شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
هتاف قلم
سيرة العظماء وسيرة الوطن مع ((عبد الله بلخير)) في ذكرياته (1)
د. غازي زين عوض الله
ـ 1 ـ
يناضل الإنسان كبحار في محيط الحياة.
يلقي أشرعته، يحمل بوصلة في قلبه، يحشد حواسه كلها ويستنهض طاقته لينقش اسمه في سجل الخالدين، أمله أن يتحوّل إلى سطر مضيء في تاريخ الوطن.
وعندما يكون واعياً بأن مجده الشخصي مرتبط بمجد أكبر واعظم هو مجد بلاده وحضارته، فإنه بذلك يكون قد حدد الهدف وضبط الاتجاه، وقاومت خطاه متاهات العبث.
كل سيرة لعظيم من عظماء الوطن هي سطور من سيرة الوطن نفسه، وما التاريخ الكلي سوى جماع سير الأبناء النابهين المخلصين، مسلسل لا نهاية له، ولم يصنع حلقاته درامي وإنما صاغته العناية الإلهية التي تبث الروح المتقدة في نفوس قلة تحمل هموم من حولها تحولها إلى كيان متشكل كالكيان الإنساني، يحمل الشكل والمضمون، المعنى والهيئة.
فن التراجم الذاتية متعدد الأشكال والقوالب، لكنه متعة تتخذ من التاريخ الحقيقي ميداناً ومجالاً، ومن فن القصة قالباً تعبيرياً، والقصة هي الدرس الأول الذي يتلقاه الابن وهو يتشرّب الحياة من صدر أمه الحنون، القصة هي آليات النحت داخل وعي البشرية، كلنا نعرف حكايات شهرزاد، وكيف أرادت تغيير الرجل بالكلمة، وفي المقابل نعرف ((ترويض الشرسة)) وكيف أراد ((شكسبير)) ترويض المرأة بالدراما، القصة معلم كبير وحينما ترتبط بالمرجعية الحية للتاريخ من خلال فن التراجم يكون لها مذاق خاص، مذاق الحياة التي تفوق الخيال وتتجاوز التصوير الإيهامي.
وقد أحسن الأديب المثقّف الناشر عبد المقصود محمد سعيد خوجه حين خصّص كتاباً من سلسلة كتاب (( الاثنينية )) المتميز ليجعله خاصاً بذكريات عبد الله بلخير، وقد وصلني منه هذا العمل الضخم في مجلد فاخر يقع في نحو سبعمائة وثلاثين صفحة من الحجم الكبير، لكنه كان ضيفاً لطيفاً ونديماً أنيساً وينطبق عليه قول شاعرنا ((وخير صديقٍ في الزمان كتاب)) فما أن تبدأ في تصفحه إلا وتجد نفسك مبحراً في تاريخ حافل له حياة، كله أعلام، ولكل علم حكاية، ولكل حكاية مغزى، فكأنه الليالي العربية تروى بصورة جديدة، هدفها تسجيل سطور من تاريخ كفاح المملكة حتى تجلّت النهضة في صورة زاهية وما كان ذلك بالعمل الهين، بل كان رحلة حياة وأعمار شكّلت التاريخ والجغرافيا أيضاً.
ـ 2 ـ (2)
كتابة السيرة التي قدمها عبد الله بلخير في شكل الذكريات، غطّت جزءاً كبيراً من التاريخ السياسي للمنطقة وعلاقة القوى الكبرى العالمية بالقوى العربية الصاعدة والمؤثرة، وتهاوي الهيمنة الإنجليزية والفرنسية ليصعد مكانهما العملاق الجديد المتمثّل في أميركا بعد الحرب الثانية ويتخلّص العملاق الأميركي من حلفائه منفرداً بالساحة العالمية، إذا أردت أن تعرف الكثير من جذور النظام العالمي الجديد وعلاقته بالمنطقة العربية فإن ذكريات بلخير وثيقة مهمة في هذا المجال.
أما على المستوى التاريخي العربي والوطني فقد كتب بلخير في ذكرياته فصولاً رائعة عن الجوانب الإنسانية في حياة الملك عبد العزيز آل سعود، مظهراً عبقرية هذه الشخصية العربية صانعة المجد الحديث، فيقول:
((كان من حسن حظي في مطلع سير حياتي أن يسوقني القدر على غير سعى منى ولا تفكير إلى ديوان جلالته لأعمل فيه راصداً ومسجلاً ومراقباً ومتابعاً أخبار الحرب العالمية الثانية في الدنيا بأسرها من أجهزة الالتقاط اللاسلكية عبر أجهزة الراديو، لأنقل في كل لحظة أنباء كبار الحوادث العالمية وصغارها ودقيقها وجليلها إلى أسماع الملك عبد العزيز شخصياً، إما بالهاتف وإما إلى سمعه وبصره.. وأنا في كل ذلك واحد من أربعة إخوان ورفاق نقتسم هذه المهمة..
