شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
أيام في تركيا
هذه القباب السامقة؟
هذه المآذن التي تضرب في أجواز الفضاء؟؟
أهذه هي عاصمة الخليفة يوم كان يحكم ملايين المسلمين في نصف مساحة الأرض؟
أهذه هي قاعدة الباب العالي التي كانت أوروبا تهتز لأوامره ونواهيه؟
أهذه هي (استانبول)؟
ودارت (البوينج) دوراتها على مطار استانبول.
وصافحتنا وجوه بيضاء لتقودنا إلى رجال الأمن المكلفين بتسجيل الجوازات.
كنت أتوقع أني سأعاني رهقاً وأنا أقحم نفسي منفرداً في بلد أجهلها وأجهل لغتها. ولا أكذب إذا قلت إنني كدت أتراجع عن رحلتي إلى استانبول قبيل سفري لولا أني استصغرت نفسي عندما تذكرت الروّاد الذين يقتحمون المجاهل الحقيقية.
وزاد في عزمي -إذا صح أن في رحلتي ما يجوز أن يسمى عزماً- أن طائفاً أهاب بي في نومي وهو ينادي بي: (إلى شركة السهالة!!) ففسرت ذلك بالسهولة واليسر.. فروحي كما أعتقد شفافة متصلة بعوالم أسمى بكثير ممّا أفهم ولا تستغرب هذا ففيض الله أوسع من أن يحد. وقد عودتني رؤى أحلامي استكناه أكثر مقدراتي، بل ودربتني لطول ما أحلم على تفسيرها وفك ألغازها، بل رأيتني في أكثر من مناسبة أقلد المرحوم ابن سيرين في تفسير أحلام غيري.
وكانت السهولة أغرب مما أتوقع، فقد دارت المضيفة بنا لتوزع أوراق الأمن التركية لنملأها فالتفت إلى جاري أسأله هل يعرف العربية فجاءني جوابه: "يوك".
وقبل أن يسقط الأمر في يدي كانت المضيفة قد بدأت ترجو جاري الـ (يوك) أن يتفضل فينتقل إلى مكان عينته له ليحتل محله شخص آخر، فالتفت إلى جاري الجديد فإذا هو أرمني -تركي ناشئ في بلاد العرب.
لقد كان اتفاقاً غريباً لم تتعمده المضيفة لأنها لا تدري شيئاً عن موضوعي ولكنه تفسير السهولة!! في حلمي.
ومضت السهولة تعبد الطريق أمامي في يسر غريب. فقد كتب لي صاحبي الأرمني ورقة الأمن واصطحبني في المطار إلى سائر الإجراءات الرسمية، ولم يكتفِ بهذا حتى ركب معي سيارة (التاكسي) ومضى إلى الأوتيل الذي اختاره لي في إحدى الضواحي، وأبى بعد هذا أن يتقاضى ما دفعه عنّي للحمالين وصاحب (التاكسي)، ولما رفضت بشمم أن يجعلني عالة صرخ في وجهي بلهجة المعتز بنفسه وجنسه "أنا أرمني.. يا أخي".
أجل.. إنه أرمني فليت المغرورين بأجناسهم يعرفون أن لكل جنس على وجه الأرض مثاراً للاعتزاز!!..
ومضت السهولة تعبد الطريق أمامي! فقد رأيت صعوبة مقامي في فندق يقصيني عن قلب المدينة فركبت وحدي أول (تاكسي) صادفني إلى (سركجي) ميدان قلب المدينة.
وبدأت دورتي على الفنادق بحثاً عن غرفة صالحة ودليل يقبل مرافقتي.
كنت أملك كلمتين هما كل معداتي لمواجهة أصحاب الفنادق.. إنهما أوتيل ودليل، والكلمتان كما ترى تركية عربية وقد أفادتاني أيما إفادة بالإضافة إلى بضع حركات من يدي ورأسي وبعض أجزاء جسمي عندما يقتضي الحال.
لا أنكر أنني أرهقت لزحمة الفنادق بالسيّاح وندرة وجود غرفة بسرير واحد في فنادقهم.. وإن كلمة (يوك) التي كانت تشمخ بها أنوفهم لجرس حروفها أقلقتني بعض الشيء، ولكن (السهولة) التي أهاب بها طائف نومي ما لبثت أن ساقتني إلى فندق سمعت فيه أول كلمة عربية.
كان فندقاً ينزله بعض مجاوري أهالي الأناضول ممّن لذّ لهم أن يلتحقوا بالمدرسة العربية الوحيدة في تركيا (مدرسة الأئمة والخطباء).
هنا انقطعت صلتي بـ (يوك) وبدأت أسمع لغة يعرب في أفصح لهجة.
وأحاط الشباب بي: "أأنت من مكة؟. أأنت من مهبط القرآن؟.. أأنت من بلد الرسول؟".
وكان عليّ أن أقسم لهم بأغلظ الأيمان أني عربي مكي.. بل وقرشي!! أيضاً إن صحت رواية السباعيين في عشرين قطراً من بلاد الإسلام، ولكنهم ما لبثوا أن قنعوا وفي (سهولة) أيضاً بعد أن أكد لهم صاحب الفندق أنه قرأ محل الولادة في الجواز.
بدأ أنفي يقلد الأتراك وشعرت أن أرنبته أخذت تنحاز شامخة إلى أعلى من مستواها.
مسجد (أيا صوفيا) من أبرز آثار استانبول.
هو ليس أثراً إسلامياً ولكنه رمز ناطق بفعالية الإسلام في أيامه المجيدة.
لقد بُني كنيسة في عهد جوستنيان البيزنطي من نحو 1430 سنة فكان مثالاً خلد الفن البيزنطي عبر القرون.. وجاء الفتح العثماني فاستولى السلطان محمد الثاني في عام 1453 على العاصمة التركية، واستطاع أن يحيل الكنيسة إلى مسجد، وأن يستر رسوم الكنيسة بلوحات نقشت عليها آيات من القرآن أو نبذ من جوامع الكلام أو حكم من أقوال العرب.
ثم جاءت ثورة أتاتورك فجردته ليكون متحفاً يستقبل السياح والأجانب.. بعد أن منع منه أداء الصلاة.
وأنت اليوم تصافح بابه فتطالعك صورة عيسى يتوسد حضن أمه وقد وقفت بجوارها قرويتان في رسم ناطق تكاد أن تومئ إلى أصحابه بالتحية لفرط ما يخالط خيالك من دقة فنه.
وتمر في أروقته بقباب ضرب بعضها في الهواء إلى 57 متراً، وأعمدة اتسع محيطها إلى نحو عشرين متراً، وجدار لمعت فيها ألوان تحسبها نقشت من يومها رغم القرون الطويلة التي تقادمت عليها.
قال دليلي: إن مساحة المسجد تبلغ 3600 متر مربع، ثم مضى يتقدمني إلى بعض الزوايا الخلفية فإذا أحجار أثرية نقش بعضها بالبيزنطية وأخرى بالعربية، وإذا تماثيل وعاديات من كل نوع وجدت في مخابئ المسجد فنسقت في نظام خاص لتكون أمام السيّاح تاريخاً ناطقاً يقص عليهم أخبار ألوف السنين.
وانتهى بي الدليل إلى واجهة أخرى للمسجد فإذا حديقة رائعة بأزهارها وورودها، وإذا فسقية تتصدر الحديقة في جمال جذاب، وإذا به يشير إلى محيطها الأدنى ليدلني على مواضع (البزابيز) منها يوم استفاد المسلمون منها للوضوء قبل عهد أتاتورك.
ويأتي مسجد السلطان أحمد في الدرجة الثانية بعد مسجد أيا صوفيا من حيث سمعته وقيمته التاريخية، أمّا فنّه فقد بزّ أيا صوفيا وامتاز بجماله عليه.
قصور السلاطين
وثمة قصور تاريخية أبرزها (طويقا بوسر) وهو قصر تاريخي شاده سلاطين آل عثمان من نحو 400 سنة لسكنى مَن يتولّى الأمر منهم وهو يمتاز بكثرة أروقته وردهاته ويطل أحد مجالسه المكشوفة على البوسفور حيث كان الخليفة يقضي أمسياته في حشد من رجال دولته ونداماه.
وفي القصر جناح خاص كانت تحدد إقامة ولي عهد الخلافة داخل أسواره فلا يتجاوزها ولا يستقبل فيها غير الجواري والخدم يعيش بينهم بعيداً عن تفاعلات الحياة وأحداثها ولا يفرجون عنه إلاّ يوم توافيه البشائر بفناء سلفه.. عندئذٍ يتقلد الخلافة ويتربع على عرشها ليدير دفة الدولة بعقلية البيئة التي نشأ فيها بين نداماه وجواريه.
وثمة قصر (طولما بهجة) وقد بناه السلطان عبد المجيد من نحو 80 سنة، ونقل إليه الحكم وتوارثه السلاطين بعده إلى عهد عبد الحميد.
وقصر (يلدز) وقد بناه عبد الحميد من نحو ستين سنة وظل يسكنه ويدير دفة الدولة من بابه العالي إلى أن حاصره المتآمرون وأرسلوه منفياً إلى سلانيك، وهم يتخذون أقدم هذه القصور (طويقا بوسر) متحفاً عاماً يجمعون إليه كل آثار السلاطين ومخلفاتهم مصنفة حسب أنواعها في غرف القصر وصالاته منسقة في نظام بديع.
معروضات أثرية
هناك كراسي السلاطين وبعض عروشهم وتجد أكثرها مرصعاً بنفيس الياقوت والجواهر والدر ممّا يخيل إليك أن خزائن الدولة كانت وقفاً على شراء الغالي والنفيس لكراسيهم.
ولفت نظري بين معروضاتهم إناء زجاجي كبير تلمع فيه نحو 300 قطعة من الزمرد الثمين بينها زمردة هائلة يخطف البصر بريقها، وقال دليلي: إنها أكبر درة عرفها العالم إلى اليوم.
كما لفت نظري خاتم لا أعرف كيف يقدرون قيمته، وقد قال دليلي إن نابليون كان يتختم به وقد أهداه إلى الخليفة العثماني.
إلى هنا كنت أتمنى أن تطول إقامتي لتطول دراستي ولكنّ خبراً هاماً من مكة جاء يستعجلني فبادرت بالارتحال.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :648  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 88 من 92
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

المجموعة الكاملة لآثار الأديب السعودي الراحل

[محمد سعيد عبد المقصود خوجه (1324هـ - 1360هـ): 2001]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج