شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

الرئيسية > كتاب الاثنينية > لقاء في عكاظ لندن > منصور الحازمي > محاضرة الدكتور منصور الحازمي
 
محاضرة الدكتور منصور الحازمي
الدكتور منصور الحازمي:
بسم الله الرحمن الرحيم.. الحمدلله والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين.
لقد أثلج صدري كثيراً هذا اللقاء بكم هذه الليلة والعودة إلى لندن بعد سنين طويلة لأحاضر لا في جامعة لندن التمخرّج فيها ولكن لأحاضر هنا عن الأدب في المملكة، وأشكر الزميل الصديق الشاعر الحبيب الدكتور غازي القصيبي على ترحيبه الجميل وكل هذه العاطفة الصادقة. وهذا الحب الدافئ حقاً وأود أن أشكره كما أشكر قبله صاحب السمو الملكي الأمير فيصل بن فهد الذي دعم هذه المبادرة من معالي سفير خادم الحرمين الشريفين، وقد أثار الدكتور غازي القصيبي ذكريات قديمة ولكنني لا أريد أن أضيع الوقت ولا سيما أنه يقول لي: إن وقتك محدود جداً، فلذلك وأنا كتبت في الواقع محاضرة كانت عن الحركة الأدبية في المملكة العربية السعودية، وتذكرت أن كتاباً كبيراً ضخماً من 800 صفحة تقريباً عن الحركة الأدبية في المملكة، ولو أردت أن أتحدث عن الحركة الأدبية في المملكة لاستغرق ذلك ساعات وساعات، فلذلك فقد غيرت العنوان الأصلي الذي اقترح علي ورأيت أن أتحدث لكم عن حركة التجديد في المملكة العربية السعودية فالأدب العربي الحديث الذي ينتج من بلادنا هو جزء لا يتجزأ من الأدب العربي الذي ينتج في البلدان العربية الأخرى يمتد في الزمان والمكان وتغص ساحته بالفرسان الأحياء منهم والأموات، أما الزمان فلا ينبغي أن يتأخر كثيراً عن بدايات الحرب العالمية الأولى أو بالأحرى الثورة العربية الكبرى سنة 1916، أما المكان وقد استهل بالحجاز فقد امتد أو تمدد بالمناطق الشاسعة كافة التي ضمتها الدولة السعودية فيما بعد وأطلقت عليها سنة 1932 المملكة العربية السعودية وتشمل إلى جانب الحجاز نجداً والأحساء وعسيراً والقطيف وتهامة مئات الشعراء أو عشرات الشعراء والكتّاب ومئات الكتب والدواوين من الصعب الإحاطة بها في جلسة أو محاضرة واحدة، وما دام غرضنا هنا لا يتجاوز التقديم أو التعريف فيحسن ألا نكتفي بمجرد سرد بل نحاول أن نقسم هذه الحركة الأدبية إلى ثلاث حركات ديناميكية كبرى تستهدف التغيير والتجديد. تقع الأولى في بداية هذا التاريخ باعتبارها حركة مضادة للجمود والسكون، وتقع الثانية في الوسط خلال الخمسينيات والستينيات باعتبارها حركة تستهدف التغيير في الشكل مع التركيز على المضمون، أما الحركة الثالثة فتمتد من السبعينيات حتى الوقت الراهن فهي حركة ذات شعبتين متضادتين: الأولى حركة الحداثة، والأخرى حركة الأسلمة أو الأدب الإسلامي. وليست هذه الحركات الثلاث أو الأربع بغريبة عن الحركات المماثلة لها في بقية الأقطار العربية ولكننا سنحاول أن نوضح هنا بعض العوامل التي أدت إلى وجودها من الداخل أو برزت بروزها محلياً إضافة إلى عامل الاحتكاك والمثاقفة على المستويين العربي والعالمي، وسنقف وقفة أطول عند من يمثلون هذه الحركات التجديدية ويدعون إليها لا على صعيد الإبداع بل على صعيد التنظيم والنقل. الحركة الأولى سميتها (الصحوة)، ليست بالمصطلح الجديد لكن الصحوة أو اليقظة أو النهضة أو الانبعاث، ولكنها طبعاً تسميات كلها تدل على البداية، صحوة النقد لأن أولى طلائع الأدب الحديث ظهرت في بلادنا بظهور كتابين صغيرين صدرا في منتصف العشرينيات من هذا القرن أي من أوائل العهد السعودي من الحجاز ولذلك مغزاه وأهميته، الأول بعنوان (أدب الحجاز) أو صفحة فكرية من أدب الناشئة الحجازية شعراً ونثراً جمع وترتيب محمد سرور الصبان سنة 1926 والآخر بعنوان (خواطر مصرحة) (لمحمد حسن عواد سنة 1927). الأول كما يدل عنوانه لا يعدو أن يكون مختارات من نماذج شعرية ونثرية لمجموعة من الأدباء الشبان في ذلك الوقت، منهم عبد الوهاب آشي ومحمد حسن عواد ومحمد سعيد العامودي ومعد الكتاب نفسه محمد سرور الصبان والثاني يحتوي على إضمامة من المقالات النقدية العنيفة تمثل باكورة إنتاج أديب ناشئ لم يبلغ العشرين بعد، هيئ له أن يكون رائداً كبيراً من روّاد نهضتنا الأدبية الحديثة فيما بعد، وميزة الكتابين أنهما يتحدثان بلسان عصري لأول مرة، حديثاً عاطفياً حماسياً مؤثراً عن الوطن والوطنية وعن أمجاد العروبة والإسلام، كما ينتقدان في الوقت نفسه الأوضاع القائمة ويدعوان إلى نهضة شاملة. ومن الواضح تأثير أولئك الكتّاب الشبان من الناحيتين الفكرية والأسلوبية بأشقائهم من الأدباء العرب ولا سيما السوريين وأدباء المهجر. يقول محمد صبحي من قصيدة له بعنوان (ليس في الأرض للضعيف حقوق) هذا ما كان يقوله في العشرينيات معارضاً فيها بدوي الجبل شاعر العلويين (لا تلمه إذا أحب الشتائم). يقول:
ما أخف الشكوى وأحلى الملاما
لو يكونان يطفئان القواما
ما أحب العتاب لو كان ينجي
من هموم ويبرئ الأسقاما
ما أعز الرجاء لو رد حقاً
والتمني لو حقق الأحلاما
ذهب اليوم كل حق إذا لم
يصطحب ذابلاً ويشحذ حساما
ليس في الأرض للضعيف حقوق
إنما الحق للقوي السلاما
هذا الكلام قلناه في تلك الفترة وما زالت المشكلة قائمة ويذهب الكثير من الباحثين إلى أن تلك الكوكبة من الشباب هم نتاج الثورة العربية الكبرى سنة 1916 بما أحدثته في نفوسهم من حماسة وأمل وتطلع. لكن الحسين قائد تلك الثورة كان، كما يقول عبد الله عبد الجبار، يحب الوعي ويخشاه في آن، يحبه على النحو الذي يسير مع أهدافه ولا يحبه إذا تجاوز هذه الأهداف. لذلك لم يتح لمعظم أولئك الشبان أن يعبروا عن أنفسهم في صحافة العهد الهاشمي ولا سيما (القبلة) الناطقة الرسمية باسم الثورة، ولم يفعلوا ذلك إلا في أوائل العهد السعودي. يقول محمد سعيد عبد المقصود وهو من روّاد الصحافة والأدب في بلادنا ((لم يستدبر الحجاز عصر حسين ويستقبل العصر الحاضر إلا وكانت قلوب الشبيبة المتأدبة تتأجج ناراً يندلع لهيبها ويؤج أوارها فكانت تظهر أفكارها كلما سنحت لها الفرصة ذلك)).
وأول ما ظهر في كتاب (أدب الحجاز) والمعرض وبصورة أوسع على صفحات جريدة (صوت الحجاز).
ومهما يكن من أمر فإن الحقيقة التي لا مراء فيها أن بداية العهد السعودي في الحجاز سنة 1924هي البداية الحقيقية للأدب الحديث في بلادنا ذلك لأن الظاهرة الأدبية لا يمكن أن تقاس بالسنوات، بل لا بد من أن تكون مصاحبة لظواهر أخرى في حياة الأمة مادية ومعنوية. ولم يكن إعلان الدستور العثماني سنة 1908 ولا الثورة العربية سنة 1916 ضد الأتراك مما يهم المواطنين البسطاء في مدن الحجاز وبواديها وقد آذهم الفقر والجهل والمرض قروناً طويلة. ولا يمكن للأدب أن ينشأ من فراغ أو يقتات على شعارات براقة وأفكار مجردة.
أما دعوة الملك عبد العزيز رحمه الله فقد كانت نابعة من ضمير الأمة ووجدانها من العودة إلى الدين الحق وتحرير العقل من الأسطورة والخرافة وبناء الشخصية العربية على أسس ثابتة من المبادئ الإسلامية العظيمة التي تؤمن بالعلم والعمل وتدعو إلى الحرية والعدالة.
والحقيقة أن العهد السعودي الحديث قد بدأ في نجد مع إطلالة هذا القرن قبل الدستور العثماني وقبل الثورة العربية ولم يكن الحجاز سوى حلقة من حلقات العمل الوحدوي الذي أنجزه عبد العزيز على مدى ربع قرن أو يزيد من الجهاد والكفاح وفي موجات متتالية، وبالرغم من الإمكانيات الضئيلة للدولة وضيق مواردها الاقتصادية في ذلك الوقت، فإن عبد العزيز قد قام بالكثير من أوجه الإصلاحات المهمة وفي مقدمتها توطين البدو، وتوطيد الأمن، وتنمية الموارد، ونشر التعليم، والانفتاح على العالم الخارجي.
أما الصحافة وهي وعاء الأدب والعاملة على نموه وانتشاره فلم تشهد البلاد في أي فترة سابقة ما شهدته في عهد الملك عبد العزيز من نمو وازدهار في هذا الحقل الإعلامي المهم. فقد ظهرت في المدة الممتدة من سنة 1924 حتى وفاة الملك عبد العزيز سنة 1953 الكثير من الصحف والمجلات التي كان لها الفضل الأكبر في انتعاش الأدب ونهضته خلال تلك الحقبة، ومنها صحيفة أم القرى وصحيفة صوت الحجاز وصحيفة المدينة المنورة وصحيفة البلاد السعودية.
فإذا ما رجعنا إلى أولئك الأدباء الشبان الذين ظهروا بظهور عبد العزيز في الحجاز واتخذوا من محمد حسن عواد ممثلاً لهم ومجسداً لطموحات التجديد والتغيير التي كانت تنبض بها تلك الحقبة، وجدناه أعلاهم صوتاً وأشدهم عنفاً وأكثرهم اقتحاماً وجرأة. عاش العواد مدة طويلة شهد خلالها الكثير من أحلامه الشخصية والوطنية التي تحققت. وعاصر التغيرات والأحداث الكبرى التي مرت بها المملكة والعالم العربي وأنتج خلالها الكثير من الدواوين والكتب واشتبك مع العديد من الكتّاب والشعراء في معارك شعرية وأدبية طاحنة، ولكنه ظل حتى وفاته سنة 1980 شبابي الروح منفتحاً على الجديد والطريف متفائلاً بالتحديث والحضارة المعاصرة.
ومع أننا لن تستطيع هنا أن نتتبع حياة العواد في مسيرته الطويلة شاعراً وكاتباً وناقداً، فلا بد، والحديث في هذه الورقة مقتصر على التجديد والمجددين، من أن نحاول أن نكتشف ذلك الجديد الذي أتى به العوّاد ولم يكن معروفاً في بيئة محلية أو ذلك الذي كان معروفاً بين خاصة المثقفين ولكن لم يعلن على الملأ. وأول ما نلاحظه هنا أن العواد قد قام في ذلك الكتيب الصغير (خواطر مصرحة) بدور العقاد في (الديوان) أو دور نعيمة في (الغربال) من حيث استهداف الهدم والبناء، هدم الفاسد المختل من الأدب والفكر القديم وإحلال الجديد العصري محله، وليس من المستغرب أن تصدر هذه الكتب الثلاثة على الرغم من تباعد البيئات وتباين المحيط في سنوات متقاربة. إذ صدر الجزء الثاني من (الديوان) سنة 1921 وصدر (الغربال) سنة 1923 وصدر (خواطر مصرحة) سنة 1927. ويبدو أن هناك ما يشبه الحساسية الجديدة على حد قول الحداثيين في عصرهم، أو القرابة الفكرية على حد قول العقاد في مقدمة (الغربال) بين جيل الشباب في تلك الحقبة. ولكن إذا كان العقاد قد عرف الغربال وأشاد به لأن أفكاره مطابقة تماماً لأفكار جماعة الديوان لأنه لم يعرف للأسف شيئاً عن (خواطر مصرحة) ولا عن صاحبه الذي كان طوال حياته تلميذاً عقّادياً مخلصاً حتى في هجومه على شوقي رحمه الله.
على أن الظروف التاريخية المختلفة التي ظهر فيها العواد بخواطره المصرحة قد حتمت أن يكون كتابه محلياً خالصاً على الرغم من الوشائج الفكرية والنقدية التي تربطه بكل من العقاد ونعيمة. وهذا ما تنبه له الدكتور علي جواد حيث يقول: ((ربما كان العقاد قدوة أمامه)) أي أمام العواد ((دون تنبه إلى الفارق أو الفوارق الأخرى وهنا قد يشعر بالغبط)) هذا ما يقوله الدكتور علي جواد.
