شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
((كلمة فضيلة الشيخ حسن بن موسى الصفار))
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وخاتم المرسلين نبينا محمد وعلى آله الطاهرين وصحبه الطيبين ومن تبعهم بإحسان إلى قيام يوم الدين.
معالي الأستاذ الشيخ عبد المقصود خوجه مؤسس وراعي هذه الاثنينية المباركة، معالي الأستاذ الشيخ الدكتور محمد عبده يماني راعي هذا اللقاء المبارك هذه الليلة.. السادة العلماء.. السادة الأدباء والمثقفين.. السيدات الكريمات المشاركات معنا في هذا اللقاء.. جميع الأخوة الحاضرين والأخوات الحاضرات.. سلام من الله عليكم جميعاً ورحمة وبركات:
أحمد الله تعالى وأشكره أن أفاض عليّ بهذه النعمة الكبيرة نعمة كسب الأخوان في الله، وقد ورد في الحديث المروي عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وصحبه أنه قال: "ما استفاد امرؤ بعد الإيمان بالله فائدة أفضل من أخ في الله"، هذه نعمة كبيرة تفضل الله تعالى بها عليّ أن عرّفني على هذه النخبة الطيبة الصالحة من ذوي الرأي والفضل ومن أصحاب الأيادي البيضاء الخيرة في المجتمع، وما هذا اللقاء إلا تجلٍ من تجليات هذه النعمة الكبيرة فالحمد لله على ما أفاض وأنعم وله الشكر على ما ألهم، والثناء بما قدّم، يعجز لساني عن التعبير عما أشعر به من تقدير وامتنان لمعالي الشيخ عبد المقصود خوجه الذي غمرني بفضله مرّات، مرة حين سعدت بلقائه في الحوار الوطني، وأخرى حين شرّفني بالزيارة في القطيف وكانت أمسية تاريخية لا تزال أصداؤها تتردد في آفاق المجتمع هناك والذين سعدوا وتشرفوا بالتعرّف على معاليه عن قرب وما كان مجهولاً بالاسم والفضل، وفي هذه الليلة يغمرني بفضل جديد لا أستطيع شكره وإنما أَكِلْ ذلك إلى الله سبحانه وتعالى أن يثيبه وأن يجزيه أفضل الجزاء على ما غمرني به من احترام وتقدير ولطف وفضل هو حري به، وكذلك أشكر معالي الدكتور الشيخ محمد عبده يماني حفظه الله والذي استفدت كثيراً من فضله وعلمه وتجربته الغنية فقد كان من أوائل الرجال الذين تعرفت عليهم في هذا البلد بعد عودتي إلى الوطن، وتلمُّسي الطريق للانفتاح على كل الشرائح والأطياف فاستقبلني برحابة صدره في منزله بجدة قبل حوالى ثماني أو تسع سنوات ورأيت منه كل تشجيع وكل حفاوة وتفضل بتقديم كتاب لي هو من أوائل الكتب التي طبعتها في مجال الحديث عن التنوع والتعايش والاندماج الوطني، كما أشكركم جميعاً على حضوركم وعلى إصغائكم والذي يكشف عن حسن ذاتكم وعن توافقكم وتوافقنا جميعاً على ضرورة التواصل والتلاقي والسعي نحو خدمة هذا الوطن الذي هو أمانة في أعناقنا جميعاً، هذا الوطن الذي يتميز عن كل الأوطان حيث شرفه الله بالحرمين الشريفين، وحيث شرّفه الله بأنه مهبط الوحي ومثوى خاتم الأنبياء والمرسلين صلّى الله عليه وعلى آله الطاهرين وصحبه الطيبين.
في هذه الأمسية السعيدة الرائعة فكرت في أن أتقدم إليكم بورقة متواضعة كتبتها حول أهداف الحوار على الصعيد المذهبي ذلك لأني أعتقد أننا تجاوزنا مرحلة هامة وقطعنا شوطاً كبيراً في ترسيخ مبدأ الحوار وفي الإقرار بضرورة هذا المبدأ، في الماضي كنا نتناقش ونتحدث حول ضرورة الحوار وأهمية الحوار، وكان هناك من له رأي آخر كان هناك من يتحفظ تجاه الحوار ومن يتوجس خيفة منه، لكن مبادرة خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله حفظه الله حسمت هذا الجدل ووضعت حداً لهذه الهواجس وأصبح الحوار حقيقة واقعة في وسط المجتمع السعودي، نحن الآن أمام مرحلة جديدة لقد اقتنع الجميع أو اقتنع الغالبية بضرورة الحوار وأهميته، والكثيرون تفاعلوا الآن مع الحوار، واستجابوا للحوار وحتى على مستوى المؤسسة الدينية والتي كان بعض أعلامها ورموزها يتحفظ أو يتوجس خيفة من الحوار خوفاً وحرصاً على العقيدة والدين من وجهة نظره، لكننا الآن نرى أن هذه التحفظات في طريقها إلى الانتهاء والزوال، فكل الأطراف في مختلف المواقع أعلنت قبولها بالحوار واستعدادها للحوار لكننا الآن على أعتاب مرحلة جديدة، ما هي آليات الحوار؟ وخصوصاً على الصعيد المذهبي خلفنا تاريخ مليء بالإشكالات والمشاكل وبالصراعات والنزاعات وكلنا ينتمي إلى تراث لا يخلو من كثير من الشوائب تراثنا الإسلامي مع ما فيه من عمق ومع ما فيه من تجلٍ لمبادئ التسامح، لكن هناك بعض الصفحات وبعض الفصول في هذا التراث مما تعكر صفو الود بين أبناء هذه الأمة، تراث مختلف المذاهب ولا يستطيع أهل أي مذهب من المذاهب أن ينزهوا تراثهم من الشوائب، فهي شوائب موجودة في تراث المسلمين بفعل عوامل مختلفة لسنا الآن في مجال الحديث عنها، ما يهمنا الآن أن نحدد توجهات الحوار وخصوصاً على الصعيد المذهبي، ذلك لأن هناك قلقاً من أن يختطف الحوار على هذا الصعيد ويؤخذ إلى منحىً يعمق التفرقة والنزاع بين أبناء الأمة بدل أن ينتشلها ويوصلها إلى شاطئ الوحدة والوئام والانسجام، البعض من السنَّة أو من الشيعة أو من الإباضية أو من أي مذهب من المذاهب الإسلامية حين يكون الحديث عن الحوار يتبادر إلى ذهنه أن يسجل قائمة بإشكالياته على الآخر وبنقاط اختلافه مع المذهب الآخر ويريد أن يتحول الحوار إلى ما يشبه المحاكمة من أهل هذا المذهب لأهل المذهب الآخر، أصحاب كل مذهب لهم ثقافتهم ولهم مدرستهم العقدية والفقهية في مجال العقيدة هناك اتفاق على الأصول الإيمان بالله تعالى وبملائكته ورسله لا نفرِّق بين أحد منهم، وهناك إيمان بمرجعية الكتاب والسنَّة لا يناقش فيه مسلم وإيمان بالمعاد في يوم القيامة، وإيمان بالفرائض الإسلامية الأساسية هذا ما يتفق عليه جميع المسلمين، لكن هناك اختلافاً في التفاصيل العقدية والفقهية بين المذاهب وحتى داخل كل مذهب من المذاهب، فهل نريد من الحوار أن نتناقش ونتجادل حول تلك التفاصيل العقدية التي نختلف حولها أو حول تلك الفروع الفقهية التي نختلف فيها؟ إن هذا هو ما كان سائداً في تاريخنا الماضي، لو قرأنا كتب السجال المذهبي ولو اطلعنا على تاريخ الجدل بين المذاهب الإسلامية لوجدنا فيها الكثير من الكلام ومن الحديث الذي لا ينتهي ولا ينقضي هل تسمح لنا التحديات التي نعيشها ونواجهها كأمة في هذا العصر هل تسمح لنا بأن ننشغل بهذه التفاصيل الكثيرة والمتشعبة والتي لم يُجمع أهل مذهب من المذاهب على كل تفرعاتها وتشعباتها؟ إننا لو انزلقنا إلى هذا المنزلق لأصبحنا في تاريخنا المعاصر تكراراً لما كان يعيشه أسلافنا في الأيام السالفة الماضية.
إنني أدعو وأعتقد أن كل الواعين المخلصين معي في هذه الدعوة أدعو إلى تجاوز الانزلاق إلى هذا المنزلق ليس خوفاً ولا تهيباً من انكشاف الحقيقة ولا زهداً في البحث عن الحقيقة في كل فرع من الفروع وكل جانب من الجوانب العقدية والفقهية، ولكن لأن البحث فيها يطول ولأن الانزلاق إليها يجعلنا في انشغال يشغلنا عن اهتمامات الحاضر، ولذلك كتبت كلمة مختصرة تمثل رؤيتي على هذا الصعيد.
الحوار في المسألة الدينية تحيط به عوامل مختلفة ولا يعتمد على الجانب العقلي وحده، فالبعض من الناس قد يتصور ببساطة أن المنطق والعقل كفيل بأن يحل أي نزاع في القضايا الدينية، من طريق الدليل والبرهان، البعض في كل مسألة يقول نحتكم إلى الكتاب والسنَّة وبالتالي لا بد من أن يقبل الآخر بالنتيجة ويفوت هذا البعض بأن هناك اختلافاً في الفهم لنصوص الكتاب والسنَّة، البعض يتصور ببساطة أن المنطق والعقل كفيل بأن يحل أي نزاع في القضايا الدينية، من طريق الدليل والبرهان، بين الأديان أو المذاهب، وكذلك بين الأطياف داخل المذهب الواحد حين تتعدد المدارس والتوجهات، لكن الصحيح أن العقل هو بُعد وجانب من المسألة الدينية، وهناك أبعاد أخرى غالباً ما يكون تأثيرها أكثر من الجانب العقلي، فهناك البعد النفسي، لأن الدين يتحول في أعماق نفس الإنسان إلى قضية ذاتية ترتبط بأحاسيسه ومشاعره، وتختلط بها، ولذلك فإن هذه المشاعر والأحاسيس لا تدع المجال للعقل دائماً لأن يفصل في المسألة الدينية، وإنما تتدخل لكي تشوّش على عمل العقل ودوره، بسبب انشداد الإنسان إلى الوضع الديني الذي ترّبى ونشأ عليه.
وهناك بُعد آخر هو البُعد الاجتماعي فالإنسان يعيش ضمن مجتمع ديني، المسلم يعيش ضمن مجتمع المسلمين، والمسيحي ينشأ ويترّبى ضمن مجتمعه المسيحي، وهكذا الأمر بالنسبة إلى المذاهب، فالسني يعيش ضمن البيئة السنية والشيعي يعيش داخل بيئته الشيعية.
لذلك فإن في المسألة الدينية غالباً ما لا يكون التعامل مع الإنسان كفرد، بل مع بيئة اجتماعية كاملة، لأن الإنسان عادة لا يفكر في المسألة الدينية بمفرده هل هي حق أم باطل؟ وإنما يأخذ بعين الاعتبار انتماءه الاجتماعي البيئي، ويكون هذا الانتماء مؤثراً وضاغطاً عليه، ولذلك نجد في القرآن الكريم أن الله سبحانه وتعالى أمر نبيه محمد صلّى الله عليه وآله وصحبه أن يدعو المشككين في رسالته إلى التأمل الانفرادي حتى لا يكونوا تحت سيطرة ما يطلق عليه حديثاً "العقل الجمعي"، يقول تعالى: قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ (سبأ: 46).
والنبي صلّى الله عليه وآله هنا يطلب منهم أن يقوم كل شخص بمفرده وينزوي عن جماعته وبيئته ويتفكّر في الأمر بموضوعية بعيداً عن تأثير العقل الجمعي.
وهذا أمر صعب على أكثر الناس، ولهذا تجدون أن الحوار بين أتباع الأديان والمذاهب في الجانب الديني غالباً لا يوصل إلى نتيجة حاسمة، لأن المسألة ليست مسألة عقلية فقط، بحيث يتضح الدليل فيها فلا يجد الطرف الآخر مفراً من الإيمان، ولو كانت المسألة كذلك فإن نبينا محمداً صلّى الله عليه وآله وصحبه عنده الدليل والمنطق، والفصاحة والبيان، فهو القائل فيما يروى عنه: "أنا أفصح من نطق بالضاد"، عنده كل هذه المقوّمات، لكنه لم يستطع أن يغير المجتمعات الدينية التي كانت في عصره، فالمسيحي ظل على مسيحيته، وكذلك اليهودي، نعم هناك بعض المجاميع منهم قبلت الدعوة الإسلامية ولكن بقي كيان اليهود كيهود وبقي كيان النصارى كنصارى، فإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مع وضوح الحق عنده ومع قدرته البالغة التي لا توازيها أي قدرة في معرفة الحق والتعريف به، ومع ذلك لم يستطع تغيير الكيانات الدينية في مجتمعه فكيف بغيره؟ وذلك لا لقصور أو تقصير من قبله صلى الله عليه وسلم وإنما لعجز خارجي موضوعي، ولهذا يذكر القرآن الكريم حادثة "المباهلة"، وذلك حين جاء وفد نصارى نجران وحاوروا الرسول صلى الله عليه وسلم حول نبي الله المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام فأوضح لهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالأدلة والبراهين ما يعتقده في المسيح عليه السلام، وأنه عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وناقشهم وحاورهم وأثبت لهم خطأ قولهم، لكن الوفد تمسك برأيه فلجأ رسول الله صلى الله عليه وسلم كَحَلٍّ نهائي إلى "المباهلة" لأن طريق الحوار العقلي المنطقي لم يوصل معهم إلى نتيجة حاسمة فاتجه معهم إلى صوب طريق آخر، يقول تعالى: فَمَنْ حَاجَّكَ فِيه مِن بَعْد ما جَاءَكَ مِنَ العِلْمِ فَقُلْ تَعَالوُاْ نَدْعُ أبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلُ فَنَجْعَلَ لَّعْنَةُ اللهِ عَلَى الكَاَذِبِينَ (آل عمران: 66). وفي آية أخرى يقول تعالى: وَلَئِنْ أَتَيْتَ الذينَ أُوْتُواْ الكتَابَ بِكُلِّ آيةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ (البقرة: 145).
وهناك آيات كثيرة في القرآن الكريم تتحدث عن أن كلمة الفصل والإلزام في الخلاف الديني مرجوّة ومؤخرة إلى يوم القيامة، فلو أراد أهل الأديان والمذاهب أن يحسموا الخلاف فيما بينهم في الدنيا لن يصلوا إلى نتيجة، ليس لأن الحق متعدد ولا لأن الأدلة والبراهين قاصرة عن إثبات الحق، ولكن لأن عوامل أخرى غير المسألة العقلية المنطقية تحيط بالمسألة الدينية، ولهذا تتحدث الآيات القرآنية بصراحة حول تأجيل الفصل في الخلافات الدينية إلى الآخرة، منها قوله تعالى: لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً هُمْ نَاسكُوهْ فَلا يُنَازِعُنَّكَ في الأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هَدىً مُسْتَقيمٍ، وإِن جَادَلُوكَ فَقُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ، اللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُم فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (الحج: 67 ـ69). وفي آية أخرى يقول تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاء اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكنِ ليَبْلُوَكُمْ في مَا آتاكُم فاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَميعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنْتُم فيهِ تَخْتَلِفُونَ (المائدة: 48). ويقول تعالى: وَقَالَت اليَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَىَ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَت اليَهُودُ عَلَىَ شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ فِيمَا كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (البقرة: 113)، هذه الآيات الكريمة وأمثالها تقدم للإنسان المسلم صورة حول طبيعة المسألة الدينية حتى يكون متوازناً وموضوعياً في رؤيته وعرض دينه على الآخرين وليستوعب مواقفهم المخالفة له.
وهي لا تعني ـ هذه الآيات الكريمة ـ لا تعني أن يتوقف الإنسان عن التبشير بما يعتقده حقاً وإنما تعني أن يضع في اعتباره أنه ليس بالضرورة أن يتقبل الآخرون رأيه فيما يختص بدعوته الدينية، مهما كان بارعاً في عرض أدلته وبراهينه، وهناك آيات كريمة ونصوص تنهى الإنسان عن الجدل في الدين إلا بالتي هي أحسن يقول تعالى: وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الكِتَابِ إلاَّ بالَّتِي هِيَ أحْسَنُ (العنكبوت: 46)، لأن الإنسان وهذه نقطة مهمة أيها الأخوة والأخوات لأن الإنسان إذا أطلق العنان للرغبة في مجادلة الناس في أديانهم قد ينجرّ إلى أساليب ملتوية، وتعامل غير سوي مع الآخرين، والله تعالى لا يريد ذلك للإنسان المسلم، ولا من الإنسان المسلم، وورد في روايات مروية عن أئمة أهل البيت سلام الله عليهم يحذرون تلامذتهم وأتباعهم من المجادلة والمخاصمة في الدين، منها رواية تُنقل عن الإمام جعفر بن محمد الصادق سلام الله عليه، أنه قال: "فلا تخاصموا الناس لدينكم فإن المخاصمة ممرضة للقلب"، إن الله تعالى قال لنبيه: إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَن يَشَاء (القصص: 56)، وقال: أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاس حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنين (يونس: 99)، ذروا الناس يقول الإمام الصادق عليه السلام فيما يروى عنه في هذه الرواية "ذروا الناس فإن الناس قد أخذوا عن الناس" (1) وفي قوله هذا إشارة إلى أن مصدر الاعتقادات الدينية قد يكون الأخذ عن الآخرين وتقليدهم واتباعهم وليس نتيجة تفكير عقلي منطقي، وقد يتضح للإنسان خطأ فكرة ما لكنه يتمسك بها اطمئناناً بمن يقلده ويتبعه.
بالطبع فإن الحديث هنا عن توصيف الواقع بعيداً عن إقراره وعن تقويمه من حيث الصحة والخطأ إذ من الواضح أنه يجب على الإنسان أن يفكر في المعتقدات والأمور الدينية بموضوعية وتعقل، وأن يستند إلى الدليل والبرهان، وليس التقليد والاتباع الأعمى، ولا الاستجابة للمؤثرات العاطفية والضغوط الاجتماعية، فالقرآن الكريم يحارب هذه الحالات التي كانت تمنع المجتمعات من القبول برسالات الأنبياء: بَلْ قَالُوا إنَّّا وَجَدْنَا آَبَاءنَا عَلَىَ أُمَّةٍ وإِنَّا عَلَىَ آَثَارِهِمْ مُقْتَدُون (الزخرف: 22).
نقطة أحببت أن أثيرها في ضوء ما نشرته وسائل الإعلام من تصريحات لبعض العلماء في المملكة العربية السعودية وهم يتحدثون عن استعدادهم للحوار مع بقية المذاهب الإسلامية، وهنا لا بد أن أشير إلى أن مبادرة خادم الحرمين الشريفين منذ أن كان ولياً للعهد لتبنِّيه للحوار الوطني هي التي فتحت المجال وشقّت الطريق وهكذا يكون للمبادرة السياسية دور مهم في إصلاح الكثير من الواقع الذي تعاني منه مجتمعات الأمة الإسلامية، كما أن مختلف الأوضاع الإقليمية والدولية لها تأثير في الدفع بهذا الاتجاه فنحن نشعر بتفاؤل كبير، ونستقبل هذه الدعوات الإيجابية بالتقدير والترحيب، فهذا ما كنا نطمح إليه ويتطلع إليه كل مواطن حريص على مصلحة الوطن، وكل مسلم غيور على وحدة الأمة.
بخصوص مسألة الحوار في المسألة الدينية المذهبية أريد أن أركز على أنها مسألة شائكة، ولذلك يشترط قبل بدء هذا الحوار أن يتحدد الهدف منه، أما إذا لم يتحدد هدف الحوار وآلياته فإنه لا يصل إلى النتيجة المرجوّة. ويبدو لي أن بوصلة الحوار المذهبي ينبغي أن تتجه نحو ثلاثة أهداف:
الأول: التعارف والفهم المتبادل:
فنحن نتحاور حتى يعرف كل منّا الآخر على حقيقته، ذلك لأن الحقبة السابقة أوجدت الكثير من الغبش والتشويش، فأصبحت نظرتنا إلى بعضنا غير موضوعية، فكل طرف قد يتصور عن الآخر أشياء ليست واقعية، ويحاسبه عليها ويبني الموقف تجاهه على أساسها دون أن يتأكد أو يتبيّن، والحوار يعطينا الفرصة لأن يعرض كل مذهب رأيه بوضوح هذا هو الهدف الأول.
الثاني: التعايش ومنع الإساءات:
بأن ندرس صيغة التعايش بيننا على أساس الاحترام المتبادل، وعدم إساءة أي طرف للآخر، الإساءة إلى رموزه، إلى الشخصيات التي يحترمها في التاريخ أو في الواقع المعاصر، أو ما يعتبره مقدساً عنده، أو بالانتقاص لشيء من حقوقه.
الهدف الثالث: خدمة المصالح المشتركة:
فنحن نعيش في وطن واحد، وهناك مصالح مشتركة تجمعنا في هذا الوطن، ونحن أبناء أمة واحدة، وهذه الأمة لها مصالح مشتركة وتواجه أخطاراً كبيرة تستهدف الجميع.
ولذلك يجب أن نتحاور من أجل تحقيق هذه الأهداف الثلاثة، أما إذا كان الحوار بهدف أن يُغيّر أحدنا الآخر، فنتحاور حتى يغير الشيعة شيئاً من مذهبهم، ويتنازلوا عن بعض مبادئهم، أو أن يتخلى السنِّة أو السلفيون عن شيء من مذهبهم ويتركوا بعض قناعاتهم، فهذا الهدف لا يوصل إلى نتيجة، فهذا الحوار لا يوصل إلى نتيجة، وسيكون حواراً عقيماً وضاراً بدل أن يكون نافعاً، وذلك للأسباب التي ذكرناها في بداية الحديث كما أن المسألة الدينية المذهبية وهذه ملاحظة هامة أيها الأخوة أيتها الأخوات، المسألة الدينية المذهبية ليست منحصرة في أشخاص المتحاورين، فمن الممكن أن يتحاور شخصان بمفردهما فيقتنع أحدهما بفكرة الآخر وينتهي الخلاف، ولكن المذاهب تؤمن بها مجتمعات وكيانات، ماذا يفيد أن يقتنع شيعي أو عشرة أو مائة أو ألف من الشيعة بمذهب السنَّة، وماذا يفيد أن يقتنع سني أو عشرة أو ألف بمذهب الشيعة؟ الكيانات قائمة، والمذاهب تتبناها مجتمعات وجماهير، ونحن نريد التعايش والوئام بين هذه المجتمعات وبين هذه الأطياف، فكيف تقتنع هذه المجتمعات وتغير قناعاتها؟
صحيح هناك حاجة إلى التصحيح داخل كل مذهب من المذاهب، ولكن التصحيح مهمة داخلية يجب أن يقوم بها العلماء والواعون داخل كل مذهب من المذاهب ولا يكون نتيجة ضغوط خارجية، فإن الضغوط الخارجية تستثير عامل التحدي ويحصل هناك تشبث أكثر ويفسح المجال أمام مزايدات المتشددين والمتطرفين داخل كل مذهب من المذاهب، وداخل كل طائفة من الطوائف.
هذا تصور متواضع لموضوع الحوار المذهبي أغتنم فرصة هذا اللقاء المبارك لأقدمه بين أيدي سادتي العلماء والفضلاء حتى أستفيد من آرائهم ومداخلاتهم وأجدد شكري لمؤسس وراعي هذه الاثنينية معالي الشيخ عبد المقصود خوجه الذي غمرني بفضله ولطفه، وأتاح لي فرصة هذا اللقاء الطيب وكذلك الشكر موصول لمعالي معالي الدكتور محمد عبده يماني ولبقية الأخوة والسادة العلماء والفضلاء والمثقفين وللأخوات السيدات الفاضلات وأعتذر عن الإطالة، أسأل الله أن يوفقنا وإياكم لكل خير وصلاح ولكل ما يخدم استقرار هذا الوطن وتقدمه ورفعته ولكل ما من شأنه أن يحفظ مصالح الإسلام والمسلمين إنه ولي التوفيق والإجابة والحمد لله رب العالمين وصلّى الله على نبينا محمد وآله الطاهرين وصحبه الطيبين، والسلام عليكم جميعاً ورحمة الله وبركاته.
معالي الدكتور محمد عبده يماني: جزاكم الله خير الجزاء، وأثابكم على ما قدمتم وأسأل الله أن يوفقنا لمزيد من الحوار المثمر البنَّاء الذي يوصل إلى ما نهدف إليه جميعاً من التقاء إن شاء الله تعالى، وأنا أُتيح الفرصة لأخي الدكتور أنور ماجد عشقي حيث طلب تعليقاً مختصراً لضيق الوقت فأنا أتيح له الفرصة فليتفضل.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :516  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 182 من 252
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

سعادة الأستاذة صفية بن زقر

رائدة الفن التشكيلي في المملكة، أول من أسست داراُ للرسم والثقافة والتراث في جدة، شاركت في العديد من المعارض المحلية والإقليمية والدولية .