شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
8– فن المبالغة:
المبالغة من فنون البلاغة التي كثر فيها القول، وانقسم فيها النقاد بين القبول والرفض، وخاصة أنه قد وصف بها بعض آيات الذكر الحكيم.
والمبالغة في كتب النقد والبلاغة مصطلح واضح الدلالة، إلا أنه قد يخلط بمصطلحات أخرى: الغلو، الإغراق والإفراط.
وقد لحظت أنهم قد يكتمون تارة عن المبالغة، وهم يريدون الإغراق، وتارة يصفون النص بالإفراط ويقصدون المبالغة. ويؤكد ذلك قوله "لعلي بن خلف" جاء فيه: "وقد سماها –أي المبالغة– قوم الغلو، وآخرون الإغراق، وآخرون الإفراط في الصفة" (1) .
وهذا المشكل قد اعترضني وأنا أبحث عن مدلول المصطلح في كتب النقد والبلاغة. لذا فلن أدخل في مشكلة تقصي مدلول المصطلح عند القدماء ولكني سأورد بعض آراء النقاد في فن المبالغة.
فهذا "قدامة" يقول فيها: "المبالغة: وهي أن يذكر الشاعر حالاً من الأحوال في شعر لو وقف عليها لأجزأه ذلك في الغرض الذي قصده، فلا يقف حتى يزيد في معنى ما ذكره من تلك الحال ما يكون أبلغ فيما قصد، وذلك مثل قول عمير بن الأيهم التغلبي:
ونكرم جارنا ما دام فينا
ونتبعه الكرامة حيث سارا" (2)
ومن أقوال "قدامة" التي يستخدم فيها مصطلح الغلو ويريد به المبالغة قوله: "إني رأيت الناس مختلفين في مذهبين من مذاهب الشعر وهما:
الغلو في المعنى إذا شرع فيه، والاقتصاد على الحد الأوسط فيما يقال منه، وأكثر الفريقين لا يعرف من أصله ما يرجع إليه ويتمسك به. فأقول: إن الغلو عندي أجود المذهبين، وهو ما ذهب إليه أهل الفهم بالشعر والشعراء قديماً، وقد بلغني عن بعضهم أنه قال: أحسن الشعر أكذبه، فإنما يريد به المثل وبلوغ النهاية في النعت، وهذا أحسن من المذهب الآخر مذهب الاقتصاد ولزوم الحد الأوسط" (3) .
وقد يستخدم "قدامة" مصطلح "الإغراق" ولكني أشعر أنه يريد به المبالغة فإنه يقول: "ومن الشعراء أيضاً من يغرق في المدح بفضيلة واحدة أو اثنتين فيأتي على آخر ما في كل منها أو أكثر. وذلك إذا فعل مصيباً به الغرض في الوقوع على الفضائل، ومقصراً عن المدح الجامع لها، لكنه يجود المديح حينئذ كلما أغرق في أوصاف الفضيلة، وأتى بجميع خواصها أو أكثرها" (4) .
وقد استخدم "قدامة" مصطلح الإفراط وقصد به المبالغة، وذلك قوله: "إن كل واحدة من الفضائل الأربع المتقدم ذكرها وسط بين طرفين مذمومين وقد وصف شعراء مصيبون متقدمون قوماً "بالإفراط" في هذه الفضائل، حتى زال الوصف إلى الطرف المذموم. وليس ذلك منهم إلا كما قدمنا القول فيه في باب الغلو في الشعر "من أن الذي يراد به إنما هو "المبالغة" والتمثيل لا حقيقة الشيء" (5) .
وكل الأقوال السابقة تفيد أن "قدامة" كان ممن يفضلون "المبالغة" في القول، بغض النظر عن اختلاف المصطلحات.
وأرجح أن "المبالغة" من فنون القول الذي إن حُكِّم فيه معيار "التوازن" أصبحت صحيحة جميلة وبعدت عن التكلف والقبح. وما ذلك إلا بأن ينظر إلى النص الذي يعتقد فيه "المبالغة" فإن تقابل ذلك النص مع الحالة الشعورية لمنشئه وما يقتضيه الموقف كانت المبالغة مقبولة، وإن لم "تتوازن" الكفتان وذلك بالزيادة أو بالنقص كانت "المبالغة" تكلفاً وإسرافاً.
وقد وردت أمثلة "للمبالغة" في القرآن الكريم، مثل قوله تعالى: إنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيم ِ* طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّياطِينِ (6) .
يقول "الخفاجي" في هذه المبالغة راداً على من يعترض عليها: "فإن قيل: قد مضى من كلامكم أن المشبه به يجب أن يكون معروفاً واضحاً أبين من الشيء الذي يشبه، فما تقول في قوله تعالى في "شجرة الزقوم" و"رؤوس الشياطين" وهي غير مشاهدة؟.
قيل: "إن الزقوم غير مشاهد ورؤوس الشياطين غير مشاهدة، إلا أنه قد استقر في نفوس الناس من قبح الشياطين ما صار بمنزلة المشاهد، كما استقر في نفوسهم من حسن الحور العين ما صار بمنزلة المشاهد" (7) .
وهكذا وجدت أن معيار "التوازن" يتدخل في:
أ - قبول ورفض المبالغة وجمالها وقبحها.
ب- يتدخل المعيار أيضاً في تحديد مقدار ما يجب أن تكون عليه "المبالغة". وقد تنبه إلى ذلك نقاد العرب الذين وافقوا على فن "المبالغة" في القول، وحاولوا أن يضبطوا ذلك الفن قدر المستطاع، وأتصور لو أنهم تنبهوا إلى أن ذلك الضابط يكمن في معيار "التوازن" لكفاهم.
فهذا القاضي "علي الجرجاني" يبت في أمر المبالغة ويقضي بما هو آت: "فأما "الإفراط" فمذهب عام في المحدثين، موجود كثير في الأوائل، والناس فيه مختلفون، فمستحسن قابل، ومستقبح راد، وله رسوم متى وقف الشاعر عندها، ولم يتجاوز الوصف حدها جمع بين القصد والاستيفاء، وسلم من النقص والاعتداء، فإذا تجاوزنا اتسعت له الغاية، وأدته الحال إلى الإحالة، وإنما الإحالة نتيجة "الإفراط" وشعبة من "الإغراق"، والباب واحد، ولكن له درجات ومراتب" (8) .
وواضح من النص أن كلمة "الإفراط" التي جاءت في أول العبارة تعني "المبالغة"، وأما كلمة "الإفراط" التي جاء ت في آخر العبارة فعنت الإسراف القبيح، لأنه قال بعد ذلك "وطلب المتأخر زيادة، واشتاق إلى الفضل، فتجاوز غاية الأول، ولم يقف عند حد المتقدم، فاجتذبه "الإفراط" إلى النقص، وعدل به الإسراف نحو الذم" (9) .
ومن النقاد من اقترح اقتراحاً آخر في شأن مقدار "المبالغة" المقبولة، فهذا "أبو هلال العسكري" يقترح أن يأتي في الكلام كلمة توحي بالمبالغة فيقول: "ومن الناس من يكره الإفراط الشديد ويعيبه وإذا تحرز المبالغ واستظهر فأورد شرطاً، أو جاء – بكاد – وما يجري مجراها يسلم من العيب" (10) .
ويؤيد هذا الرأي "الخفاجي" فيقول: "والذي أذهب إليه المذهب الأول في حمد "المبالغة" لأن الشعر مبني على الجواز والتسمح، لكن أرى أن يستعمل في ذلك – كاد – وما جرى في معناها ليكون الكلام أقرب إلى حيز الصحة. كما قال "أبو عبادة":
أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكاً
من الحسن حتى كاد أن يتكلما" (11)
ومما لا شك فيه أن النصوص الفنية يجب أن تبنى على ذلك النوع من "المبالغة" لأن متذوقي الفن مهيئون نفسياً لقبول تلك المبالغة بصدر رحب ما لم يتجاوز الحد في صحتها، وليس يطلب من الأديب نقل الواقع فقط، لأن هذا عمل المؤرخ وعالم الاجتماع، لكن يطلب من الأديب مزج الواقع بألوان الخيال التي "تتوازن" مع حالته الشعورية.
"ولحازم القرطاجني" تفصيل في المبالغة في الشعر يقول فيه:
"إن الشعر له مواطن لا يصلح فيها إلا استعمال الأقاويل الصادقة، ومواطن لا يصلح فيها إلا استعمال الأقاويل الكاذبة، ومواطن يصلح فيها استعمال والصادقة والكاذبة، واستعمال الصادقة أكثر وأحسن، ومواطن يحسن فيها استعمال الصادقة والكاذبة واستعمال الكاذبة أكثر وأحسن، ومواطن تستعمل فيها كلتاهما من غير ترجح" (12) .
إذاً فمدار الأمر على المعايشة للموقف و "التوازن" معه. ويفصل "حازم" أكثر فيقول: "فقد تبين أن الوصف والمحاكاة لا يقع الكذب فيها إلا "بالإفراط" وترك الاقتصاد.. و "الإفراط" هو: القسم الذي يجتمع فيه الصدق والكذب، فإن الشاعر إذا وصف الشيء بصفة موجودة فيه، فأفرط فيها، كان صادقاً من حيث وصفه بتلك الصفة وكاذباً من حيث أفرط فيها وتجاوز الحد..
أما القول الصادق، فمنه القول المطابق للمعنى على ما وقع في الوجود، ومنه المقصر عن المطابقة بأن يدل على بعض الوصف ويقع دون الغاية التي انتهى إليها الشيء من ذلك الوصف، فهذا النوع من الصدق في الشعر قبيح من جهة الصناعة وما يجب فيها.
لكن الشاعر أيضاً مضطر حيث يريد تحسين قبيح أو تقبيح حسن أو تتميم ناقص بالنسبة إلى ما يراد منه بـ "المبالغة" في وصفه لتزيد النفوس زيادة الوصف تحريكاً، فيستعمل حينئذٍ الأقاويل الكاذبة وما لا يوقع الصدق. كما يستعمل الحوشي والعامي من الألفاظ مضطراً في ذلك، أو مسامحة للفكر فيما يقتضيه من المعاني، أو يجتلبه من الألفاظ عفواً دون كد، لأن يرى بعض الأحوال المقدرة التي يتخيلها أهز من الأحوال التي وقعت له فيبني قوله على الحال المخيلة الممكنة دون الواقعة، ليكون الكلام بذلك أشد موقعاً من النفس وعُلوقاً بالقلب" (13) .
والحق أن الصدق والمبالغة إفراطاً أو تفريطاً يحتاجان إلى ضبط دقيق شديد الحساسية في ضوء معيار "التوازن".
فبالنسبة للصدق فالمهم هو صدق إحساس الشاعر فيما يشعر به ولا عبرة بالواقع الخارجي ولا بمطابقة الصورة لهذا الواقع.
وأما بالنسبة للإفراط والتفريط في الصورة فالمدار عليه هو المقام وهو حال المخاطب، ولو روعي المقام وطابقت الصورة مقتضى حال المخاطب فلا إفراط ولا تفريط، ولا مبالغة.
أي أن "التوازن" يتحقق بصدق إحساس الأديب فيما يتصوره، وبمراعاة المقام، ومقتضى حال المخاطب اللذين "يتوازنان" مع كلام المنشىء.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :3808  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 50 من 86
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور عبد الكريم محمود الخطيب

له أكثر من ثلاثين مؤلفاً، في التاريخ والأدب والقصة.