيل المعارف مرفقاً به محضر الحال وكان وكيل المعارف ويمتاز بطيبة متناهية إلى سماحة يقل نظيرها وكان إلى جانب هذا يعرف أن مديرنا ممتحن بطائفة لا يزكى عقلها وإن كان يحمد لها دأبها في العمل ونشاطها، وأن على المدير أن يروضها في غير عنف لئلا يحرم نشاطها (روح يا ولدي الله يهديهم.. وسنشوف).
ولقد شاف فضيلته الموضوع لأني عندما بادرت قبل إخواني في أيام العيد للسلام عليه في بيته قص عليّ الأمر كما لو كنت أجنبياً عن القصة وتسمعت إليه في عناية وأدب كما لو كنت غريباً عنها.. ورأيتني في نهايتها أطلب إليه أن يتفضل فيكل أمر التحقيق إليّ في صورة سرية.
((أنا أجرُّ لسانهم إذا أمرتم ثم أسر به إليكم)).
(روح يا ولدي.. ربنا يساعدك.. ويهديك) وطلب الهداية هنا كان يجب أن يتسع لأكثر من معنى.. ربما كان من معانيه إني مشبوه بالنسبة إلى القصة فلا يجب أن تنطق ملامح وجهي بأية حركة تؤيد الشبهة.
وانطلقت إلى إخواني أعلنهم أني ندبت جاسوساً للقضية فضحكت وضحكوا.
ولم تنته أيام العيد حتى ساد الصفاء بيننا وبين مديرنا، فقد كان حضرته يتمتع إلى هدوئه بكثير من رقة المشاعر، وكان إلى جانب غرامه بمجالس الغناء والطرب لا تلذ له هذه المجالس إلا إذا حفلت بالمناكيد من زملائه في المدرسة، فما عتم أن ندب لنا من يستحصل خمسة قروش عن كل رأس منا -((وتعالوا عندنا قيلة وطرب بعد بكره)) وهكذا ذابت القضية وذاب الخصام بين رنات العود وأطباق الشواء ومزاح (المجغين).
وتراءى لي أن أجس نبض القضية في دار فضيلة الشيخ وكيل المعارف خشية أن تأخذ طريقها الرسمي في إدارة المعارف فاستقبلني فضيلته في سن ضاحك ((ها ايش سويت)).
قلت: جئت اليوم ألتمس الفتوى في موضوع فقهي، وكان رحمه الله لا يبسط أساريره شيء مثلما يبسطها البحث الفقهي وتتفتح نفسه بشكل لذيذ إذا تفتق البحث للنقاش وتوالت عليه الاعتراضات.
وكنت قد هيأت نفسي بما يكفل انبساط أساريره حتى إذا تم لي ما أردت قلت: هل أبشر الشيخ؟؟
قال: خيراً إن شاء الله؟؟
قلت: تصالح المدير وجماعته وكانوا من يومين (مقيلين) في بيته.
قال: لا بدها قيلة طرب؟؟
قلت: لا يخلوا الأمر من قصائد وأناشيد اقتضتها فرحة العيد.. ولكن الذي يهم المدير ويهم إخوانه ألا تكونوا زعلانين وأن يشمل العفو أوراق الشكوى.
قال: إنها لا تزال في مكانها تحت (المقعدة) هناك.. فهاتها من أقصى يسار المقعدة.
وكنت أسرع من إشارته إليها فقال مزقها وقل لإخوانك: ترى لا أسمع بعد اليوم شيئاً من هذا.. رحم الله تلك النفوس السمحة وأغدق عليها من فيضه ما يتكافأ وطيبتها.
وكنا مغرمين بإقامة الحفلات العامة لنشبع فيها -من حيث لا ندري- رغبة أعصابنا إلى الحركة.. فكنا لا نترك مناسبة دون أن نحييها باحتفال عام ندعو فيه أعيان الدولة ورجالات البلاد وعلى رأسهم جلالة الملك الحسين ثم نتعاقب ونجباء تلامذتنا على المنبر في كلمات إنشائية كان الحسين رحمه الله يحتفي بها؛ رغم قلة انسجامها وركاكتها..
وكان رجال المعارف لا يرضيهم تبذلنا دون بقية المدارس التابعة لها في إقامة الحفلات؛ وتهجمنا على مقام الملك في دعوته إلى مثل هذه الحفلات عن غير طريقها ولكنها لا تملك حق الاستنكار؛ لأننا كنا لا نقرر مشروع حفلة حتى نسرع إلى قصر الحسين؛ ونرتبط بوعده لحضورها. فلا تكاد إدارة المعارف تشعر بعزمنا حتى تكون قد علمت بأن الحسين قد أجاب دعوتنا فلا سبيل إلى العدول عما تقرر!!
ومن أطرف ما أتذكره من نوادر هذه الحفلات أن السلطان وحيد الدين العثماني -وكان ضيفاً عند الحسين- شرَّف حفلتنا في إحدى المرات بصحبة الحسين؛ وكنت قد أعددت كلمة عن ماضي الحجاز وحاضره؛ وإذا أردت تدقيق العبارة فالواقع أني حبّرت الكلمة على غرار الإنشاء المدرسي؛ وكنا نستفتح كلماتنا بعبارات لها نسقها الخاص من قبيل (من فكر وحقق؛ ونشر ودقق؛ واستطلع الكتب وأسفارها: والتواريخ وأوراقها؛ وجد كذا وكذا، وعلى كذا؛ وكذا).