وهكذا عرفت الملك عبد العزيز وعملت في خدمته واتصلت به اتصالاً مباشراً، عرفت بحكم هذا العمل تلك الشخصية النادرة المثال في تاريخ جزيرتنا العربية منذ أكثر من عشرة قرون.. شخصية متعددة الجوانب والصفات، تجمع جوانبها وصفاتها خصالاً نادرة المثال بين الزعماء والرجال في التاريخ)).
إننا إزاء شاهد على العصر، شاهد على صناعة الأمة وصفات الزعامة، وإعداد القرار وآليات التحولات السياسية المعاصرة، شاهد عاش ورأى وشارك، بالتالي لم نبالغ عندما ربطنا بين سيرة الشخصية وسيرة الوطن، وسيرة الوطن شديدة الصلة بحركة التاريخ الإنساني، لأن المملكة العربية السعودية في هذه الفترة تبلورت شخصيتها باعتبارها محطة أساسية من محطات الانطلاق السياسي والحضاري للعالم العربي الإسلامي والتاريخ المعاصر، فترة التوجهات العالمية التي حملت المملكة مسؤولية إنسانية خطيرة.
ـ 3 ـ (3)
سيرة الفرد ليست بمعزل عن سيرة الجماعة، بل هو حلقة وصل بين مجموعة منظومة كالعقد، وقد يكون هو الجوهرة الفريدة، جوهرة واسطة العقد. وهذا ما نلمسه في ذكريات الأستاذ عبد الله بلخير.
كذلك المكان، فخصوصية المكان تستمد من الجغرافيا مساحة ومن التاريخ عمقاً ومن الشخصيات الواعية مرتكزاً للالتقاء والحركة.
وعبقرية المكان الذي ننتمي إليه تفوق غيره من الأماكن بما نعايشه من مقدّسات لها مكانتها الخاصة في قلب الإنسانية، وفي أعماق كل مسلم.
وقد أتاح ذلك لعبد الله بلخير فرصة التعرف على رموز العالم الإسلامي، صناع وعي هذه الأمة، معهم طاف وعنهم روى، ومن تلك الرموز الشيخ ((طنطاوي جوهري)) صاحب تفسير ((الجواهر)) وأحد أعلام الفكر الإسلامي.
كنت قد اطلعت على تفسيره، ولم أكن امتلك معلومات عنه، إلى أن وجدت في ذكريات عبد الله بلخير مساحة مهمة وحيوية تفيد في معرفة هذا الرجل وعنه يقول:
((أتذكر في أحد المواسم أنني التقيت بالعالم المصري المشهور يومئذ الأستاذ طنطاوي جوهري صاحب ((تفسير الجواهر)) فقد قدم في أوائل الثلاثينيات حاجاً إلى مكة.. وكان شهيراً يومئذ بفصول تفسيره التي كان ينشرها في الصحف المصرية فنتلقفها نحن الشباب، ومن أمثالي في ذلك زملائي العلامة الكبير الأستاذ أحمد عبد الغفور عطار، والأستاذ عبد الله عريف، والأستاذ حامد محمد كعكي، والأستاذ محمد سعيد عبد المقصود، فسلمت على الشيخ وأنا مغتبط بهذه المفاجأة وكم في الحج من مفاجآت تصادفنا..)).
لقد حرصت على ذكر الأسماء التي ذكرها بلخير لأنها جزء من تاريخ الفكر العربي، ولأن هذا الحديث يوجه انتباهنا إلى موضوع أظنه يصلح للدراسة البحثية وهو أثر رحلة الحج في تاريخ الثقافة العربية، كيف شاركت في تكوين المثقف السعودي وكيف حولت مسار بعض الشخصيات، كما حدث مع المفكر العربي ((محمد حسين هيكل)) صاحب أول رواية عربية ((زينب)) وصاحب الكتاب الشهير ((في منزل الوحي)).
 
طباعة

تعليق

 القراءات :327  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 78 من 142
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذ الدكتور سليمان بن عبد الرحمن الذييب

المتخصص في دراسة النقوش النبطية والآرامية، له 20 مؤلفاً في الآثار السعودية، 24 كتابا مترجماً، و7 مؤلفات بالانجليزية.