شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
((كلمة سعادة الأستاذ سيف الرحبي))
بسم الله الرحمن الرحيم وأنا بصراحة مسرور ومغتبط حد الارتباك في هذه الأمسية التكريمية الباذخة كرماً روحياً وثقافياً والباذخة كرماً رفيعاً بكل تجليات هذا الكرم ومعانيه وبداية طبعاً شكري لسعادة الشيخ عبد المقصود خوجه بهذا الاحتفاء العميق الاحتفاء الثقافي الرائع لكتَّاب ومثقفين وأدباء من الخليج ومن العالم العربي ومن العالم، هذه الاثنينية التي أصبحت معلماً ثقافياً وإبداعياً على صعيد المملكة وعلى صعيد المنطقة، بداية، أيضاً أكرر شكري وغبطتي لهذا الحضور وبهذه الأمسية بالنسبة إلى علاقتي أولاً بالمشهد الثقافي بالمملكة العربية السعودية، أستطيع الزعم أنها علاقة عميقة شخصية وقرائية ومتابعة بجوانب هذا المشهد المختلفة وفي مشاربه واتجاهاته وسجالاته الكثيرة، المشهد الثقافي السعودي في السنوات الأخيرة خصوصاً أصبح يمتلك ذلك الحراك الثقافي والحيوية الإبداعية التي تؤهله أن يكون في صدارة الوضع الثقافي في منطقة الخليج ورافداً حيوياً للثقافة العربية والإنسانية بعامة بطبيعة الحال من خلال تواصلنا على صعيد الجغرافيا الخليجية والجغرافيا العربية عموماً والإنسانية أيضاً نستطيع من خلال هذا الحوار والتواصل أن نتبين بعض الحقيقة الغائبة على الصعيد الإنساني والأخلاقي والفكري والسياسي خصوصاً في هذه المرحلة التي نعيشها وهي مرحلة بالغة التعقيد، مرحلة تفاجئنا دائماً بالأحداث السيئة وبالملمات الكارثية التي لم تكن حتى في وارد الاحتمال المتشائم، وبعد لا أستطيع الاستمرار في هذا الكلام فهو يكرر نفسه، ما تحدث عنه سعادة الشيخ عبد المقصود خوجه وما تحدث عنه الدكتور مغربي من تناول عميق لكثير من كتاباتي المتواضعة ومن تناول شاسع حميمياً وثقافياً وفكرياً من خلال مساحة النقاش ربما تتضح مناطق غامضة وغير معروفة بيننا جميعاً، ربما النقاش يجلي هذا الغموض ويوضحه ويذهب به إلى مناطق أخرى يحل فيها التفاهم ويحل فيها الحوار الحقيقي وإن حل الاختلاف أيضاً فهي ظاهرة صحية ربما صحية أكثر من الاتفاق الزائف والمنافق، هنا أنا أعددت ورقة سريعة حول ما يعني الطفولة والمكان الطفولة والشعر كيف المكان يكتب قصيدته وكتابته الخاصة نوع من ملامسة للتجربة الشخصية والطفولية والمكانية وعلاقتها أيضاً بالجيل الذي أنا جزء منه على الصعيد العربي وليس العماني والخليجي فقط بحكم حياتي الطويلة بين بلدان عربية مختلفة وتكويني هناك، العين التي شاهدت أول ما شاهدت في إطلاق نظرتها الأولى في الوجود والأشياء، تلك الأرض الشاسعة التي تلتقي أطرافها الثلاثة في سديم الصحراء والجبال والبحار المتلاطمة في الواقع والمخيلة الأرض المترامية بحياة قليلة وسراب هائل وصفها الرحالة ويلفر تسيغر وهو يقطع الربع الخالي في ثلاثينيات القرن العشرين في ما يشبه عبور الأسطورة بصحراء الصحارى ، ربما كسب الغراب كائن القدم ومعلم البشرية، أحقيته الأولى في الانتماء إلى عصورها الجيولوجية السحيقة، أودية قاحلة تذكر بأنهار جفت منذ عصور ضوئية، قوافل مترحلة في تخوم المغيب بحار بلا نهاية ولا قرار وكأنما العدم خرج للتو من كهوفها ليكتشف بؤس العالم وكأنما الصانع قبل أن تمتد إليها يد التحديث والتقدم صنعها كتجربة أولى مسودة وجود لأرض البشر اللاقحة هذه الطبيعة المحتشدة بالهوام والذئاب وبنات آوى أراجيح طفولتنا البعيدة والمحتشدة بالحنين، هذه الطبيعة اليتيمة التي قدت من براثن بركان على صفحتها ولدنا وتفتحت أسئلتنا الأولى دهشتنا وهواجسنا كمشروع وجود صعب وممكن، كانت الوحشة تفضي بالضرورة إلى مقاومتها بطرق مختلفة منها التأمل والمعرفة والشعر، هذا ما تفتح عليه وعينا في تلك البلاد في ذلك الزمان، فقد كان الجو المعرفي عبر تراثه وتراكمه التقليدي غنياً ومتنوعاً شعراً ومناحي كلامية وفقهية ولغوية وكان لعمان التي تمتد أواصر حكمها إلى الشرق الإفريقي شخصيتها المعرفية ذات الملامح الخاصة عبر الأزمنة، ليست هذه العجالة محل تبيانها، لكني لا أضيف كثيراً في وصف وضع التعليم وأطره التي نشأنا في ظلالها أكثر مما يعرفه أبناء البوادي وهوامش الحواضر في بلدان عربية كثيرة، المساجد والكتاتيب وتحت أشجار السدر فحتى بداية السبعينيات لم تكن في عمان إلا مدرستان صغيرتان لتخريج بضعة موظفين، وكان حكراً على المتوارث والمتداول عبر القرون لم تطرأ عليه نسمة تغيير أو تجديد، كانت البلاد غارقة في مياه الأسلاف والنأي عن العصر ومصباته وعواصفه، ربما كتبت أول قصيدة وفق النظام الكلاسيكي ولغته وعناصره لأن أي خروج عنه مروق ومازال أصحاب هذا الرأي عند رأيهم حتى لحظتنا الراهنة وبشكل أكثر عنفاً ولا عقلانية، ولكن من خلال هذه الجو ما ظل يطاردني لاحقاً بجانب التكوين الشعري الكلاسيكي الذي لا أشك لحظة في الإفادة منه فهو معين لا ينضب بالنسبة إلينا جميعاً، ما ظل يطاردني ويطارد ذاكرتي في أصقاع مختلفة من العالم هو تلك القصيدة العنيفة التي يكتبها المكان نفسه بغموضه وموته وكيف تنبجس الحياة الشحيحة من مخالب الموت القاسي للحضور الكلي، كانت الجنازة اللامرئية في رأسي بحجم ذلك الفراغ الذي يتدفق منه الزمن كثيفاً وحاداً محوطة بجوقات النادبين والناشدين، كنا أطفالاً نتطلع إلى حياة أخرى في ما يشبه المعجزة وكان هاتف الرحيل يدعونا إليه عبر تلك القوافل المترحلة ونداء البواخر في بحاره والتي يقيناً لم تكن تحمل نفطاً لأنه لم يكن معروفاً لدينا في ذلك الزمان، كان المكان يمارس حضوراً طاغياً، وفي بطش ذلك الحضور اللامحدود لعناصره ومراياه الضخمة يتمرأى الكائن المبعثر في جنباته الفسيحة هشاً وسريع الزوال، ولكن في ما هنا تكمن المفارقة الدالة والعميقة كانت له تلك القدرة في نحت حياته وتسويتها بمواجهة عنف طبيعة ساحق، فقد كان العمانيون القدماء سادة بحار وصحارى وتركوا آلاف المخطوطات التي طبعت راهناً أو طبع بعضها في مجالات معرفية مختلفة، حدث ثان وجوهري طبع حياتي ووسمها بقدره الخاص هو انفصالي المبكر عن ذلك المكان الولادي ورحيلي نحو القاهرة ومن ثم الشام وبيروت لينفتح المشهد الحياتي لاحقاً على آخر مصاريعه ومتاهاته وكأنما الأسلاف الرحَّل خلعوا علي لاشعورهم الجمعي عبر نسيج من الاختيارات والصدف التي كانت تلف مناخات تلك المرحلة، لأول مرة أتماس بشكل مباشر بعد أصداء سماعية غامضة مع معطيات مدنية وثقافية مختلفة، كان الجو القاهري يعج بالأيديولوجيات والاتجاهات في حقولها المختلفة رغم أن بيروت كانت الأكثر صخباً وسجالاً في التجديد والاختلاف من البوابة القاهرية، ولجت إلى بوابة القراءة للأدب الحديث برموزه ورواده ووجهاته المختلفة دولياً، وكانت تلك المرحلة المبكرة للانفصال الرابعة عشرة من العمر بقدر ما هي منطلق الدخول في الطور الثاني والمعترك الجديد، طبعني سلوكاً وكتابة بطابعه الحاسم بقدر ما أصابنا بصدع كيان على ما يبدو كان مستعداً أكثر لتلقي الصدوع والانشطارات من الانسجام البراني والتآلف العميق، هكذا وجدت نفسي جزءاً من جيل عربي يقتسم الكتابة والحياة والترحل غير مستقر بالطبع هائماً بين ثكنات الأفكار والشرطة والمدن تلفحه رياح اليأس والنقض لقد فتح عينيه ذات صباح على هزائم وانهيارات لا تحصى وعلى ما هو أحقر وأبشع، كان عليه أن يغامر في مواقع كثيرة اهتز يقينها مفهوماً ولغة كانت ذات يوم مثار عاطفة جياشة وربما مشروع لا شك في نبل مراميه وأهدافه كان عليه أن يبحث بين الأنقاض والجثث عن لغة تستطيع لمَّ شمل هذا التصدي والانكسار الذي يلف الفرد والجماعة بآفاقه المدلهمة، هذا هو الربع الخالي مرة أخرى ولكن في زمان ومكان مختلفين وعبر وعي مختلف متاهمة في المكان ومكانة في الرأس جعلت المثل والرموز والأقنعة تتكسر عند أول شروع في التفكير والكتابة فلم تعد المرأة المرموز بها لوطن قادم من بين جحافل الفقراء ولم يعد الوطن ولم تعد الفكرة الجامعة المانعة، هذا على صعيد سمات الجيل الذي أتحدث عنه في هذا السياق وهنا أشير إلى بعض النقاط التي أشار إليها سعادة الشيخ والدكتور مغربي، لقد اهتزت الأرض من تحت قدمي ومالت صار الغياب القاهر ربما هو الإطار المرجعي والروحي والكتابة تعيش وتتنفس في بهو هذا الغياب، والوقائع ترشح رموزها وإشاراتها الفورية الجارفة من غير اتكاءات مسبقة وأقنعة يقف خلفها الشاعر يتلو قراءته الواثقة للمستقبل، كان العري الدموي الساطع كالصحراء سمة المرحلة في هذا السياق اندفعت قراءة الشعر والعالم واندفعت العبارة الشعرية العربية إلى ذلك التغيير في طبيعة الشكل الذي وصل حد النمط والترجيع وصارت إعادة النظر حتى حلول الفوضى أحياناً أو كثيراً والخلط في المنجز والمتحقق فكرياً وثقافياً في ضوء تغير المرجعيات والتأثيرات وطريقة استخدام اللغة وصار ثمة ميل أكبر لقراءة التراث السردي الغربي والمشرقي وتوسيع رقعة الاستفادة منه بموازاة التغير في طبيعة الحوار الشعري مع الآخر والمرجعيات الغربية فبرزت أسماء ومقترحات إبداعية لم تكن واضحة في المرحلة السابقة ولم تكن مطروحة إلى حد كبير، اندفعت العبارة الشعرية التي انفتحت على الفن البصري أكثر نحو القلة والهوامش وصار النقصان والعابر في مواجهة وهم الاكتمال والتمركز زاد المرحلة من غير ترفع على مفردات وأحداث صغيرة بعينها تتوخى أن تنتظم في مناخ وسياق في الطور الثاني من عمري وفي أواخر السبعينيات ومطلع الثمانينيات، شهدت نوع ذلك الارتجاج في سياق الكتابة العربية الذي أنتمي إلى زمنه وأشرت إلى بعض سماته وليس في ذهني وهم القطيعة التي يرتهن بها البعض ولم أر يوماً أن قصيدة النثر حلت محل سابقتها كما أن قصيدة التفعيلة لم تحل محل العمود الكلاسيكي رغم انتشارها وتحولها إلى ما يشبه المتن الشعري كما أني لا أرى ولا أستصيغ التفكير على أن هذا النمط التعبيري يحل محل آخر ويقصيه من أرض الإبداع، فأشكال التعبير في تاريخها مفتوحة على المتغير والمتحول ويمكنها أن تتعايش وتتفاعل وتتصارع ضمن أرض واحدة وزمن واحد أو أزمنة مختلفة، فواحدية التفكير هذه لا بد من أن تصب في ثكنة القمع لأي تعددية ممكنة ودعاة الشعرية العربية تبادلوا هذه الإقصاء في الكتاب كما في الحياة، كما أن الجيل ليس بديلاً عن جيل آخر ومن السذاجة التفكير على هذا النحو التحقيبي المحدود، بداهة هناك ما هو مشترك وما هو مستمر إبداعياً حتى عبر المفارقة والاختلاف فمثلاً أشرت إلى أن الشعر الجديد سار يمير نحو النقصان والتفاصيل والأجزاء، هذه السمات لا نعدمها في المرحلة السابقة وعموماً لا نعدمها حتى في القصيدة الجاهلية، القصيدة الجاهلية يعني تؤرخ لتفاصيل الحياة اليومية وتربطها بالأبدي وبالأعمق واللامرئي وإن تعمقت واتسعت لاحقاً ولم يكن وضعها في مقابلة ثنائية مع ما اصطلح على تسميته بشعر القضايا الكبرى أو الكلية وضعاً موفقاً فالوجود جميعه خارطة لهواجسنا وأحلامنا، مسرح لصنيع الكتابة وتجلياتها المختلفة فالحياة والموت والمسألة الاجتماعية والانحطاط الحضاري والحب والكراهية لا تنفصل عن شعرية الأشياء ولا تقابلها بل يظل الشعر على سطح هذه الأشياء والحياة اليومية إن لم ترتبط تلك الخيارات الفنية بخلفياتها الروحية والإشارية والمرجعية الأعمق الواقع وما وراءه والعابر بالأبدي، بداهة ليس هناك من هو ملزم باقتفاء أثر أحد، أقصد أسلاف الحداثة المباشرين أو غيرهم وربما العكس، فالتعبير عن تلك القضايا بقدر ما هو قديم وعبر مختلف حقب التاريخ بقدر ما هو مرتبط بسياق تاريخ من الاجتماع والأمكنة وتغير الحساسيات منه تستقي الكتابة هواجسها واختياراتها الأسلوبية، اللغة مهما كانت محملة بتاريخها الطويل وتراكماتها ليست ممارسة قبلية ومعطاة سلفاً وإنما على صعيد الكتابة محاولة كشف وسبر أغوار وعتمات وهي محصلة اندماج المعيش بالمتخيل هذا المعيش الذي أفضى إلى ما هو عليه عربياً صار أكثر استفزازاً للكتابة الشعرية التي واصلت نقضها واحتجاجها حتى حدود العدوانية أحياناً في رفضها فالنقض الشعري والأدبي لما هو سائد لا يرتبط بمشاريع سياسية وتكتيكات تطبع مرحلة بعينها، وإنما هو حاجة داخلية صميمية بمثابة الدافعة الوجودية للكتابة الموت كما الحياة مسرح الكتابة إن هذا الجسد بهوام الموت وهواجسه ومطارقه التي لا تهدأ ليل نهار لا يمكن مواجهته عبر التخفيف منه إلا عبر اللغة وربما الذوبان فيه وتحويله إلى كائن أليف، إنها المنطقة الأكثر خطورة التي تلجها الكتابة، المنطقة التي تشبه منطقة في الربع الخالي تدعى عروق الشيبة التي تبتلع تحولات رمالها الهائجة قطعان الجمال والماشية والبشر من غير أثر وكأنها لم تكن، هذا الموت القاسي وسط تلاطم.. هذا السحق الذي تمارسه الطبيعة سيكون نموذجاً لطيفاً لسحق البشر بعضهم بعضاً لاحقاً ، الكتابة بهذا المعنى ليست لعباً لفظياً ولا صوراً بهلوانية تتوسل لإدهاش البراني لإخفاء فقرها الدلالي والروحي، إنها لعب أكثر عمقاً وخطورة وجمالاً إنها الإقامة في حدود القسوة والموت، الذئاب والضباع وبنات آوى ومختلف ألوان الجوارح والسباع والصخور البركانية ولا نعدم طيوراً أليفة وجناناً خضراً لا حدود لتموجاتها الناعسة.. تقريباً نكتفي بهذا القدر فبينت بعض نقاط ومرتكزات الكتابة والتجربة الشخصية سواء على صعيد الطفولة والطبيعة أو الحياة اللاحقة من جيل عربي في مرحلة من مراحل التاريخ العربي وأتصور أن المسألة تكون مطروحة للنقاش وحوار أفضل من الاستمرار في قراءة ورقة تغلب عليها الصورة والبيان..
عريف الحفل: قبل أن نبدأ في فتح باب الحوار الحقيقة معنا في هذه الليلة سعادة الأديب والكاتب الروائي الأستاذ عبده خال ويقول إنه سيلقي كلمة.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :692  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 115 من 242
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور سعد عبد العزيز مصلوح

أحد علماء الأسلوب الإحصائي اللغوي ، وأحد أعلام الدراسات اللسانية، وأحد أعمدة الترجمة في المنطقة العربية، وأحد الأكاديميين، الذين زاوجوا بين الشعر، والبحث، واللغة، له أكثر من 30 مؤلفا في اللسانيات والترجمة، والنقد الأدبي، واللغة، قادم خصيصا من الكويت الشقيق.