ومن أهم هذه الفوارق فيما أرى أن العقاد كان يكتب في مجتمع ليبرالي متحرك إلى حد ما، بينما كان العواد يكتب في مجتمع مغلق ساكن لم يتخلص بعد من آثار عصور الضعف والانتظار، لذا فقد كانت مهمة العواد مهمة مزدوجة، مهمة المصلح الاجتماعي من جهة ومهمة الناقد الأدبي من جهة أخرى. وربما تغلبت المهمة الأولى على الثانية لأنها الأساس لأي دعوة للتغيير والتطور لقد كان أهم ما يشغل بال العواد كما يشغل الآخرين من الرواد الأوائل ذلك التخلف المذري الذي عاشته بلادنا في جميع مرافق الحياة قروناً طويلة تحت الحكم التركي. وكان لا بد للأدب من رسالة محددة تجاه المجتمع هي رسالة التعليم والإصلاح والتوعية، كما كانت الحال عند الطهطاوي ومبارك في نصف القرن التاسع عشر. ومن يرجع إلى صحافتنا بين الحربين يجد أن أدباءنا قد قاموا بهذه المهمة خير قيام. وكانت الافتتاحيات الاجتماعية الإصلاحية تزاحم الافتتاحيات السياسية بل تطغى عليها، وفي كتاب (خواطر مصرحة) نماذج مبكرة لذلك الإحساس برسالة الأديب أو لذلك الوعي. فقد تحدث عن تفكك الأمة وفقرها وضرورة توحدها وبحثها عن موارد اقتصادية ثابتة غير مورد الحج. وتحدث عن جهل المرأة وعدم فعاليتها في المجتمع ودعا إلى تعليمها وتحطيم القيود المكبلة. وتوجه إلى الشباب معنفاً وناعياً ليونته وسلبيته. وتحدث عن ضرورة تعلم اللغات الأجنبية لإقامة علاقات مفيدة مع البلاد والشعوب المتقدمة. وهاجم الزواج الإجباري ومضاره، كما هاجم علماء الدين وجمودهم. وهكذا لم يبق من (خواطر مصرحة) سوى مساحة صغيرة خصصها العواد للأدب والنقد. وفي هذا الجزء أيضاً سنجد أن كثيراً من مسائل الإبداع غالباً ما تختلط بمسائل الحرية وهموم الوطن. وحيث إن البلاد كانت تخلو في ذلك العهد من شعراء إحيائيين من أمثال حافظ وشوقي أو من أدباء محافظين تقليديين من أمثال الرافعي والمنفلوطي وهما اللذان هاجمهما العقاد والمازني في الديوان. فقد اكتفى العواد بمهاجمة بعض الفلول المتبقية من شعراء العهد العثماني من أمثال عبد المجيد براده وعبد الواحد الأشرم، وكلاهما توفي منذ أمد بعيد وبقيت أشعارهما فيما يبدو في ذاكرة العواد أو في المحفوظات المدرسية. وفي مقالة خطابية بعنوان (البلاغة العربية) يذكر العواد أنه قد بحث عن سر البلاغة وكنهها فلم يجدها لا في جوانب الأدب ولا في مولد البرزجي ولا في البردة والهمزية ولا في كتب الأشياء ولا في المقامات والمعلقات، ولكن كما يقول: ((وجدتها رعداً يقصف من نبرات القرآن فوقفت خاشعاً أمام معبدها، وجدتها ألقاً يلمع في مقالات بعض كتّاب سورية فهززت يدي وصافحتها، وجدتها ورداً ذابلاً في مقالات بعض كتّاب مصر فهتفت لها مبتسماً، وجدتها في شوقيات المتنبي ينبوعاً يحاول الانفجار فلا يستطيع، وجدتها في نظرات المنفلوطي عروساً تزف ولكن بلا طبول، وجدتها في الريحانيات موجة تصعد، وجدتها في كثير من شعر وكتابة مسيحيي لبنان تثبت قيادتها، ثم وجدتها في مترجمات فولتير وموليير وشكسبير وفايرون وغوته فقلت واهاً لمجد شعراء العرب)).
من الواضح أن العواد في هذه القطعة وفي سائر القطع الأخرى التي احتواها كتابه (خواطر مصرحة) كان يعالج موضوعاً بطريقة شعرية منفعلة فيها الكثير من الخطابية والعنف والسخرية. وقد اعترف العواد فيما بعد بأنه إنما عمد إلى ذلك الأسلوب لأنه الأسلوب الناجح فيما يرى لتبليغ رسالة الأديب المجدد.
وعلى الرغم من كل هذه الخطورة التي يؤكدها الباحثون لكتاب العواد فإن أحداً من الأدباء التقليديين في ذلك الزمان من أمثال الغزاوي وفؤاد شاكر وابن بليهد لم يشتبك معه في حوار أو جدل ولم يثر حوله ما يثري تلك المعارك الطاحنة التي أثارها في مصر كتاب (الديوان). وكل ما رأيناه في الرد عليه سلسلة من المقالات كتبها يوسف يس الذي كان رئيس تحرير جريدة أم القرى، ونشرها في صحيفة أم القرى تحت توقيع مستعار عقب صدور الكتاب مباشرة سنة 1927. ويبدو أن حساسية الموضوع من الناحية الاجتماعية لم تشجع على فتح الباب واسعاً للحوار أو المناظرة.
نشر العواد الجزء الثاني من كتابه (خواطر مصرحة) سنة 1961 أي بعد مرور أكثر من ثلاثين عاماً على صدور الجزء الأول. وكان معظم مقالاته قد نشر في الصحافة المحلية خلال الخمسينيات من هذا القرن فلم يثر ضجة ولم ينتبه إليه أحد، وذلك فيما يبدو لتطور الوعي وكثرة الأدباء والمثقفين وانتشار الصحف وبداية ظهور الجامعات. ولأن العواد في هذا الجزء لم يثر قضية، ولم يحرك ساكناً وقد نضجت تجربته وتخلى عن اندفاعه العاطفي القديم، وكذلك يمكن القول في كتبه الأخرى مثل (تأملات في الأدب والحياة) و (من وحي الحياة العامة). لكن العواد في جميع مقدمات دواوينه وكتبه شديد الاعتزاز بنفسه حريص على التوقف قليلاً أو كثيراً لتأكيد الدور الريادي الذي قام به منفرداً أو متضامناً مع رفاقه الآخرين في إنضاج الوعي والترويج للأدب الجديد، ويطول بنا المقام لو أردنا تتبع آراء العواد وأمجاده الصحيحة أو الزائغة ولكننا سنتوقف قليلاً عند الفصل الذي خصصته السيدة (آمنة العقاد) المحاضرة بجامعة الملك سعود لمناقشة آراء العواد النقدية وذلك في كتابها القيّم (محمد حسن عواد شاعراً) آمنة في الواقع قسمت آراء العواد إلى قسمين: نظري وتطبيقي. وتحدثت عن الآراء النظرية وبينت تأثر محمد حسن عواد في تعريفه للشعر الوجداني بأنه تعريف مأخوذ من جبران، ومن ارتباط الشعر بالفكر بالعقاد وفكتور هوجو. وهكذا نرى أن العواد يمثل في أدبنا السعودي الحديث ظاهرة فريدة حقاً، بل ظاهرة لم تتكرر حتى وقتنا الحاضر. ذلك لأن شعوره بالريادة والأستاذية والأبوة والتميز قد جعلته في جميع مراحل حياته في طليعة المجددين أو بالأحرى في طليعة المتحمسين للجديد. وقد عرف العواد بتبنيه للمواهب الشابة ولا سيما لمن أسماهم بالجنس العطوف أي الجنس الناعم. وتحمس للقصيدة الحداثية الجديدة التي ظهرت في بلادنا ابتداء من السبعينيات في وقت كانت فيه تلك القصيدة غريبة الوجه واليد واللسان كما يقول المتنبي، ولم تجد من يعترف بها أو يجيرها سوى القلة القليلة التي كان على رأسها العواد. لذا فقد بكى الحداثيون أباهم الروحي حين وفاته بكاءً مراً واعتبروه رائدهم الحقيقي بالرغم من فروق السن واختلاف قصيدته وما ينبغي أن يكون من صراع هيِّن.
فالعواد كان يمثل في الحقيقة جيل التأسيس الذي امتد من منتصف العشرينيات إلى منتصف الخمسينيات على وجه التقريب وفي تلك الحقبة كانت حركة الإبداع والكتابة تمتلئ بالأصوات من جميع الألوان والاتجاهات، فهناك صوت التراث الذي يقف على الأطلال ويسائل الديار ويتغَنى بالأمجاد والبطولات ولا سيما أمجاد صقر الجزيرة وبطولاته. ويمثل هذا الصوت محمد بن عثيمين ومحمد بن بليهد وإبراهيم الغزاوي وفؤاد شاكر وغيرهم. وهناك الصوت الحماسي الذي يتأجج بالوطنية والعروبة عند معظم الشعراء السعوديين، وهناك الصوت الحزين الخافت المفعم بآلام الوحدة والضياع من أمثال الشعراء الزمخشري والفلالي ومحمد الفهد العيسى، وفي فترة متأخرة حسن قرشي باعتباره أصغرهم سناً. وفي مجال القصة القصيرة والرواية كانت هناك محاولات عبد القدوس الأنصاري ومحمد علي مغربي وأحمد السباعي وآخرين.
كانت مرحلة التأسيس تلك أو الصحوة، على قصرها، مزيجاً من كل المراحل التي مرت بها مصر بالطهطاوي والبارودي وانتهاء بالعقاد وأبي شادي وطه حسين.
كانت مرحلة التنوير والتعليم والأحياء والوطنية والرومانسية، مع الاحتفاظ بكل محدوديات وتحفظات وإمكانيات البيئة المحلية. وقد رفع العواد معظم تلك الألوية ولكنه كان الداعية الأكبر لمدرسة الديوان ثم لمدرسة أبولو. وكان أول من أدخل (المثيلوجيا) إلى الشعر السعودي ولو بطريقة بدائية، أما الحداثة بمفهومها المعاصر، فلم يصل إليها العواد على الرغم من تحمسه وترحيبه بكل ذلك.
كان هذا في المرحلة الأولى، وفي سنة 1956 أصدر إبراهيم هاشم فيلالي، وهو شاعر مثل عواد يعني يجمع بين الشعر والنقد، كتاباً مهماً سماه (المرصاد). ويبدو أن هذا الاسم ((المرصاد)) يوحي بنوع من الدقة والصرامة. وهذا القاضي الذي يريد أن يرصد. حسن قرشي كانت له معركة مع المرحوم هاشم فيلالي لأنه في (المرصاد) لم يكن موضوعياً، أي أن كتاب (المرصاد) مثل كتاب (خواطر مصرحة) في إثارة هذه الزوابع وهذا الضجيج حول الكتاب. ولكن مع الأسف أن الفيلالي لم تكن المادة مهيأة له لأنه كان يعيش في مصر واكتفى بنقد قصائد نشرتها جريدة البلاد السعودية في عددها الممتاز سنة 1946 ثم على كتاب الساسي (الأدب الحديث في الحجاز) وكان رجلاً منفعلاً يقول إنه يحب الشعر الواضح ويحب هذه الجوانب. ثم أخرج في الواقع شعراء مهمين مثل المرحوم أحمد قنديل. وردَّ عليه عبد الله عبد الجبار وقال: ((إن الفيلالي في الواقع مشكلته أنه لا يستسيغ إلا هذا الشعر الذي يصل إلى ذهنه مباشرة والقنديل كان شعره يختلف ويحتاج إلى غوص لكي تستطيع أن تصل إلى المضمون ومع أن ((مرصاد)) الفيلالي لم يأت بمذهب جديد، كانت طموحات أكثر من إمكانية المتحقق، إلا أن ظهوره في تلك الفترة المحتدمة بالمعارك الكلامية قد أحدث فيما يبدو صدى واسعاً بين الأدباء والمثقفين فكتبوا عنه وناقشوا آراءه ودهشوا لجرأته، ويقول الفيلالي مفتخراً إن مرصاده قد أحدث كما يقول ((فرقعة)) صعق منها الذين وهنت أعصابهم حتى أصبحت لا تطيق كلمة الحق والصدق، لكن الذي أحدث فرقعة حقيقية ليس كتاب الفيلالي بل الأحداث العنيفة التي مرت بها مصر والبلدان العربية ابتداء من الثورة المصرية سنة 1952 وحتى نكبة حزيران سنة 1967 فقد تحول الأدب منذ تلك الفترة من أبراج الأدباء والمفكرين والشعراء الحالمين إلى ميادين الثوار والغاضبين وصخب الجماهير، وهذا ما سيقودنا بطبيعة الحال إلى مرحلة جديدة وأدب جديد ((الأيديولوجي)).
