شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
كلمة الناشر
بقلم: عبد المقصود محمد سعيد خوجه
مواكب النور تمضي في تألقها مزدانة بمكارم الأخلاق نحو مراقي السمو والجمال.. تشق طريقها نحو الخلود في ذاكرة الإنسان والأرض، ناثرة بذور الخير والنوار ممثلة في جيل من الأشبال الذين رضعوا حب العلم والأدب والثقافة من ينابيع عطاء لم ينضب معينها، بل اتسق مع كل جديد في حضارة القوم أو عبر الحدود، لتأتي الثمار محملة برحيق المجد التليد وشهد العصر النابض بالحياة.
نجد من بين حملة هذه النباريس من كرّسوا القيم النبيلة لخدمة أهدافهم الإنسانية الرائعة.. وجعلوا من مهنة التدريس التي تنطوي على كثير من الإيثار والقدوة والشهامة والنخوة سراجاً وهاجاً يمنح هامات الشباب رفعة وتطلعاً إلى غد مشرق مترع بالأمنيات الطيبات، وأهازيج الفرح الذي يغمر القلوب الصغيرة التي تطير فرحاً مع كل زخة علم تستوي في أفقهم العلمي، ومسارح صباهم العامرة بصباحات النعيم المقيم في ظل إطلالات فطاحل التنوير وحماة الفطرة السليمة وأصحاب الغراس المتجدد عاماً إثر عام حتى اشتدت سواعد كانت واهنة، وراشت أجنحة بدت مهيضة في أوائل زغبها.
إن الذاكرة لتموج بهؤلاء النفر الكرام من الأساتذة المربين الأفاضل الذين كان همهم تنشئة جيل وثقوا في أنه يجب أن يحمل الأمانة، ويؤدي الرسالة، وتشرئب إليه أعناق الأمة ليسطر على دفتر الأيام نماذج من البذل والتضحيات إسهاماً مقدراً في رفع راية الوطن خفاقة رغم اللأواء وشد الأحزمة في زمن البدايات الصعبة.
ومن بين تلك الثلة المباركة يطل علينا التربوي القدير الأستاذ محمد عبد الصمد فدا ((رحمه الله)) كأنموذج مميز لما ينبغي أن يكون عليه زارع الخير في بيادر الوطن، بشموخه ونظافة يده ولسانه ومظهره ومخبره.. لقد امتاز بذكاء حاد وقدرة على توظيف المواقف لتخدم المثل العليا التي يفخر بها.. وقد تفجرت طاقاته الإبداعية إبان توليه إدارة مدارس الثغر النموذجية بجدة، فجعلها ((جامعة مصغرة)) وليس مجرد مدارس لحشو أدمغة الطلاب بمناهج جامدة وأضابير مزجاة تحكي التخلف لغة وفكراً وأسلوب حياة.
إن الطاقة المهنية والديناميكية التي امتاز بها الأستاذ المربي الفاضل محمد فدا تعتبر نافذة إبداع قد لا تتكرر قريباً لأن موقد شمعتها كان يقدح زناد فكره مستعيناً بخبراته وقناعاته الذاتية بأن ما يخدم مستقبل الأمة ينبغي أن يراه رأي العين في (العجينة) التي يشكلها بين يديه وأعني فلذات الأكباد من الطلاب الذين يعدهم لا لمستقبل كل واحد منهم على حدة، بل لمستقبل وطن يحمله في حدقتي عينيه عطاء غير مجذوذ.. لقد كان رحمه الله شغوفاً بالريادة والتفرد في مجال تخصصه التربوي.. ولعلّه لا يخطر على بال كثيرين أنه أدخل تدريس الموسيقى ضمن المناهج الدراسية، واستقدم من مصر الأستاذ أحمد رمزي لتدريس العزف على البيانو!!
كان ((رحمه الله)) سباقاً لكل منجز يراه مهماً ونافعاً في ربط المدرسة وتوثيق صلتها بخدمة المجتمع، فكرّس أسبوعاً ثقافياً مفتوحاً على المجتمع زاخراً بالموسيقى والفنون، كما رعى بعض المعارض التشكيلية، ومن المبدعين الأوائل الذين شملهم برعايته البروفيسور عبد الحليم رضوي ((رحمه الله)) الذي تخرّج حديثاً آنذاك من أكاديمية الفنون في روما.
كما امتاز الأستاذ محمد فدا بطلاوة الحديث وسرعة البديهة، وقد شهدت له شخصياً مواقف تجلّت فيها مقدرته على تحويل دفة الحديث، فقد اتهم أحد المتحذلقين مدارس الثغر بالخروج عن المتعارف عليه من حيث الزي المدرسي، فأقحمه الأستاذ الجليل ((رحمه الله)) بلفت نظره إلى مجمل مكونات العملية التعليمية مستغرباً ألاّ يلفت نظره سوى الزي المدرسي متجاوزاً كل الإيجابيات الأخرى، ومن هنا مدخله لردع ذلك المتحذلق، وإلقاء الضوء على إنجازات مدارس الثغر النموذجية وسط جمع حاشد من كبار مسؤولي الدولة والزوّار.
ولم يقتصر قوس قزح إبداعاته على لون معين، بل كان الجانب الإنساني من صميم شواغله، فقد عرفت مدارس الثغر النموذجية في عهده بصرامة إجراءات القبول، وكان أحد المواطنين معنياً بإدخال ابنه تلك المدارس المميزة، أو التضحية بمستقبل الطالب وتركه لمواصلة تعليمه خارج المملكة في أحضان مدارس يديرها كتابيون في بلد عربي، وعندما عرض الأمر على المربي الفاضل الأستاذ محمد فدا ((رحمه الله)) ما كان منه إلاّ أن قال له: أنا أولى به.. وهكذا أتم إجراءات قبوله ونقل ملفه بمتابعة شخصية منه حتى اطمأن إلى استقراره الدراسي والاجتماعي في بيئة مدرسية تضاهي أفضل البيئات المعروفة في الشرق الأوسط.
ومن مواهبه المتعددة أيضاً براعته في الخطابة المنبرية، وقرض الشعر، وإن كان مقلاً في هذا وذاك نظراً إلى ارتباطاته العملية الكثيرة، واهتمامه غير العادي بالمدارس التي وهبها كل وقته، حتى إن عائلته كانت تقيم ضمن دائرة مدارس الثغر النموذجية، وتعتبر كل العائلة في حالة تضحية مستمرة واستنفار دائم لما فيه مصلحة المدارس.. وليس ذلك بغريب على عائلة آل فدا الذين يجري حب العلم والكتاب في عروقهم مجرى الدم.. لقد اشتهرت تلك العائلة بامتلاك وإدارة كثير من المكتبات التي كانت مزدهرة في باب السلام بالحرم المكي الشريف، ومنها على سبيل المثال ما أورده معالي فضيلة الأستاذ الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان في كتابه القيم (باب السلام في المسجد الحرام ودور مكتباته في النهضة العلمية والأدبية الحديثة) ومنها مكتبات المشايخ: حسن فدا، عبد الفتاح فدا، عبد رب النبي فدا، عبد الصمد بن محمد سعيد فدا، عبد الله بن عباس فدا، عثمان فدا، عبد الحفيظ فدا، عبد الشكور فدا، وعبد الهادي بن عبد الرزاق فدا.
لقد طوى الردى صفحة المربي الفاضل الأستاذ محمد فدا سريعاً (1343 ـ 1385هـ) فانسل من بيننا كعادة المبدعين والروّاد فجأة بعد أن ترك وسماً لا ينال منه الزمان، فقد كان غراسه في أرض الوطن شجراً لا يعرف الذبول، لقد غرس المعرفة وحب العلم في طلابه الذين أصبح لأكثرهم شأن كبير في تسيير دفة الحياة الثقافية والفكرية ودولاب الدولة، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يتغمده وأموات المسلمين بواسع رحماته، وأن يجعل حبل المودة موصولاً في عقبه، وأن ينفع المسلمين بما قدم، ويثقل به موازين حسناته.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :2151  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 2 من 52
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج