شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الفيصل.. الملك، السيف!!
اسمه.. من أسماء السيف.
حليم إلى أبعد حدود الحلم، لكنه إذا غضب ـ ونادرًا جدًا ما يغضب ـ تحوّل غضبه إلى إعصار الصحراء، وأمواج المحيط، دون أن تفقد شخصيته اتزانها (اتق غضبة الحليم((راكد)) ركود سلسلة جبال ((السرواة)) التي فتحها، لا تهزه الأحداث كَبُرت، أم صَغُرت.. يقول الشاعر:
وتَصْغُر في عين الكبير الكبائرُ
وتَكْبُرُ في عين الصغير الصغائر
زعيم لا يتكرَّر، ثائرٌ لا كالثوار، قام في بلاده بثورات صنعت متغيِّرات غيَّرت وجه التاريخ داخل بلده، دون أن تراق قطرة دم!!
* (( تحريره للعبيد )) من عبودية البشر، إلى عبودية خالق البشر، رب السماوات، والأرض، ((كان ثورة)).
* (( تعليم المرأة )).. وإخراجها من ظلمة ((الجهل)) إلى نور ((العلم)) امتثالاً لتعاليم الإسلام، واقتداء بنساء مسلمات الأسلاف الصالحات ((كان ثورة)).
* إدخال التلفاز (الرَّائي) رغم كل العقبات (( كان ثورة )) .
إذا رأى في أمر من الأمور، أو قضية من القضايا خير بلاده، وأمته أتخذ قراره بشجاعة، دون الاصغاء إلى هرطقة المهرطقين، وباعة الكلام الفارغ في حوانيت أسواق الثرثرة، ودون تردد، فالقرارات الكبيرة، تحتاج إلى مواقف الرجال الكبار.
قليل الكلام، كثير العمل، إذ كان يعمل (17) ساعة، في الـ (24) ساعة!! في آخر أيامه بحكم الإجهاد، وعامل السن نصحه طبيبه بالراحة من خلال تخفيف ساعات عمله، وإنقاصها.
ابتسم في وجه الطبيب، وسأله: وماذا عن مصالح وطني، وأبناء وطني، وأمتي، أليست أمانة في عنقي؟ ردَّ عليه الطبيب مشفقًا على صحته قائلاً: أوكل بها غيرك!!
قال باحساس المؤمن المسلم العميق الواثق من نفسه: وماذا سأقوال لخالقي يوم القيامة، يوم لا ينفع مُلك، ولا جاه، ولا مال، ولا أولاد، ولا من سأوكل إليهم جزءً حساسًا من واجبي؟
كأنه بسؤاله هذا يود أن يذكّر بمقولة، وصدق حكمة الخليفة الراشد الفاروق عمر بن الخطاب (( لو عثرت شاة في العراق لسألني الله لِمَ لَمْ أمهِّد لها الطريق )).
طبيبه يعرف أن عزيمته لا تفل، ومواقفه الجادة لا تتغيَّر بتغير الظروف، والأزمات، صحية كانت، أم غير صحية، فلم يملك طبيبه إلا الدعاء له بالتوفيق.
حضرتُ مجلسًا له كان يستقبل فيه رؤساء تحرير جرائد ومجلات عربية، وقتها دخل مواطن من (( البادية )) قادمًا من خيمته، وعلى ملابسه غبار الصحراء مناديًا بأعلى صوته دون خوف، أو وجل، رافعًا بيده ورقة قائلاً: (( يا فيصل، يا ولد عبد العزيز )) قالها البدوي بكل عفوية ((الفطرة)) الإنسانية، التي لم تفسدها رخاوة، ونعومة المدينة، والمدنية، ولإحساسه بأن مليكه لم يتخرَّج في جامعة أوروبية، أو أمريكية، وأنه مثله من أبناء البادية، يعرفها، ويعرف أهلها البسطاء الطيبين، قبل أن يصبح ملكًا.
لم يقل له (( يا سيدي )) أو (( يا صاحب الجلالة )) ، أو (( يا صاحب العظمة )) !! تحوَّلت وجوه رؤساء التحرير العرب الذين كانوا في المجلس إلى علامات دهشة، واستغراب، وإشارات استفهام، لأنهم لم يألفوا أن يدخل بدوي قادم من الأرياف أو الصحراء ليس على رئيس الدولة فحسب، بل على وزير، أو مدير عام، دون ألقاب مثل: ((يا صاحب الفخامة))، و ((يا دولة الوزير))، أو ((يا باشا))، و ((يابك))!!
الُتَفَتَ إليهم (( أبو عبد الله ))، وهو يقرأ في وجوههم علامات الدهشة، والاستغراب، وإشارات الاستفهام، الُتَفَتَ إليهم وهو يبتسم إبتسامة الصقر الحر، ثم أشار بيده مستقبلاً البدوي بكل تواضع، ورحابة صدر، تسلَّم منه الورقة، قرأها والبدوي واقف ينتظر النتيجة وقتها، ثم أشار إلى أحد ((أخوياه)) وكان البدوي يريد إلقاء قصيدة (( نبطية ))، فاستأذن ((أبو عبد الله)) من ضيوفه قائلاً: هل تحبون سماع قصيدة بلهجتنا البدوية، هو نوع من الشعر نسميه ((النَّبَطِي)) وله مسميات أخرى في الأقطار العربية، وهو شعر بادية الجزيرة العربية صحراءها وخليجها؟
أندهش رؤساء التحرير من ثقافة ((أبي عبد الله)) ـ ليست عن السعودية فحسب ـ بل عن الوطن العربي عن الشعر الشعبي رغم همومه السياسية الكبيرة، لأنهم لا يعلمون أنه من أساتذة من يقول ((الشعر النَّبَطِي)) وأغراضه، وبخاصة (( الشعر النَّبَطِي الحِكْمِي )) ـ من الحِكْمَة.
وحين أعلن رؤساء التحرير موافقتهم، أشار إلى البدوي موافقًا على إلقاء قصيدته ((النَّبَطِية)) التي بدأها بالبسملة، والحمدلة، ثم موجهًا قصيدته إلى ((أبي عبد الله))، فكان يخاطبه من بدايتها إلى نهايتها باسم ((يا ابن عبد العزيز)).. وخرج البدوي مسرورًا منتشيًا أن قصيدته دخلت التاريخ لأنه ألقاها بين يدي ((الفيصل ـ أبو عبد الله)).. وفي مجلس ((الفيصل بن عبد العزيز)).
ولا أستبعد أن الشاعر الدبلوماسي الكبير الذائع الصيت (عمر أبو ريشة) الذي كان يلقي بعض قصائده الغُررُ في مناسبات الحج، لا أستبعد أنه تأثر بمخاطبة ((الفيصل))، فأقتبسها في إحدى قصائده التي كان يلقيها في الحفل التكريمي السنوي الذي يقيمه ((الفيصل)) في الحج لضيوفه من رؤساء الدول، والوفود المرافقة لهم، وغيرهم من الضيوف، وأذكر بيتًا من قصيدة قال فيها بسحر التفات اللغة العربية:
يا ابن عبد العزيز، والتَفَتَ العِزُّ
وأَصْغى، وقال من نَادَانِي
وقد حضرتُ حفل افتتاح مبنى الرائي (التلفاز) الجديد بجدة في الثمانينات الذي شرَّفه ((الفيصل)).. كان وزير الإعلام وقتها الأستاذ (جميل الحجيلان )) الذي بعد أن ألقى كلمته نهض ((الفيصل)) بقامته المهيبة مرتجلاً كلمته، كما هي عادته في كل خطاباته التي يلقيها في المناسبات التي يرى فيها أهمية للخطاب الذي سيلقيه، لأنه في خطاباته يترسَّل على سجيته بعيدًا عن شعارات العبارات الإنشائية البرَّاقة الجوفاء، مثله كمثل صانع الذهب الموشَّى بالأحجار الكريمة.
قال ((الفيصل)) في خطابه بما معناه:
(( إنني أسمع من الإذاعة وأقرأ في الصحف عبارة (( صاحب الجلالة )) قبل إسمي، إنني لا أحب هذه العبارة لأنها دخيلة علينا، وعلى مجتمعنا المسلم )) !!
ألم أقل فيما أسلفت إنه لا يلقي خطابًا إلا عند ما يشعر أنه يريد أن يوجِّه رسالة تاريخية مهمة إلى أبناء وطنه الذين يسهر لياليه من أجل عزتهم، وكرامتهم، وراحتهم.
ورسالته التي قالها في خطابه باختصار، ودون مواربة وزخرفة في القول في هذا الحفل الكبير رسميًا، وشعبيًا، ليست الرسالة الوحيدة التي يريد توصيلها، بل أراد منها رسالة أخرى لا تقل أهمية عن الرسالة السابقة، حيث قال موجِّهًا عتبه الراقي للأستاذ (جميل الحجيلان) وزير الإعلام، قال بما معناه:
(( حين كنتُ قادمًا إلى هذا الحفل سمعتُ من إذاعتنا أغاني، وأناشيد تخصُّني شخصيًا كملك، وأحب بهذه المناسبة أن أقول إن الإذاعة، والتلفزيون أُنشئا من أجل الوطن والمواطن، وخدمة هذا الوطن، وهذا المواطن، وليس من أجل بث الأغاني، والأناشيد في (( الفيصل )) الذي يعد نفسه فردًا من أفراد هذا الوطن الكريم بالإسلام، وهذا المواطن العزيز على نفسي )) .
رسالتان ساميتان كبيرتان، من ملك وقائد كبير ملهم، تعنيان أنه ((لا شاه))، ولا ((شاهنشاه)) في مجتمعنا القائم على تعاليم الإسلام ومبادئه السماوية، التي لا تفرِّق بين المسلم وأخيه المسلم إلا بالتَّقوى، فالجميع متساوون في الحقوق، والواجبات أمام رب الإسلام والمسلمين.
وبهذه التعاليم والمبادئ ساد العرب العالم، وأنشأوا حضارة متكاملة، في الوقت الذي كانت أوروبا تعيش في ظلام (( القرون الوسطى ))... وحين تغيَّرنا، شرَّقنا، وغرَّبنا، تقلَّص دورنا في العالم، وأنحسرت مساحة الأرض التي كنا نحكمها، وأندثرت حضارتنا، وبادت، تمزَّقنا إلى دويلات مشرذمة، وشعوب متخلِّفة، تعيش على موائد الآخرين الذين عرفوا كيف يستثمرون قدراتهم وثرواتهم ليحتلوا المقاعد الأولى، ويعتلوا المسرح العالمي ليمثِّلوا علينا دور الوصي، والمحتل، والمستوطن، والمستعمر، فتحوَّلنا إلى جماهير مهزومة ومغلوب على أمرها، نقف في آخر صفوف المتفرِّجين في صالة سينما رخيصة، عيوننا، وقلوبنا، وعقولنا مشدودة في انبهار لمشاهدة ومتابعة أفلام (( الكاوبوي ))، و (( جيمس بوند )) و (( رامبو )) و (( جيمس دين ))، والأفلام العلمية المدهشة التي تصوِّر الآخرين ((سادتنا)) يضعون أقدامهم على ((وجنة القمر)) الذي أكتفينا بالتغزُّل فيه، وتدبيج القصائد، والملاحم الشعرية!!
حتى أطفالنا أصبحوا يتمثَّلون بأفلام الكرتون مثل (( سوبر مان )) ، و (( توم أندجيري )) ، و (( بات مان )) ، و (( ميكي ماوس )) ، و (( تيمون، وبومبا )) وغيرها في غياب (( خالد بن الوليد )) ، و (( طارق بن زياد )) ، و (( عقبة بن نافع )) ، و (( خولة بنت الأزور )) ، و (( أبو عبيدة بن الجرّاح )) ، و (( القعقاع )) ، وغيرهم من صناديد وقادة العرب المسلمين!!
لم يغيِّبونا نحن الكبار، بل غَزَوا عقول أطفالنا، جيل المستقبل الذي سيكون فاقداً لذاكرته التاريخية العربية الإسلامية!!
وتظل (( فلسطين )) بقدسها، ومسجدها الذي كان (( القبلة الأولى )) في ذاكرة تاريخنا، تظل جرحنا الكبير، إلى جانب جراحنا التاريخية، وعلى رأسها (( الأندلس )) جرحنا الأكبر!!
وحين نذكر معرِّجين على تاريخنا الأسود، وجراحنا الكبيرة، فإننا بهذا لا نبعد عن موضوعنا عن (( الفيصل )) الذي عاش حياته حاملاً في قلبه كل هذه الجراح الكبيرة، حتى أن أمنيته قبل استشهاده كانت بأن يصلِّي ((جمعة)) في (( المسجد الأقصى )) فلم تتحقق له، ومات شهيد هذه الجراح التي كانت تقتات من حشاشة كبده وفؤاده، ولم يكن شهيد (( المسجد الأقصى )) وحده، تغمده الله بواسع رحمته.
ولنعد إلى ذكرياتنا مع ((الفيصل)).. وهي ذكريات لم ترد في كتب ممن أرَّخوا لحياته، فقد كان زاهداً في كتابة مذكراته عكس ما فعل غيره من بعض القادة والزعماء والملوك، تاركاً كتابتها لجيلنا الذي استظل بأفياء مرحلته الوارفة الظلال.
أذكر عند افتتاحه لميناء جدة الجديد، بعد أن ألقى الأستاذ (محمد عمر توفيق) رحمه الله كلمته بصفته وزيراً للمواصلات ـ آنذاك ـ وكانت الموانئ تابعة لهذه الوزارة، قبل أن تتحوَّل إلى ((مؤسَّسَة عامة))، أذكر أنه شرح في كلمته التي ألقاها أمام ((الفيصل))، في حفل كبير، كل ما يجب شرحه عن الجهود التي بُذلت في تجديد الميناء، وتوسعته إدارياً، ومالياً وفنياً.
ثم اقترح الوزير في كلمته أن يكون اسم الميناء ((ميناء الملك فيصل)).. وبعد أن انتهى من إلقاء كلمته نهض ((الفيصل)) كالسيف من مقعده، أحسستُ وقتها أنه سيوجِّه رسالة مهمة، كما هي عادته، أثنى على الجهود المبذولة، بعدها جاء دور الرسالة المفاجئة التي ربما لم لم يتصورَّها الوزير نفسه، ولا الجمهور الغفير الذي حضر الحفل.
لقد شكر للوزير مشاعره الطيبة نحوه بإطلاق إسمه على الميناء، ثم قال: (( أرى أن يكون اسم الميناء (( ميناء جدة الإسلامي ))... ومن يومها أصبح اسم الميناء كما أراد ((الفيصل)) إلى اليوم.
وقبل استشهاده بسنوات قليلة سافر إلى منطقة (( عسير )) لافتتاح ((المدينة العسكرية)) بمدينة (( خميس مشيط )).. وكان أمير المنطقة الصديق الروحي الغالي خالد الفيصل حفظه الله، وسدَّد خطاه، ووفقه في مشاريعه الكبيرة إقليمياً وعربياً.
كان يرافق ((الفيصل)) في هذه الرحلة وفد من رؤساء تحرير الصحف، والمجلات السعودية، وكنتُ يومها أحد موظفي وزارة الإعلام نهاراً وأعمل في الوقت نفسه مساءً محرِّراً، ومشرفاً على صفحات الأدب والثقافة في مجلة ((اليمامة)).
باختصار، كان من ضمن برنامج زيارة ((الفيصل)) تشريفه لحفل دُعي إليه من قبل شيوخ القبائل (( العسيرية )) للقيام أمامه باستعراض رقصاتهم الحربية، في مكان جَرَتُ فيه معركة حربية كان فيها ((الفيصل)) قائداً للجيش السعودي في عهد والده المؤسس لكيان المملكة العربية السعودية (( الملك عبد العزيز آل سعود )) طيَّب الله ثراه، حيث انتصر ((الفيصل)) القائد في تلك المعركة ليدخل عسير فاتحاً، وانضمت إلى كيان المملكة، كأنَّ القبائل أرادت أن يكون الحفل ذكرى تاريخية، وتأكيداً لتجديد الولاء للحكم السعودي الذي نقلهم من عصر القبلية، والشتات، والمنازعات إلى العصر الحديث، عصر الوحدة والمدنية، والتمدن، كانت بالنسبة لهم نُقلة حضارية لينعموا بحياة الأمن والاستقرار والتنمية الحديثة.
كان الحفل مكشوفاً دون سرادق، أو مقاعد للجلوس، الجميع واقفون على أقدامهم، أمراء، ووزراء، وصحافيين، وعلى رأسهم القائد الملك ((الفيصل)) وكانت القبائل بملابسها التقليدية، وأسلحتها كالبنادق التي يطلقون رصاصها في الجو حين مرورهم أمام ((الفيصل))، وسيوفها، وخناجرها التي يتمنطقون بها إعتزازاً بموروثها القبلي.
مرَّ الوقت طويلاً فَتَعِبَ من الوقوف الطويل من تَعِبَ، ومنهم من هو في سن الشباب فاضطروا إلى الجلوس على الرمل، إلا ((الفيصل)) ظل واقفاً في ثبات القادة النادرين، رغم كبر سنه، وقد تبرَّع أحدهم فأحضر له مقعداً ليجلس عليه، فالتفت إليه ((الفيصل)) وقال له كلاماً لم نسمعه من دقات الطبول، وأصوات الرصاص المنطلق من فوهات البنادق، فعاد الرجل بالمقعد مسرعاً كالخائف!!
تحرَّك الفضول الصحافي، أو الحس الإعلامي داخلي فاتجهتُ نحو الشخص الذي حمل المقعد ليجلس عليه ((الفيصل)) ثم أعاده راكضاً به.
سألته ماذا قال لك ((الفيصل))؟ رد وهو يبتلع فشله وخوفه، لقد قال لي بعنف (( عيب، أنا مع رَبْعِي إن وقفوا وقفت )) يقصد بربعه تلك القبائل التي تمر أمامه، أثارني الموقف، ونظرتُ إلى نهاية طابور القبائل، فلم أر غير الغبار المتصاعد من وقع أقدامهم، ولم أحدِّد نهايته، فانتحيت جانباً أجلس متعباً مع الجالسين على الرمل، لا أدري كم مضى من الوقت، و ((الفيصل)) ما يزال واقفاً حتى انتهى طابور القبائل، وأبتعدوا عن المكان، فعاد ((الفيصل)) ليمتطي سيارته الخاصة عائداً إلى المسكن الذي أعد له، وتفرَّقنا لركوب سياراتنا.
حين عدتُ إلى الرياض عن طريق جدة، قمتُ بزيارة الصديق (عبد الله الجفري) في جريدة (عكاظ) الذي حدَّثته عن هذا الموقف فحكَّ رأسه كعادته وطلب مني الكتابة عن هذا الموقف، فكتبته له، وبعد قراءته أرسله إلى المطبعة لصفِّه فوراً، وجعله إفتتاحية للجريدة في الصفحة الأولى، ووضعنا عبارة الفيصل ((أنا مع رَبُعِي)).. عنواناً لها.
ومن المواقف التي لن أنساها، أنه في موسم من مواسم الحج، ذهبنا مجموعة من موظفي وزارة الإعلام، كل موظف مع وفد إعلامي من خارج المملكة للسلام على ((الفيصل)). حين أقتربتُ من الملك فيصل الذي كان واقفاً يحيِّي كل فرد من أفراد الوفود، كان أحد الزملاء يسبقني، وكان الوفد الذي يرافقه من إحدى البلدان الإسلامية الأفريقية، فكان كل فرد منهم حين يسلِّم على ((الفيصل)) ينحني أمامه كما جرت العادة (البروتوكولية) السياسية في العالم، فالتفت ((الفيصل)) إلى زميلي سائلاً: ((هل تعلمونهم في الوزارة على الانحناء عند السلام عليَّ؟ فنفى ذلك زميلي، لكن ((الفيصل)) لم يكتف بهذا السؤال.. بل قال لزميلي: قل لهم إن تعاليم ديننا الإسلامي تحرِّم الانحناء، لغير الله)) رد زميلي أمرك، على أساس أن يقول لوفد الذي يرافقه فيما بعد، لكن ((الفيصل)) قال لزميلي: قل لهم ها الحين أمامي!!
ولأن الوفد الأفريقي المرافق لزميلي لا يعرف العربية، فكلَّمهم زميلي بالإنجليزية التي كان يتقنها، و ((الفيصل)) يسمعه لمعرفته باللغة الإنجليزية، فما كان من أفراد الوفد الافريقي إلا الانحناء مرة أخرى، فابتسم ((الفيصل)) كأنِّي به يقول في نفسه أمام ما حدث ((الطَّبع يغلب التَطَبُّع)).. هكذا فسَّرتُ ابتسامته.
وفي الحال نَبَّهُتُ بأدب الوفد الذي معي، وكان من إحدى البلدان العربية من الانحناء عند سلامهم، ومصافحتهم للفيصل، فردوا بأنهم سمعوا وشاهدوا ما حَدَثَ مع الوفد الأفريقي، لهذا حين جاء دوري كنتُ خائفاً أن يخطئ أحدهم فينحني، لكنني حمدتُ الله أن مرَّ الموقف بسلام، حسب أمر القائد المسلم ((الفيصل)).
هذه مواقف صغيرة محلية، لا تعد شيئاً يُذكر مع مواقف (( الفيصل )) الكبيرة، على المستويات الوطنية، والعربية، والإسلامية، والعالمية، إنها مجرد قطرات صغيرة من مياه محيط كبير لا قرار له، رحم الله (( الفيصل )) الزعيم العربي المسلم (( السيف )) وأسكنه فسيح جنَّاته.
ولانني أكتب عن المواقف التي أعرفها عن شخصيات هذا الكتاب اعتماداً على الذاكرة المعرَّضة للنسيان، والتقديم والتأخير، فقد فاتني الإشارة إلى بعض المواقف للزعيم الذي لن ينساه التاريخ بمواقفه الكبيرة المشرِّفة والمؤثرة على الساحات العربية والإسلامية والدولية.
* أثناء هزيمة حزيران 1967م المشؤومة على العرب من قبل العدو الإسرائيلي بمساعدة الولايات المتحدة الأمريكية ودعمها الكبير غير المحدود، هذه الهزيمة التي احتلت فيها إسرائيل الجولان، وسيناء، والضفة الغربية من فلسطين العربية، بما فيها القدس الشريف، كان من مواقف ((الفيصل)) التاريخية قطع البترول عن أمريكا وأوروبا معرِّضاً المملكة لكثير من الأخطار الناجمة عن هذا الموقف ((الفيصلي)) الصميم في عروبته، التاريخي في أثره وتأثيره دولياً.
وحين هدَّدت أمريكا بضرب آبار البترول بقذفها بالطائرات العسكرية رد عليها ((الفيصل)) بما معناه أنه يرفض التهديد، وأنه قد أمر بتلغيم آبار البترول لتفجيرها قبل أن تصل إليها أمريكا، وأنه وشعبه اعتادوا العيش على اللبن والتمر قبل أن يعرفوا حياة ورفاهية البترول، وسيعودون للعيش على ما اعتادوا عليه، وستكون أمريكا، ومصانعها، وتكنولوجيتها وشعبها الخاسر الوحيد، وليس المملكة وشعبها!!
ورغم أن رئيس أمريكا يومذاك ((نيكسون)) الذي تعرَّف على ((الفيصل)) أثناء زيارته للمملكة، قال بما معناه (( إن فيصل هذا أكبر زعيم عربي محنَّك )) بعد لقائه.
وعندما بدأت المفاوضات ((المكوكية)) التي قام بها وزير خارجية أمريكا ـ يومذاك ـ (( هنري كيسنجر )) اليهودي الذي كان يتفاخر أنه ابن جامعة (( هارفارد )) الامريكية التي يعدها أكبر جامعة في العالم كله!! وأنه لا يُغلب في أي مفاوضات مع أي شخصية مهما كانت مكانتها وأثرها وتأثيرها.
وعندما بدأ ((كيسنجر)) برحلاته ((المكوكية)) في المنطقة، ومقابلة القادة العرب قابل أحد أصدقائه الحميميين الذي يفترض فيه معرفته الدقيقة بوضع المنطقة السياسي وقادتها، كان اللقاء بين الصديقين على شرفة فندق ((شبرد)) في إحدى العواصم العربية.
وحين وصل الحديث عند تقديره للقادة العرب من خلال معرفة صديق ((كيسنجر)) لهم، أختصر الصديق الحديث بأن قال لكسينجر بما معناه إن أصعب من سيقابلهم، يتميز بحنكة فطرية سياسية وعملية، وبنَفَس طويل، وتميز في اتخاذ قراراته الحكيمة الصائبة دون أن يتنازل عنها، ولا أحد يستطيع أن يزحزحه عنها، لأنه يتخذ قراراته بروية يحكمها بُعد أفقه السياسي هو ((الملك فيصل)).
ولما لم يعجب كيسنجر حديث صديقه وقف عن مقعده وقال بما معناه: هل أنجح في مهمتي المكوكية في أغلب رحلاتي لأفشل مع ((فيصل)) هذا البدوي الصحراوي؟
فرد عليه صديقه إن البداوة، والصحراء هما اللتان جعلتا منه قائداً صعباً، إن لم أقل مستحيلاً، واستثنائياً!!
وجاء كيسنجر إلى المملكة لمقابلة ((الفيصل)) البدوي الصحراوي حسب وصف كيسنجر، فاستقبله في المطار السيد (عمر السقاف) رحمه الله بصفته وزير الدولة للشؤون الخارجية يومذاك، لأن الملك فيصل كان هو وزير الخارجية.
وعندما وصل الاثنان إلى أسفل عتبات الديوان الملكي كان يفترض كيسنجر أن الملك فيصل سوف يستقبله عند بوابة الديوان الداخلية كما يقضي ((البروتوكول)) السياسي، لكن الملك فيصل لم يكن موجوداً فأحس كيسنجر بأول صفعة، وبدأ يتقلص، وحين دخل مجلس الاستقبال لم يكن الفيصل موجوداً أيضاً فأشار ((السقاف)) إلى المقعد الذي يجلس عليه كبار الضيوف، ودخل إلى مكتب الفيصل ليعلمه بوجود ((كيسنجر))، ولم يتحرك الفيصل إلاَّ بعد مرور دقائق كافية لانهاك أعصاب كيسنجر!!
وحين خرج قام كيسنجر لتحيته، فطلب منه الجلوس وجلس هو بدوره على مقعده المعتاد.. وتحرك كيسنجر للحديث فإذا بالفيصل يضغط جرس إحضار القهوة العربية، وبعد الانتهاء وقبل أن يستعد كيسنجر للحديث ضغط الفيصل زر جرس إحضار الشاي، كل هذا حدث فتذكَّر كيسنجر كلام صديقه في شرفة فندق ((شبرد)) لم يتح الفيصل الحديث لكيسنجر، بل التفت إليه سائلاً:
ـ هل جئت إلينا ممثِّلاً دولتك الأمريكية؟
ـ نعم، رد كيسنجر!
ـ هذا التليفون أمامك للاتصال بها لإصدار أمرها إلى إسرائيل من أجل الانسحاب من الأراضي العربية التي احتلتها وهي الجولان وسيناء والضفة الغربية بما فيها القدس، وإذا تلقيت الموافقة فأنا بدوري أمثل بلادي سأرفع السماعة للأمر بضخ البترول!!
حاول كيسنجر الحديث لكن: الفيصل طلب: القهوة ثم الشاي إيذاناً بنهاية المقابلة، ونهض الفيصل مودعاً متجهاً إلى مكتبه، وأتصور أن الدنيا دارت بكيسنجر، وأن الأرض سحبت من تحت قدميه.. فقد فشل ابن (هارفارد) المغرور، أمام موقف الفيصل، وشخصيته النموذجية، وصلابته في المواقف الكبيرة.
وفي موسم حج حين كان الأستاذ (إبراهيم العنقري) وزيراً للإعلام وقف الأستاذ (أحمد فراج) أمين عام منظمة إذاعات الدول الإسلامية سابقاً بعد أن ألقى الوزير كلمته في وفود الحجاج الأعلاميين على سطح مبنى في (منى) أعلن فراج سراً لم يكن معروفاً للجميع، وهو أن المملكة أثناء الحرب كانت تشتري البترول بأسعاره المرتفعة من إيطاليا لتزود به مصر العربية!!
وروى أحد الصحافيين العرب أنه طلب من الفيصل لقاء ليتحدث فيه عما قدمته المملكة لمصر في حربها في أكتوبر 1973م (رمضان) فكان رد الفيصل الاعتذار للصحافي لأن ليس من طبيعته الحديث عن المساعدات التي يقدمها لأشقائه العرب، وأنه يعمل بصمت، دون منٍ أو أذى، أو شعارات إعلامية!!
هذه بعض المواقف السياسية المهمة خارج المملكة بعد أن كتبتُ عن بعض مواقفه في الداخل كما أعرفها.
فعلى الذين عاشوا بجانب الفيصل، وعملوا معه عليهم حق كتابة مذكراتهم عن مرحلته، ولا ينبئك مثل خبير.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1390  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 4 من 43
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

سعادة الأستاذة صفية بن زقر

رائدة الفن التشكيلي في المملكة، أول من أسست داراُ للرسم والثقافة والتراث في جدة، شاركت في العديد من المعارض المحلية والإقليمية والدولية .