لن أقرأ كل ما كتبته ولكنني سأكتفي بملخص بسيط أقول فيه: لا أعتقد أن ((الأيديولوجيا)) بمفهومها الفلسفي النظري سواء في مجال الفكر القومي أو الفكر الاشتراكي. قد كان له تأثير فعّال في فكر الأدباء السعوديين أو في فنهم الإبداعي طوال الخمسينيات والستينيات أو في أي وقت آخر. ومع ذلك فلا يكاد يخلو كتاب يؤرخ للحركة الأدبية في المملكة العربية السعودية إلا ويفرد فصلاً طويلاً للاتجاه الواقعي يتحدث فيه عن مفهوم الواقعية وعن ممثليها من الشعراء والأدباء السعوديين. لكن الواقعية لا تعني بالضرورة اتجاهاً أيديولوجياً معيناً بل تعني كذلك الخروج من الذات عن الذات والاهتمام بالآخر والتخلص من اللغة المنمقة المترفعة إلى اللغة المعبرة عن أحاسيس الجماهير. على أن الأدباء السعوديين لم يكونوا في يوم من الأيام يعيشون في صوامع مغلقة ومنقطعة عن العالم، بل إن الكثيرين منهم كانوا يقيمون طلاباً أو سواحاً في مصر الثورة وفي ذروة المد القومي والتحول الاشتراكي، وكانوا يقرأون الكثير من ذلك الأدب الجديد والفكر الوافد، سواء في داخل بلادهم أو خارجها ولا بد من أنهم قد تأثروا بحكم القراءة والسماع والاحتكاك بتلك التيارات الجديدة وانعكس ما قرأوه على أدبهم وتفكيرهم ويمكن أن نعتبر الأستاذ عبد الله عبد الجبار مثالاً بارزاً على ذلك التأثر والاحتكاك. فقد أقام في مصر طوال الخمسينيات وأوائل الستينيات وأصدر كتابه (التيارات الأدبية الحديثة في قلب الجزيرة العربية) سنة 1959. وكان قد ألقاه محاضرات على الطلاب مع الدراسة العربية العالية التابعة لجامعة الدول العربية, وهو أول كتاب يؤرخ للحركة الأدبية في بلادنا تأريخاً علمياً موثقاً، كما أنه أول كتاب تظهر فيه آثار الأدلجة واضحة جلية. يقول في نهاية الكتاب: ((إذا كان أحد الكتاب يرى أن الزمان هو البعد الرابع للكون فإني أرى أن الثورية بهذا المعنى المتقدم هي البعد الخامس للأدب في عصر القومية العربية)).
سمعت مقابلة للدكتور غازي القصيبي يقول: ((إنه في تلك الفترة كان معجباً بالطلاب الناصريين)) وأنا أعتقد أن هذا شيء طبيعي، فلذلك عبد الله عبد الجبار كان لا شك متحمساً للثورة وللشعارات ومع الأسف أن كتابه لم يحقق طموحاته الواقعية الحقيقية، ليست الواقعية الأيديولوجية الشيوعية التي ترى في المضمون كل شيء ولكنها لا تأبه كثيراً للجانب الفني. عبد الله عبد الجبار مع الأسف تورط في حشد كتابه حتى بقصائد ليست صحيحة ضعيفة، يعني أدخل في كتابه قصيدة لشاعر عامي كان المبرر الوحيد لوضعه في الكتاب أنه يتحدث عن الاستعمار والكفاح يقول هذا من القصيدة:
((إلى حضرة سمو الشيخ ديفيز وآله وكل التابعين
نذكركم بأن لنا حقوقاً ولو كنتم لها مستنكرين))
وهي قصيدة ضعيفة جداً، ثم إنه أدخل كثيراً من قصائد لشعراء طلاب كانوا في مصر، ويمكن بعضهم ما كتب إلا قصيدة واحدة. فلذلك أنا أعتقد التحمس لهذا التيار لم يكن تحمساً له ما يبرره، لكن هذا التيار كان هو الغالب على الأدب في المملكة في تلك الفترة.
أما قضية الكفاح والجهاد فهذا سعد البوادي يُسأل في كتاب ((الأدب السعودي)) ويقول: ((استطاع الأدب السعودي أن يأخذ له شكلاً ـ كَوْرَوِيَّا ـ معبراً يتجاوب مع الصراع ومع الأحداث التي يعيشها العالم اليوم وليس أدل على هذا من السيل المتدفق من الإنتاج الجديد الذي يتحدث عن القومية وعن الاستعمار وعن الحديد والنار وعما يمتزج بمقدرات الإنسان وحياته)).
ونتبين مما قدمنا أن المعجم السائد في أدبيات تلك الفترة وحتى نكسة سنة 1967، كان هو المعجم الذي رأيت بعض نماذجه عند عبد الجبار وابن إدريس والبوادي وعند الكثيرين غيرهم. وكان لا بد من أن يتغير هذا المعجم بعد النكسة وأن يستبدل بمعجم آخر كما تغيرت أشياء كثيرة لا في بلادنا فحسب بل في بقية البلدان العربية.
ننتقل الآن إلى الحركة الثالثة وهي الحداثة فأقول: لقد أصبنا في أواخر الستينيات أو أوائل السبعينيات بعدوى الحداثة. وأنا أرجو الجماعة الحداثيين في القاعة ألا يغضبوا (ضحك) لقد أصبنا بعدوى الحداثة التي عمت العالم العربي من المحيط إلى الخليج، وكانت رياحها قد هبت عاصفة مدوية في أوروبا وأمريكا منذ أمد طويل، ولن نبحث هنا في تعريف الحداثة أو في تعريف هويتها وماهيتها فليس هناك في الواقع تعريف علمي متفق عليه، بالرغم مما كتب عنها من مؤلفات وبحوث ومقالات. ولكن هناك ما يشبه الاتفاق على أن الحداثة مصطلح غربي قديم فضفاض يقع في تاريخ أوروبا وأمريكا ما بين سنتي 1890 وسنة 1930، ويشمل الحركات والاتجاهات الفنية والأدبية كافة التي ظهرت خلال تلك الفترة ومنها الرمزية والاتباعية والتعبيرية والتكعيبية والمستقبلية والسريالية وغيرها. وهي اتجاهات ونزعات متضاربة ومتناقضة أحياناً، لكنها جميعها تنضوي تحت لواء الحداثة في رؤيتها المتشائمة للحضارة والتراث والإنسان وفي ميلها إلى التجريد وثورتها على الواقعية العقلانية وجميع الأشكال والقواعد الفنية المتوارثة.
أما عن الأسباب التي أدت إلى ظهور الحداثة في أوروبا على تلك الصورة العنيفة المدمرة فإن معظم الباحثين يتفقون على أنها كانت ردة الفعل الطبيعي لما حدث في أوروبا من اكتشافات علمية ومتغيرات اجتماعية وسياسية واقتصادية في أواخر القرن الماضي وأوائل هذا القرن.
يقول ((براد بودي وماكفرلين)) في كتابهما (الحداثة) ((إن الحداثة كانت الفن الوحيد الذي استجاب لما حل بأوروبا من اغتراب شامل وكانت نتيجة لانعدام اليقين والتحديد المطلق، إنه الفن الوحيد الذي يصلح لانهيار العقل ولما أصاب المدنية من دمار إبان الحرب العالمية الأولى، الفن الوحيد الذي يلائم هذا العالم الذي غيره وفسره تفسيراً جديداً كل من دارون وماركس وفرويد، إنه فن الرأسمالية والتصنيع المتصل المتزايد في السرعة. وهو فن تعرض الوجود للامعقول ولانعدام المعنى وأدب التكنولوجيا. الفن الذي جاء بعد القضاء على الحقائق العامة المشتركة وعلى أفكار تقليدية عن العِلية وبعد اندثار الآراء المتوارثة عن وحدة الشخصية الفردية وبعد ظهور الفوضى التي حلت إثر تكذيب المفاهيم العامة للغة وإثر تحول الحقائق الموضوعية جميعاً إلى مجرد تخيلات شخصية، إنه فن تحديث أدبي.
كيف إذن انتقلت حداثة أوروبا وأمريكا (وهي حداثة قديمة كما رأينا)، إلى مصر وإلى غيرها من المراكز الثقافية المتقدمة؟ في العالم العربي في أوائل الستينيات أو في أواخرها؟ ليس مهماً إنما المهم أنها ظهرت بعد فترة طويلة من ظهورها في مواطنها الأصلية. فكيف حدث ذلك؟ إن الذين لا يرون في الحركة الفنية والأدبية التي تنبثق فجأة في العالم العربي ثم لا تلبث أن تختفي دون أسباب أو مقدمات، يدخلون الحداثة ضمن هذا المفهوم العام أي إنها لا تختلف عن بقية المذاهب والنزعات الأخرى التي اقتبسناها فيما اقتبسنا من أوروبا كالرومانسية والواقعية والطبيعية، مجرد تقليد، أو إن شئنا التخفيف من هذه الكلمة، قلنا تأثراً ومثاقفة. وإلا فأين الأسباب التي يمكن أن تؤدي إلى الحداثة في الواقع العربي، أين انعدام اليقين؟ وأين العقلانية التي نريد الثورة عليها؟ بل أين التصنيع؟ وأين المكتشفات العلمية؟ وأين التكنولوجيا؟ والعرب منذ قرنين من الزمان لا يزالون يحاولون جاهدين الحصول على العقل والتصنيع والتكنولوجيا، لا الثورة عليها، يقول الدكتور زكي نجيب محمود: ((إن كثيراً من المذاهب الفلسفية والأدبية في أوروبا كالوجودية والتكذيبية والسريالية والعبث واللامعقول، قد انتقل إلينا نحن رجال الفكر والأدب، والفن في البلاد العربية فشاركنا فيه مشاركة من وجد فيه تعبيراً عن حالته، لكنه كذلك مشاركة من أعوزته قوة الابتكار والإبداع)).
أما الذين يؤمنون بهذه الحداثة وينافحون عنها فهم لا يعدمون، في الوضع العربي المتردي منذ الستينيات، المبررات والمسوغات. طبعاً نكسة سنة 67 دائماً يشار إليها أنها هي البداية، لذلك الجيل. هذا ما يقولون عن أنفسهم. إنهم جيل سنة 68 وإنهم جيل بلا أساتذة، وإن جميع النظام القديم أثبت فشله. فلذلك لا بد من أن يثوروا عليه. هذا ما حدث بالنسبة إلى البلاد العربية، فإذا ما تساءلنا بعد ذلك عن هذه الحداثة وهي مظهر من مظاهر الرفض والاغتراب والهزيمة، كيف انتقلت إلى المملكة؟ ولماذا؟ وكيف نوفق بين اليقين وعدم اليقين؟ بين العقل الظاهر واللاعقل؟ بين المنطق والعبث؟ بين المحافظة والتمرد؟ بين البناء والهدم؟!!! لم نجد جواباً شافياً، لقد صادف ورود الحداثة لدينا أوائل السبعينيات بداية حقبة مزدهرة ربما لم تشهد لها البلاد مثيلاً في كل ذلك القول، من حيث النمو الاقتصادي والتوسع العمراني والازدهار التجاري وزيادة الدخل والرخاء الذي عم الكثيرين إلى حد الامتلاء والترف. فكيف يتوافق ذلك كله مع نغمة الرفض وحالة التشاؤم التي نواجهها دوماً في أدب الشباب من الحياة؟
طرحت الدكتورة فاطمة موسى مرة هذا السؤال وهي تتابع مثل هذه الحالة في القصة القصيرة السعودية، وتساءلت متعجبة: ولكن أين هي المدينة الحديثة النظيفة والبناية الشاهقة والأسواق الزاخرة بالسلع والناس الحسن التغذية، الحسن المظهر الذين أراهم حولي دائماً، ألا يشكلون مادة ملائمة للأدب؟ وتعيدنا الدكتورة فاطمة موسى إلى السؤال السابق نفسه: هل الحداثة مجرد تقليد أدبي؟ أم أنها تعبير حقيقي عن واقع معيش؟ ولكن متى كان الواقع المادي الحقيقي هو واقع الفنان؟ لقد بيّنت في دراسة سابقة لي عن القصة القصيرة الجديدة في المملكة أن الكثير من أدبائنا الشبان قد تركوا تلك المدينة النظيفة الجميلة التي تحدثت عنها أستاذتنا الدكتورة فاطمة موسى ومضوا عنها بعيداً يبحثون عن الحواري القديمة والأزقة الضيقة المتربة المليئة بالقاذورات والقرى القطرية النائية المسكونة بالأسطورة والخرافة، يستحضرونها ويبثون من خلالها ما يحسون من الغربة والضياع، وقلت: إنه مهما يكن رأينا في القصة الحداثية الجديدة بغموضها وقلقها وتوترها فإنها هي التي واكبت التحريف السريع للمدن في بلادنا خلال ما سميناه بسنوات الطفرة ولم تفعل ذلك تواطؤاً مع فن العمارة والتخطيط بل تماشياً مع الواقع. فالمدينة القديمة ذات شخصية تاريخية وحدود معروفة حتى بعد أن زالت الأسوار عن أحيائها العتيقة. بينما أخذت المدينة الحديثة تتغول على شخصيتها باستئصال الكثير من معالمها التاريخية المتواتر ذكرها في التراث. كذلك فقد اتسعت حدودها إلى ما لا نهاية. والمدينة القديمة ذات وحدات سكنية متماثلة ومجموعات بشرية متجانسة متواضعة. أما المدينة الجديدة فقد ألغت التماثل والتجانس والتواصل إلى حد بعيد. إنسان المدينة القديمة قانع مطمئن، وإنسان المدينة الحديثة لا حد لطموحه، لكنه قلق متوتر. وتساءلت: أوليس الكثير من صفات المدينة الجديدة إن صح هي الصفات التي نلاحظها وربما ننكرها في القصة الجديدة، بل وفي الأدب الجديد على نحو عام؟ أي التمرد على القديم.. والنهاية المفتوحة. وعدم التمثل. أو التجريد. وعدم التواصل. والغربة والقلق والتوتر؟
بدأ الإنتاج الحداثي في بلادنا في الشعر وفي القصة منذ السبعينيات ولكنه كان لوناً جديداً آنذاك لم تألفه العين قراءة ولا الأذن سماعاً ولم يستوعبه العقل ولا استساغه الذوق، وكان أكثر ما يغيظ في تلك النصوص الحداثية الجديدة غموضها الشديد واستغلاقها على الفهم إلى حد اليأس. وكانت أشبه بالشفرات السرية التي لا يمكن حلها إلا بواسطة مفاتيح خاصة، لا يمتلكها سوى القلة من الخبراء والمقربين. وقد عبر الدكتور غازي القصيبي وهو الشاعر الخبير في محاضرة له سنة 1981 عن أزمة الشعر المعاصر والتي تتمثل فيما يرى في انغلاقه وبعده عن الجماهير وعن المثقفين على حد سواء، ولا سيما ذلك النوع ((الأودونيسي)) المغرق في البعد والغموض. يقول: ((وتعضد المجددون المعميات وكتبوا ما لا نفهم عن تحولات الليل والنهار في أقاليم الهجرة من الداخل الذي يأتي، وعندما نظرت إليهم باستغراب أخبرونا أننا أغبياء لا نحسن الدخول إلى مغاليق القصيدة الحديثة)). وألف أحمد فرح عقيلات سنة 1982 كتيباً طريفاً سماه (جناية الشعر الحر) عدَّد فيه أربع عشرة جناية لهذا اللون من الشعر على تراث الأمة العربية وقيمها وأخلاقها. وكان عبد الله بن إدريس قد ألقى بحثاً في المؤتمر الأول للأدباء السعوديين سنة 1974 أشار فيه إلى مجموعة من الشعراء الحداثيين المحليين منهم سعد الحميدين وأحمد الصلح وعلي الدميني ومحمد العلي، وهاجم ذلك النوع من الشعر الذي يقول عنه: ((إنه أقرب للهذيان والهستيريا العقلية منه إلى مسمى الشعر)).
أما نحن الطلائع الأوائل من الأكاديميين ـ طبعاً هذا رأي الآخرين ـ في كلية الآداب جامعة الملك سعود فقد كنا خلال السبعينيات في شغل شاغل عن تلك النصوص الحداثية الجديدة لبحوثنا الأكاديمية الرصينة أو التي كنا نظنها كذلك، ولم نلتفت إلى الحداثة إما عجزاً أو نفوراً أو استعلاء. ولم نعرف أن تلك النصوص الغريبة والعجيبة ستتوالد وتتكاثر حتى تصبح بعد فترة من الزمان هي فقط الإنتاج الغالب والمسيطر على الساحة الأدبية، حقاً إن الحداثيين في السبعينيات كانوا جيلاً بلا أساتذة، ولم يظهر الأساتذة والمنظرون لهذه الحداثة في بلادنا إلا في مفتتح الثمانينيات على أيدي الجيل الثاني من الأكاديميين من أمثال عبد الله الغذامي وسعيد السريحي وسعد البازعي الذين أخذوا يدافعون عن هذه الحداثة ويزودون عنها ويحاولون تقريب نصوصها إلى أفهام الناس وأذواقهم، وقد عرف الغذامي بكتابه الشهير (الخطيئة والتكفير) الذي خص نصفه الأول للتنظير مستعرضاً في تطور النظرية الألسنية من البنيوية إلى التشويق. أما النصف الثاني فقد جعله تطبيقاً ألسنياً على نموذج إنساني معاصر هو الشاعر المعروف (حمزة شحاته) رحمه الله وللغذامي كتب أخرى مثل (تشريح النص) و (الموقف من الحداثة) و (ثقافة الأسئلة). بينما جمع السريحي في كتابه (الكتاب خارج الأقواس بين التنظير والتطبيق) وكان قد ظهر له كتاب قبل ذلك بعنوان (شعر أبي تمام) درس فيه شعر أبي تمام دراسة أسلوبية جديدة. أما البازعي فهو أبعد نقادنا الجدد عن التنظير بل كان همه الأول دراسة النصوص الحداثية دراسة تطبيقية. وهذا ما فعله في كتابه (ثقافة السفر).
دائماً يقولون: إن الحركة الإبداعية تنتج نقاداً، وقد انتظرت الحداثة (مع أنها بدأت منذ السبعينيات أو مبكراً) ولكنها فعلاً بقيت غير مرغوب فيها وغير مفهومة إلى أن ظهر الإخوان أو الجيل الثاني من الأكاديميين وغيرهم فتبنوا الحداثة واستطاعوا أن يفهموها وأن يحاولوا تقريبها إلى الجمهور، وجدير أن أذكر هنا موقف هؤلاء، وأقول: إن الغذامي في جميع طروحاته النقدية يحاول أن يجرد النقاد القدماء والمحدثين من صفاتهم النقدية لأنهم في الغالب لا يهتمون بالنص كفن لغوي بل بأمور أخرى خارج النص نفسية أو اجتماعية أو تاريخية. لذلك فإنه يقترح تأسيس علم آخر يسمى (علم المضمون) يتناول الدلالة الصريحة بجوانبها التاريخية والاجتماعية والنفسية. والكاتب حر بأن يفعل ما يشاء، ولكن ليس له الحق في أن يسمي نفسه ناقداً أدبياً لأنه لا يقوم بعمل أدبي، أما بلاغيات النصوص وجمالياتها فنضعها تحت عنوان (علم الأدب) كما يقول الغذامي وبعبارة أخرى نستطيع أن نقول: إن النقد الذي يعترف به الغذامي هو النقد الألسني المعتمد على مقولات (رولان بارك) و (تودورو) وغيرهم من نقاد الألسنيين من العجم والعرب. وما دام هذا النقد لا يعترف إلا بالدلالة الضمنية للنص الأدبي فإن ما يقوله النقاد غير الألسنيين عن نصوص الحداثة لا قيمة له، ولا يمكن أن يشكل خطراً على القيمة الحقيقية لهذه النصوص. وبهذه الطريقة يقوم الغذامي ببناء سياج نظري محكم يحمي أصدقاءه الحداثيين المبدعين من سهام المتطفلين في النقد والأدب.
ولو تحقق ما يطالب به الغذامي من إنشاء علم مستقل للمضمون يختلف عن علم الأدب لأخرجنا قائمة طويلة من أدبائنا ونقادنا العرب وأدخلناهم في ملاذات آمنة تسمى المضمون، ولا بد حينئذٍ أن تحل كارثة حقيقية بأساتذة أقسام اللغة العربية بجامعاتنا إذ سنكتشف أن معظمهم غير مؤهلين أصلاً لتدريس النقد والأدب. وكم سيكون مؤسفاً أن نرى مشكلة أخرى للاجئين الأكاديميين
أنتقل هنا إلى كلمة عن الحركة الحديثة.. طبعاً أنا أتيت برأي موقف السريحي وموقف الغذامي وموقف البازعي محاولين إلقاء أضواء جديدة على المشكلة المدلهمة أو المشكلة الكبرى التي كانت تعانيها البلاد.
الحركة الرابعة (الأسلم)، فإن هذه النماذج القليلة التي اجتزأناها من نقد نقادنا الألسنيين دفاعاً عن الحداثة وأدباء الشباب إنما هي صورة مصغرة لتلك المعارك الكبرى التي احتدمت بين المحافظين والمجددين في بلادنا طوال العقد الماضي. وقد امتلأت بها صحفنا ومجلاتنا وكتبنا ونوادينا الأدبية في طول البلاد وعرضها ولم تجد كل وسائل الدفاع التي لجأ إليها نقاد الحداثيين في صد الهجوم الكاسح الذي وجه إليهم من المعسكر الآخر، وكان أعنفه ذلك الكتيب الذي ظهر سنة 1988 بعنوان (الحداثة في ميزان الإسلام) بقلم عوض بن محمد القرني. إذ تتبع فيه مؤلفه تتبعاً دقيقاً معظم ما نشره الحداثيون من كتب وما سجلوه من آراء ومداخلات في الصحف والمجلات والنوادي الأدبية، وتصيد كل ما يشتم منه خروجاً على الدين أو اللغة أو التراث، وحكم عليهم جميعهم وعلى أساتذتهم الإفرنج والعرب بالزيغ والإلحاد والانحلال، ولم تنفع (السنيلوجيا) ولا الإشارات الحرة أو النص العائم ولا الدلالة الضمنية من كبح ذلك الغضب الجامح أو الحد مما جاء بالكتاب من اتهامات خطيرة، غير أن أهم حركة إسلامية منظمة ضد الحداثة وضد الحركات التغريبية المماثلة كافة في بلادنا وفي البلدان العربية والإسلامية الأخرى هي (حركة الأدب الإسلامي). التي بدأت منذ مدة طويلة مع حركة الإخوان المسلمين في مصر، ولكنها لم تكتسب قوة وعنفواناً إلا في المملكة العربية السعودية منذ أوائل الثمانينيات من هذا القرن بدعم سخي من جامعتي الإمام محمد بن سعود الإسلامية والجامعة الإسلامية في المدينة المنورة. والذين يؤرخون لهذه الحركة يجعلون على رأسها المرحوم سيد قطب الذي دعا إلى تصور إسلامي للأدب منذ أن كان مشرفاً على باب الأدب في جريدة الإخوان المسلمين بُعَيد الثورة المصرية سنة 1952. وواصل محمد قطب تلك الدعوة بعد وفاة شقيقه، حين أخرج كتابه الكبير (منهج الفن الإسلامي) عام 1961 فكان أول كتاب مهم يناقش قضايا الفن ومنها الأدب من وجهة نظر إسلامية.
تواصلت الدعوة بعد ذلك في أعمال نجيب الكيلاني وعماد الدين خليل وعدنان النحوي وعبد الباسط بدر وعبد القدوس أبو صالح، ومن السعوديين عبد الرحمن الشمامي وغيره ومعظمهم مدرسون في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض أو الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة.
تعددت اللقاءات وأقيمت الندوات لمناقشة قضايا الأدب الإسلامي، فكانت أولى هذه الندوات (الندوة العالمية للأدب الإسلامي) التي عقدت في الهند سنة 1981 بمبادرة للشيخ أبي الحسن الندوي ثم عقدت ندوة أخرى في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة سنة 1985 فندوة ثالثة في جامعة الإمام بالرياض سنة 1985.. وهكذا.
أدخلت (جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية) الأدب الإسلامي في صلب المنهج، وطبعاً الكتب في الواقع كثيرة جداً، حيث تندهش لهذا الفيض الزاخر الكثير جداً من الكتب الإسلامية في جميع الفروع.. مثل: نظرية الأدب الإسلامي.. والقدماء والمحدثون، ويبدو أن القضية ما زالت مزدهرة..
فلذلك فقد أتيت بنصوص مفهوم الدكتور عبد الله التركي مدير جامعة الإمام سابقاً في هذه الندوة عن الأدب الإسلامي وقرنها بالنصوص بأيديولوجيا أشبه بأيديولوجيا عبد الله عبد الجبار عن الواقعية الاشتراكية مع الفارق طبعاً ولكن كلاهما في الواقع إنما يبحث في أدب يتحدث عن مضمون واتجاه معين..
من الواضح أن الأستاذ التركي يهدف إلى جعل الأدب سلاحاً يستخدمه المسلمون ضد أعدائهم علاوة على وظيفته الدينية والتربوية والأخلاقية، وأسلمة الأدب إذن لا تعدو أن تكون جزءاً من أسلمة بقية الفنون والعلوم الأخرى.
في النهاية لا بد من أن أختتم هذه المحاضرة وأقول إنني أرجو أن يكون فيما قدمته عن حركة التجديد في الأدب السعودي الحديث ما يكفي لإعطاء فكرة ولو مختصرة عن هذا الأدب. وقد غابت للأسف نصوص الإبداع إلا أنني رأيت حركة التجديد فيما تتصف به من شمول وعمومية إنما تتضح أولاً في التنظير والنقد، وقد رأينا أن هذه الحركات التجديدية لا تنفصل بأي حال من الأحوال عن مثيلاتها في البلدان العربية الأخرى مما يثبت وحدة هذه الأمة وتواصلها وانفتاحها على العالم ورأينا أن الجديد كلمة جذّابة مغرية ربما تكون مراوغة لكنها ضرورية لتجديد الدماء وتجدد الحياة الراكدة.
كان الجديد عند العواد يعني الحرية والانطلاق والتعبير عن ذات الشعر. وعند عبد الجبار يعني إنكار الذات والتعبير عن الجماعة البائسة، وعند الحداثيين إغفال المضمون أو الكتابة عن الذات أو الآخر (باللغة البدائية) غير المستأنس. أما الجديد عند الإسلاميين فيعني العودة إلى القديم والتعبير عن القيم والمبادئ الإسلامية الخالدة. ولكل فلسفته وقناعته ونظرته الخاصة إلى الكون والحياة وإلى معنى التجديد.
ومع أن معظم الحركات التجديدية قد تأثرت بصورة أو بأخرى بمختلف المذاهب والتيارات الأجنبية إما مباشرة وإما عن طريق الوسيط العربي، فقد ظل التراث في كل البيئات العربية متكأً لكل حركة ومرجعاً لكل جديد إما تأصيلاً وإما تبريراً لقبوله واستساغته، ومن ثم فإن مخزوننا التراثي الواسع لا يضيق بكل المشتغلين والمجددين من مختلف المذاهب والنحل.
فإن طلبت الرومانسية وجدتها عند الشعراء.
وإن طلبت الواقعية الاشتراكية وجدتها عند الشعراء الصعاليك وأصحاب الكريه.
وإن طلبت الحداثة وجدتها عند أبي تمام وحاتم القرطاجي.
وإن طلبت الأدب الإسلامي وجدته عند شعراء الدعوة والخطباء وشعراء الزهد.
والحقيقة أن كل حركاتنا التجديدية في العالم العربي إنما هي ردة فِعل وليست فعلاً حقيقياً، ولن يكون فعلاً حتى يكون العالم نحن وليس الغرب، أي حتى نكون دولة مبدعة منتجة، دولة عظمى الآن وليس قبل ألف عام. وما ذلك على الله ببعيد.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1583  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 57 من 155
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور زاهي حواس

وزير الآثار المصري الأسبق الذي ألف 741 مقالة علمية باللغات المختلفة عن الآثار المصرية بالإضافة إلى تأليف ثلاثين كتاباً عن آثار مصر واكتشافاته الأثرية بالعديد من اللغات.