وكان لا بد (لخطابي) أو إنشائي في هذه المرة أن يتعرّض لسيئات الأتراك في ماضي الحجاز على قاعدة النفاق الاجتماعي العام في مثل هذه المواقف الخطابية؛ وأن يذكر فضل الحسين في إنقاذ البلاد من براثينهم فلم يتسع إدراكي لمراعاة شعور الضيف العثماني الذي كان يجب ألا يسمع كلمة تسيء إلى عثمانيته؛ ومضيت أستهل خطابي بما لا يليق بالمقام ففطن الملك لبلادة شعوري؛ وأراد أن يستدرك الموقف فأهاب بي:
(هاتوا شيئاً من اتحادكم.. عن تآلفكم).
فلم أفهم كثيراً مما يقول وأنّى لي أن أفهم وقد انحصرت مشاعري فيما بين عيني من أوراق مسطورة؛ وأنّى لي أن أعطيه شيئاً عن الاتحاد وأنا لا أجيد الكلام إلا فيما أسهر على تحبيره وتطريز أوراقه.
وعز عليّ في الموقف أن أغادره فاشلاً؛ فتوقفت لحظة استجمعت فيها أنفاسي، ثم استأنفت الكلام في أوراقي نفسها.. فاستوقفني مرة ثانية؛ ثم ثالثة.. وعندما رأى جمود إحساسي صاح بي (كفى.. كفى) فغادرت الموقف في (أروع) ما يغادره (كسيف).
ودام اشتغالي في المدارس أعواماً في عهد حكومة الأشراف ثم في عهد حكومتنا الحاضرة؛ وقد علمني التدريس؛ وعلمني طول التجارب؛ وعلمتني قسوة الأيام ما لم يتيسر تعليمه عند أمهر الأساتذة؛ وأكفأ المعلمين.
ولازمني شغف القراءة وحب التدريس.. فقرأت قصص أبي زيد الهلالي، وعشرات أمثالها مما لا يختلف كثيراً عن أسلوب العوام، ثم تقدمت قراءتي فدرست سيرة ابن هشام، وتاريخ ابن الأثير.. فشعرت أنني أتلذذ بأسلوب أرقى مما كنت أقرأ وأحسست أنني أمازج المؤمنين فيما يكتبون، وأسايرهم فيما يعجبني من آراء، وأحنق عليهم فيما لا يعجبني، وأناقشهم في كل ما يحتمل المناقشة والجدل.
واجتمعت مصادفة بالشيخ محمود ملياني فجاء ذكر المؤلفات والمؤلفين، وسألني عن الأدب الحديث ورجال القلم فيه. فلم أحر جواباً، لأن مبلغ معرفتي بمعاني الأدب هو تهذيب الطبع. أما الأدب كدراسة في علوم اللغة، فذلك معنى لم يصادفني بعد. فليس لي أن أفهمه. وكنا نسميه إنشاء كما علمتنا المدرسة.
ولم يفارقني الشيخ الملياني حتى كنت قد ألممت بالمعنى الجديد لكلمة الأدب، دون أن يشعر بجهلي، وكان قد وعدني بأن يبعث لي كتاباً أدبياً فرغ منه بالأمس، وأعجب بأسلوبه الجذاب.
وتناولت الكتاب فإذا هو ((الريحانيات)) للأستاذ أمين الريحاني، فشرعت في قراءته في دهشة الرائد الذي امتطى أول طيارة تمر به عباب الهواء، وتسلك به سبيلاً ليس فيه مكان لما تعودت قدماه على الأرض.
شاقني هذا النوع من الكتابة؛ وراقتني فيه عذوبة الألفاظ وطرافة الخيال، وتمنيت لو أجد من أمثال هذه المطالعات.. ما يملأ أوقاتي جمالاً.
وعثرت بعد أيام على (حديث القمر) للأستاذ الرافعي.. فلذَّت لي مناجاته الرائعة، وترك أسلوبه الأخّاذ في نفسي أثراً. فرحت أنسج على منواله تقليداً ومحاكاة وأضيف إلى دفاتري صفحات من لون جديد.
وقرأت بعدها عدة مؤلفات لجبران خليل جبران.. فاستطاع أن يستحوذ على مقدراتي في الحياة، وأن يترك أثره في توجيهي، ويعلمني كثيراً من شذوذه على القواعد العامة، وما تعارف الناس عليه من أوضاع واصطلاحات، وصاغني صياغة عاتية لا تقر المبادىء التي لا يقرها عقل، أو منطق. ولا أنكر ما حييت أن شكيمة جبران وقوته فيما يكتب أزاحت عن نفسي أرتالاً ورثتها من بيئتي في البيت؛ والكُتّاب والشارع؛ وفتحت عيني على كثير من حقائق ما تلقيته من (ستي!!)؛ وحلَّت غير قليل من العقد التي كانت تنتاب نفسيتي؛ وأعدتني لتربية جديدة لا تمت بصلة إلى كل ما صادف حياتي الماضية.
فليت أصحاب الأقلام يدركون في كل وقت مبلغ ما تتركه نفثاتهم الحية في تنشئة الأجيال؛ وليت المرتزقة منهم يخشون الله في ما تدبجه أقلامهم؛ ولا يسيئون بمينهم (كذبهم)؛ وما يزيفون إلى مقدرات بلادهم في أشخاص من يوجهون من جمهرة قرائهم.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :433  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 90 من 92
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

سعادة الدكتور واسيني الأعرج

الروائي الجزائري الفرنسي المعروف الذي يعمل حالياً أستاذ كرسي في جامعة الجزائر المركزية وجامعة السوربون في باريس، له 21 رواية، قادماً خصيصاً من باريس للاثنينية.