شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
((كلمة سعادة الدكتور عدنان محمد زرزور))
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، سعادة الأستاذ عبد المقصود خوجه، أصحاب المعالي والسعادة، أيها السيدات والسادة، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أتوجه بشكري الجزيل أولاً لسعادة الأستاذ عبد المقصود صاحب هذا الصرح الثقافي، الذي يسمع عنه المرء حتى إذا حضره وجد أن العيان أكثر من السماع، على عكس ما كان يقال في الأمثال القديمة، ثم أتوجه بالشكر في هذا البلد العزيز الكريم، مهد العروبة والإسلام، ومثابة العروبة والإسلام كذلك، ثم أقول المحطات التي أشار إليها المقدم أخي الفاضل، تتقاطع بالنسبة لمحدثكم، تتقاطع المحطات العلمية والتعليمية تاريخياً وجغرافياً، مع مراحل التأثر بالكتاب والمعلمين، بحيث تقترن كل محطة من هذه المحطات أو المراحل، وإلى حد كبير ببلد من البلاد وشخصية أو علم من الأعلام، في دمشق كانت مراحل التعليم الأساسي، الابتدائي والإعدادي والثانوي، وكانت الدراسة الجامعية الأولى، ثم في مصر في جامعة القاهرة كانت الدراسات العليا، وكان التأثر في كل مرحلة من هذه المراحل بمؤلفين ومعلمين في كل من سورية ومصر وبخاصة مراحل التعليم الجامعي، في الليسانس والماجستير والدكتوراه، قد لا يمكنني الإشارة إلى معلم بعينه في مرحلة التعليم الابتدائي على خلاف ما كان عليه الحال مع أمير الشعراء أحمد شوقي على سبيل المثال، اسمحوا لي عند كل نقطة أن أذكر بعض التجارب أو بعض الهوامش، لأنني لن أصنف الموضوع على أكثر من هذه المراحل، وأرجو أن يتسع لها الوقت إن شاء الله، من شعر الرثاء في ديوان أحمد شوقي كان يرثي معلماً علمه في المرحلة الابتدائية، وأظن أن اسمه علي بهجت، وهي من خيرة شعر أحمد شوقي في الرثاء على الإطلاق، ولو أنني قلت إنها أحسن مرثياته لما كان ذلك بعيداً، على أساس أن هذا المعلم الذي كان يعلمه التاريخ كان أحمد شوقي متأثراً به تأثراً بالغاً، وأعتقد بأن هذا قد ينطبق عليه في مرحلة لاحقة، ولكن في هذه المرحلة لا أستطيع أن أذكر اسم معلم بعينه، وقد كان يغلب على هذه المرحلة على الرغم من أن الذاكرة تختزن كل جزئياتها وتفصيلاتها، كان يغلب عليها نوع من الإرهاب أو الشدة والقسوة على التلاميذ ومن جهة كانوا يحملونهم فوق ما يطيقونه فيما أعتقد، وليس معنى ذلك أن ننتقل من النقيض إلى النقيض، أو أن نقع في رد الفعل غير المتوازن، أذكر مرة أن جميع طلاب السنة الثالثة، يعني في الصف الثالث، ضربوا جميعاً، لأنهم لم يستطيعوا أن يأتوا بمثال أو شاهد على المفعول لأجله، كأن الصف أمامي الآن، كيف يستوعب طالب في الصف الثالث الابتدائي المفعول لأجله، ولا يجوز له أن يأتي بشاهد أم مثال من الكتاب لا بد أن يكون المثال مما يلاحظه الطالب أن ينشئه هو، حتى أظن كان آخر واحد بالصف يمكن فتح الكتاب أو غش لأن الصف طويل، فقال للمعلم (صفر القطار إيذاناً بالرحيل) فأدرك المعلم أن هذا المثال من الكتاب، فضرب أيضاً، يعني لم ينج حتى الذي بالكتاب من الضرب، أعتقد أن مرحلة التعليم الابتدائي كان يعتبرها الشدة من ناحية، وكونه يعني المقررات فيها أو المناهج، فوق ما يحتمله الطالب من جهة أخرى، ربما شهدت قدراً في بعض المدارس، يعني كان طه حسين ينادي بالديمقراطية في التعليم، لكن التعليم لم يكن كذلك في كل مراحله، حتى ولو كانت عناوين أو عنوانات بعض المدارس يعني تهتم بهذا، لكن ربما شعر الطلاب بشيء من التمييز بين الطلبة الذين ينتسبون إلى عائلات برجوازية أو غنية، والذين لا ينتسبون إلى هذه الطبقة إن اعتبرنا أن هذا لون من ألوان الطبقات على كل حال، أعتقد بأن عبرة عابرة يمكن أن أشير إليها، في المرحلة الإبتدائية فوق هذا وهي، أن النصوص التي كانت تختار من كتب الأدب، ربما كانت تختار من وجهة نظر المعلم، وليس المتعلم، أذكر أننا حفظنا قصيدة أحمد شوقي، أحمد شوقي حضر مرتين في هذه الأمسية، وهي أمسية شاعرية على كل حال، وأعتقد أن أقرب ما يكون في هذه الأمسية الشاعرية أن يتحدث الإنسان بالشعر، ولكني لا أحسنه، ولو كنت أحسنه لصنعت قصيدة استغنيت بها عن كل ما أريد الحديث في هذه الليلة، على كل حال حفظنا في المرحلة الابتدائية قصيدة أحمد شوقي:
ألا حبذا صحبة المكتب
وأحبب بأيامه أحبب
وهي من عيون الشعر، ولكننا كنا على مقعد الدرس الذي كنا نكرهه، ولا يمكننا أن نتغزل أو نسر بحفظ قصيدة عن مكتب نحن نشكو منه، لكن المعلم عندما يقرؤها لا شك بأنه يتذكر تلك الأيام، وأعتقد أن اختيار النصوص يجب أن يتم من وجهة نظر المتعلم وليس من وجهة نظر المعلم، وربما أمكن تعميم هذه القاعدة أكثر من اختبار النصوص، بحيث تكون قاعدة من قواعد التربية، بوجه عام على كل حال، في مرحلة التعليم الإعدادي والثانوي، دعوني أتحدث عن بعض الأساتذة وربما كان بعض الإخوة الحضور يذكرون أيامهم كذلك، تلقيت عند التعليم الإعدادي والثانوي وفي مدارس التعليم الشرعي، أذكر إلى الآن معلم النحو، معلم النحو كان يعلمنا العقل والنقل إلى جانب تعليمنا قواعد النحو أو القواعد كما كانت تسمى في ذلك الحين، ولا أدري هل لهذا علاقة بشخصيته هو، أم لها علاقة به طبيعة المقرر أو المادة العلمية، لأن النحو قياس، والقياس عقل، وربما كان شيء من هذا إلى جانب طبيعة الرجل وأنا أحب أن أنوه به، وأترحم عليه، الشيخ خالد الجباوي، رحمة الله عليه، ولقد تعجبت مرة بعد أن حصلت على الشهادات العليا وكنت محاضراً في الجامعة، فسألت عنه بعض الزملاء، فقال الرجل موجود، إذا أحببت أن تزوره فزرته، فتفاجأت بأن الرجل متابع لما ألقيه في الجامعة من محاضرات، وأنه في صورة ما أقول وما أعمل، فتأكد لي أنه كان يحب أن يعنى بتلاميذه وأن يعلمهم العقل والنقد، وكأن لسان حاله يقول: ما علمناه لفلان لم يضع هباء إن شاء الله، على كل حال، أذكر أيضاً يمكن بعض الزملاء الموجودين يذكرون أيضاً، أستاذاً كان يعلمنا الأدب والنصوص الشيخ عبد الغني الدقر من علماء دمشق الأفاضل، رحمة الله عليه، ولا أذكر بأن أحد قد أحسن إليه كما أحسن إلي هذا المعلم حينما دلني وأنا في الصف الثالث إعدادي على كتب العقاد، كان العقاد كنت أظن في عام 1954 أو 1955م، كان العقاد في ذلك الحين قد نشر كتابين، الأول بعنوان "الإسلام في القرن العشرين، حاضره ومستقبله" والكتاب الثاني عنوانه "الله" كتاب يبحث في نشأة العقيدة الإلهية، فاقتنيت الكتابين، فأعجبت بالأول وفهمت جزءاً كبيراً منه، ولكن الكتاب الثاني استغلق علي كله، ولم أعقل منه شيئاً، فعدت إليه ثانية، فقال: لا بأس دعه، لكن الكتاب الأول إقرأه مرة أخرى، وسوف تجد أن قراءة كتاب مرتين أفضل من قراءة كتابين، لأنك سوف تستوعب الكلام الذي قيل، وتبني عليه في المستقبل، خصوصاً أن كتب العقاد، وقال لي عبارة أظن بأنها كانت حاسمة، فيما أكتب لسنوات طويلة، عندما قال لي: أسلوب العقاد متين، وعندما تصيغ أنت هذا الأسلوب سوف تجد الكتاب الآخرين، كأنهم "بتوع" جرائد، بمعنى كتاب الجرائد، والجرائد في ذلك الحين كان أسلوبها ضعيفاً وكان هزيلاً، طبعاً تحسنت فيما بعد وصار أسلوبها عظيماً، بل يمكن وجزء كبيراً الآن من الثقافة نتلقاها من بعض الصحف، لكن في ذلك الحين كان الأمر ضعيفاً، قال لي عندما تصيغ أسلوب العقاد، سوف تجد أن الأساليب الأخرى ضعيفة، أو على الأقل كما وصفها رحمة الله عليه، صحبت العقاد بعد ذلك صحبة طويلة، لا أريد أن أضيع المحاضرة أو اللقاء هذا الممتع الجميل في الحديث عن العقاد وعن كتبه، والأمر طويل وممتد، حاولت عندما التحقت بالدراسات العليا في آخر يوم من أظن من عام 63م، أظن سافرت إلى القاهرة، في 27/12/1963م، وبدأت في مطلع عام 64م، يعني ألاحظ بعض الأمور الإدارية وبعض التسديد، وأنا أنوي أن أحضر مجلس العقاد لأتابع ما كنت قد قرأته له لكن لم يمهلني الوقت، أو لم يمهل العقاد رحمة الله عليه، عندما أتاني خبر نعيه في الثاني عشر من مارس آذار عام 1946م، وربما كان يوم اثنين أيضاً، وكان يوماً كئيباً بالنسبة لي، لأن كتب العقاد كانت وما تزال إلى وقت طويل، تقدم مواقف عقلية في الدفاع عن الإسلام، ليس لها نظير في الكتابات الأخرى، الكتابات الأخرى مهمة بدون ريب، وكل يعني يطرق الموضوع من باب ولكن العقاد لا يحدثني عن أحكام الفقه، لكن.... عن صلب الموضوع، وكنا نحن وفي تلك المرحلة الحاسمة بحاجة إلى فلسفة الموضوعات، يعني فلسفة الحجاب، وفلسفة الميراث، وكنت آخذ أيضاً أكثر من الأحكام، لأن الأحكام الفقهية هي كثيرة، ويعلمها الناس وهي في الكتب، لكن كان العقاد يقدم لكل قضية بعدها التاريخي، ثم بعد ذلك يقدم مواقف عقلية في تفسيرها وفي الدفاع عنها... كان يذهب في النقاش أو في الجدال أبعد ما يكون، يعني هو لا يدافع عن الإسلام فقط، ولكن يقول هذا هو الحل الأمثل، ما أعتقد أن العقاد كتب موقفاً واحداً من موقف الدفاع، ولكن كان يكتب دائماً من موقف التحدي، ولا أقول الهجوم، ليست القضية قضية هجوم، ولكن كان يكتب وكنا نحن بأمس الحاجة في تلك المرحلة إلى مثل هذه النفسية، ولا أعتقد بأن أحداً قدم لنا مثل ما قدم لنا العقاد، إلى جانب أنني كنت أوظف في بعض الأحيان وما أزال إلى حد كبير، أوظف كلام العقاد أو كتاباته في الإطار الذي أريد أو في إطار الفكرة القائلة بأن الناس سوف ينتهون في نهاية المطاف إلى أحكام القرآن حصراً، لأن أحكام القرآن مفصلة على الإنسان وليست بزمان معين، أو بيئة خاصة، قاعدة التحليل والتحريم، الخبيث والطيب، إلى آخره، أعتقد بأن مسيرة العقاد كانت تؤكد أو تقدم المثال التطبيقي على هذا، العقاد في أوائل ما كتب في كتابه أظن "الخلاصات اليومية" أو "الجذور" واحد أظن 1908م أو 1912م، هذا نظام الإرث، ولكنه عاد في كتابه الذي نشره 1954م "حقائق الإسلام وأباطيل خصومه" كتب فصلاً من أهم الفصول عن نظام الإرث عندما قارن هذا النظام القرآني الذي جاء فيه النصف والثلث والربع والسدس، قارنه بجميع أنظمة الإرث المعمول بها في الإرث ليقول إن نظام القرآن هو أعدل نظام وأفضل نظام، يعني دائماً آخذ من سيرة العقاد أو من تطوره الفكري دليلاً على أن الناس يتهجمون على أحكام القرآن بمقدار بعدهم عنها أو عجزهم عن فهمها أو حاجتهم إليها مع الأسف الشديد، الحديث عن العقاد لا أريد شاعراً وناقداً وناثراً، يعني صحبته ولست نادماً على هذه الصحبة، بل بالعكس لأن آفاق العقاد تفتق العقل أيضاً وإن كان المرء يفاجأ بكثير من المسائل على كل حال، لكن أنا مدين في هذا للشيخ عبد الغني الدقر رحمة الله عليه رحمة واسعة الذي عرفني على العقاد وأنا في مرحلة الدراسة الإعدادية، ثم صحبته بعد ذلك، طبعاً أنا رأيت العقاد مرة واحدة، ولم أحظ بجلساته في منزله، ولكن رأيته وسمعته في عام 1960م، في العام الذي تخرجت منه أو تخرجت في كلية الشريعة من جامعة دمشق، كانت سورية في ذلك الحين جزءاً من الجمهورية العربية المتحدة، وكان عيد العلم يقام في كل عام في سبتمبر أيلول، وكان ذلك في عام العلم الثاني أعطيت فيه الجائزة التقديرية للآداب للعقاد، وأعطيت في العام الأول في عام 1959م لطه حسين، وكان لأعضاء المجلس الأعلى للفنون والآداب بجمهرتهم يميلون إلى العقاد لأسباب كثيرة، لذلك كان من الممكن أن تكون جائزة الدولة التقديرية للعقاد في العام الأول، ولكنها صرفت عنه إلى طه حسين على أساس أن أنصار طه حسين قالوا: إنّ طه حسين مريض ويمكن لن يعيش للعام القادم، فانتصروا على جماعة العقاد، وأعطيت لطه حسين، ثم عاش طه حسين بعد العقاد أكثر من سبع أو ثماني سنوات، الأعمار بيد الله، لكن كان هذا لحسن حظي أنا، لأن اللقاء كان من الأوائل، وذهبنا إلى مصر وأخذنا الجوائز، جمال عبد الناصر في ذلك الحين، فكان العقاد هو الذي ألقى كلمة، وأنا أذكر هذه الكلمة بلهجتها ومفرداتها، ولا يتسع لها الوقت الآن بكل تأكيد، لكن العقاد أيضاً كان يتحدث في الإذاعة لفترة معينة ولكنه توقف، ولكن أحاديثه الإذاعية طبعت في كتاب صغير تحت عنوان أظن "على الأثير"، ندع هذا لننتقل للمرحلة الجامعية الأولى المرحلة الجامعية الأولى لا ريب بأنها مرحلة أو نقلة حقيقية لا أقول أنها أحدثت بالنسبة إلي صدمة ثقافية أو معرفية، ولكن كانت نقلية حقيقية الحقيقة، لأن الأمر هنا فيه انفتاح وفيه اتساع، وفي نوع من أنواع ترك الموضوع للطالب يحضره، طبعاً الجامعات الآن صارت تؤكد على كتاب بعينه، ومفردات بعينها، ويطلب من الأستاذ أيضاً أن يكتب توزيع المنهاج على الأسابيع، يعني ألحقوها بنوع من المدارس الثانوية من بعض الوجوه، حتى صارت المدارس كأنها مدارس ثانوية كبيرة، لكن الأمر في ذلك الحين لم يكن كذلك، نحن الآن صدمنا عندما دخلنا في السنة الأولى مادة حاضر العالم الإسلامي ليس لها كتاب، نبحث ونطلع، شغلة في غاية الأتعاب، ولكن تعلمنا فيما بعد أن هذه طريقة عظيمة في إعداد الطالب ومن تمكينه من المادة العلمية التي يختارها، والتي يسعى إليها، بدأنا بالعالم الموسوعي الأستاذ عمر الحكيم، وأعتقد بأنه كان أكبر أستاذ للجغرافيا الطبيعية في سوريا في ذلك الحين، درسنا حاضر العالم الإسلامي، وفي نقطة مهمة في الحقيقة، نحن كنا فريقين، فريق من الكلية يحملون الثانوية الشرعية الدينية، وفريق آخر يحمل ما يسمى بالثانوية العامة، وكان كل فريق منا واقعاً تحت تأثير الخوف من الحضارة الغربية أو نوع من "إيش" ولا أقول استعبادها، ولكن التهيب منها، على أساس أنها أحدثت ما لم تحدثه حضارة أخرى في التاريخ، يعني نحن كرد فعل على تعليم المشايخ مثلاً، والفريق الآخر لأن هذا هو الذي تلقوه في التعليم الثانوي، جاء عمر الحكيم الحقيقة بموسوعيته فهدم هذا وجدد ثقتنا المطلقة بحضارة الإسلام، وبمستقبل الإسلام كذلك فكان له نزع المهابة أو النظرة التي قاربت حتى التقديس للغرب أو الحضارة الغربية والأوربية والعلوم التي كنا ننبهر بها في ذلك الحين، الكلام طويل أيضاً، بعد ذلك كان تأثرنا في الجامعة شديداً بكل من الدكتور مصطفى السباعي رحمة الله عليه، والأستاذ محمد المبارك، أنا وضعت كتاباً كما قال الأستاذ الفاضل كتاباً خاصاً عن الأستاذ السباعي في طبعته الثانية قاربت 606 صفحة تقريباً، لم تكن تأريخاً للرجل فقط ولكنها كانت تحمل كذلك ملامح التاريخ في مرحلة من مراحل سورية الحديثة تقريباً من حيث نشأة الأهداف، ونشأة الطوائف، والأفكار التي كانت تصطرع، لم يكن الصراع على الأفكار في بلاد الشام وحدها، ولكن كانت في العالم العربي بصورة عامة ولم تكن سورية أكثر من مثال من هذه الأمثلة، أيضاً الأستاذ السباعي كان حديثه عن فلسفة النظام أعمق من حديثه عن نظام، يعني حديثه عن نظام الإرث أعظم من حديثه عن المفردات، نفس الشيء، يعني ربما كان يشترك مع العقاد في هذه الناحية هو أستاذ فقه بكل تأكيد، ولكن عنايته بمسائل الفقه دون عنايته بفلسفة النظام أو فلسفة الفقه، ولعل آفاقه العقلية وعمله كداعية كان يفرض عليه هذا رحمة الله عليه، وضعنا في الساحة الثقافية التي يتحرك فيها الأحزاب والجماعات والأفكار الموجودة في ذلك الحين، وكانت تصطرع، القضية بعد الحرب العالمية الثانية في غاية التعقيد كانت في العالم العربي، والبقية الباقية منها الآن ليس لها قيمة كبيرة، الماركسية تمتعت بنوع من البريق، المذاهب الوجودية فرضت نفسها، المذاهب القومية أو الآراء القومية، الأستاذ المبارك في الحقيقة كان خير من يأخذ بيدنا وسط حقول الألغام هذه إن صح التعبير من أجل أن يقفنا على فلسفة هذه المسائل ونقاط الضعف التي فيها، فتركنا حتى يمكن أن أعد أو أعتبر أن وضعت كتاب "جذور الفكر القومي والعلماني" أعتقد بأن الكتاب فيه شيء من العمق، لكن هذا الكتاب من بعض الوجوه هو امتداد وإضافة لما كان الأستاذ المبارك يلقيه علينا من محاضرات رحمة الله عليه وغفر الله لنا وله، تعميقاً للبذور التي بذرها، وضعنا على الصعيد الجامعي كذلك وهذه مهمة جداً، وضعنا على الصعيد الجامعي أمام تعدد المدارس والآراء، يعني أذكر الأخ الدكتور عبد اللطيف في السنة الثالثة كان يعطينا الفلسفة الإسلامية، أعطانا كتاباً، قال هذه الفلسفة الإسلامية يجب عليكم أن تقرؤوا فيها الفلسفة تاريخ الفكر الإسلامي كله، التصوف والفلسفة وعلم الكلام، المحاضرات لا تتسع، الدكتور عبد الكريم اليافي في كلية الآداب تصوف، احضروا عنده، الدكتور عادل العوا يدرس علم الكلام، احضروا عنده، فحضرنا عند هؤلاء ووجدنا ألواناً من التفكير ومن المدارس انعكست علينا إيجاباً، أنا أزعم بنوع من الرحابة الصدرية، رحابة الصدر باتجاه الأفكار الأخرى، بالإضافة إلى نمو أو تنمية الجانب العقلي، وأعتقد أن المسلمين بحاجة إلى هذا الجانب في كل العصور، وربما كانوا بأمس الحاجة الآن إلى إشاعة الثقافة العقلية النقدية عندهم من أجل، لأن العقل كما أشار فضيلة سماحة الأستاذ عبد المقصود، القضية العقلية كان بريد المسلمين إلى علم الكلام، وكان بريد المسلمين إلى الفلسفة كذلك، ونحن ليس عندنا خشية من هذا، الإسلام أساساً إنما انتشر في البقعة التي شهدت أعرق الحضارات وأعتى الثقافات، في مجمع الأنهار، حضارات الأنهار الأولى قبل أن ينتقل العالم إلى حضارة المتوسط، وقد انتقل الآن إلى حضارة المحيطات، هذه دوائر، الدائرة الأولى دائرة حضارة الأنهار هي التي انتشر فيها الإسلام الحقيقة، وفيها كل الثقافات والأديان القديمة، حتى أن أحد المستشرقين، يصفها بالحوض اللاهوتي، هذا الحوض اللاهوتي صحيح انتشر فيه الإسلام، ولكن كيف استطاع المسلمون أن يثبتوا أركان الإسلام في هذه الأراضي الجديدة، البريد هو العقل، يعني لا توجد وظيفة من وظائف العقل لم يتحدث عنها القرآن الكريم، التعقل والتدبر والتفكر والتبصر أكثر من 650 آية، مادة يعقلون 49 آية، أولوا الألباب الذين هم أصحاب الشريحة العليا من العقول كذلك خصهم القرآن بآيات كثيرة، حتى إن العقاد يقول: إن الصرح العقلي الذي أقامه القرآن أرسخ من ذلك الصرح الذي قامت عليه الفلسفة، علماً بأن الفلسفة لا تقوم إلا على صرح العقل وحده ولكن الصرح الإسلامي يقوم على العقل وعلى سائر عناصر الإدراك في النفس الإنسانية، وهذه من المشكلات التي قد يعرض لها الأساتذة في المحاضرات، ونحن نقول بهذه المناسبة إن الإيمان أرسخ في النفس الإنسانية وأعمق من أن يملأ من قناة العقل وحدها، بمعنى أن قضية الإيمان ليست قضية فقط لكن الذي يدرس في بعض الأحيان أن قضية الإيمان ليست عقلية ولكن عاطفية أو روحية، لا هذا الكلام ليس صحيحاً، لكن من الصحيح أن نقول أن قضية الإيمان ليست قضية عقلية فقط ولكنها عقلية وشعورية وروحية ونفسية، إلى آخره، ولكن ربما نحن نقول أنها ليست قضية عقلية، يعني أخذاً من الآداب الغربية لأن إظهار العقل في العقيدة يفسدها، أو تمنع الإنسان من الاعتقاد ربما كان الشعار في بعض المراحل (فكر ثم آمن) لأنه إذا حاولت أن تؤمن من طريقة التفكير سيختل التفكير، وهذه القضية الحقيقة يعني أنا تابعتها تقريباً إلى حد كبير، لكن قد أشير إليها بعد قليل لكن في هذا الإطار الذي أتحدث عنه الآن عندما فتح الأستاذ المبارك أمامنا الدراسات الخاصة، إن صح التعبير إلى جانب حضور الأساتذة الآخرين قال اقرؤوا كتباً، أو أظن أعتقد في الصف الثالث الجامعي كنا في الصف الثالث أيضاً، في الفصل الثاني من عام 1959م، أذكر أنني قرأت كتابين، كتاب "ضحى الإسلام " الجزء الثالث لأحمد أمين، وكتاب "الربا" للأستاذ أبي الأعلى المودودي، بهرني الأستاذ المودودي بالأدلة العقلية والمنطقية التي قدمها في تحريم الربا، ولكن أحمد أمين فتح آفاقنا أيضاً أمام آفاق في الموضوع لأنه أرخ للحياة العقلية، على الرغم من قد تختلف معه في كثير من الآراء، لكن الآراء التي لم أكن أشعر بأنني يمكن أن أقبلها تماماً، ما زلت أفكر بها يمكن الآن كثير من الأفكار والقضايا التي كتبتها فيما بعد أساسها كتاب أحمد أمين، وقد تكون يمكن من أهم ما أزعم، لكنها كانت تعود بالنسب بمعنى أن ملاحظات أحمد أمين أثارت في نفسي الرد عليها في بعض الأحيان أو محاولة تفسيرها في بعض الأحيان، فولدت كثير من الأفكار وفحوى ذلك، وأنا أقول للطلبة دائماً، بأن ما تقرؤه لنفسك هو الذي تفيد منه، ولكن الكلام الذي تقرؤه مع بقية الزملاء يؤدي دوره في تنمية الذهن، وفي صقله بالمعرفة، ولكن هذا يجب أن يبنى عليه في المستقبل، لكن البناء المتفرد الخاص ربما يكون مبنياً على الكتب التي تقرؤها بنفسك، أذكر على سبيل المثال أحمد أمين يقول في هذا الكتاب يعني يقارن بين هذا الفيلسوف والمتكلم، المتكلم عالم العقيدة الذي يدافع عن العقيدة الإسلامية، علم الكلام كما عرفه ابن خلدون: هو علم الحجاج أي الدفاع عن العقائد الإيمانية بأدلة عقلية، كما قلت قبل قليل، المسلمون في هذا الحوض اللاهوتي لا بد أن يستخدموا سلاح العقل من أجل الدفاع عن العقائد الإيمانية التي جاءت في القرآن الكريم، لكن هذا حصل في عصر لاحق، لكن لا والله كنت أقرأ عند الأستاذ الندوي من قريب أنه والله لما تأثر المسلمون بالفلسفة اليونانية، وعلم الكلام لم يولد من خلال الفلسفة اليونانية إطلاقاً، ولدت هذه المسائل من خلال حركة المجتمع الإسلامي اليومية، حكم مرتكب الكبيرة لم يكن لها علاقة لا باليونان ولا بالفرس ولا بأحد من خلق الله، هي من بنت المجتمع الإسلامي وبدليل أن أول متكلم هو أبو هذيلة العلاف، أبو هذيلة العلاف توفي عام 234هـ وأول فيلسوف بمعنى دعنا نقول بأن علم الكلام جمع بين العقل والنص، أول واحد تأثر بالفلسفة اليونانية في نهاية الربع الأول من القرن الثالث، وأول فيلسوف هو الكندي توفي 339هـ يعني بعد أكثر من قرن، ولهذا دعوني أعود إلى أحمد أمين، أحمد أمين عندما قال قارن بين الفيلسوف والمتكلم، قال المتكلم، يعني هو يدافع عن قضية هو أشبه بالمحامي، ولكن الفيلسوف تعرض أمامه المسائل جميعاً، ولكن يتخير منها ويشوف فهو أقرب إلى القاضي، كأنه يشعرك ضمناً بأن مقام القاضي أعلى من مقام المحامي، هذا الكلام أنا لم أرتح إليه كثيراً، ولكنني عندما فكرت فيه في المستقبل ووجدت شروط الإيمان التي يتحدث عنها المتكلمون يعلم أن أول واجبات المكلف النظر إلى آخره، إذاً الذي يقوم بدور المحامي الآن كان قاضياً، يعني هو لبس ثوب القضاء عندما دخل في الإسلام، وعندما ناقش هذه المسائل وهو يدافع الآن عن قضية كان قد حكمها في الماضي ودخل فيها عن قناعة، وإذا هذا الكلام الذي يقوله أحمد أمين أنا عدت عليه بنوع من التعقيب، أو نوع من الإبطال مثلاً أو التعديل إن صح التعبير، عندما تحدث أيضاً وتابعت في هذا وجدت أن قضية الإيمان كما قلت قبل قليل، أرسخ من أن تملأ من قناة العقل وحدها، لكن وجدت بأن الأمم الأخرى أو الفلسفة الغربية تقوم كلها على نقطة أن الإيمان يجب أن يكون تسليم، ولا يمكن أن يكون من طريق العقل أو من قناة العقل، ووجدت أن هذا لدرجة أن كانت الذي يوصف عادة بأنه إمام الفلسفة النقدية، وأنه أبعد الفلاسفة الأوروبيين غوراً، يعني أقدم على قسم العقل، وقال أن العقل نصفين، عقل نظري وعقل عملي، العقل النظري يعني عقل التكليف تبعنا يعني، وظيفته التعامل مع المسائل مثل هذه، وهذا صحيح، والعقل العملي مهمته التسليم لما وراء الطبيعة، وسماه عقلاً حتى لا يقول بأن الإيمان أو مفردات الإيمان التي عنده تناقض العقل، لكن هذا بالنسبة لي لست مضطراً إليه، فأنا تقدمت وقلت إن ما قاله كان بالنسبة لي غير وارد، أنا لا أقسم هذا العقل بطريقة من الطرق لأنني أدخل الإيمان من ساحة العقل أو من المقدمات العقلية التي قلناها قبل قليل، أعتقد أن هذه المسائل يفكر فيها المرء، ويعني يقدم فيها شيء في بعض الأحيان، ولكن تعود هذه في غالب الأحيان، هي الجذور أو البذور، قبل أن ينتقل إلى عالم التأليف أو التفكير فيما بعد، ولذلك أنا الآن يعني أحمد أمين نعى حظه أنه طمئني بالمناسبة يعني، نعى حظه أنه ليس عندي فلاسفة، قال مشكلتنا نحن العرب والمسلمين ما عندنا فلاسفة، طيب يا سيدي أنا الآن لا أنعي حظي، لأن الحضارة الإسلامية لم تكن في نهضتها موقوفة على الفلاسفة، بالعكس أنا قلت قبل قليل بأنه هو الفيلسوف الكندي، الكندي في القرن الرابع بمعنى نشأت الحضارة الإسلامية كانت مع أول كلمات القرآن نزولاً، اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (العلق: 1)، دارت هذه الدورة فلما ترجمنا علوم الأوائل يعني بدأنا نوظف علوم الآخرين في خدمة هذه الحضارة دخلنا في طور العالمية، ولكن لم تكن الترجمة حتى كما قال طه حسين رحمة الله عليه، لم تكن الترجمة هي الأساس أو الهند هي نواة الحضارة الإسلامية، بالعكس تماماً ما زال المسلمون على أهليتهم أو العرب بصورة خاصة، ما زالوا على أهليتهم بأن يخوضوا حضارة كما فعلوا عندما ترجموا على أساس أن العلوم التجريبية أو التطبيقية، يعني تأخذ الأمة بعضها عن بعض، ما أحد يبدأ الكيمياء من الصفر ولا الفيزياء من الصفر، ولا بلا رياضيات ولا بالطب، ولكن الحضارات في هذا يبنى بعضها على بعض وهي الأمور التي بدأ فيها المسلمون، الأدب اليوناني لم يترجموه لأنه أسطوري وخرافي، ولكن خالد بن يزيد بن معاوية الذي كان يوصف بأنه حكيم بني مروان، هو الذي بدأ الترجمة عندما بدأ بترجمة علوم الكيمياء أظن، بل إن المسلمين صنعوا من الكيمياء علماء بعد أن كان وقفاً أو حكراً على الكهنة والمعابد، يعني أخرجوه من إطاره وصنعوا منه علماً، أعتقد بأن هذا الموقف الثقافي يمكن أن يكون أهم من كل إنجازاتهم في الدنيا، مرة أخرى أقول ربما كان هذا الموقف ثقافي وليس علماً تجريدياً، بمعنى أخرجوه من كونه خرافات وتحويل المعادن الخفيفة إلى ذهب، وأنه كان عند اليونان والفراعنة، وصنعوا منه علماً، أنا الآن أعود فأقول لا أنعي حظي لأنه ليس عندي فلاسفة لماذا؟، لأن الحضارة الإسلامية لم تكن في نشأتها موقوفة عليهم بأن العقل لم يكن معطلاً في الإيمان، بل كان هو بريد المسلمين إلى علم الكلام في المرحلة الأولى، وإلى الفلسفة في المرحلة الثانية، بمعنى أن الحضارة الإسلامية هي التي اتسع صدرها لهذه الفلسفة، ولم تكن الفلسفة هي الباعث على قيامها ونشأتها بكل تأكيد، هذا الكلام في الحقيقة أنا أقوله الآن وأبنيه، والله أنا أبنيه الآن وأعتمد فيه على ملاحظات أحمد أمين القديمة رحمة الله عليه، ولولا أني قرأت هذا الكتاب في سن مبكرة ربما لم تتح لي الظروف أن ألاحظ هذه الملاحظات، أو أن أضيف هذه الإضافات إن صح أنها شيء عظيم إن شاء الله، أنتقل أخيراً إلى مرحلة الدراسة العليا في مصر كانت نقلة كبيرة هائلة بكل تأكيد، مصر فيها مناخ ثقافي عظيم حقيقة يفوق بلاد الشام في ذلك الحين، لكن يعني موقع مصر المتقدم له أسباب كثيرة لا أعلمها الآن، ولكن لا ريب بأنه يمكن أن أقول عن مصر الآن بأنها دليل العالم الإسلامي