شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
عوّدونا الإحساس بالذات
كثيرة هي الأشياء التي تحيّرني في هذه الحياة، ويتعذر عليَّ أن أجد تفسيراً معقولاً لها.
أنا وأنت وألوف الملايين من أمثالنا عشنا عُصاة لا نحترم القوانين إلاّ إذا ظلت القوانين قائمة على رؤوسنا، ولا نتحرى عمل الواجب إلاّ مدفوعين بعامل الضرورة جلباً للمصلحة أو خوفاً من العقاب.
والغريب في الأمر أن دعاة الإصلاح في الأرض عاشوا من أول يوم خلقت فيه الأرض يجاهدون في سبيل الخلق الفاضل، فذهبت تسعة أعشار جهودهم هباء مع الرياح، وحتى الجزء الباقي لا أعتقد أنه استقام إلاّ وهو يرجو الاستفادة أو يخاف الضرر.
وأغرب منه أن الكثرة ممّن تعاقبوا على دعوة الإصلاح كانوا هم أنفسهم لا يستقيمون إلاّ في جوانب تقتضيها ظروف أنفسهم، لا يستقيمون إلاّ في جوانب تقتضيها ظروف أعمالهم في الدعاوة، فإذا امتحنتهم الحياة أو واتتهم ظروفها في غير تلك الجوانب نسوا الفضيلة، وراحوا يتمتعون بلذائذ ما ينكرونه على غيرهم.
لست أعني بهذا نفي الفضائل عن وجه الأرض فهناك أفراد سمت أرواحهم إلى أقصى ما تصل إليه الفضيلة، ولكنهم كانوا في عمر الزمان قلة لا تغير قاعدة الحياة.
ونحن في زماننا نسمع أن بعض البلاد المتمدنة تهذبت طباعها فانتهت إلى درجة كبيرة من الفضل. فهم يقدِّرون قيمة الصدق، ويعرفون للأمانة حقها، وربما فعلوا الخير للخير نفسه، وربما امتازوا بشرف ننساه في كثير من معاملاتنا.
نحن نسمع هذا ونعرف أنه حقيقة واقعة.. ولكن أيقال إن مثل هذا السلوك نابع عن مزايا فاضلة أم دفعت إليه ضرورة الحياة؟
أمّا أنا فأعتقد أنهم قوم ضرستهم الحياة بتجاربها، فعلَّمتهم أن فرص النجاح في أكثر دروب الحياة وثيقة الصلة بالسلوك الصادق الأمين، وأن سخاءهم بالخير في سبيل الخير فقط أسلوب ممتاز لتدعيم النجاح.
هم عقلاء في نظري أكثر منهم فضلاء، وبهذا نعود إلى القاعدة التي اقتضتنا تحرّي الواجب بدافع من الضرورة جلباً للمصلحة أو خوفاً من العقاب.
أريد من هذا أن أقول إن الحياة لم تنجح إلى اليوم، ورغم كل المحاولات المرهقة التي عاشتها، ما عاش الأبد، عجزت أن تهيئ النفوس الفاضلة وتطبعها على الخير المحض.
فالإنسان اليوم هو إنسان ما قبل التاريخ.. أنانيٌّ بطبعه، مغرمٌ بذاته لا يبالي في سبيل لذته بكل القوانين، ولا عبرة بالأدعياء والقوَّالين الذين يستقيمون فيما تقتضيه ظروف أعمالهم وينسون آلاف الجوانب التي يستبيحونها متسترين أو متأولين.
* * *
ومع هذا فلا أرى أن الحياة يجب أن تيأس بعد كل هذا الإرهاق الطويل.
ولو كان لي رأي بين المصلحين لاقترحتُ عليهم أن يقللوا ما استطاعوا من فرض الأنظمة وإعلان القوانين وأن يجربوا بناء الشعور بالذات.
"لقد كرمنا بني آدم".. هذا التكريم نبع فياض، إذا حاولنا تغذيته بكل ما ينميه ليصبح شعوراً حساساً يزن الأشياء ويدقق فيما يكرمه منها، لاستطعنا أن نتنفس الخير بالسهولة التي نطلق فيها أنفاسنا دون أن نشعر.
إنه الضمير.. شعورك بذاتك، وأنك أكرم من أن تكذب أو تنافق أو تتاجر برأيك في الدين أو الوطنية أو تختلس أو ترتشي.. هذا الشعور يسمو بك عن الانحراف ويعلّمك كيف تدقق الحساب مع نفسك.
وثمة شيء يجب أن يُضاف.. ذلك هو التعوّد.. فإذا نشأ المجتمع على تكريم نفسه، وترفّعت ذاتية أفراده عن الدنايا باتت الفضائل في نظره عادة ينساق إليها وهو لا يشعر، كما ينساق إلى شرب الشاي أو القهوة بحكم العادة.
لتعلِّمونا إذن كيف نكرم أنفسنا، ونحس بأن لذاتنا قيمة تدقق الحساب وليس هذا بدعاً فنحن نشهد الوجهاء مثلاً، وأعيان التجار، وكبار العلماء والمتفوقين في الصناعة كثيراً ما يدققون حسابهم في بعض الجوانب التي ألِفوا تكريم أنفسهم فيها.
فالوجيه لا يلبس الثوب الممزق لئلا يخدش كرامته، والتاجر الغني لا يختلسك في خمسة ريالات؛ لأنها أقل من قيمته في نظر نفسه، والعالِم الكبير لا يشارك في حلبة رقص لئلا يهين مرتبته العلمية، والمتفوق في الصناعة لا يغشك لئلا يهبط بميزته الصناعية في نظرك.
هذه ألوان من الإحساس بالذات تعوّدناها في بعض جوانب الحياة بإملاء من ظروفنا، فبتنا نتنفس بها تلقائياً دون أن نشعر.
فما يمنع هذه الأحاسيس أن تربى على مثل هذا الشعور في باقي جوانب الحياة؟!
يقولون الضمير.. ويختلفون كثيراً في معنى ما يحدده.. وأنا أرى أن الضمير ليس إلاّ شعورك بذاتك.. شعورك أن الله كرمك كإنسان.
مرة أخرى.. علّمونا كيف نكرم أنفسنا، وإذا أعوزكم هذا بالنسبة للمجموع فلا أقل من أن تعلّموه ناشئتنا الجديدة.. علّموهم كيف يحاسبون أنفسهم، وحاولوهم ليتعوَّدوا العمل الفاضل بدافع من ذاتهم ليصبح أمراً تقليدياً، فالتقاليد إذا تأصّلت بات المجتمع محكوماً لها، مأخوذاً بالمشي في ركابها تلقائياً دون أن يشعر أو يتكلّف.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :341  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 9 من 92
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذة الدكتورة عزيزة بنت عبد العزيز المانع

الأكاديمية والكاتبة والصحافية والأديبة المعروفة.