شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
(2)
محظوظون في الكتَّاب
وكنا في نظر فقيه الكتّاب أوزاعاً؛ تتنوع حقائقنا بتنوع قيمتنا الاجتماعية، شأننا في ذلك شأن الناس في نظر الحياة كما بلوناها فيما بعد.
كان فينا المحظوظ بمركز أبيه، أو غناه، أو نفوذه الشخصي، وكان بيننا (الغلبان) لفقره أو يتمه أو ضعف شخصية أبيه.
ولم يكن لي من مركز أبي، أو غناه في الحياة ما يؤهلني للحظوة، كما أني لست معدوداً في اليتامى أو رقيقي الحال؛ لأن أبي كان أغنى من فقير وكان قد خصني بعبد اشتراه لخدمتي، واصطحابي إلى الكتَّاب، ولكني كنت ونفر من أندادي لا نبتعد كثيراً عن مجموعة (الغلبانين)؛ لأن أولياء أمورنا كانوا من أصحاب البأس الذين وهبوا لحوم أولادهم للفقيه. أما عظامهم فله أن يكسرها وعليهم أن يجبروها. فلا غرابة إذا أضافنا الكتَّاب.. فقيهه وعريفه إلى قائمة الغلبانين!!.
كنا نصطفى لكثير من الخدمات؛ فمنا من يكنس الكتاب، ومنا من ينظف المرحاض، ومنا من يحمل الماء إلى مركن المضر حيث تمسح الألواح، ومنا من يملأ (شربة) سيدنا، ويبادر فيسقيه وعريفه إذا عطشا ومنا من تخصص للمروحة إذا اشتد الحر على سيدنا، أو يدلك رجليه إذا احتاجتا إلى (التكبيس).
كنت أشارك في بعض هذه الخدمات أو أكثرها، لأن سيدنا كان لا يدين كثيراً بمبدأ التخصص وكان يميزني ويختصَّني برعاية بالغة في بعض الأحيان فيسلمني نعاله لأمضي به إلى العم جابر الخراز في رأس المدعى وأبقى في جواره في انتظار الفراغ من تسميره، أو يبعث بي إلى أمه في دارها أحمل إليها (زنبيل المقاضي) وأقضي وقتاً غير يسير عندها أعاونها في غسل (الصحون) والأطباق؛ وأعنى بطفلته الصغيرة عندها.
وكان يصل إلى علم والدي بعض ما أعانيه في الخدمة فلا يعيره ما يسمع؛ لأن مبدأ (من علمني حرفاً صرت له عبداً) عقيدة لا يصح التهاون فيها عنده، ولأن الفتوح في رأيه رهين برضاء الفقيه؛ ورضاء الفقيه كائن ولا بد في التوافر على خدماته وتسمير نعاله.
فليت الآباء يعنون في كل زمان بتمحيص أمثال هذه الحقائق، ويتفهمون معاني الإغضاء عن كرامة صغارهم، ويعينونهم ما استطاعوا على بناء شخصياتهم، وإقامتها في اعتدال موزون.
وكنا جماعة (الغلبانين) في الكتَّاب عرضة للظروف الحرجة التي (تتنرفز) فيها أعصاب سيدنا، فإذا أخل أحدهم بنظام الجلوس، أو شاغب جاره وسرت العدوى إلى من يليه فثار اللغط واشترك الصبية في زوبعته (تنرفز) الشيخ، وتوترت أعصابه وشرعت عصاته تلهب أول ظهر يصادفه من ظهور الصبية.
ولا تجهل العصا طريقها إلى ظهور الغلبانين لأن اليد القابضة عليها -يد سيدنا- تعرف من معاني الكياسة والحزم مالا تعرفه كل كتب التربية الحديثة.. فهي لا تجهل أن لمس المحظوظين بأهون ما يكون به لمس العصا يثير مشاكل لا قبل لسيدنا بها، وأن في ظهور الغلبانين ما يحفظ هيبة الكتَّاب. وفي أطرافهم ما يشفي غيظه في جو آمن من العواقب الخطيرة.
قلت مرة: يا سيدنا -هذا ولد العيدروس وولد الصافي يجرون خلفي في الأسواق ويصيحون. (دول مين.. دول مين.. دول نصارى ولاّ يهود.. كشوا عليهم بالبارود)، قلت له ذلك وأنا أجهش بالبكاء من فرط ما نالني من الألم، فنظر الشيخ إلى دموعي مرة وإلى خصومي -وكانوا من الفريق المحظوظ- أخرى، ثم رأى أن من الكياسة أن يتصرف في حزم وأن ينسى المخطئين وأخطاءهم، وينتزع من هذا الغلبان ما يحقق عليه الجزاء والعقوبة.
قال: أعد ما تقول فرحت أعيده في براءة الطفل.
(دولا مين.. دولا مين.. دولا نصارى ولاّ يهود.. كشوا عليهم البارود) فما ملك أن تصنع الغيظ لتبجحي في ترتيل مثل هذا القول على مسامعه وشرع ينهال على طرف من جسدي بخيزرانته اللدنة حتى ترك أثرها واضحاً في كل عضو مني.
ولكنه أبى في النهاية إلا أن يكون منصفاً في حدود ما يفسره من معاني الإنصاف، فقد التفت إلى خصومي بعد أن تركني في شبه غيبوبة، وأهاب بهم. (يا واد ما تقعدوا عاقلين إنت وهو!!).
عفا الله عن كتاتيبنا وأشياخها، فقد كانوا معذورين بعدوى العصر الذي يعيشون فيه، وقد تركوا أثرهم في جيلنا مستعصياً على كل المحاولات التي يحاولها العلم بما ينشره من ثقافة فعسانا لا نورث أخلافنا مثل هذه العدوى.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :553  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 76 من 92
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتورة مها بنت عبد الله المنيف

المدير التنفيذي لبرنامج الأمان الأسري الوطني للوقاية من العنف والإيذاء والمستشارة غير متفرغة في مجلس الشورى والمستشارة الإقليمية للجمعية الدولية للوقاية من إيذاء وإهمال الطفل الخبيرة الدولية في مجال الوقاية من العنف والإصابات لمنطقة الشرق الأوسط في منظمة الصحة العالمية، كرمها الرئيس أوباما مؤخراً بجائزة أشجع امرأة في العالم لعام 2014م.