إلى المستقبل، بمعنى أن ما يحصل فيها سوف يحصل في العالم الإسلامي إن عاجلاً أو آجلاً، موقعها المتقدم، يعني حتى انفصالها عن الدولة العثمانية كان مبكراً، كانت ظروف جغرافية وتاريخية وثقافية، وأمور كثيرة وقد أغالي في بعض الأمور في الحديث عن مصر، حتى إن بعض الناس يقول لا هذا الكلام يعني واحد معجب بمصر لا يجوز أن يؤخذ كلامه، أنا أقرر أنا لست مصرياً، وأنا الشيء الذي شعرت به بكل تأكيد، وما أزال أعتقده حتى الآن، حتى أن بعض زملائنا يقول الدكتور عدنان، دمشقي المولد ولكنه مصري الثقافة، لا مانع عندي من هذا، أهم أنا عندي من أن يقال إنني مصري الثقافة ليست مشكلة على كل حال، في الحقيقة لأن الدراسات العليا أساساً، هي مرحلة البناء الحقيقي الذاتي بالنسبة للدارس، يعني في مرحلة الليسانس حتى ولو قرأ كتب خاصة لنفسه، لولا الدراسات العليا لا يفكر فيها فيما بعد ربما ماتت أو ربما توارت، ولكن الدراسة العليا هي البناء الحقيقي، وقد يصاب الإنسان فيها بالإنبهار في أوائل الأيام ثم يتراجع شيئاً فشيئاً، الإنسان مع حدة النظرة ومع حماسة الشباب، يعني عندما يشعر أنه اطلع على الأفكار واطلع على المناهج، واطلع على يعني لا أقول بأنه يعني هو ينتقص القدامى من قدرهم ولكن يشعر بأن هالة عظيمة أضفيت عليهم ربما لم يكونوا يستحقونها، ثم يتعلم فيما بعد أن هذه الهالة يستحقونها وأنه كان مخطئاً في مرحلته الأولى عندما تحمس حماسة زائدة، والسبب في ذلك فيما يبدو رجعنا للعقل وأظن هذه آخر مرة أحكي فيه إن شاء الله حتى لا أتهم، هذا كلام ورد، مع حقبة الشباب في الحقيقة، يظن المرء أن كل شيء يجب أن يخضع لسلطان العقل وأحكامه، ولكن الإنسان بعد ذلك عندما تتسع معارفه وقراءاته ويطلع على ثمرات العقول يتقدم العقل نفسه لينزل بالعلامة التي كان أعطاها لنفسه في وقت سابق، بمعنى أن مكانة العقل في حكم العقل نفسه تتضاءل كلما اتسعت معارف الإنسان، أو كلما صقل ذلك العقل بالمعارف والتجارب يعني الآن يجد الإنسان أن الأمر ليس على هذه الحدة التي كان يراها، المهم على كل حال تتمتع مصر كما قلت بمناخ ثقافي فريد أو متقدم، وبمواكبة للحياة الثقافية في العالم إلى حد، علماً بأن مواكبة الحياة الثقافية في مصر أمر حيوي وممتع ويحتاج إلى أناة وصبر، والمكتبات والندوات العلمية والمحاضرات، مجلس العقاد كما قلت لم يتح لي بأن أجلس إليه أو أن أنتمي إليه، لكن محمود شاكر رحمة الله عليه الأديب واللغوي، والذي كان يصفه مالك بن نبي بأنه صاحب بيان متميز العهد للعربية بمثله منذ أيام الجاحظ، هذا الكلام من مالك بن نبي ليس عادياً، عندما يقول بأن البيان الذي يكتب به محمود شاكر العهد للعربية به من أيام الجاحظ، الجاحظ توفي عام 255هـ أظن، والإمام البخاري عام 256هـ، هنا الجمع بين العقل والنقل موجود، هذه حضارة عظيمة لا يغني فيها أحدهما عن الآخر يعني في عصر واحد وفي مكان واحد، ويمكن حتى في بيئة واحدة، فالمهم محمود شاكر كان في الحقيقة كان مجلسه على الرغم من حدة لسان الرجل في كثير من المواقف رحمة الله عليه، لكن تعرفنا في مجلسه على كوكب من العلماء والمفكرين والقراء والشعراء، حسن محمود إسماعيل، والشيخ القارئ الذي كان المنشاوي، والأستاذ شوقي ضيف، وكل تقريباً الأدباء والمشتغلين بالنقد الأدبي، وكان المجلس في كل أسبوع حافلاً بقضايا كثيرة، ويتعجب المرء من محمود شاكر أنه كانت عنده مكتبة كبيرة جداً، أنه كان يحفظ الكتب التي فيها جميعاً وأماكنها على نحو فريد، شيء عجيب حقيقة، ويتعجب المرء أيضاً من أن معلوماته في الحديث وفي السيرة وفي التاريخ وفي القرآن قد تفوق معرفته اللغوية والأدبية رحمة الله عليه، محمد أبو الفضل إبراهيم كان له كذلك، لكن المحطة الثانية التي أريد أن أقف عليها وأخيراً، الحقيقة تعرفت بالأستاذ الشيخ محمد أبو زهرة متأخراً بعض الشيء بعد أن أنهيت مرحلة الماجستير، وصدمت فيها ببعض المواقف التي حملتني على أن أبحث عن عالم كبير أبث معه ما أقوم به وأفيد من خبرته، فدللت على والشيخ أبو زهرة أعرفه طبعاً ولكن لم يكن فيه تلك الصلة، فزرته رحمة الله عليه، ثم توثقت صلتي به لمدة تقرب من عامين أو عامين ونصف العام، يمكن كنت أزوره في كل أسبوع أو أسبوعين مرة، ويتحدث الرجل بأحاديث في الفقه، وربما تحدث ببعض الآراء التي لم يدونها في كتبه أيضاً وأنا لست مهيئاً أو مسلطاً على أن أذكرها طبعاً، رحمة الله عليه، كان مجتهداً، أيضاً كان الأستاذ أبو زهرة فيه شيء من الثقافة الموسوعية، وكان يكره الحقيقة أن يكون الإنسان متقوقعاً على جانب معين، وخصوصاً أن الثقافة الإسلامية لا تعرف هذا التخصص الدقيق لأنها متشابكة ومتداخلة ومعقدة، وأنا على مذهب شيخنا أبو زهرة وشيخنا العقاد إن صحت هذه النسبة، ولكنه شيخنا على الأقل في الكتب، يعني هذا التخصص الدقيق في هذا المعنى ليس وارداً، ولأن المرء قد يوظف معلومات في باب معين في أبواب أخرى، وقد تكون الفائدة أعمق، إذا من أن يكون ملتزماً دقيقاً سواء كان في النحو أو في البلاغة أو في الأدب أو في التفسير أو في الحديث إلى آخره، الشيخ أبو زهرة من الصنف الموسوعي إلى حد ما على الرغم من أن مكانته الأولى والأهم طبعاً هي المكانة الفقهية، والله الحديث عن الشيخ أبو زهرة يبهج النفس بالنسبة إلي، وأقرب إلى الشعر في بعض الأحيان وأيضاً يناسب هذه الجلسة اللطيفة، لكن مع ذلك أنتقي الآن بعض المواقف، جلست الامتحان، في المرة الثانية زرته في ساعة متأخرة من الليل سألني ما الذي قرأته من كتب الفقه؟، ماذا قرأت من كتب الأدب؟ من هو أديب الفقهاء؟ من فقيه الأدباء؟ وكانت الأجوبة صحيحة والله أعلم، فكان يقول الله يفتح عليك يا ابني، بعد ذلك توثقت الصلة مع الشيخ أبو زهرة رحمة الله عليه، وكان يقول: أنت تحضر إلى المنزل ولا تسأل إن كنت موجوداً، كان عنده أسرة تخدمه، تجلس وتشرب الشاي وترتاح، وإذا جئت، وإذا بتشوفني ما جيت إنت على كيفك، فالمهم في بعض المرات قال لي: هذه السلسلة التي كتبتها عن الأئمة الثمانية، الذين أشار إليهم فضيلة الأستاذ، الأئمة الأربعة: الإمام مالك، والشافعي، وأحمد، وأبو حنيفة، والإمام جعفر الصادق، والإمام زيد بن علي صاحب المذهب، وكان معهم الإمام ابن تيمية، وابن حزم، هذه الكتب الثمانية في الحقيقة من أهم الكتب التي كتبها أبو زهرة، قال: هل قرأتها يا دكتور، قلت والله لم أقرأها كلها، ولكن الكتاب المتعلق بأبي حنيفة كان جزء منه مطلوباً منا في كلية الحقوق في السنة الرابعة، فقرأت جزءاً منه، قرأته بطريقة المدارس أيضاً، فقال: طيب أحسن هذه الكتب ما هو؟ قلت: والله أعجز عن الإجابة، أنا أسألك حتى أجاوبك، أحسن هذه الكتب "الإمام الشافعي"، تعرف لماذا؟.. قال لأني كنت في كلية الحقوق وكنت أريد أن أترقى لدرجة أستاذ وكان الأستاذ المقرر أو رئيس القسم، الشيخ علي الخفيف، وهو كان كاتم على نفسي، فأنا جودت كتاب الشافعي جداً، فقلت يعني كان الخفيف ثقيلاً، قال لي نعم كان ثقيلاً، أي نعم رحمة الله عليه، فقال لي أحسن الكتب هو الإمام الشافعي، ثم بعد ذلك قضايا كثيرة، لكن لا أنسى نطق في بعض الأيام قال أنا أريد أن أكتب كتاباً في السيرة أختم به حياتي إن شاء الله، وكتب كتابه خاتم النبيين، وأظن كان آخر ما كتب، وتوفي بعده رحمة الله عليه، كنت أتردد عليه بعد ذلك، يقول لي كتبت ستين صفحة، سبعين صفحة، يوم من الأيام قال أنا أكتب عن صفات النبي عليه الصلاة والسلام، قال لي لم أجد عبارة في اللغة لا تتسع، ماذا أقول عن عقل النبي عليه الصلاة والسلام؟، كتبت وقور عقله، هل هذا مناسب؟ قلت له والله مناسب، أنا ما عندي مفردة أخرى، قال لي والله المشكلة في اللغة نفسها قد لا تتسع في الحديث عن مواهب النبي عليه الصلاة والسلام، ولا عن أخلاقه العالية، وعن مواهبه التي منحه الله إياها، فالمهم ثم أكمل الكتاب وأنا أشرت عليه بأن يقرأ كذا وهي قضايا كثيرة، فأخذ بها، وأحضرت له بعض الكتاب وقصصاً من هذا القبيل، وقال أن الكتاب عندما سيصدر سيكون لك فيه فضل، فقلت له الفضل لك إن شاء الله، رحمة الله عليه، وغفر الله لنا وله، الحديث في هذه القضايا طويل ومتشعب، والحديث كذلك عن أهم الأفكار وأهم أو أهم المسائل هي موجودة وربما كان الحوار بعد قليل يثري هذا الجانب، أو قد تكون فيه إجابات عن بعض الجوانب، أرجو أن تكون حسنة ومضيئة بحول الله أشكركم على حسن استماعكم، وأعتذر من هذا التداخل الذي كان لأن طبيعة الموضوع تستدعي ذلك، شكراً لكم مرة أخرى والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :952  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 119 من 223
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الأعمال الكاملة للأديب الأستاذ عزيز ضياء

[الجزء الرابع - النثر - مقالات منوعة في الفكر والمجتمع: 2005]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج