شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
محمد فدا يتحدث: إلى طلبة ((الثغر))
ـ يطالعنا وجه محفور في أعماقنا جميعاً، ماثل في خاطرنا لا يغيب.. يطالعك جهد عملاق وثمار دانية وانطلاق واعٍ وما الإنسان غير ذلك؟!
إن الكائن المحسوس له القيمة والقدر ما أنتج أو أفاد، وإلا فهو خواء لا قيمة له ولا معنى لوجوده، إذ لا قيمة له في ذاته، ومن هنا يبقى الأفراد ما بقيت أعمالهم وثمارهم جهودهم، وهو بقاء له صفة الخلود لأن الأعمال العظيمة الخالدة لا تفنى مع الجسد المحسوس بل تظل بعده حية نابضة تجسمه في الأذهان والعقول.
ونصغي اليوم إلى رجل من الطراز الفريد واراه التراب جسداً واحتضنه الخلود معنى ورسالة.. إنه المغفور له محمد عبد الصمد فدا.
ـ ومضات من النور على الدرب الطويل:
ـ كان الصوت العزيز ينبعث دائماً دافئاً بالإخلاص والحب يرسم مع نبراته الصادقة أبعاد الصورة الباسمة لمستقبل هذا الجيل وأصبحت كلماته معيناً للذين يسيرون على درب الكفاح.
ونحن هنا نقتطف بعضاً من كلماته:
ـ حياتي فداء لأبناء الثغر أقدمها ليعملوا وليضاعفوا جهدهم.. وأنا سعيد أن أقدم هذه الحياة لأني آمنت بهم وأمنت بوطنهم، وقبل كل هذا آمنت براعي الثغر وصانعه.
ـ أرجو أن يدرك أبناء هذا الوطن المقدس أن الدين سبيل لمعرفة الله والكون، وأن العلم ليس إلا سبيلاً إلى المعرفة بالبحث والتجربة فهما طريقان يصلان إلى نهاية واحدة.
ـ أرجو أن تهتموا بنوازع الخير وبالتعاطف فيما بينكم وبالتضحية في سبيل الوطن واعلموا أن هذه المدرسة ليست مجرد تدريس، إنما هي مصدر إشعاع.
ـ أريد شباباً عزيزاً في غير كبر، متواضعاً في غير ذل.. أريد لهذا الشباب أن يتمتع بشخصية قوية، فاعتمدوا على التفاني وعلى القراءة الحرة وعلى العلم تعشقوا الكتاب، وليجعل كل فرد منكم برنامجاً يقرأ فيه فبالقراءة تستطيعون أن تصلوا.
ـ أريد من الشباب أن يتفهم الأهداف الحقيقية من وراء تقيده بالنظام.. أريد أن تكون للحصة بصفة خاصة وللمدرسة بصفة عامة ما للمسجد من قداسة واحترام ليؤدي كل دوره على النحو اللائق.
ـ الثغر قبل الزوار:
ـ كانت الثغر في عهد الفدا تنعم بالإدارة الواعية الفذة والتي ظلل وعيها ويقظتها وفطنتها كل أركان هذا المعهد العظيم وكل مجالاته، فأصبحت قبلة الزوار يؤمونها فيجدون فيها وثبة عملاقة، واستقبلت العديد من كبار رجال العلم والفن والأدب والسياسة من الأمراء والرؤساء والوزراء وعلية القوم من مختلف الأجناس، وكان الجميع يبهرون أمام هذا المعلم الحضاري الكبير ويشدون على يد مديره.. وكان المليك/ راعي الثغر يقوم بزياراته فيرى وليده ينمو ويتقد حيوية ونضرة.
وفي مقدمة الزوار من خارج المملكة، استقبلت المدرسة: رئيس الجمهورية التونسية، ورئيس جمهورية الهند، ورئيس وزراء اليابان، ووزير المعارف الكويتي، وجنرال دي كيل أحد أعلام البرية الأمريكية.. بخلاف العديد من البعثات الثقافية والإعلامية والبرلمانية من فرنسا والسودان والجزائر وغيرها.
وننقل هنا فقرات مما قاله بعضهم عن الثغر إدارة وتدريساً:
ـ قال جلالة الملك فيصل رحمه الله: إنني لفخور بما أراه من تقدم مستمر ونجاح أرجو أن يكون مقدمة لما هو أهم وأعظم، شاكراً للإخوان القائمين على أمور هذه المؤسسة ما يبذلونه من جهودهم في هذا السبيل، سائلاً المولى القدير أن يوفقنا جميعاً لما نصبوا إليه في سبيل أمتنا ووطننا العزيز إنه على كل شيء قدير.
ـ قال فخامة نائب رئيس الجمهورية الهندية الدكتور/ ذاكر حسين عندما زار المدرسة في السابع والعشرين من المحرم:
ـ لقد تأثرت كثيراً لدى زيارتي لهذه المدرسة الممتازة والمجهزة بصورة جديدة للغاية.
إن العمل الذي يجري هنا ليبدو في مستوى عال، وأن هذه المدرسة بلا شك هي نموذج لمدارس أخرى كثيرة، وهذا راجع بالتأكيد للإدارة الرشيدة التي يقف على رأسها مدير واع واسع الفكر والثقافة.
إن من حظ الثقافة في هذا البلد أن يوجد على رأس الدولة ملك عظيم يشعر بأهمية الثقافة بالنسبة إلى شعبه.
ـ الفدا الفنان:
ـ كان الأستاذ/ محمد فدا رحمه الله يمتاز برقة متناهية في الحسن ورهافة في الشعور جعلته ذواقة من الطراز الأول لكل فن يسمو بالوجدان ويشذب الشعور وهو يعي بإدراك ما تفعله الصورة بالنفس وما يخلقه النغم في الوجدان وما تصيبه الفكرة في العقول، لذلك رأيناه متعهداً بعناية أكبر معرض فني وفق أحدث النظريات الفنية، وشهد بذلك العديد من المواطنين والأجانب الذين زاروا معهد الرسم بالثغر النموذجية وكذلك الذين تهافتوا على المعرض المتنقل الذي يحمله طلاب الثغر في انطلاقتهم عبر أوروبا في العطلة المدرسية.. كذلك اهتم الأستاذ الفدا بالموسيقى، وكان يحرص على أن يشب الطفل رقيق الحس مرهف الوجدان، وهذا دور الموسيقى.
ولم ينس الفدا المسرح بل أولاه عظيم اهتمامه ولم يبخل عليه بمادة أو نصيحة أو أي عون.. وكان رحمه الله يتعهد الرياضة والرياضيين والحركة الكشفية بالعناية الفائقة والاهتمام البالغ، ولم يغب الفدا عن طابور الصباح يزرع الأمل في نفوس الشباب أملاً يانعاً في الخير والحق والجمال، فلقد كان حريصاً على أن يحضر طابور الصباح يمتع نفسه وقلبه بالبراعم التي تتفتح على المجد والرقي منتهجة أفضل السبل وأحسنها.
ـ لكل مجتهد نصيب:
ـ لم ينس الفدا أن يدفع الأمل بالتشجيع في كل صوره وألوانه وهو يقف دائماً مع النابغين بالكلمة الحلوة والحنان الوافي والتقدير المجزي.
وكان يحرص ـ رحمه الله ـ على أن يشارك أبناءه سمرهم فيشعر الجميع أنهم في كنف أب رحيم واع كريم بعيداً عن جو العمل المتواصل الدائب.
ووفق أحدث النظم التربوية كان الفدا يحضر الدرس الذي يلقيه التلميذ بينما يجلس الأستاذ والمدير ينصتان إلى شرح التلميذ.. إنه يزرع الثقة في النفس والأمل في القلب والنشوة في الفكر.
ـ الفدا الإنسان:
ـ إن الفدا الإنسان كان في ذاته مؤسسة اجتماعية رحيمة، والذي يعرفه عن قرب يستشف مدى حدبه الواسع على كثيرين ممن لجأوا إليه يضعون أمامه مشاكل لهم عويصة ومتشعبة وينظر الرجل إلى بعيد وقلبه يصغي في انتباه حسي ولا يكاد المتكلم ينهي حديثه حتى ينطلق الصوت العزيز حانياً ويفتر عن ابتسامة حلوة، فإذا به يقترح له الحل السليم والذي غالباً ما يسهم هو فيه إسهاماً إيجابياً وبعد أن يطمئن إلى أن نفس محدثه قد اطمأنت إلى هذا الحل الحاسم فإذا به يدفعه إلى آفاق جديدة من الطموح والثقة والأمل.
كان الفدا شديداً.. شديداً إلى درجة التعصب، هكذا كان انطباع البعض الذين يفهمون من الأمور ظواهرها، والذين كانوا يعرفون حقيقة الرجل كانوا يبتسمون في رضا من هذا الثبات العجيب على الحق، وكانوا يعلمون أن شدته في الحق وهو في ذلك لا يعبأ ليظنه الناس ما أرادوا.. أذكر أن أستاذاً اضطر إلى مغادرة المملكة في مهمة دراسية بعد وصوله إلى المدرسة في بداية العام بما لا يتجاوز الشهر، وعرض أمره على إخوانه وموظفي المدرسة جميعاً فنصحوه بعدم الدخول إلى المدير لمثل هذا الطلب المرفوض دون أدنى شك أو تفكير، ويحار الأستاذ أن غياب أسبوع في سبيل تحصيل درجة علمية لا يخلق مشكلة يستعصي حلها.. ويجازف الأستاذ وبخطى مترددة وجلة يدخل إليه ولا يتكلم بل يعطيه الأوراق الخاصة بهذا الموضوع، ويظل يراقب انفعالات الرجل الصارم، وإذا به ينظر إليه صامتاً ويضع الورقة أمامه ثم يرفع سماعة التليفون وصاحبنا قد أخذ منه الاضطراب مأخذه، وإذا الفدا يطلب من المسؤول إنهاء جميع إجراءات السفر والعودة للأستاذ، ثم يصافحه ويتمنى له التوفيق ويرجو منه في دعة عندما يعود أن يعوض أبناءه ما قد يفوتهم من دروس، ويخرج الأستاذ وفي عينيه دمعة وفي قلبه نشوة.
وبعد.. فكثيرة تلك الصور التي تفصح عن إنسانية الفدا، جميعها نائمة معه الآن تنهض إلى جواره يوم الحساب نوراً ورحمة.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :445  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 16 من 52
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

محمد سعيد عبد المقصود خوجه

[صفحة في تاريخ الوطن: 2006]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج