شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
((كلمة الدكتورة ثريا إبراهيم العريّض))
حياك الله يا نازك، أشكرك على هذه المقدمة وأشكر من قدّمني من الجانب الثاني، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أخي العزيز الشيخ عبد المقصود خوجه، أخواتي وإخواني الكرام، يسعدني أن أكون بينكم اليوم في دفء جدة الرائع بعد صقيع الشرقية وأن تتيح لي الاثنينية أن أتمتع بحضوركم وترحيبكم الدافئ، وحين أتذكر قائمة الحضور التي أرى منها بعض الوجوه على الشاشة وبعض وجوهها حولي هنا وقائمة الضيوف المميزين والمميزات ممن احتفت بهم الاثنينية أشعر بالفخر أن أكون ضمن هذه الفئة النخبة المنتخبة، ولأبدأ بشكر مضيفنا الكريم الشيخ عبد المقصود على مبادرته بتكريم كل النساء المتميزات اللاتي سبقنني، فلئن كنَّ يستحقَّنَّ التكريم فهو بذاته أهلٌ للتكريم منا على تميز رؤيته وأريحيته، وأشكر الدكتور جميل مغربي على كلمته الطيبة.
أتوجس الآن وأنا مطالبة بالحديث عن نفسي وهو موضوع لا أرتاح إليه، ربما لأني أنا نفسي لا أعرف كل تفاصيلها كي أستطيع الحديث عنها ولذلك أتقن ألف طريقة للتهرب من ذلك، أستاذ سعد الذي كان يتواصل معي حول تفاصيل هذه الأمسية ضحك حين أدرك أني فوجئت بأن ضمن المطلوب أن أُلقي كلمة، وكنت أظن أن التكريم يعني أن أصغي لكلمات عني، وقد تكلمتم فأوفيتم ولكم الشكر.
أذكر الآن ضيف "الاثنينية" في الأسبوع الفائت، صاحب السمو الملكي الأمير تركي الفيصل المتحدث البليغ وأمهر من أعرف في إنقاذ ضحايا المواقف الصعبة، شكرني مواسياً بعد أن قدمت كلمتي في ملتقى بين مملكتين في لندن وكان أيامها سفير المملكة هناك، ورئيس الوفد السعودي وكان عليّ أن أقدم كلمة عن نشاط المجتمع المدني في السعودية، وأنتم تعلمون أننا رغم كل مبادراتنا الفردية والجمعيات التطوعية لم نعترف رسمياً بجمعيات المجتمع المدني ونسمح بنشاطها إلا في اجتماع قريب لمجلس الشورى تمَّ في الشهر الماضي، أي أنني باختصار كان عليّ أن أتكلم عن نشاط غير موجود رسمياً، وبذلك تتضح الإشكالية من أنني بذلت في سبيل الكلمة جهداً مضنياً كي أجمع المعلومات من مصادرها الأولية وأتكلم بمصداقية حقيقية ثم استغرقت في الكلام والتفاصيل فتجاوزت الوقت المحدد، قال لي الأمير تركي مشفقاً ومتعاطفاً ليس من الضروري حين نعطي كلمة أن تغطي كل ما نعرف فذلك غير ممكن مهما اتسع الوقت، وهذه حقيقة في حوار الإعلاميين ولعل ما حدث يومها أنني تعاملت مع الموضوع بطريقة علمية وليست إعلامية، أما الآن فلن أتجاوز الوقت ولن أتكلم بأسلوب علمي ولا إعلامي، بل بطريقة عفوية هي ما نتوقعه بين الأصدقاء وهو تصنيف يروق لي، لأنه يشعرني بقربكم خاصة وأنا أتكلم من وراء حجاب تكنولوجي، لست معتادة عليه بالإضافة إلى أن التعامل مع التفاوت في طبيعة الجمهور يمثل مشكلة عويصة لأي متكلم، وهنا لا أجد تصنيفاً يجمع كل الحضور سوى أنه إلى جانب اختلاف تخصصاتكم المهنية كلكم مثقفون وكلكم أصدقاء.
قد أضحككم إذ أبوح بأني خلال مشاركاتي الكثيرة في المؤتمرات والملتقيات المتخصصة كنت أجد نفسي أنصرف ذهنياً بصورة تلقائية إلى تسجيل الفروق بينها بملاحظة اختلاف التفاصيل والتصرفات وطريقة النقاش والتعامل مع المعلومات والتحليل والاستنتاج فيما يقدمونه من كلمات، فأجد فروقاً واضحة جداً بين الفئات، مهندسون وخبراء النفط يتعاملون مع الأرقام، والإداريون تشغلهم الإجراءات، والمسؤولون تهمهم التبريرات، والتربويون يتكلمون في المثاليات والمبدعون يحبون استعراض إبداعاتهم وأحياناً بمظاهر الفوضى في اللبس والإفراط في التدخين، والنقاد يفرضون عضلاتهم النقدية أما الفرق الوحيد الذي يفترضه الجميع ولم أجده بالمرة كما كنت مؤمنة بأنه لا يوجد، لم أجد فرقاً في طريقة التفكير وتحضير الموضوع والتعبير بين الرجال والنساء في أي فئة من هؤلاء، وأشكر الشيخ عبد المقصود مرة أخرى لأنه بتكريم النساء يشاطرني هذا الرأي.
أجدني كمثقفة أنتمي لأكثر من فئة، ولا أعرف أي جانب مني تودون التعرف عليه، وسأترك ذلك لأسئلتكم إن اتسع الوقت، الأسئلة إذا جاءت في الجوهر هي أساس التغير المعرفي ولذلك اخترت أن أشارككم أسئلة واجهتني بصورة متكررة في المقابلات الإعلامية فكأني أرى فيها اهتمامات مشتركة، السؤال الأول الذي يتكرر في كل حوار:
ما هو تأثير كونك ابنة الشاعر الأديب إبراهيم العريّض على إبداعك؟
والمقصود بذلك تفاصيل علاقتي به أدبياً من حيث كوني أثبتُ كما قال الدكتور غازي القصيبي أن الشاعر يمكن أن يخلّف شاعراً، وأراها علاقة تبدأ علمياً بالجينات وتنتهي بالتنشئة أدبياً وعاطفياً وثقافياً ولكل طفلة وأبيها خصوصية في أيٍ منها، ولكل شيخ طريقة، أبي لم يتدخل في حياتي الأدبية إلا من حيث علمني عشق القراءة واحترام قواعد اللغة العربية، بدأت الكتابة كما ذُكر قبلاً قصة وشعراً في الصف الثالث الابتدائي وفزتُ في عدد من المسابقات المدرسية والإعلامية، ولكن والدي تعامل مع كتابتي بهدوء تربوي المنطلق ولم يجعل من الحبة قبة ولا حاول نفخ قامتي أو دفعي إلى الساحة محلقة بأجنحته الناضجة، وإنما اكتفى بتوجيهي لغوياً ولم يتدخل في محتوى ما أكتب.
واصلت الكتابة العفوية باللغتين العربية والإنجليزية دون أن أُطْلع على كتاباتي إلا زميلاتي المقربات، حتى وصلت الجامعة وقرأها أساتذتي الدكتورة ثريا ملحس وروز غريّب وإيليا حاوي وأميل معلوف وأشادوا بها، طلب مني والدي يومها عدم التعجل قبل نضوج التجربة لكي لا أندم كما ندم هو على تعجله بالنشر.
كان في نقده جاداً وصادقاً لا يترفق بأحد ولا حتى بنفسه وتعلمت منه أن لا أمزح أو أتجمّل في تقييم الإبداع، وكان حضوري في صغري للقاءاته وحواراته مع أصحابه الأدباء الخليجيين والعرب وكلهم أسماء تركت صداها في الساحة أهم ما رسّخ استمتاعي بالتعبير الأدبي وعلمني آداب الحوار المفتوح ووجهني بصورة غير مباشرة إلى ساحة الكلمة الملتزمة بالصدق.
السؤال الثاني: الذي تكرر كان عن ما أراه أهم المؤثرات في تكويني الشخصي والثقافي؟
وأقول إن تعدد روافد حياتي ثقافياً كان أهم ما جعل تفاعلاتي مع الحياة ذات أبعاد وآفاق متعددة، ولدت كما علمتم في البحرين في جو يحترم الثقافة ورغم أن تربيتي ظلت ضمن إطار الحياة العائلية الخليجية ابتدأت في حيٍ كل سكانه أقرباء حميمون، وبين البيت والمدرسة مجرد خطوات إلا أنها لم تكن تقليدية تماماً، ففي حين ركزت أمي على تلقيني واجباتي الدينية ومهارات ربة المنزل من الخياطة والتطريز حتى طبخ الكبسة والكباب والهريس وعلمتني شقيقاتي ومدرساتي المناهج المعتادة من العلوم والمعارف الأولية علمني أبي ما هو أعلى سقفاً وأبعد أفقاً، أن أتذوق تعدد الحضارات العالمية وألاحق مستجداتها وأستمتع بالتعلم، وبهذا خرجت من آثار الإنغلاق الفكري حتى قبل أن أسافر مبتعثة للدراسة في بيروت في سن السادسة عشر.
سافرت كثيراً بدءاً من أول عام من عمري، ورافقت والدي إلى العروض الفنية والعلمية والمكتبات والمتاحف التاريخية ومناطق الآثار الحضارية والمسارح الشهيرة والمعالم الثقافية المهمة، وكان رحمه الله يستمتع بتعليمي وأخواتي كل ما يمكن أن يتعلمه ذهن متفتح ويشرح لنا الظواهر العلمية والفنية والثقافية وعلمنا أن الرياضيات والعلوم لا تقل متعة وإمتاعاً عن الآداب والفنون كالرسم والشعر والموسيقى والتمثيل، ثم علمني تجنب ما يدّعي أنه فن وليس إلا ابتذالاً رخيصاً، وعلمني أن أحترم قدراتي فلا أرضى بمستوى مقبول حين يكون بإمكاني الوصول إلى مستوى ممتاز، وأن لا أدعي ما ليس من قدراتي الحقيقية، وأن أحترم هويتي فلا أكون نسخة مبتذلة تكتفي بالتقليد القشوري، وأعترف أني لم أغش في أي مناسبة في حياتي، ولا أسعد بنجاح لم أستحقه فعلاً.
نشأت محاطة بعناية الأسرة الرفيقة متفوقة في دراستي وغير مكبلة في اختياراتي الحياتية، فقد تشربت التشجيع والتقدير منذ الطفولة ولعل والدي كان يرى فيّ صورة ذاته في طفولته فجاء تعامله طبيعياً ومشجعاً، وأقول إنني حظيظة بكوني ابنة أمي لأنها علمتني أن الأنوثة الحقيقية هي في امتلاك قلب يفيض بالحنان وليس فقط امتلاك نعومة الملمس وإغراء الصوت الأنثوي كما هو متعارف عليه، وكنت حظيظة بعد ذلك بكوني ابنة أبي، فقد كان رجلاً على قدر مسؤولية الرجولة، جاء إلى وطنه في الخليج بعد أن ولد ونشأ في الهند طفلاً عربياً عبقرياً لا يتقن لغته الأم، عاد إلى البحرين في العقد الثاني من القرن المنصرم يحمل إلى جانب موهبته الشعرية ثقافة عالمية متقدمة ومرئيات مستقبلية متحضرة فاجأ بها المجتمع الخليجي المنغلق على متطلبات يومه، وامتلك إعجاب الجميع واحترامهم وحبهم له صبياً وشاباً وكهلاً، وظلوا يقدرونه ويجلونه حياً وميتاً-رحمه الله-، ولأنه عاش يطبق في حياته الخاصة ما يؤمن به وليس ما يطلبه السائد في المجتمع كان من نصيبي أنا وشقيقاتي أن نشأنا في جو عائلي يحترم قدرات الأفراد، على تنوعها ومستوياتها، دون أن يسلب حقوق من ولدن إناثاً أو يقتل إبداع من جاء موهوباً، وهكذا تعلمنا حتى أعلى مستويات التعليم المتاح.
ومن والدي تعلمت الاستمتاع بالاختلاف وتقبل التعددية واحترام الآخر واحترام الذات، وأنا حظيظة بزوجي الدكتور عبد الله الدباغ زميل الدراسة الذي رسخ فيَّ اهتماماتي العلمية بالتنمية الشاملة حين أوضح علاقة الجيولوجيا بمستقبل الخليج اقتصادياً ثم أقنعني أن أعبر الحدود لنجعلها علاقة حياة ممتدة، أبو هاشم أو السيد كما يعرفه الأصدقاء هو رجل الحلم والحقيقة، الذي مارس في حياتنا دور الزميل والصديق والقدوة ثم الزوج الطيب والأب الراعي لكل أسرتنا.
والسؤال الثالث: الذي واجهني دائماً كان بصيغة إعجاب مستتر كيف توفقين كونك امرأة عاملة في مؤسسة صناعية بدوام كامل وتقييم جاد ومتطلبات وظيفية وبين واجباتك كأم وزوجة مسؤولة عن أسرة وأطفال، وبين المساهمة في النشاطات المجتمعية كإعطاء المحاضرات والمشاركة في المؤتمرات؟
وأقول أن ذلك تطلب الكثير الكثير من الالتزام بتحمل المسؤولية وتنظيم الوقت والإيمان الراسخ بضرورة إعطاء كل ذي حق حقه، لم أفقد تفهمي لما يحمله زوجي من مسؤوليات وضغوط عمل وما يتطلبه أطفالي من عناية فردية خصوصاً في تأسيس بنائهم الثقافي وتنشئتهم نشأة تربوية صحيحة منذ البدء كي أضمن احترامهم لجذورهم وانتماءهم لا بمعنى تقبل خصوصية التخلف المجتمعي بل بمعنى الشعور باحترام الذات ومسؤولية المواطنة وترسيخ رغبة المساهمة الفاعلة في تطوير هذا المجتمع وبناء الوطن بأيدينا وهو الدرس الذي تعلمته من أبي- رحمه الله-.
السؤال الرابع: الذي كان يوجه إليّ كان يحمل شيئاً من الاستغراب كيف تستطيعين الجمع بين العمل في مجال التخطيط وهو مجال حقائق وأرقام وإحصائيات وتحليل معلومات ومقارنات علمية مع كونك شاعرة وأديبة علمها الخيال واللغة الشاعرة والصور الفنية.
وقد أقول بصورة عفوية أحمل ثنائية فكرية تتعامل مع كل موقع بما يناسبه أو لأستعير تعبيراً من مجال البرمجة أنني أغير برمجتي فيكون استخدامي لأدواتي ومعطياتي مختلفاً تماماً حسب ما يتطلب حل أي مسألة تواجهني فحين أجري تحليلاً أو أكتب أطروحة علمية لا أستخدم لغة القصائد الرمزية، وحين أرسم أستخدم لغة تعبيرية أخرى لها رموزها المرئية، وأقول إن الإنسان قلّما يولد أحاديَ التكوين خاصة من يحظى بتجارب حياتية متسعة النطاق، وقد نشأت في منزل أُعْطِيت أكبر مساحة فيه للكتب، حيث تمددت مكتبة والدي ففاضت كتباً تتمرد على رفوفها لتستقر في كل غرفة في المنزل وقد أشرعت لي هذه الكتب بوابات مغرية على عالم شاسع غير ما يلتصق بي واقعياً، منها ما يثري معرفتي بالنظريات العلمية وتاريخ البشرية وتطور العالم وميراثه من العلم والفلسفة ومنجزات الأولين ومنها ما كان يحملني إلى إبداعات الشعراء والروائيين والفنانين من أرجاء العالم، ووجدت أن البوابة الوحيدة التي تضمن مواصلة الإثمار الحضاري في المستقبل هي بوابة التخطيط السليم بأن تكون خطواتنا مدروسة تستفيد من منجزات الماضي وتفهم انحصارات الحاضر وتبني للمستقبل ولذا درست التخطيط وكان وقتها تخصصاً جديداً على الساحة ولم أندم أبداً على اختياره كمجال مهني.
ويسألون ما أهم ما تعلمته في حياتك من دروس، وأقول أهم درس بعد السفر والتعرف على عالم الغير، كانت الكتابة الصحفية دون تجربة سابقة حيث بدأت بمقالة يومية في الصحافة السعودية ثم العربية ولم أتوقف وتعلمت من ذلك الكثير، إن من يتوقف عن تعلم الجديد يموت معرفياً وأن أهم أدوات النمو الفردي هو الاحتفاظ بطفولية النظرة والرغبة في المزيد من المعرفة.
ومن تنقلي في بلدان مختلفة شرقية وغربية تعلمت أن الجغرافيا والتاريخ أعمق معنىً مما تعلمه المناهج المدرسية وباستعارة بلاغة تعابير أمي البسيطة أن الخير يخيّر والفقر يغيّر وهذا ينطبق على الدول والأمم مثلما ينطبق على الأفراد، اكتشفت اتساع أفق المعرفة وامتداده في المستقبل وأن العالم حضارات متعايشة وإن اختلفت تفصيلاتها وجذورها وتفضيلاتها وتميزاتها وأن الحروب تقتل الحضارات، والسلام ينعشها، وأن أهم أدوات البقاء الحضاري هي المرونة وتقبل التطور، وأن أهم متطلبات التعايش بسلام هي موهبة الإصغاء لما يدور حولنا وتفهم ما يعنيه من أفكار ومشاعر وطموحات الذات وتطلعات الآخرين وأن التقبل والتعاضد أجدى من الإقصاء والإلغاء وأن اليد الواحدة لا تصفق، وأن الحوار البنّاء يتطلب امتلاك زمام التعبير عن الفكرة وقدرة الإقناع عبر اختيار اللغة المناسبة والمفردات الخاصة، وأن أهم سلاح لمواجهة تحديات المستقبل ومعضلات اليوم هو تخيّر ما نحتفظ به من ذاكرة الماضي وبناء قدرة التحكم في مفاتيح الفكر الحاضر ومسؤولية التغيير والتطور مستقبلياً.
ثم في السنوات الأخيرة كثيراً ما يسألني الشباب والشابات عن أهم مقومات الفاعلية والنجاح في الحياة، وأفرح أن السؤال يأتي من الجنسين حيث يؤكد تغير موقع المرأة وموقع المجتمع من طموحاتها وإنجازاتها وأجيب أن أهم متطلبات النجاح هي الثقة بالنفس والمرونة والتخطيط السليم والقدرة على التعامل مع المستجدات بعقل منفتح على بديهية التغير الفكري، حيث إن مجرد الاقتناع بأننا بلغنا كل ما نحتاجه من المعرفة أو النجاح يعني أننا تحجرنا وفقدنا القدرة على مواصلة النمو، كذلك الآن وقد تخرج ولدي هاشم وبناتي مي ونور من الجامعة وليلى ما زالت على مقاعد الدراسة يسألني الأصدقاء من الآباء والأمهات كيف ربيت وزوجك أطفالكما بنجاح أوصلهم إلى أعرق الجامعات وأقول وأنا أحمد الله أن البدء في بناء النشء الصالح السعيد هو منحهم الاهتمام الإيجابي الكافي، والحب الضافي وليس التدليل المدمر وفي ذلك ضمان التوازن العاطفي، وجذور بناء الطفل ليكون إنساناً واثقاً منتجاً محباً لأسرته ووفياً لوطنه.
صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل وأنا أهنئ جدة به أكد بلغة شاعرية متعمقة في فهم الذات أنه مجموعة إنسان ولعل ذلك ينطبق على أي فرد طبيعي موهوب وليس هناك من يخلو من موهبة، حيث في كل منا طبقات من تفاصيل الشخصية والاهتمامات والمواهب الكامنة تجعل كل واحد منا مجموعة شخصيات تمنحه ذلك العمق الذي يميز الإنسان بإنسانيته عن الجوانب الجسدية الخالصة، وهذه الحقيقة البسيطة هي لب التربية والتنشئة وهي مع الأسف ما يهمله البعض منا في تعاملهم مع صغارهم، فنحن نبدأ في تكوين هذه الطبقات منذ الصغر حيث تتداخل لَبِنَات بناء الشخصية مع أول ابتسامة من الأم لرضيعها، وأول مداعبة من الأب، وعبر تعبيرات وجه المدرس وعبر لمحات الإعجاب أو التحقير من الزملاء في الفصل أو فناء الفسحة المدرسية فتحيي بادرة الموهبة والانتماء أو تقتلها بالنقد والتحقير فتذكروا هذا حين يتعامل الأطفال مع المدرسة ومع الأطفال الآخرين من الفئات الأخرى بالتحقير، إنهم يقتلون فيهم الشعور بالمواطنة والانتماء.
ونحن نعيش حياتنا كلها ونحن في محاولة مستمرة لفض الاشتباك بين المعلومات المتناقضة عن أنفسنا من مصادرها المتعددة ومحاولة مستمرة لتحقيق تنبؤات غيرنا لنا بما سنحققه في حياتنا، وكلنا نتاج طفولة لها تفاصيلها الخاصة من حيث روافد البناء أو عوامل التحطيم.
بقي سؤال واجهته مؤخراً من الإعلاميين والناشطين في تطوير المجتمع والمنادين بحقوق المرأة خارج البلد وداخلها، ما الذي فعلته بخصوص خدمة قضايا المرأة في هذا المجتمع بالذات؟
وأقول إنني أؤمن بضرورة منح المرأة كل حقوقها الإنسانية والشرعية وأشجع صانع القرار على تقنين ذلك وأطالب أولياء الأمور بتطبيق ذلك، أؤمن أن نشر التوعية الرصينة أهم وأبقى من الإثارة العاطفية المؤدلجة، وتهمني النتائج لا بيانات الاحتجاج والمواجهة، فالهدف الأخير والهدف الأهم هو تحقيق الوصول إلى الأفضل، وليس التنفيس المؤقت فقط، التنفيس الفردي أحمله القصائد فالشعر عفوي وذاتي الانفعال والتعبير أما الحوار الجاد عن معاناة الفئات فهو للكلمة المدروسة التأثير والتعبير وقد كتبت مئات المقالات وشاركت في الندوات والمؤتمرات وألقيت محاضرات في الجامعات والجمعيات، ولعلي بعون الله أقنعت بعض من سمعني بتغيير مواقفهم الأسرية والمجتمعية وتفهم كون المرأة لا تختلف في قدراتها وطموحاتها وإحساسها بالفخر أو بالغبن عن الرجل.
أنا ابنة والديّ قد طبّقا معي ما آمنا به من تعاليم ديننا الحنيف، وما تقبلاه من نظريات التربية واحترام المرأة والغير وتركا لي الخيار في اختيار مسار حياتي، وهذا ما أتمناه، أن يُتاح لكل امرأة، يقولون أني متفائلة والواقع غير ما أراه وأقول إن التفاؤل يمنحنا قدرة المواصلة وإنني لم ولن أقبل في انتمائي أنصاف الحلول، ومارست ما اقتنعت به وهو أن لهذا المجتمع عليَّ حق الانتماء والبناء والتطوير حتى ولو لم يفوضني بذلك طلب رسمي، وأن الصح هو أن ألمس مواضع المعاناة لأعالجها لا لأذيع صرخات التألم والتشاؤم وأنشر أصداء النقمة، بل لكي أحاور المجتمع حول نقاط القصور في الحاضر لأوضح له وجهة المستقبل ربما لأني أكدت منطلقات التخطيط الإيجابية وربما لأني أملك طاقة كبيرة من الإيمان والتفاؤل، وأدرك أنني حظيظة جداً حيث يبادلني الاعتزاز وطن الطفولة والصبا ووطن النضج الذي يبادلني حباً وتقديراً، ولعل وقوفي بينكم اليوم في هذه الاحتفائية هو دليل ملموس واضح التعبير لا يقل أهمية كدليل على هذا الحب والثقة عن اختياري رسمياً للمشاركة في الحوار الوطني أو تمثيل الوطن في الخارج، كثيرون يرون في ذلك تكريماً شخصياً وهو تكريم بلا شك ولكني أرى أن لا بد أن أثبت أنني جديرة بها ومسؤولية لا بد أن أعطيها ما تستحق من الأهمية.
أصدقائي وصديقاتي.. أشكركم جميعكم على حضوركم وإصغائكم.
عريف الحفل: أستاذة نازك يبدو أنه توجد كلمة.
الأستاذة نازك الإمام: نعم كلمة من الدكتورة مي بنت عبد الله الدباغ، وهي ابنة الدكتورة ثريا العريض وحاصلة على شهادة الدكتوراه في علم النفس من جامعة أكسفورد والبكالوريوس من جامعة هارفارد بتفوق، تعمل حالياً في كلية دبي للإدارة الحكومية كباحث رئيسي في موضوع المرأة والسياسات العامة، فلتتفضل الدكتورة مي لإلقاء كلمتها..
 
طباعة

تعليق

 القراءات :479  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 50 من 255
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذة الدكتورة عزيزة بنت عبد العزيز المانع

الأكاديمية والكاتبة والصحافية والأديبة المعروفة.