شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
قراءة في شعر محمد فدا!؟
للشاعر: محمد إسماعيل جوهرجي
ـ تهيبت كثيراً في الكتابة عن شاعرية أستاذ الجيل، المربي القدير، المغفور له إن شاء الله، أستاذنا محمد عبد الصمد فدا.. ولولا حبي للرجل ومصاحبتي له مديراً وأنا طالب في المراحل المتوسطة والثانوية، ومرافقتي له وأنا أستاذ للقسم الثانوي في مدارس الثغر النموذجية بجدة إبان إدارته لها.. ولولا إلحاح رفيق العمر/طفولة وشباباً وكهولة: الكاتب المبدع الأستاذ/عبد الله الجفري، الذي أناط بي هذه المهمة التي أخالها من المهمات الصعبة.
فكيف لي أن أتصدى بدراسة نقدية لشاعرية أستاذ الجيل/محمد عبد الصمد فدا.. وأي قلم يطاوعني ويستجيب لي في ما أؤمله وأكتبه عن أستاذنا الفاضل؟!
وبعد مرور سحابة الهيبة العارضة: وجدتني أمام خيار لا بد من أن أفضي به بما تجود به سبحات الخيال في بعض قصائده المنشورة.
وللحقيقة أقول: إن أستاذنا الفاضل كان متعدد المواهب، مربياً من الطراز الأول، إن صح هذا التعبير، وخطيباً مفوهاً لا يشق له غبار بين جيله.
أما عن شاعريته.. فقد تلمست فيها شاعرية غضّة مرنة تمتاز بالسهولة في اللفظ والمرونة في الأداء، بحيث تشعرك كأنك أمام شاعر أصيل متمكّن من ناصية البيان. رهيف الحس، شفاف المعاني والاجتلاءات والاختلاجات، يعيدك إلى شعر الأوائل من شعراء العصر الذهبي العباسي.
ـ ففي قصيدته الغزلية: (مي)، ترى الشاعر يشخص من نفسه محباً مولهاً بها، بحسنها وجمالها، بأدبها، وكأنه مجنون ليلى هياماً وولهاً، اختار لها أعذب الألفاظ وأرقها لتؤدي ما يجول في نفسه من بوح، وحرقة، وولع.. فكانت قصيدته تشبه لوحة فنية مؤطرة بسياج من الألفاظ الجميلة الموحية، فيها من الموسيقى ما يطرب النفس ويشجي القارئ، ويبعث في نفس المتلقي هالة من الاطمئنان والصفاء في أداء المعنى دون اللجوء إلى حوشي اللفظ وغريبه، فألفاظه سحابة سخاء هتون تفيض بالغدق وجمال الأداء، مترنمة الإيقاع، شفيفة الإبداع، تعبر عن مدى الصدق في الإدلاء والإيحاء.
وما دمت في صدد الحديث عن شاعرية أستاذنا الفاضل يرحمه الله، فيحضرني موقف معه منذ أكثر من خمس وأربعين سنة، في عام 1385هـ على ما أعتقد، في الشهر السادس قبل سفره إلى أمريكا للعلاج: جاء يومها كأنه يودع مكتبه في المدرسة، وعرفت بوجوده في الغرفة، فذهبت إليه مسلماً وداعياً له بالشفاء العاجل إن شاء الله، ولم أجد أحداً سواي في مكتبه.. فجلست أمامه وأخذ يقدم إلي نصائحه الغالية التي كانت مخاض تجربة طويلة في ميدان التربية والتعليم، وتحميسي على الإطلاع على أكثر من مرجع واحد لكل درس لأن طلاب ((الثغر)) أكثرهم ممن يحضر للدرس من غير الكتاب المدرسي المقرر قبل أن يشرع الأستاذ في شرح الدرس.
وهنا طرأ علي سؤال كان مفاده على ما أظن: كيف يقرأ أستاذي الفاضل محمد فدا شاعراً؟!
فرمقني بنظرة من تحت نظارته الزرقاء، ثم أردفها بابتسامة عريضة، فقال:
ـ هذه تهمة لا أرتضيها لنفسي!
ـ قلت: هل الشعر تهمة يا أستاذي الفاضل؟!
ـ قال: بل إلصاق الشعر بي تهمة.. فأنا لست شاعراً، وإذا كنت قد وقفت على بعض القصائد لي، فهذا لا يعني في الضرورة أنني شاعر.
ـ ثم سألني قائلاً: من أشعر في رأيك.. أنا أم حمزة شحاتة.
ـ قلت له: بل حمزة شحاتة.
ـ قال: كنا يا محمد نجلس لحمزة شحاتة ونصغي له بكل إحساساتنا، وكلنا آذان صاغية لما يفيض به علينا من شعر جميل ونبدي كل الإعجاب، وخصوصاً وأن لحمزة شحاتة طريقته في إلقاء شعره.. وبعد الانتهاء من إلقاء قصيدته أو رائعته الجميلة، يقوم بتمزيقها وإلقائها في سلة المهملات، قائلاً لنا: قرأت عليكم قصيدتي الجديدة، وسمعتم ما سمعتم فعليكم نسيان ما سمعتموه.. فإذا كان حمزة شحاتة/سيد شعراء الحجاز في عصره يقوم بتمزيق شعره وعدم الاحتفاء به، فما يمكن أن يفعله مثلي في شعره؟!
ـ قلت: لكن حمزة شحاتة عبقري وموغل في المنطق والفلسفة، كثير التأمل، كثير الاستنتاج، دائماً يبحث عن الجديد المفيد، وهذه خصلة الكبار أصحاب الثقافات العالية.
ـ وأخيراً طرحت عليه السؤال الآتي: لك يا أستاذي الفاضل قصيدتان أعتبرهما من جياد الشعر.. الأولى قصيدة:
لمن المنار سناؤه
ألقاً.. يشعّ صفاؤه
وكلها تدفق وانسياب، وإحساس راهف مشع، فيها من الصور البيانية خطرات شاعرية فذّة، مع مقدرة في استعمال اللغة خصوصاً في القافية التي جاءت عفوية نابضة بكل معنى جميل، دالة على سعة في اللغة وكم هائل من الألفاظ اللغوية الموحية.
وأخيراً.. قلت: أستاذي الفاضل، من يقرأك في قصيدة (مي) إنما يقف على شاعرية متألقة جياشة المشاعر، فياضة الأحاسيس.. فكأني بك: مجنون ليلى الموله، فقصيدتك عن (مي): توله، وهيام، وإحساس متفجر من لغة مموسقة ناغمة حالمة.
ـ فقال: اعتبرها نزقاً أو طيش شباب، أو مجاراة لمن أولع بهذه الفاتنة، ولا تعطِ الموضوع أكثر مما يستحق من البحث والسؤال.
وفهمت أن أستاذي الفاضل قد أقفل باب البحث في شعره، وأن كل ما قاله من شعر في صباه وشبابه إنما يمثل مرحلة الشباب.
* * *
ـ وبعد مضي هذه الفترة الطويلة، أجدني أقرأ قصيدته: (مي) وكأنني لم أقرأها من قبل: وله، حب، هيام، شجن مموسق يشف عن شاعرية فذّة، لم يشأ صاحبها أن يفسح لها المجال لتأخذ نصيبها من البحث والنقد الأدبي الذي يليق بها.
وجاء اليوم الذي حفزني فيه أخي (الجفري) بالقيام بدراسة ميدانية لشاعرية ((محمد فدا)) رحمه الله رحمة الأبرار.. وليس لدي ما أضيفه أكثر مما قلت، فهي في تصوري قصيدة رائعة، فيها نبل المشاعر، وصدق الأحاسيس، ودفء المعنى المتجدد الذي يطرب النفس ويشجيها ألقاً، وتحسس قارئها بهالة كبيرة من المعاني والأحاسيس، حتى جاءت كلوحة فنية مؤطرة بألوان الأحاسيس والمشاعر، تمثل فيها صاحبها الوله والهيام بمحبوبته وفاتنته (مي) التي كان لها سمو التأثير عليه.
وأخيراً، وربما ليس آخر: أترك النصوص الشعرية المنشورة لحكم القارئ العزيز دون أن أفرض عليه رأيي.. فالقصيدة ـ أعني قصيدة (مي) ـ غنية بكل ثمين من اللغة والإحساس وجمال المعنى واجتلائه في ألفاظ معبرة عن لغة فصيحة مريحة تدل على سعة لغة الشاعر ولباقته في استعمال اللفظة الموحية التي تشف عن إحساس الوله والحب والغرام بانسيابية مترنمة واهجة راهجة، كأنها شلال عطر متدفق.
وإني لأربأ بقلمي ونقدي لهذا الشعر.. أن أقوم بتفكيكه وتشريحه حتى لا يفقد طلاوته وحلاوته.. فالشعر في تصوري: إحساس الشاعر يذكيه لوحة فنية من صبابة مشاعره ورصيد لغته، ويغلفه بسياج عواطفه الجياشة، فليس لأحد الحق في إذكاء وصايته على مشاعر الآخرين، فاللغة الشاعرة: قميصه وثوبه الذي يرتديه، ولكل شاعر أدواته ولغته وطريقة عرضه لمشاعره الخاصة التي يحسها ويتمثلها في وجدانه الراهف.
ومن منظوري هذا: أجدني أميل إلى إفضاء النقد الهادف البنّاء لأي عمل شعري بعيداً عن تفكيكه وتمزيقه إلى مجموعة ألفاظ.. فاللفظة في الشعر غيرها في النثر من حيث تأدية المعنى الذي يريده الشاعر ويعتمل في خلجاته، فهي بوحه ونفحه الصادر عن رضى الشاعر في مجتلياته وانسياباته الترنمية الحالمة.
ورحم الله أستاذنا الفاضل صاحب المواهب المتعددة، رحمة الأبرار، وأسكنه فسيح جناته مع الطيبين الأخيار.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :754  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 49 من 52
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

ترجمة حياة محمد حسن فقي

[السنوات الأولى: 1995]

البهاء زهير

[شاعر حجازي: 1995]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج