شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
أمَام الحواجز
لا تتفتح نفس الموظف كما تتفتح لإنسان طويل ترقص البلاهة على محيَّاه!
ما ألذّ الحياة مبسطة لا يقيدها روتين ولا ترهقها تكاليف، ولكن نظام الكون يأبى أن يستقيم لهذا التبسيط، وأن يترك دواليب الحياة (سبهللا) لا تحدها قواعد أو ترهقها تكاليف.
ذكروا أن أجداداً لنا قبل نصف قرن كانوا لا يتكلّفون في سبيل انتقالهم من قطر إلى آخر أكثر من ورقة ممهورة يتسلمونها يوم سفرهم من موظف مختص يدفعها إليهم كما يدفع إليك الفكهاني أقة التفاح التي دفعت ثمنها، وأنهم كانوا لا يتقيدون بنوع من النقد أو صنف من الشيكات يحملونه في أسفارهم، ولا يطالبون بشيء من سائر الماجريات التي يتكلفها المسافر اليوم في أي بقعة رحل إليها أو قطر نزل به.
سيقال إنهم كانوا يعانون من وسائل المواصلات ومشاق السفر ما أصبح اليوم أضحوكة، ولكننا بعد أن ذلّلنا كل تلك المشاق أبينا أن نخلي أنفسنا من روتين صنعناه وقيود تكلفناها في سائر بقاع الأرض كما لو كان النصب شرطاً لاستمرار البقاء على وجه الأرض.
إنني شخصياً لا أضيق بشيء ضيقي بمجريات الروتين في كل دولة، فأنا لا أترك بيتي حتى تكون قد استنفدتني أيام مرهقة أقضيها أو يقضيها مكلف عني في كد واصب بين أوراق تُحال، وضمانات تسجل وألوان من القيود لا أحذق شيئاً من تفاصيلها.. وإني لأذكر أنني ما بدأت سفراً قط -على كثرة ما أسافر- إلاّ وجدتني أسترشد بأول مَن يقابلني عن الجهة التي يجب أن أتقدم إليها، وما أحيلت لي ورقة قط إلاّ وجدتني أرهق المختص بأسئلتي عن القلم الذي أذهب إليه، والغرفة التي أدخلها وكثيراً ما أستعين بقلمي لأسجل على أي ورقة أصادفها اسم الإدارة التي سأحال عليها والزقاق التي تسكنه والموظف الذي تتعين مقابلته، وربما ألححت في معرفة أوصافه والعلامة الفارقة في وجهه، والزاوية التي يوضع فيها مكتبه، ومع هذا فإني لا أكاد أصافح الغرفة التي يجلس فيها حتى يرتج عليّ وتختلط أمام عيني جميع الكلمات التي سطرتها في الورقة، وأقف مشدوهاً لا أحير وأجدني في نهاية الموقف أميل بأوراقي إلى أقرب موظف فأبسطها بين يديه، وأخبره أني أعتزم السفر وأرجوه أن يدلني إلى الجهة التي يجب أن أتوجه إليها بأوراقي في سبيل إتمام الروتين.
ولا تتفتح نفس الموظف -والصغار منهم بالأخص- لشيء كما تتفتح لإنسان طويل الهامة، عريض المنكبين، تتراقص البلاهة على محياه وتناديك السذاجة من جبينه العالي في براءة وتودد، فلا تعجب إذا علمت أني كثير الميل إلى تكليف غيري في سائر ما يعرض لي من الأسباب التي تواجهني بالروتين الحكومي، وإني عشت جل حياتي أتمتع بضيق ذهني لا يتسع لأكثر صنوف الروتين الذي تتقيد به الدوائر الحكومية في أي أرض أحل بها.
لا تأس عليَّ يا صاحبي وإذا كنت قد تعشقني فلا تذهب نفسك حسرات على ما حرمني الله من سعة الذهن؛ لأنه أبى -جلت قدرته- إلاّ أن يعوضني موهبة عديمة النظير، فلدي من الملكات ما يسعف المواقف في أحرج ظروفها لأني أستطيع أن أصطنع خفة الظل في أقل من لمحة عين وأن أشيع المرح وأثير الضحكات العالية، وأجمع الأبصار حولي في دوائر يستخفها السرور، ثم أزج حاجتي أثناء ذلك فإذا المكاتب تنقلني، وإذا الكراسي تتزاحم لدعوتي، وإذا شاب في طرف القاعة يناديني متطوعاً لمساعدتي وآخر يحلف على أن أسلمه أوراقي ليقوم وحده بما يلزمها.
سيستنكر ادّعائي هذا قارىء -لا تهضمني معدته- ويرى أنني (ألحس نفسي) كأي قط منفوخ، وربما استطاع أن ينكر عليَّ قولي عندما قلت: إني أصطنع خفة الظل لأن خفة الظل في رأيه لا تصطنع، ولكني لا أريد أن أناهد مثل هذا المستنكر، فحديثي هنا لا يخاطب إلاّ صاحباً سمّيته يتعشقني (والقرد في عين أمه غزال) فأحببني يا صديقي قبل أن تفسر كلماتي.
وسيستنكر قارىء آخر هذه الإفاضة في موضوع طالت توطئته وليس لي إلاّ أن أتمنى عليه ألاّ يستعجل، فيكشفني فأنا اليوم جائع إلى الكتابة بعد طول انقطاع.
ويلذّ لي أن أسامره بلون من أفانين القول أكثر ممّا يلذ لي أن أدفع إليه قصة رحلتي، فإذا راق له أن يتابعني راضياً بما أكتب، وإلاّ فإن في ألوف المؤلفات من البحوث الغنية بالفيتامينات ما يغنيه عن أكل (المنفوش).
 
طباعة

تعليق

 القراءات :354  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 80 من 92
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاثنينية - إصدار خاص بمناسبة مرور 25 عاماً على تأسيسها

[الجزء الخامس - لقاءات صحفية مع مؤسس الاثنينية: 2007]

الأعمال الشعرية الكاملة وأعمال نثرية

[للشاعر والأديب الكبير أحمد بن إبراهيم الغزاوي: 2000]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج