شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
(30) (1)
في مثل هذا اليوم.. ومن حوالى عام تقريباً.. وقد كنت نزيلاً بأحد فنادق بيروت.. أحسست.. دون كذب غنى أبيض.. ومن غير مبالغة لا لزوم لها.. وبلا خيال شاطح.. أحسست بشعور خفي هامس إنني لا بد مواجه قريباً مكروهاً ما.. لا أعلم كنهه أو مداه.. وركبنى تبعاً لذلك ضيق شديد منفر.. يشبه إلى حد كبير ركوب العفريت.. كما يقولون.. ظهر.. أو رأس من به مس خفي.. أو لطف غير محمود كما يعبرون عن الجنون البسيط غير المركب الحاد..
وكنت قد اشتريت الجزأين الأول والثاني من كتاب.. الأيام ـ للدكتور طه حسين.. رغم قراءتي السابقة لهما.. وتهيأت للنوم بعد أن نبهت بالتلفون على المسؤول في الأوتيل أن يوقظني في الموعد المبكر حددته له بالدقيقة.. ولكن ما أن بدأت عيني تستجيب لمداعبات النوم اللذيذة.. حتى خطر لي فجأة أن أقرأ قليلاً.. ولوقت قصير.. فالليل طويل..
وفعلاً.. بدأت أقرأ في الجزء الأول.. وضايقني أن نور الغرفة أخذ يمزح معي بطريقة الغمز غير المباح.. فينطفىء لثوان.. أو لدقيقة.. يعود بعدها ساطعاً وهاجاً لدقيقة أيضاً.. أو أكثر.. ليرجع سيرته الأولى في الغمز من جديد..
ورغم ذلك.. فقد أكملت قراءة الجزء الأول.. وتهيأت ثانية ومن جديد للنوم.. ولا أدري كيف انسلت كالعقرب.. إلى ذهني حكاية النور الغماز وأسبابها.. وهنا أخذت الهواجس تتضخم شيئاً فشيئاً.. باعتبار إنني أحد الذين لا يحبون الغمز في الظلام تعصباً لصدق المثل القائل: مين داري عنك.. يا اللي في الظلام تغمز.. وحتى أقطع على نفسي تلك الهواجس والأفكار ضغطت الزر.. فأضاءت الغرفة.. فتناولت الجزء الثاني من الكتاب.. وفي منتصفه تقريباً.. وكانت الساعة قد شارفت الثالثة بعد منتصف الليل.. غلبني النعاس بقوة النوم القاهرة.. وما هي إلا هنيهات ـ كما يقول أبو سبعبع ـ وأنا بين الصاحي والنائم حتى سمعت دقاً شديداً على باب الغرفة.. فقمت مذعوراً.. وفتحته لتهجم عليّ سحابات كثيفة من دخان أسود مركز وذي رائحة ثقيلة.. فغطتني.. ولكني.. بحلاوة الروح.. أطلقت سيقاني للأمام.. نحو الممر حيث قابلني لسان رفيع مرعب من اللهب الأحمر.. وكان اللسان الناري طويلاً كلسان صديق لنا قديم ومعروف. فانزلقت بجواره.. للدرج.. حيث لم يرد رأسي بفضل سيقاني إلا الشارع.. وقد ضاقت خياشيمي.. وثقل صدري ببقايا الهباب الأسود الملعون..
وهناك.. بالشارع.. تشهدت.. وإن كنت قد عتبت على نفسي فيما بعد.. أن تجيء الشهادة متأخرة عن وقتها المفروض.. وهذا تقصير ديني وأخلاقي كبير.. وتفرست في نفسي متفقداً إياها.. فإذا أنا بالفوطة والفانلة ليس إلا.. حافياً مكشوف الرأس.. عاري العينين من نظارتي الحبيبة الملازمة أرنبة أنفي ملازمة الأرنبة المذعورة غارها المألوف!..
وشاهدت.. بعد التقاط أنفاسي.. سيارة الإطفاء.. وتوابعها.. وتابعت الجلبة والضوضاء اللتين انتهتا بأن قال كبير.. حامل الشيب.. بسيطة.. بسيطة قوندشين انحرق.. ومسك في الستارة.. وكادت النار أن تتم الجولة على الجميع لولا أن حاصرناها.. وأخمدنا أنفاسها.. وأنقذنا المغمى عليهم في الممرات.
وهنا.. حمدت للشاعر العربي القديم نصيحته الخالدة.. جاءت كوصف لحالته الثابتة السالفة.. وحالتي الحاضرة الآن..
وفي الهيجاء ما جربت نفسي
ولكن في الهزيمة كالغزال!
وقد كلمني أحد الأصدقاء بالتلفون صباح اليوم التالي.. وقد قررت السفر مساء اليوم نفسه.. مواسياً ومؤكداً.. إن هذه العقبى الحسنة والنجاة إنما كانا من رضاء الوالدين.. فشكرته بما يناسب المقام.. من حكم ومحفوظات..
وعلى ذلك.. فما أن استقر بي المقام بين أهلي في اليوم التالي.. وطلبوا مني لإشعاري بالحب وبالتدليل إن أقترح عليهم صنف الحلا.. بعد الغدا.. حتى قلت.. فوراً.. صحناً ممتازاً من رضاء الوالدين!..
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :588  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 69 من 168
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور سعد عبد العزيز مصلوح

أحد علماء الأسلوب الإحصائي اللغوي ، وأحد أعلام الدراسات اللسانية، وأحد أعمدة الترجمة في المنطقة العربية، وأحد الأكاديميين، الذين زاوجوا بين الشعر، والبحث، واللغة، له أكثر من 30 مؤلفا في اللسانيات والترجمة، والنقد الأدبي، واللغة، قادم خصيصا من الكويت الشقيق.