شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
فلسفة الصوم
رمضان
ما أروع هذا الرمز الدينى وما أسماه!
وما أهنأ به النفوس المسلمة المنيبة وما أجذلها!
أحقا اننا على أبواب رمضان؟ واننا بعد أيام قلائل سنصوم، وسنحمى أنفسنا شهوة الطعام والشراب؟ وسنزدلف إلى تلك القوة العلوية المهيمنة على الكون بطاعة ووفاء؟ وسيعضنا الجوع، ويحرقنا الظمأ فندّكر ونتعاطف، ونشفى من داء الجشع والحيازه، ونصفو من درن القسوة والايلام، ونطهر من رجس الدعارة والفسوق؟ أجل سيشارفنا رمضان بعد أيام، وسيغمرنا بفيض من قدسه وجلاله، وسيدخل في بطون وفي قلوب، فيجيع أناساً لا يلمسون من جوانبه الخطيرة الا أظهر جانب وأحقره فيمتنعون عن الطعام وعن الشراب سحابة نهارهم كما تمتنع الدابة عن العلف ساعات لا زهداً فيه، ولا عفافاً عنه، ولكن تحت تأثير من الرهبة أو التأميل أو الحرمان، وجوع هذه حقيقته لهو جوع دنئ متحفز يستجمع قوى الشهيّة ويستنهضها لتنقض على الطعام انقضاضا حيوانيا في السانحة الأولى.
هؤلاء الناس ليس لهم من الجوع الا قرصه وتعذيبه، والا خداع نفوسهم وتضليلها بباطل يتقمص ثوب الحق، فكما أن الصلاة ليست مجرد حركات آليّة، بل هي انصراف في خشوع عن الدنيا ومفاتنها وأسوائها إلى الله، والفناء في عالم الطهر والفضيلة والنور، وانطلاق الروح من سجنها الهيولىِّ الضيق إلى أجواء رحيبة منعشة تفتك بالجراثيم الخبيثة التى تلصقها المادة بالروح. كذلك الصوم ليس هو جوعا فحسب، وانما هو فطام النفس وزجرها عن حيوانيتها مدة من الزمن تقوى فيها الروح وتلطف وتهدأ فورة البدن وترتاض، فتنشأ عن تعادل القوتين وتزاوجهما حياة هنيئة سامية، وهو إلى ذلك حث بليغ مسموع لأولى السعة على اشباع ذوى المسغبة والاحسان اليهم، فمن عادة البشر أن لا يقدرون الا ما يحسون به، وما يستيقنون بمبلغ ضرورته، والجوعة الواحدة يشعر بوطأتها ولذعها الناعم الرفيه، خير ألف مرة من الوعظ والزجر القولى اذا كانت النفس مهيأة للاصلاح والتقويم، وكانت تنبض بشيء من الاحساس والتقوى، أما النفس الفظة الجاحدة ففى حيوانيتها ما يصرفها عن التفكير في حكمة الصوم الاجتماعية وما يوحى اليها بأن عقب الجوع امتلاء ووراء المواساة والرأفة فقراً وضعفا، فهي تجوع لان الصوم في ظنها جوع وصبر عن الطعام وقتا محدوداً، وهي تشح لانها تعتقد أن ليس عليها اغناء الناس وكفايتهم، أو بمعنى أدق، مواساتهم والعطف عليهم، وما تدري تلك النفس الغبية أن عملها هذا هو الفقر والضعف بعينهما.
لقد جعل الله الناس في هذه الحياة طبقات أغنى بعضها وأفقر البعض الآخر لينتفع بعضهم من بعض، ولينتظم العالم ويتدعم بسبب هذا التفاوت الحكيم الذي يحرك الخامل للمجد، ويبعث الفقير إلى الثراء، ويعطف الجهول للمعرفة والتنوير، ويخلق الشفقة في قلب الموسر على البائس المحروم، والصوم فريضة دينية ترمى إلى غرض اجتماعى نبيل، وهي تقف إلى جانب فريضة الزكاة فتتمم إحداهما الأخرى وتسندها وتعمل معها في تكوين مجتمع راق مؤتلف يعبر أصدق تعبير عن تغلغل الدين الاسلامى إلى أغوار حقائق الحياة وأصولها، واستخلاص تعاليمه الرشيدة الثابتة من بينها.
وللصوم فائدة أخرى تجيء في المرتبة الثانية بعد فائدته الاجتماعية الخطيرة، تلك هي فائدته الصحية، فمما لا ريب فيه طبياً أن المعدة تحتاج إلى الهدوء والراحة فترة من الزمن بعد جهادها الطويل أحد عشر شهراً حتى لا يصيبها الكسل والاعياء، وحتى تتحلل الرواسب الضارة الكامنة فيها بفعل حرارة المخمصة وضغطها، فالمعدة كجزء من أجزاء البدن يضنيها النصب والارهاق، وينشطها الجموم والتخفيف، وأنت تستطيع أن تضمن لبدنك أو لفكرك الانبعاث والقوة والصفاء اذا راوحتهما بين الكد والترفيه، ولكنك ستخفق أرذل الاخفاق اذا توهمت أنك تكسب وقتا أو تجنى منفعة من وراء نصبهما واعناتهما الشديدين، والمعدة من أحق أجزاء البدن بالاهتمام والرعاية، وبمجافاتها عن الاكتظاظ والنهم، والصوم لها ((إِجازة)) جميلة فيجب أن تتمتع خلالها بالعمل اللطيف المبهج الذي لا يسبب تخمة ولا ارتباكاً، وإلا فما هي ثمرة هذا الصوم الدسم الحاشد لألذ الأطعمة وأشهاها؟ المتلهف على انحسار النهار حتى لكأَنه في سجن كريه منه؟ إِن الصوم بلا استسلام ولا تقشف، ولا عفاف ولا رقة لهو الضياع والخسار بلا مراء.
والاسلام حينما اشترع الصوم رسم له حدوداً جلية لا يتخطاها الا أرعن أو مغفل لا يبالى بنتائج أخطائه، ولا يفقه ما هو منحدر اليه، فالتهافت على الطعام دفعة واحدة، ومفاجأة المعدَة به وهي تقوم بعملية التنظيف والانعاش لعبة جد خطيرة وجد مسمومة تخفى في طياتها أوخم المصائر. فحذار منها.
ان رمضان أنشودة شجية من أناشيد الدين الاسلامى، تعمر قلوب المسلمين المخبتين بالايمان والنبالة، وتوحى اليهم بالصبر والاخشيشان، وتطبعهم على التراحم والاخاء، وهذه هي ممزيات الرجولة الحقة، ومميزات الأمم الشاعرة السعيدة، وهي احدى حسنات الاسلام على البشرية الغامطة.
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :386  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 175 من 181
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج