شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الاستفتاح، والمقدمة للناشر
الحمد لله خالق الأمم ومفنيها، وباعث الرِمَمِ ومحُيْيها.. موُجِد النفوس ومسعدها ومشقيها، مُفَصِّل القِسَم ومؤتيها، عالِمِ جرمات (1) العالَم ومحصيها، ومقدرها ومنشيها.. محُاسب النفوس، الملك القدوس.. مانح العقل، مُفيض العدل.. إله العالَم، الحيُّ القيُّوم العالِم.. جل الله ربُنا وعلا، لا إله إلا هو له الحمد في الآخره والأولى.. أحمده حمداً جزيلاً، بُكرة وأصيلاً، كما ينبغي لكرم وجهه وجلاله، وسعة آلائة وإفضاله.. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة مُخلص في عَلنه ونجواهُ، عالم أنهُ لا إله للعالَم سواه.. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الأمين، الآتي بالحق المبين.. وصلواتُ الله وسلامه على أنبيائه والمرسلين، واخصُصِ اللهم منهم خيرَهم من نوْع الإنسان ـ المبعوث إلى الإنس والجان، المنسوخ بملَته الملل ولا ناسخ لملَّتِه (2) بشريعته الثقلين إلى انقضاء هذا العالم وقيام ساعته ـ بأفضل صلاة وأزكاها، وأرفع (3) درجة وأسماها.. قال الله جل ثناؤه: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [سورة الأحزاب/56]؛ فأورد تعالى هذا النص خبراً وأمراً، وكفى بذلك فخراً؛ فجزاه الله عنا أفضل ما جزى به نبياً عن أتباع دعوته؛ فلقد أدَّى أمانة ربه، ونصح لأمته، وأوضح لهم سُبُل الحق، ونهج لهم سنن الصدق، وأبَانَ لهم وحي ربه تعالى وما أراده [منهم] (4) فيما خاطبهم به؛ فظهرت معالم شريعة الله على يديه، فيما أوحى تعالى إليه من القرآن مُفصلاً منجماً مقدراً بأوقات الحوادث مقسَّماً؛ ليبيِّنه رسوله وأمينه كما افترض عليه.. قال تعالى: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [سورة النحل/44]، وقال تعالى: وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ [سورة النحل/64].. قرن تعالى طاعَتَه بطاعِتهِ، وجعل اتِّبَاعَهُ شرطاً في استفادة محبتِهِ.. قال تعالى: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [سورة آل عمران/31]، وقال تعالى: وَيِقُولُونَ ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ مِّن بَعْدِ ذلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ . وَإِذَا دُعُواْ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ مُّعْرِضُونَ . وَإِن يَكُنْ لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُواْ إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ . أَفِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُواْ أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ . إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُواْ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ . وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُون . وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُل لاَّ تُقْسِمُواْ طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ . قُلْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ [سورة النور]، وقال تعالى: وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ فَإِن تَولَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ [سورة التغابن /12]، وقال تعالى وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ أِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ [سورة النساء /64]، وقال تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُّبِيناً [سورة الأحزاب / 36]، وقال تعالى: مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ [سورة النساء/ 80]، وقال تعالى يأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ . وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ [سورة الأنفال]، وقال تعالى يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اسْتَجِيبُواْ للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ [سورة الأنفال /24]، وقال تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً [سورة النساء /61]، وقال تعالى فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [سورة النور /63]، وقال تعالى: وَمَا ءَاتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ [سورة الحشر /7]، وقال تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُمْ مُّعْرِضُونَ [سورة آل عمران/23]، وقال تعالى: فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً [سورة النساء/65]، وقال تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً [سورة النساء /59]، وقال تعالى: وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى . إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى [سورة النجم].
ولما تبيَّن بما ذكرنا أن القرآن هو الأصل المرجوع إليه في الشرائع نظرنا فيه؛ فوجدناه يوجب طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أمر به، ووجدناه تعالى يقول: وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى [سورة النجم /3]؛ فصح لنا بهذا أن الوحي ينقسم إلى قسمين:
- أحدهما: متلو، مؤلف، معجز النظام، لا تصح الصلاة إلا بقراءة شيء منه؛ قد تلقاه الكافة عن مثلهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.. وهو القرآن.
- والثاني: وحي مروي منقول عنه مؤلف تأليفاً [غير] (5) معجز النظام ولا متلوٍّ (6) في الصلاة لكنه مقروء، وطاعته كطاعة القسم الأول واجبة [ولا فرق كما قال تعالى] (7) : وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ [سورة النساء /59] وكان القسم الثاني الذي هو الأخبار [ثاني] (8) الأصول الثلاثة التي ألزمنا طاعتها في الآية الجامعة لجميع شرائع الإسلام (9) أولها عن آخرها، وهي قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ؛ فهذا أصل، و وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ؛ فهذا ثان، وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ؛ فهذا ثالث، وهو الإجماع؛ فقد صحَّ لنا بنص القرآن أن الأخبار هي أحد الأصول المرجوع إليها عند التنازع.. ولا يجوز تنازع (10) في المسألة إلا مع عدم الإجماع فيها.. والأصول ثلاثة والإجماع أحدها؛ فإذا بطل الإجماع بالتنازع بقي الأصلان الآخران اللذان [الرد] (11) إليهما واجب عند التنازع؛ لقوله تعالى: فَإِن تَنَزَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ.. والبرهان قائم على أن المراد بقوله: إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ : إنما معناه إلى القرآن والخبر.. تقديره: فردوه إلى كتاب الله تعالى وخبر رسوله صلى الله عليه وسلم على تقدير حذف مضاف؛ وبيان ذلك أن [الأمة] (12) مجمعة على أن هذا الخطاب متوجه إلينا وإلى كل من يخلق إلى قيام الساعة من الثقلين، وإلى من كان في عصره (13) عليه السلام، وكل من أتى بعدهم عصراً فعصراً (14) ولا فرق، وقد علمنا علماً ضرورياً أنه لا سبيل لنا إلى لقاء رسوله عليه السلام لنكلمه، وكذلك من قبلنا [عصراً] (15) فعصراً إلا من عاصره ولقيه عليه السلام.. وحتى لو شغَّب مشغِّب بأن هذا الخطاب متوجه إلى ذلك في (16) عصره لما أمكنه هذا الشغب في الله تعالى؛ إذ لا سبيل إلى ذلك فيه (17) ؛ فبطل هذا الشغب، وصح أن المراد بالرد المذكور في الآية إنما هو إلى القرآن والخبر المنقول على مر الدهور إلينا.. على أنه ليس في الآية ذكر لقاء ولا مشافهة، وإنما فيها الرد إليهما عند التنازع فقط.. والرد منا إليهما إنما هو عبارة عن تحكيمهما، وتحكيمهما إنما هو عبارة عن قبولهما، والانتهاء عما زجرا عنه.. وبالجملة فالمطلوب منا إنما هو الوقوف عند ما ذُكَّر به فيهما مما يوجب الزلفى لديه تعالى وننتهي بهذه الأصول إلى أقسام لا يخرج عن هذا العدد. وبالله تعالى التوفيق (18) .
قال أبو عبد الرحمن: أما بعد: فقد سررتُ بهذا العمل الذي ناولنيه أخي أبو عبد الملك سعود بن خلف ابن نويميس الشمري الظاهري مع كتاب له آخر في أحكام الغناء؛ فوجدت في الأخير صورةً لاندفاعي وحماسي لظاهرية ابن حزم في صلف الشباب، ووجدتُ في الأول عناية بالصنعة الحديثية؛ وذلك بإسهابه في التخريج، وقد كتبتُ إليه بأن يُعنَى بجانب الدراية وضبط النص، فأنجز مشكوراً كثيراً من ذلك، وبقيت أمورٌ استدركتها بتحشيتي، واضطررت إلى المقارنة بنسخة المخطوط لرسالة التلخيص التي لا أعلم وجود غيرها الآن، وهي نسخة شهيد علي التي اعتمدها أستاذنا الدكتور إحسان عباس في تحقيقه للكتاب، وعلى طبعة الدكتور إحسان اعتمد المحقق الفاضل الشيخ سعود ابن نويميس.. كما أن الكتاب صدر بتحقيق الشيخ عبد الحق التركماني، وصدر عن دارابن حزم ببيروت، ومركز البحوث الإسلامية عام 1423 هـ، وقال في تصديره للكتاب: ((ورد عنوان الرسالة في النسخة الخطية في فهرس المجموع، وفي أول الرسالة وآخرها هكذا: ((التلخيص لوجوه التخليص)) (19) .. وذكرها العلامة الفيروز أبادي [817هـ] باسم ((رسالة في التلخيص في تخليص الأعمال)) (20) .. وذكرها الإمام الذهبي [748هـ] باسم كتاب إرشاد المسترشد؛ فقال في ((تاريخ الإسلام)) (21) في ترجمة أبي الخيار الشنتريني: ((وقد ذكره أبو محمد ابن حزم، وأثنى عليه؛ فقال في كتاب ((إرشاد المسترشد)): لقد كان لأهل العلم وابتغاء الخير في الشيخ أبي الخيار معتقدٌ قويٌّ، ومقصِدٌ كافٍ.. نفعه الله بفضله، وبعلمه، وصدعه بالحق، ورفع بذلك درجته)).
وهذا النَّصُّ عندنا في صدر الرسالة، لكن التسمية غريبة جداً، ولم أرَ من ذكر لابن حزم رسالة أو كتاباً بهذا الاسم؛ فلعلَّ الإمام الذهبي رحمه الله وقفعلى الرسالة ولم يعرف اسمها فاجتهد في استخراج اسمها من قول ابن حزم في صدرها: ((والذي ذكرتم من وجوب الإرشاد للمسترشد، ولزوم البيان لمن سأل)) فَنعَم!.. ومن هذا، ومما تقدم يتضح للقارئ الكريم أن نسبة هذه الرسالة لابن حزم رحمه الله نسبة أكيدة لا شكَّ فيها.. خاصة أن كثيراً من مسائله العلمية تتّفق مع ما ذكره في كتبه المشهورة كالمحلى بالآثار وغيره.
وهذه الرسالة غير ما ذكر الذهبي (22) لابن حزم باسم ((التلخيص والتخليص في المسائل النظرية))، وذكره ياقوت الحموي (23) ، والمقري (24) ؛ وزادا: ((.. وفروعها التي لا نصَّ عليها في الكتاب والحديث)).. وهذا يوضِّح موضوع الكتاب، فهو في المسائل النظرية، ورسالتنا في المسائل العملية)) (25) .
قال أبو عبد الرحمن: وعن الظاهرية أُقرِّر أنها قسمان: ظاهرة نصي، وظاهر عقلي.. وإنما الظاهر النصي في الكلام المركب، وهو ما ثبت بيقين أو رجحان أنه مراد المتكلم سواء أكان الخطاب بحقيقة الوضع اللغوي، أم كان بسعة المجاز اللغوي أو الأدبي.. وليس الظاهر ما يتبادر للمتسامح من كونه خلاف الجلي الواضح، بل الظاهر ما دل عليه الخطاب بوجوه الدلالة المعروفة في كلام العرب سواء أكان المدلول جلياً واضحاً، أم كان خفياً لا يظهر إلا باستنباط واجتهاد.. وغير الظاهر ما لا تدل عليه اللغة في خطاب المتكلم كجعل شرب اللبن رضاعاً.. والظاهر العقلي ليس هو كل احتمال يتصور العقل، بل هو ما لا يحتمل العقل غيره.. والإمام ابن حزم رحمه الله له خلاف للظاهر شنيع في الصفات وغيرها، وذلك من الخطإ في التطبيق لا في التأصيل مثل عدم إمضائه حكم الظهار إلا بتكرار المظاهرة التفاتاً إلى قوله تعالى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ [سورة المجادلة /3]، فالآية عن العود إلى ما ظاهَرَ منه.. أي العودة إلى الجماع، وليست الآية عن إعادة ما قال من الظهار (26) ؛ لأن الله سبحانه لم يقل: ((حتى يُعِيدوا ما قالوا))؛ فهذا فهم من أبي محمد لمدلول الآية على أنه الظاهر، وليس هذا الظاهر؛ فذلك خطأ منه في التطبيق وليس خطأ في التأصيل الجبار الموجبِ الأخذ بالظاهر.. ومثل ذلك قوله تعالى: فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ [سورة الإسراء /23] حَمَلَه على المعنى الحقيقي الذي هو حكاية للصوت الخارج من الفم (27) ، والظاهر حقيقة (أدنى الإيذاء)؛ لأن هذا المجاز هو الغالب في الاستعمال وهو لا يحتاج إلى قرينة، والمعنى الحقيقي لا يُفهم إلا بقرينة كأن يكون عند عود حطب مدخِّن؛ فيُطْلَب منه الأفُّ لإطفائه، أو يكون عند سراج؛ فيُمنَعُ من الأف حتى لا ينطفئ.. وقد أسلفت أن الظاهر هو مراد المتكلم من خطابه سواء أكان بأسلوب الحقيقة أم بأسلوب المجاز.
قال أبو عبد الرحمن: ولقد سئلت كثيراً عن الظاهر في الصحافة وأجبت كثيراً بأجوبة متنوعة، ومن الأجوبة الحاضرة بين يدي الآن جواب حررته للأستاذين محمد بن عبد الله الفوزان من محافظة الغاط بمناسبة استفساره بقوله: ((هل المذهب الظاهري مستقل عن المذاهب الأربعة كالزيدي، أو أنه مذهب متفرع عن أحدهما مثل مدرسة شيخ الإسلام ابن تيمية، أو مذهب لغوي؟؟.. ومتى ظهر هذا المذهب، وأين ظهر، ومن أول القائلين به، ولماذا ينتسب الشخص إلى المذهب كأنه كنية له؟؟))، فكانت إجاباتي بالإفادات التالية:
- الإفادة الأولى: أن مذاهب أهل القبلة على قسمين: مذاهب عقيدية (28) ومذاهب فقهية.. فالعقيدية مثل سنة وشيعة ومعتزلة وأشعرية وخوارج؛ والفقهية مثل حنفية ومالكية وشافعية وحنبلية.
- والإفادة الثانية: إذا قيل مذهب الإمامية، أو الزيدية أو الإباضية فالمراد أنها مذاهب عقيدية وفقهية في آن واحد.
- والإفادة الثالثة: ليس كل من انتسب إلى الأئمة الأربعة فقهياً يكون منتسباً إليهم عقديّْاً، ففي كل المذاهب الأربعة معتزلة وأشعرية.. إلخ.
- والإفادة الرابعة: لم ينزل من الله بيان شرعي بأنه سيخلف محمداً صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتابعيهم أئمةٌ أربعة لا يَعْدُوهم الحق، ولم يقمْ بذلك إجماع ولا ضرورة فكر.. بل هؤلاء الأئمة الأربعة رحمهم الله اجتهدوا واختلفوا في أمور يسع فيها الاختلاف، واجتهد من هو فوقهم أو مثلهم أو دونهم؛ فكانوا ذوي مذهب مثل الليث والأوزاعي والسفيانَّيين.. إلخ.
- والإفادة الخامسة: من تلك المذاهب ما عُمل به في بعض الآفاق مثل مذهب الأوزاعي في الشام والأندلس، وكمذهب سفيان.. ومنها ما لم تقم به دولة تعمل به رسمياً؛ فبقي بلا أتباع رسميين، وبقي مرجعاً للعلماء المجتهدين رحمهم الله جميعاً.
- والإفادة السادسة: انتشرت المذاهب الأربعة لا لأن الحق صِرْفٌ فيها، بل لأجل الدول التي تبنَّتها رسمياً؛ فكان المذهب الحنفي أكثر أتباعاً؛ لأنه توارثه أكثر دول الإسلام امتداداً في الزمان والمكان ـ وهما الدولة العباسية والعثمانية ـ منذ كان أبو يوسف تلميذ أبي حنيفة رحمهما الله رئيس القضاء؛ فكثر أتباعهم تلقائياً وتلقيناً وتقيُّداً باتجاه الدولة في القضاء والفتوى والتعليم؛ فكأن التمذهب مؤهِّل علمي.. وهكذا كان مذهب الدول مالكياً في الغرب والأندلس بالله ثم بنشاط تلامذة الإمام مالك الذين حملوا علمه، وتقلدوا مناصب الديانة كيحيى ابن يحيى الليثي وأسد بن الفرات، ثم انتشر في إفريقيا بحكم الجوار، وكانت له دولة في الأحساء في عهد آل أجود العقيليين.. وكان مذهب أحمد بن حنبل رحمه الله ذا دولة في العراق بعد المذهب الظاهري على يد أبي يعلى، وذا دولة في الجزيرة العربية.. ولا أدري في أي زمان أو مكان كان مذهب الإمام الشافعي مذهباً رسمياً رحمهم الله جميعاً، ولكنه منتشر مشتهر في مصر والمخلاف السليماني واليمن والحجاز وفي سوريا.
- والإفادة السابعة: أن عند عوام بعض الأقطار جهالة رعناء، وهي قول بعضهم: هذا مذهب خامس!!.. يقولونها على سبيل الذم معتقدين ملقَّنين أن الصواب لا يعدوها، وأنها كلها صواب مع اختلافها!!.. وهم بهذا الجهل يذمُّون مذاهب العلماء المجتهدين كالليث والأوزاعي والحمَّادَين والسفيانيين وابن ذئب وابن مهدي.. إلخ.. ثم أبي ثور والطبري وابن نصر.. إلخ.
- والإفادة الثامنة: أن في أتباع الأئمة الأربعة علماء فحولاً مفكرين قلدوهم فقهاً ولم يقلدوهم عقيدة، أو قلدوهم فيهما معاً.. وقد قَصَرُوا بطوعهم واختيارهم اجتهادهم في دائرة أقوال إمامهم، ولا إمام لهم على الحقيقة في تلقِّي علم الشريعة غير محمد صلى الله عليه وسلم.. ومن هؤلاء من ألَّف في الجزم بأن الصواب أو أكثره في اجتهاد إمامه كالإمام أبي المعالي الجويني رحمه الله.. والحق أن تُّصْرف هذه المواهب إلى الاجتهاد في نصوص الشريعة، ويكون اجتهاد الإمام مثل اجتهاد العلماء الآخرين يُنظر فيه ويُطلب الدليل. أما العامي فيسأل العلماء، ويتحرَّى الحق عند من نصبه الإمام للفتوى، ويجتهد بوسائله في معرفة الأروع الأتقى بالإضافة إلى العلم.. ومثلُ هذا الترجيح والاتباعية غاظ الإمام أبا محمد ابن حزم حتى قال بمرارة عن بعض الأتباع: ((ولو استطاعت هذه الطائفة المستأخرة أن يدَّعُوا لصحابهم أنه تكلم في المهد ما تأخَّروا عن ذلك)) (29) .
- والإفادة التاسعة: أن التقرب إلى الله بمحبة هؤلاء الأئمة، والترحم عليهم لا يقتضي تجريد الصواب في اجتهادهم، ولا ضرورة تقليد من استطاع الاجتهاد.
- والإفادة العاشرة: أن المذهب الظاهري مذهب مستقل، وليس تابعاً لإمام بعينه، بل هو منهج فكري لغوي نصي.
- والإفادة الحادية عشرة: ليس المذهب الظاهري كالمذهب الزيدي؛ لأنه خلاف فقهي لا عقيدي، وإنما هو كمذهب أحمد بن حنبل والشافعي رحم الله الجميع.
- والإفادة الثانية عشرة: يتبع المذهب الظاهري السني والأشعري ـ قبل رجوع الأشعري عن مذهبه؛ لأن الإمام أبا الحسن رحمه الله رجع عن معتقده في الصفات ـ والمعتزلي مثل غيره من المذاهب المتبوعة.
- والإفادة الثالثة عشرة: شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ليس ذا مذهب فقهي، ولكنه مجتهد في مذهب الإمام أحمد في دائرة أصوله، ناصر لها، وإن خالفه في بعض المسائل.. بل خالف الأئمة الأربعة وتابع الظاهرية في مسائل كمسألة عدم قضاء من ترك الصلاة عمداً.
- والإفادة الرابعة عشرة: المذهب الظاهري ليس مذهباً لغوياً؛ ولكنه مذهب نصي شرعي بمقتضى فكري لغوي.. ومعنى أنه فكري أنه يفصل بين المعرفة الشرعية والمعرفة البشرية؛ فالمعرفة الشرعية على التوقيف والاتباع إلا ما فوَّضه الشرع إلى العقل، والمعرفة البشرية أوسع دائرة في الحرية.. وميزة الشرع أنه عبودية لله، وليس حرية للشهوات والشبهات والآراء.. والظاهر بجناحية الفكري واللغوي موجَّه لتحري مراد الشرع وتخليصه من الأوشاب البشرية، وموجزه: أن الشرع لا يُعرف إلا بلغة العرب التي نزل بها الشرع، وما صح نقله من مرادٍ لرسول الله صلى الله عليه وسلم عُرف بغير اللغة من إيمائه وسكوته؛ فيُؤخذ بالاصطلاح الشرعي إن وُجد، فإن لم يوجد أُخذ بالمعنى المجازي الغالب الاستعمال، فإن لم يوجد أخذ بالمعنى الحقيقي الوضعي.. هذا إذا تجرد الخطاب من قرائن ودلالات سياق وإحالة إلى معهود شرعي بنصٍّ آخر.. وأن مراد الشرع هو ما يتيقنه العقل أو يرجحه عند تعدُّد الاحتمالات.
- والإفادة الخامسة عشرة: المذهب الظاهري اتِّباعٌ لرجحان الفكر بواسطة الخطاب الشرعي.. ومعنى هذا أنه ليس مذهب إمام بعينه كالشافعي أو مالك.
- والإفادة السادسة عشرة: بناءً على ما سبق فثم فرق بين الظاهر والظاهرية؛ فالظاهر اتباع للنص بمنهج فكري في نظريتَيْ المعرفة، والظاهرية اتباع لإمام أخَذ بالظاهر وربما أخطأ في التطبيق كالأخذ بالحرفية والغفلة عن معقول النص ومعهوده.. قال الإمام أبو محمد ابن حزم رحمه الله تعالى عن الإمام داود بن علي الظاهري بعد الثناء على علمه واجتهاده: ((لكن له بالتنبيه على ما ذكرنا منزلة رفيعة، ومحلة عالية؛ ويستحق بذلك التقدم في الفقه، وليس ذلك بموجب تقليده؛ لما ذكرنا من أنه لم يُعصم من الخطإ بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدٌ من الناس، ولا يحل أن يُقَلَّد من يخطئ وإن أصاب في كثير)) (30) .. وكلام أبي محمد رحمه الله في مثل هذا كثير.
- والإفادة السابعة عشرة: المذهب الظاهري هو الأصل، وهو مذهب الصحابة والتابعين رضي الله عنهم قبل وجود المذاهب، ولا يزال هو المذهب لأهل السنة والجماعة في العقائد؛ ولهذا ألَّف السمنودي كتابه ((سعادة الدارين في الرد على الظاهرية ومقلدتهم من الوهابية))؛ فاعتبر مذهب أهل السنة والجماعة الذي قال به الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تابعاً للقول بالظاهر.. بل وُجد من الصحابة رضي الله عنهم من تمسك بالحرفية كما في صلاة العصر في بني قريظة.
- والإفادة الثامنة عشرة: لما وُجدت المذاهب وتحزَّبت تجرَّد لإحياء الأصل من الأخذ بالظاهر الإمام داوود بن علي وهو معاصر للإمام أحمد رحمهما الله، وما زال المذهب في عزٍّ حتى كان هو المذهب الرسمي للدولة في خراسان والعراق؛ فلما ضعفت دولته آخر القرن الرابع بزغ نجمه في الأندلس على يد منذر بن سعيد وابن مفلت ثم الإمام أبي محمد ابن حزم الذي بقيت جملة من مؤلفاته، ثم كانت له دولة في القرن السادس وما بعده بالأندلس.. وفي فقه الظاهرية أخطاءٌ شنيعة، ولكن مذهب الأخذ بالظاهر منها بُرَاءٌ.
- والإفادة التاسعة عشرة: الإضافة إلى المذهب نسبة لا كُنْية.. إنما الكنية بأبي فلان وأم فلان.
- والإفادة العشرون: في القديم يُنسب الفقيه إلى مذهبه من قِبَلِ غيره، ومن قبل نفسه؛ ليتميز للطلاب والمناصب وكتب التراجم؛ لأن المذاهب مؤهِّلات علمية.
- والإفادة الحادية والعشرون ـ وهي مسك الختام ـ: الانتساب للظاهر بالذات مظهر فخر واعتزاز أعظم من الإضافة إلى القبيلة؛ لأنه اتباعية مجتهد وفق منهج فكري معرفي يملكه، وليس تقوقعاً في مذهب إمام بعينه، والله المستعان.
قال أبو عبد الرحمن، ولقد أعفى المحقق الفاضل كتابه من تعريفٍ بالإمام ابن حزم طلباً للاختصار، ولكنني أضيف نصوصاً نفيسة مليحة غفل عنها مترجمو ابن حزم، وأضيف نصوصاً حفل بها المترجمون له ولم يحفلوا بمحاكمتها؛ فمن الأول قول ابن خليل العبدري رحمه الله في تكملته للمحلى: ((وغير خافٍ عن ذي تعلُّقٍ يسير بنصوص الأحاديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله، وسنتي.. عضوا عليها بالنواجذ.. فأجلُّ ما استعمل الطالب للعلم فيه بحثه، وأتعب فيه نفسه: ما ضمن له رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى: أنه لا يضل ما تمسك به.. وقد ألف علماء الإسلام في ذلك تواليف كثيرة لا تُحصى.. لكنها راجعة إلى خمسة أنواع:
- الأول: من ألف في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة، واشترط الصحة.
- الثاني: من ألف فيه ولم يشترط صحةً من ضعفٍ، ووكل ذلك إلى اجتهاد الناظر فيه.
- والثالث: من ألف في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وفقه الصحابة والتابعين وعلماء الأمصار.
- والرابع: من ألف كذلك، وزاد التعرض للترجيح في الأقوال والاحتجاج حسب ما ظهر له أنه الحق من غير تعرُّض منه لانتصارٍ لمذهب إمام معين.
- والخامس: من ألف كذلك إلا أنه جعل الاحتجاج والترجيح بحسب الانتصار لمذهب إمامٍ معيَّنٍ من الأئمة الأربعة الذين وقف أهل العصر عند استكمال مذاهبهم؛ فأجَلُّ الأقسام الخمسة، وأفضلها الأول بلا شك؛ إذ هو كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم خالصاً لم يَشُبْه غيره.. والقسم الرابع أنفعها؛ لأنه يجمع علوماً جمة، وتصرفاً في أفانين كثيرة.. وقد ألف الصدر الأول في هذا المقصد تواليف ليست بذلك الطول كأبي الحارث محمد بن عبد الله بن أبي ذئب القرشي، وأبي عبد الله سفيان بن سعيد الثوري، وأبي عبد الله مالك بن أنس الأصبحي، وأبي عبد الرحمن عبد الله بن المبارك الخراساني، وأبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي (31) ، وأبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني، وأبي يعقوب إسحاق ابن إبراهيم بن مخلد الحنظلي المعروف بابن راهوية.. وأكثر ما تجد كلام هؤلاء في كتب المؤلفين بعدهم حاشا الإمام مالك والشافعي رحمهما الله، وقد يوجد لغيرهما لكنه قليل بالنسبة إليهما رضوان الله عليهم أجمعين.. ثم أتى بعد هؤلاء قوم آخرون؛ فأطالوا التواليف؛ لِما شحنوا فيها من الأدلة بالآي والسنن؛ إذ الفقه مستخرج عنهما.. وبسطوا من الاحتجاج والترجيح كأبي عبيد القاسم بن سلام، وأبي عبد الله محمد بن نصر المروزي، وأبي جعفر محمد بن جرير الطبري، وأبي بكر محمد بن المنذر النيسابوري، وأبي سليمان داوود بن علي بن خلف الأصبهاني، وابنه أبي بكر محمد بن داوود، وأبي الحسن عبد الله بن أحمد بن المغلس، وأبي محمد قاسم بن محمد الأندلسي المعروف بصاحب الوثائق، وأبي الحكم منذر بن سعيد البلوطي، وأبي محمد علي بن أحمد بن سعيد ابن حزم الفارسي (32) .. وهو أكثر من ذكرنا استيفاء لأقوال المخالف، وبسطاً لأدلتهم؛ لأنه رحمه الله أتى بعد حدوث الفتن، وما ابتلي به بعض الناس من المحن في نصرة من لا يغني عنه من الله شيئاً، ونسأل الله العافية.. وأحسن كتبه كتاب الإيصال إلا أنه عُدِم اليوم عُدْماً لا يتأتَّى وجوده كاملاً أبداً، وبعده كتاب المحلى في شرح كتاب المجلى أيضاً، وكلاهما (33) موجود كثير غير أنه أدركته رحمه الله الوفاة وقد انتهى فيه إلى أول كتاب الدماء والديات والقصاص (34) ، ولم يشرح منه إلا ست مسائل وبعض المسألة السابعة، وبقي عليه: تتميم المسألة المذكورة، وبقية كتاب الدماء، والديات، والقصاص والقسامة، وقتال أهل البغي، وحكم المحاربين، وحد السرقة، وجحد العاريَّة، وحكم المرتدين، وحكم الزنا، والقذف، وشرب الخمر، وذكر التعزير، والجامع؛ فحُدِّثتُ أن الثقة أخبر عنه أنه: عهد إلى بنيه أن يكملوه على ما نهَجَه من كتابه الإيصال.. وكان له من الولد أبو رافع الفضل، وأبو أسامة يعقوب، وأبو سليمان المصعب، وغيرهم.. وكان الفضلُ أكبرهم سناً، وأجلَّهم قَدْراً؛ فانبرى لتكميله وتتميمه؛ فبيَّضَ مبيضة لم يُخَلِّصها، ولا رُويت عنه بعد نظره فيها نظر تهذيبٍ وتبصر (35) .. أدركته رحمه الله الوفاة، وحالت بينه وبين ما حاول من إتمام غرضه؛ لأنه استشهد في وقعة الزلاقة.. فَمَنْ نَسَخَ كتاب المحلى (36) ؛ فانتهى في نسخه إلى المسألة التي توفي الشيخ ولم يكملها، ولم يزدْ شيئاً، وقال: ((ههنا أدركت الإمامَ الوفاة)): فهذه رواية أبي خالد يزيد بن العاص الأونبي الأندلسي (37) .. ومنها ما انتهى بها ناسخها إلى آخر زيادة أبي رافع الفضل، وهي رواية أبي عمر كوثر بن خلف بن كوثر (38) ، وأبي الحسن شريح بن محمد بن شريح (39) بإجازة أبي محمد لهما؛ فتأمَّلت هذه الزيادة، فوجدت فيها خللاً كثيراً؛ وذلك أن الإمام أبا محمد رتَّب كتاب المحلى على كتاب المجلى؛ فيقول: كتاب كذا.. مسألة كذا.. وينقل من المجلى مذهبه في تلك المسألة كما هو في آخر كلامه فيها، ثم يقول: برهان ذلك.. إلى آخر البرهان من الكتاب أو السنة أو الإجماع أو النظر الراجع إلى ذلك عنده.. فإن كانت المسألة لا يعرف فيها خلافاً فقد تمت، ويذكر المسألة التي تليها.. وإن كان فيها خلاف ذكره، وذكر استدلال المخالف واعتراضه، ورجَّح بحسب ما ظهر له، ويذكر من قال بقوله من الصحابة والتابعين وعلماء الأمصار [رضي الله عنهم].. ثم مرَّ في ترتيب المحلى كذلك لا يخالف ترتيب المجلى؛ لأنه شرحه حتى انتهى إلى حيث قُدِّر له.. والذي صنعه أبو رافع الفضل في هذه الزيادة: أنه أخذ أبواباً على ترتيب الإيصال؛ فكمل بها المحلى، ولم يتعرض إلى المجلى، ولا نقل منه كلمةً واحدة.. وليته لما نقل من الإيصال ما نقل اعتمد عليه ولم يحذف منه إلا التكرار (40) والتطويل؛ بل حذف مسائل كثيرة؛ فينقل منه باباً ويترك منه باباً.. وربما كان الذي يحذفه أكثر فائدة فيما هو بسبيله من الذي يثبته، والضرورة لما يحذفه أشد.. وربما طال عليه الباب الذي ينقل منه؛ فيقطع من فصوله ما فائدة الباب فيه.. وربما أثبت في الباب كلاماً لبعض الناس وحذف الرد عليه، أو أثبت الرد عليه وحذف أصل الكلام، وقد يثبت في بعض المسائل أقوال الناس ويحذف القولة التي اعتمد عليها أبوه.. إلى غير ذلك من الإخلال الكثير الذي لا ينبغي معه لتلك الزيادة أن تثبت، ولا أن تعد شيئاً مغنياً بالنسبة إلى مراد المصنف.. ولما ألفيت الزيادة هكذا، ووقع إليَّ من كتاب الإيصال جملة كثيرة فيها موضع الحاجة: رأيت أن أكمله على ترتيبه ووضعه إن شاء الله تعالى؛ حتى إذا رآه القارئ الناقد لم يرَ فرقاً بينه وبين ما ابتدأ به أبو محمد إلا فيما قدمته في ذكر الإسناد فقط؛ وذلك أني أذكر المسألة التي وقف فيها الإمام أبو محمد؛ فأتم منها ما غادره، ثم أرجع إلى كتاب المجلى فأنقل المسألة التي تليها، وأذكر البرهان عليها منقولاً من كتاب الإيصال سواءً.. أنقله على ما هو عليه، ثم أنقل مسألة مسألة كذلك من كتاب المجلى لا أتعدى ترتيبه، وأذكر البرهان عليه من الإيصال حيث وقع، ثم أذكر الخلاف فيها إن وُجد، والاحتجاج والاعتراض والترجيح حتى كأنه هو الذي تَمَّمه)) (41) .
وقال ابن خليل أيضاً: ((والإمام أبو محمد قد تكلم فيه أقوام من الجهال، ونسبوه إلى أشياء هم أحق بها، والله حسيبهم ومسائلهم عليها، وقد أربى بعض المتأخرين في سوء الثناء (42) عليه حتى نسب إلى معتقده سوءاً (43) هو بما نسبه إلى أبي محمد رحمة الله عليه أليق.. وربما كذبوا عليه في أشياء نسبوها إليه إفكاً وزوراً (44) ، ثم إنهم لعنوه عليها إفكاً منهم وغروراً وبهتاناً ومحض تقوُّلِ ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.. وقد أثنى عليه جلة (45) من أهل الفضل والخير والدين من علماء المشرق والمغرب، وليس هذا موضع البسط لأقوالهم. وبالجملة فإنه إذا تأمل العاقل النبيه السالم الفطرة من التعصب والهوى حال الإمام أبي محمد رحمه الله، وتأمل أقوال الناس فيه: وجدهم على قسمين: إما جاهل مفرط الجهل يسبه ولا يدري ما كان عليه من الشدة في الدين، والمحافظة على اتباع السنن، والحض على ذلك؛ فهو يسبه ولا يدري ما يلزمه في دينه من ثلب امرئ مسلم من أكابر أهل العلم قد لحق بربه.. وإما رجل رقيق الحياء، قليل الدين.. ينال منه تعصباً لأهل مذهبه أو غير ذلك؛ لينال من دنياه ما أحب.. قد باع (46) آخرته بدنيا قد ضمنت له ما أصابه منها لم يكن ليخطئه.. قد رضي على ما عند الله تعالى بعاجل زخرف هذا المتاع الفاني.. باع (47) لذلك آخرته بدنيا قد ضمنت له ما أصابه منها لم يكن ليخطئه، وما أخطأة منها لم يكن ليصيبه.. قد اعتاض عما عند الله تعالى بأن يقال عنه: إنه ناصر لمذهب كذا، مصمم عليه.. وهو يدري أن ما ناله من أبي محمد رحمة الله عليه لا يجوز عقلاً ولا شرعاً إن كان مصدقاً بالشرع.. إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ (48) .
وقال ابن خليل: ((إن أكثر من أثنى على أبي محمد رحمه الله، وخذه (49) في شيء: فهو أنه أطلق لسانه وقلمه على قوم من المتعصبين بالثلب والسبِّ والنيل منهم.. وكأنهم رأوا أن هذا خطأ، وأنه أتى ما لا يجوز فعله، وَعِيبَ عليه ذلك في تواليفه.. فأقول: إنه ليس خطأ، بل هو قربة إلى الله تعالى، وجهاد فيه، وزين للتأليف.. وبيان ذلك بخلاف (50) لما وقع بين السلف الصالح رضي الله عنهم.. لم يقدح بسببه بعضهم في بعض، ولا عادي به أحد أحداً؛ بل قد يوجد بين الرجلين منهم الصحبة المؤكَّدة والخلاف في مسايل كثيرة؛ لأنهم لا يراعون (51) في ذلك إلا وجه الله تعالى، ثم خلف من بعدهم خلف جعلوا طلب العلم سبباً لنيل دنياهم، ومرقاة يبلغون بها من التروُّس مناهم؛ فتعصَّب قوم لقومٍ عَمَلُ الدولةِ في ذلك العصر بقولهم (52) (إمَّا وفاقاً لمن تقدم، أو استحساناً منهم لذلك)؛ فبالغ هؤلاء في التعصب لأقوالهم. وليت شعري لو لم يكن الأمر كذلك ما الذي أوجب اندثار مذهب الأوزاعي وكان الناس عليه برهة من الدهر، واشتهر حتى بلغ الأندلس. وكذلك سفيان الثوري، وإسحاق بن راهويه، والليث بن سعد.. سيما (53) والشافعي رحمه الله يقول: كان الليث إماماً أضاعه أصحابه.. إلى غيرهم ممن لهم في العلم والإمامة منصب مثلهم (54) ممن قال بفتاواهم أهلُ عصر ثم لم يقم أهل الدول مثلهم (55) ؛ فتركت لذلك (56) .. وقد كان الإمام داود بن علي بن خلف الأصبهاني مدة من الزمن لم يبرز لإلقاء العلم ظاهراً، ثم انبرى له الموفق العباسي حامياً؛ فجلس لتدريس العلم ما شاء الله أن يجلس حتى أخذ بقوله جماعة من العلماء، وتفقه عليه أمم.. قد ذكر هذا الإمام جمال الدين أبو إسحاق إبراهيم الشيرازي الفيروز آبادي رحمه الله من الفقهاء (57) .. إلى غير ذلك مما ذكره عنه أهل الأثر؛ فإنه معلوم بينهم، ثم بعدُ لم يقم أحد من أهل الدول بمذهبه؛ فكانت سبيله كسبيل من ذكرنا ممن قدمنا من ذوي المذاهب ومنصب الاجتهاد في الفتوى في الشريعة؛ فكان ذلك التعصب قبيحاً: إما شرعاً، أو (58) عقلاً.. وربما وضع بعضهم الحديث على رسول الله صلى الله عليه وسلم نصرة لقوله في مذهبه (59) ؛ فليتبوأ (في جانب مبالغته في تعصبه لنصرة قول من لم يُغْن عنه من الله شيئاً) مقعده من النار.. وأول من يلعنه على ذلك كله مَن نصر أقواله، ويبرأ منه يوم القيامة.. وربما يكون في بعض المواضع ردة عن الإسلام، ونعوذ بالله من الخذلان؛ وذلك أنهم يعترضون على كتاب الله تعالى، وعلى الصحيح عندهم من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما رُؤا عليه من أنواع الاعتراضات؛ فيحرفون الكلم عن مواضعه قصداً، ويمزقون كتاب الله تعالى تمزيقاً بارداً، ويتحكمون فيه تحكماً فاسداً، ويعرضونهما على كلام صاحبهم (60) ؛ فما وافقه منها أخذوا به، وما لم يوافقه منها نبذوه بالعراء، وقابلوا بالرد والتحريف والحمد لله)) (61) .
وقال ابن خليل أيضاً: وأما تخطئته من خطَّأ من السلف الصالح رضي الله عنهم: فليست التخطئة نيلاً منهم، ولا يعدُّها نيلاً منهم إلا جاهل أحمق؛ وذلك أنه قد علمنا قطعاً أن كل أحد يخطئ ويصيب إلا أنبياء الله تعالى صلوات الله عليهم أجمعين.. وإذا قال قائل عمن أخطأ في شيء (وهو ممن يجوز عليه الخطأ): ((قد أخطأ)) فهذا إخبار بحق وصدق، ولو قال غير ذلك لكان كاذباً.. والمصانعة والمداهنة في الحق لم يرضَ بها السلف، ولا كل مصمم في الدين، ولا يموت بها الحق أبداً، ولم يأمر بها الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم (62) .
وقال ابن خليل: ((قال الإمام أبو محمد رحمهما الله: ولسنا نرضى عمن يغضب لنا.. إنما نرضى عمن يغضب للحق، ولا نُسَرُّ بمن ينصر أقولنا.. إنما نسر بمن ينصر الحق حيث هو.. ولا يجهل علينا جاهل فيظن أننا متبعون مذهب الإمام أبي سليمان داوود بن علي.. إنما (63) . أبو سليمان شيخ من شيوخنا، ومعلم من معلمينا (64) .. إن أصاب الحق فنحن معه اتباعاً للحق، وإن أخطأ اعتذرنا له، واتبعنا الحق حيث فهمناه، وبالله تعالى التوفيق.. قال محمد بن خليل: وكذلك أقول: لا يجهل عليَّ جاهل فيظن أني متبع للإمام أبي محمد.. أبو محمد شيخ من شيوخي، ومعلم من معلميَّ: إن أصاب الحق فأنا معه اتباعاً للحق، وإن لا فأنا مع الحق حيث فهمته بحسب ما يوفقني الله تعالى له وينعم به علي)) (65) ..
قال أبو عبد الرحمن: وهكذا يقول أبو عبد الرحمن؛ لأن الظاهر ابتغاء مدلول شرعي وليس اقتراحاً بشريَّاً، فالتمذهب للأصول التي يعرف بها مراد الله يقيناً لا رجحاناً؛ فيكون الظاهر ما أظهره البرهان، فالتمذهب لمسؤولية العلم والفكر لا للأشخاص.
ومن تلك النصوص تعليقةُ ابن حزم الحفيد، وقد وجدتها بآخر كتاب الإحكام في الجزء الثاني المخطوط بمكتبة ابن يوسف بمراكش، وهذا نصها: ((انتسخته من نسخة كتبت من خط الفقيه أبي محمد علي بن الوزير أبي رافع بن الوزير الفقيه الإمام الحافظ أبي محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم مؤلفه رضي الله عنه.. تاريخها شهر (66) سنة ثلاث وخمسمائة.. قال أبو خالد يزيد بن العاصي بن سعيد بن سعود (67) وجدت بخط الفقيه الحاج أبي أسامة رحمه الله يقول: أخبرني الفقيه الإمام الحاج الطرشي (68) رحمه [الله].. قال: جلست أنا والفقيه أبو سليمان أخوك رحمه الله على تواليف الشيخ أبيك رضي الله عنه كلها مع المختصين من أصحابه، وأحصينا المدة التي يمكن نسخ جميعها لناسخ تكون صناعته (69) . لا يفتّر عن النسخ إلا في وقت وضوء وصلاة وأخذ غذاء وما أشبه ذلك؛ فوجدنا مدة ذلك ثمانين سنة بعد التقصِّي لذلك والاجتهاد أيضاً للنساخ على ما تقدم من القول مع اجتهاده، وكذلك بعد أن يكون من أهل الصناعة مشهوراً.. قال يزيد بن سعود بعد قول الفقيه الحاج رحمه [الله]، وجَمَّله (70) : فسبحان من أيَّده بمعونته على النسخ والتأليف في مدةٍ أغلبُ ظني أنها أقل من خمسين سنة؛ لأنه رضي الله عنه توفي سنة ست وخمسين وأربعمئة.
وأخبرني بعض حفدته وهو الفقيه أبو العباس بن أبي رافع: أنه توفي ابن اثنتين (71) وسبعين سنة؛ لأن مولده كان سنة أربع وثمانين وثلاثمئة آخر يوم من شهر رمضان.. وتوفي آخر شعبان سنة ست وخمسين وأربعمئة.. مات ابن اثنتين (72) وسبعين، ووجدته قد قال في بعض رواياته: إنه قرأ بعض مصنفات الحديث سنة إحدى وأربعمئة ولم يؤلف رضي الله عنه إلا بعد أن استكمل قراءة كتب الحديث، واتسع في علم الظاهر؛ فما كان ذلك إلا عن تأييد من الله تبارك وتعالى رضي الله عنه.. ووجدت الوزير الفقيه أبي رافع ابنه رحمه الله قال: كتبت من خط أبي رضي الله عنه ـ وذكر تواريخ أعمامه وأبيه وأخي وبني عمه وأخواته وبنيه وبناته مواليدهم وتاريخ موت من مات منهم في حياته رضي الله عنه.. ثم قال ـ: وُلدتُ أنا علي بن أحمد بن سعيد بن حزم قبل طلوع الشمس من يوم الأربعاء آخر يوم من شهر رمضان سنة أربع وثمانين وثلاثمئة، وهو اليوم السابع من نوفمبر.
وتاريخ والده (73) الوزير أبي عمر رحمه الله في أول يوم الإثنين سنة سبع وعشرين وثلاثمئة، ومات رحمه الله في ذي القعدة سنة اثنتين وأربعمئة، وهو رحمه الله ابن أربع وسبعين سنة وأربعة أشهر أو نحوها (74) .. ومات الوزير الفقيه ابنه رضي الله عنه ابن اثنتين وسبعين سنة غير شهر، وهو علي بن أحمد بن سعيد ابن حزم بن غالب بن صالح بن خلف بن معدان بن سفيان بن يزيد الفارسي مولى يزيد (هذا هو أخو معاوية بن أبي سفيان.. ويزيد هذا هو المعروف بيزيد الخير؛ فيزيد هذا هو مولى يزيد الفارسي جد الوزير.. ورأيت في شعر الوزير أن يزيد الفارسي جده (75) كان من ولد متوجِّهة ملك فارس، وهذا قد ذُكر في ترجمته رضي الله عنه) ابن أبي سفيان: صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن مناف.. والداخل منهم هو خلف.. ترك (76) بقريتين بمنت ليشم ومتيلش من إقليم أونبة بكورة لبلة، وكان من جند حمص.. وَلَدَ خلف صالحاً، وأسود.. فبنو أسود في نزالة جدهم متيلش لم يرحلوا عنها، وبنو صالح بمنت ليشم ومنهم بنو حزم المذكور، وبالله تعالى التوفيق، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم)).
قال أبو عبد الرحمن: يلي هذا النص مباشرة نص قصيدة ابن حزم الدالية في أصول الفقه.. رواها أبو الوليد سعد السعود أحمد بن عفير.. قال: أنشدنيها الفتح.. إلخ.. قال أبو عبد الرحمن: وقد أوردت هذه القصيدة محققة في المجلد الثاني من كتابي الذخيرة من المصنفات الصغيرة، وصاحب النص هذا هو أبو محمد علي بن الوزير أبي رافع الفضل بن الوزير أبي محمد علي بن الوزير أحمد بن سعيد ابن حزم؛ فالإمام أبو محمد ابن حزم هو جده مباشرة.. ترجم له ابن الأبار؛ فقال: ((يكنى أبا محمد.. روى عن أبيه: عن أبي رافع.. روى عنه ابنه أبو عمر أحمد بن علي.. أفادنيه بعض أصحابنا)) (77) ، وإنما رأيته يقول في ترجمته لابنه أبي عمر أحمد ابن علي: روى عن أبيه، ولأبيه علي رواية عن أبيه أبي رافع الفضل، وهو مذكور في بابه (78) . وقال ابن عبد الملك: علي بن الفضل بن علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الفارسي أبو محمد روى عن أبيه أبي رافع، وروى عن أبي عمر أحمد بن علي.. قال أبو عبد الرحمن: أبو عمر هذا هو ابنه كما نص على ذلك ابن الأبار، ولكن وجد بهامش إحدى نسخ كتاب ابن عبد الملك: إنه علي بن الفضل بن الحكم المرواني القرطبي أبو الحسن المعاهد.. أخذ عنه ابن مسدي، وتوفي سنة 630 هـ، أو في حدودها رحمه الله (79) .
قال أبو عبد الرحمن: هذا وهم من المهمَّش لسببين.
أولهما: أن الذي ذكره ابن عبد الملك يكنى أبا عمر، وهو ابنه كما قال ابن الأبار، وأما الذي وُجد بهامش إحدى نسخ كتاب ابن عبد الملك فكنيته أبو الحسن.
وثانيهما: أن أبا الحسن هذا توفي عام 630؛ وإذن فلم يدرك أبا محمد علي بن الفضل.
ولم أجد ذكراً لأبي خالد يزيد بن العاصي بن سعيد بن سعود، وإنما وجدت شعراً أورده المقَّري لأبي يزيد بن العاصي من المروانيين (80) ، وأبو خالد يزيد بن العاصي من المروانيين؛ لأن جده سعد السعود منهم، فهو سعد السعود بن أحمد ابن هشام بن إدريس بن محمد بن سعيد بن سليمان بن عبد الواحد بن عفير الأموي (81) .
والحاج أبو بكر الطرشي هكذا ورد رسمه بالمخطوط؛ فكان من المحتمل أنه مصحَّف عن (البطروشي) وهو أحمد بن عبد الرحمن.. أخذ كتب ابن حزم عن ابنه أبي رافع أسامة بن علي ابن حزم الظاهري (82) إلا أن هذا كنيته أبو جعفر وذاك كنيته أبو بكر، ومن المحتمل ـ وهو الأرجح ـ أن يكون مصحَّفاً عن (الطرطوشي)، وهو أبو بكر محمد بن الوليد الفهري (ابن أبي رندقة).. ولد سنة 451 هـ، ورحل إلى المشرق سنة 476 هـ، ومات سنة 520 هـ.. قال المقرَّي عن الطرطوشي: إنه قرأ الأدب على أبي محمد ابن حزم بمدينة أشبيلية (83) .
قال أبو عبد الرحمن: هذا بعيد؛ لأن عُمْر الطرطوشي يوم مات ابن حزم أقل من ست سنين، ثم إن أبا محمد قضى السنوات الأخيرة من حياته ببلد أجداده وليس بإشبيلية.
وأبو العباس بن أبي رافع هو الفتح بن أبي رافع الفضل بن الإمام أبي محمد بن حزم.. روى عن عمه أبي سليمان مصعب بن أبي محمد (84) ، وأبو سليمان بن أبي محمد هو المصعب بن علي بن أبي محمد ابن أحمد بن حزم.. قال ابن الأبار: سمع من والده، ومن أبي مروان الطبني في شهر ربيع الآخر سنة 457 هـ، وأبي الحسن بن سيده.. حدث عنه بمختصر العين للزُّبيدي، وكان على سنن سلفه من طلب العلم وحمله.. حدث عنه ابن أخيه أبو العباس الفتح بن أبي رافع الفضل، وأبو الحسن بن الخضر.. وغلط ابن الدباغ في اسمه فجعله داود، وإنما هو المصعب.. قرأت اسمه وكنيته بخط أبي الأصبغ السماني المقرئ رحمه الله، ويحدث الفتح المذكور عنه بكتاب المناسك من تأليف أبيه (85) .. وأبو أسامة بن أبي محمد هو يعقوب بن علي بن أبي محمد بن أحمد ابن حزم.. قال ابن بشكوال: ((من أهل قرطبة يكنى أبا أسامة.. روى عن أبيه، وعن أبي عمر ابن عبد البر إجازة، وحج وأدَّى الفريضة، وكان من أهل النباهة والاستقامة من بيت علم وجلالة، ذاكرني به أبو جعفر الفقيه، وقال لي: وتوفي في جمادى الأولى سنة ثلاث وخمسمئة، ومولده سنة أربعين وأربعمئة (86) .
قال أبو عبد الرحمن: وفي هذا النص (الذي نقلته من آخر نسخة الجزء الثاني من الإحكام) زيادة فائدة جديدة عن مؤلَّفٍ أو ضميمة كتبها أبو محمد عن (تواريخ أعمامه، وأبيه، وأخيه، وبني عمه، وأخواته، وبنيه، وبناته: مواليدهم، وتاريخ موت من مات منهم في حياته).. وفي هذا النص إفادة جديدة بأن يزيد ابن أبي سفيان هو مولى يزيد الفارسي جد ابن حزم [رضي الله عنهم]، وفي هذا النص إفادة جديدة عن يزيد الفارسي، وأنه من ولد متوجهة ملك فارس، وأنه هو الداخل منهم إلى الأندلس، وأنه من جند حمص، وأن من ذريته بني أسود في متيلش، وأن بني صالح بمنت ليشم.. وسعد السعود الأموي ذكرت سلسلة نسبه.. يُعرف بأبي الوليد بن عفير اللبلي.. من بنيه القاضي أبو أمية، ومن حفدته أبو الوليد بن أبي أمية.. ذكر ابن عبد الملك أن سعد السعود ظاهري مصمم على القول بالظاهر. ولد في منتصف ذي القعدة سنة 513هـ، وتوفي بقريته برجلانة إحدى قرى لبلة بذي القعدة سنة 588 هـ (87) .
وقال أبو طالب عقيل بن عطية القضاعي المالكي [608 هـ]: ((وهذا الرجل قد غلت فيه طائفتان:
- إحداهما: تُعظِّمه تعظيماً مفرطاً؛ بحيث تقلده في جميع أقواله، ولا ترى مخالفته في شيئ من مذهبه، وإذا ظهر لها في كلامه الخطأ البين، والوهم الصراح، لم تقبله، وأحالت بالوهم والخطإ على من يتعاطى الرد عليه (88) ، أو على أنفسها بالعجز عن الانتصار لذلك القول المردود عليه)).
- والطائفة الثانية: تزري عليه، وتحط من قدره؛ حتى تعتقد: أن لا حسنة عنده؛ فإذا ظهر لها ما في قوله من الجودة، وتَبَيَّنَ لها صحة ما ذهب إليه في أمر ما مما يتكلم عليه، أو يتمذهب به: لم تقبله أيضاً، اعتقدت فيمن يبيِّن ذلك ويتكلم فيه: أنه على مذهبه الذي ينتحله.. وقد يكون في هذه الطائفة: من لا يفهم قوله، ولا يدري معناه، لكن يكرهه تقليداً، ويستصوب قول من يرد عليه في الجملة.. وكلتا الطائفتين مُخطِئة فيما توهمته عليه: من الإحسان المجرد، أو من الإساءة المجردة.. بل هو واحد من العلماء، وممن يقصد الحق عند نفسه فيما يراه، ويُؤثر العدل فيما يظنه ويتحراه؛ فتارة يخطئ، وتارة يُصيب؛ فإذا أصاب فقوله سامق جداً، وإذا أخطأ فقوله نازل جداً؛ لأن أكثر أقواله إنما تأخذ بالطرفين، وغيره من العلماء قد يكون صوابه قريباً من خطئه.. أعني أنه إذا أصاب يكون صوابه قريبَ المرام ليس فيه ذلك الغموض، وإذا أخطأ لم يكن في ذلك الخطأ شذوذ ولا كبير تعسُّف.. وهذا الذي قلناه هو الإنصاف في جانب أبي محمد ابن حزم رحمه الله، والاعتدال الذي ينبغي أن يُعتقد فيه؛ فإنا إنما ذكرنا الواجب في حقه ـ كان له، أو عليه ـ اهـ (89) .
وقال أبو طالب عن ((منذر بن سعيد)): ((وهو رجل ظاهري مثل ابن حزم إلا أنه دونه في الشذوذ)) (90) .
ويرى أبو طالب: أن رده على الحميدي رد على ابن حزم أصلاً، ورد على الحميدي بالتبع؛ لأن ابن حزم من أهل النظر في الجملة، وأما الحميدي: فإنما هو من أصحاب الحديث، وإن كان من أهل التحذق فيهم (91) .
وقال أبو طالب: ((أما بعد: فإن أحد الطلبة رعاهم الله عرض عليَّ كتاباً صنَّفَه أبو عبد الله محمد بن أبي نصر الحميدي رحمه الله في الموازنة يوم القيامة، وتقسيم أهلها، وترتيب الجزاء من الثواب والعقاب عليها.. وكان هذا الطالب المشار إليه معجباً بذلك الكتاب، ومستحسناً لأغراضه ومولعاً بتقسيمه، وزاده كَلَفاً به كون أبي محمد علي بن أحمد ابن حزم رحمه الله قد رواه عن مؤلفه.. كذلك ذكر أبو محمد في برنامجه، وذلك أنه قال: ((كتاب جمعه صاحبنا أبو عبد الله محمد بن أبي نصر الحميدي في مراتب الجزاء يوم القيامة على ما جاءت به نصوص القرآن والسنن الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.. دقَّق فيه وقرطس ما شاء.. أخذته عنه لإحسانه فيه وجودة نظره في تقسيمه.. يكون بضع عشرة ورقة صغاراً)).
قال أبو عبد الرحمن: لقد استخلصتُ من كتاب أبي طالب (تحرير المقال) كتاب (مراتب الجزاء يوم القيامة) لأبي عبد الله الحميدي، وطبعته في بيروت، ثم أعدت نشره بالجزء الثاني من كتابي الذخيرة.. ونصوص أبي طالب هنا نادرة، وقد ذكر من مؤلفات ابن حزم كتابه البرنامج، ونقل نصاً منه، وفي هذا الكتاب ردٌّ لأبي طالب على أبي محمد في تفسير قوله تعالى فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ [سورة الانشقاق /7].. الآية، وقد فرغت من تحقيقه بحمد الله.
ومراتب الجزاء للحميدي رواه عنه شيخه ابن حزم في برنامجه، وأثنى عليه.. بيد أن الحميدي نفسه نص على أنه استفاد فكرة الكتاب من شيخه أبي محمد؛ لأنها جرت في مجلسه ونبَّه عليها (92) ..
قال أبو عبد الرحمن: لعل ما نبَّه عليه أبو محمد في مجلسه هو إملاؤه لكتابه (مراتب أهل الحقائق في دار القرار) هو ثلاث ورقات كتبها الحميدي من تقرير شيخه؛ فكانت أصلاً لكتابه مراتب الجزاء، وقد صورها الأستاذ محمد تاويت الطنجي من إحدى مكتبات تركيا، وهي مدرجة في رسالة التلخيص هذه.. وللمقارنة بين مراتب أهل الحقائق لابن حزم ومراتب الجزاء للحميدي نجد أبا طالب يقول عن نصوص لابن حزم في الفصل: ((ولكن الحميدي زاد عليها بالتتبع لها بإضافة ما يشاكلها حتى استحقها على ابن حزم)) (93) .
قال أبو عبد الرحمن: مراتب أهل الحقائق برمته موجود في التلخيص لوجوه التخليص وهو دون تفريع الحميدي.
ومن تلك النصوص قول ابن القطان: ((أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الحافظ الفقيه على مذهب أهل الظاهر.. برع في الفقه والحديث والتاريخ والآداب، وهو من بيت وزارة، ووزر بنفسه لبعض ملوك الأندلس، ثم تخلَّى لطلب العلم والانفراد به، ومولده آخر يوم من رمضان سنة أربع وثمانين وثلاث مئة ومات سنة ست وخمسين وأربع مئة)) (94) .. ثم ذكر جملة من المصادر التي لم يرجع إليها عبد الحق الإشبيلي مباشرة، وإنما روى عنها من طريق نقول ابن حزم.
وقال ابن القطان عن حديث رواه عكرمة بن خالد: ((فاعلم أنه حديث لا علة فيه، وقد غلط في تضعيفه ابن حزم، وكان له عذر، وتبعه أبو محمد عبد الحق بغير عذر)).. قال أبو عبد الرحمن: وعذر ابن حزم فيه هو أن له اعتناء بكتاب أبي يحيى الساجي حتى أنه اختصره ورتبه على الحروف وشاع اختصاره المذكور لنبله، وكان في كتاب الساجي تخليط لم يأبه له ابن حزم حين الاختصار؛ فجرَّ لغيره الخطأ (95) .
وذكر ابن القطان حديثاً روه داود بن عبد الله الأودي، ثم ذكر رد أبي بكر بن مفوز على أبي محمد ابن حزم في ذلك ثم قال: ((وقد كتب الحميدي إلى ابن حزم من العراق يخبره بصحة هذا الحديث، وبين له أمر هذا الرجل؛ فلا أدري أرجع عن قوله أم لا؟)) (96) .
وذكر ابن القطان حديثاً رواه أبو محمد عبد الحق الإشبيلي في كتابه الأحكام الكبرى؛ إذ قال: أخبرني القرشي قال: أخبرنا ابن حزم.. إلخ.
قال عبد الحق: هذا الحديث أروية متصلاً إلى زينب بنت جابر الأحمسية: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكره أبو محمد في كتاب المحلى.
وتعقبه ابن القطان بقوله: ((إن هذا الحديث لا يوجد مرفوعاً بوجه من الوجوه لا في الموضع الذي نقله منه ـ يعني معجم ابن الأعرابي ـ ولا في غيره، وإنما غلط فيه أبو محمد ابن حزم؛ فتبعه هو في ذلك غير ناظر فيه ولا ناقل له من موضعه، وإنما أورد منه ما وقع في كتاب المحلى.. ويرى ابن القطان أن عبد الحق قلَّد ابن حزم في هذا الحديث.. إلا أن ابن حزم كما يغلب على ظن ابن القطان لم يجعله حديثاً ولا صححه ولا التفت إليه، وإنما أورده في كتابه على أنه أثر كما هو في الأصل لا على أنه خبر؛ ولذلك لم يبال بإسناده؛ فتصحف على الرواة أو النساخ، فجُعِل حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم.. قال ابن القطان: وقد عُهِد أبو محمد ابن حزم يكتب الآثار في كتابه من غير التفات إلى أسانيدها؛ لأنه لا يحتج بها، وإنما يوردها مؤنساً لخصومه مما وضع من مذهب، وهو لا يستوحش بعدمها، ولأنه قد عهدهم يقبلونها كذلك، وبعضهم يراها حججاً؛ فهو يوردها لنفسه باعتبار معتقدهم فيها ولا يعتمدها.. وقد يردها على خصومه لضعفها؛ لأنهم يوردونها لا كما يوردها هو لنفسه، بل محتجين بها؛ فلذلك يسلِّط عليها النقد)) (97) .
وابن القطان يأخذ على عبد الحق أنه لم يرجع إلى مصنف حماد بن سلمة، وإنما رجع إلى نقل ابن حزم عنه في كتاب الإعراب (98) ، وابن القطان ينقل عن ابن حزم كثيراً: تارة يحتج بكلامه (99) . وتارة يدافع عنه (100) وتارة يتعقبه (101) .. ويذكر ابن القطان أن أبا محمد عبد الحق يقلد ابن حزم في النقل والتجريح (102) .. وذكر متون أحاديث أوردها ابن حزم في المحلى بسند واحد وعلق بقوله: ((وأظن ابن حزم لما كان ذلك كله بإسناد واحد لَفَّقَهُ تشنيعاً على الخصوم الآخذين ببعض ما رُوي بهذا الإسناد التاركين لبعضه (103) .. وقال في معرض رده على عبد الحق: وما درى أن أبا محمد ابن حزم لا يقبل حديث من لا يُعرف سواء ادعى لنفسه الثقة أو الصحبة ما لم يخبرنا تابعي بثقته وصحبته؛ فحينئذٍ يقبل نقله (104) .. وقد نسب هذا المذهب في موضع آخر لبعض أهل الظاهر وأيده (105) .. وأحال إلى المحلى والإعراب والإيصال، وذكر نص عبد الحق على أنه لم يطلع على الإيصال، ثم قال: ((إن كل حديث أورده ابن حزم في كتاب من كتبه فقد فرغ منه في الإيصال بسنده)) (106) ، وأحال إلى كتاب ابن حزم الإعراب (107) ، وذكر رواية عبد الحق لكتاب حجة الوداع لابن حزم إجازة عن شريح (108) ..
قال أبو عبد الرحمن: أبو محمد عبد الحق الإشبيلي المعروف بابن الخراط في جميع مؤلفاته من المعوِّلين على أبي محمد ابن حزم، وهو يروي مؤلفاته عن طريق شريح تلميذ ابن حزم.. ومؤلفات ابن الخراط نفيسة مليحة جداً، وقد اقتنيت معظمها بحمد الله.
وقال الذهبي عن كتاب ابن القطان: ((طالعت كتاب ابن القطان المسمى بالوهم والإيهام الذي وضعه على الأحكام الكبرى [قال أبو عبد الرحمن: بل الوسطى] لعبد الحق يدل على حفظه وقوة فهمه، لكنه تعنت في أحوال رجال؛ فما أنصف بحيث أخذ يلين هشام بن عروة ونحوه)) (109) .. وقال ابن ناصر الدين: ولابن القطان فيه وهم كثير تعقبه عليه أبو عبد الله الذهبي في مصنف كبير (110) .
قال أبو عبد الرحمن: ردُّ الذهبي مخطوط بالمكتبة الظاهرية بدمشق ولم يتيسر لي الاطلاع عليه بعد.. والجديد في نصوص ابن القطان هذه ما يلي:
1 ـ الإفادة باختصار ابن حزم لكتاب الساجي وكونه نبيلاً.
2 ـ مكاتبة الحميدي لابن حزم من بغداد.
3 ـ لفت النظر إلى منهج ابن حزم في الاستدلال بالحديث على أصل المخالف.
4 ـ أن ابن القطان اطلع على الإيصال مباشرة، وابن القطان مقارب عصره لعصر ابن خليل العبدري؛ وعلى هذا يحمل كلام ابن خليل على أنه شخصياً لم يطلع على الإيصال كاملاً لا على أنه عُدِم في وقت مبكر.
5 ـ نص ابن القطان هنا مع ما خبرته من إدمان المطالعة لكتب ابن حزم يدل على أن أبا محمد في بداية أمره فرَّغ نفسه لتمحيص أسانيد الأحاديث بكتابه الخصال وشرحه الإيصال؛ حيث اعتمد على المصنفات الهائلة التي أحصيتها في تخريجي لفهرسة ابن حزم، ثم بعد ذلك اعتمد على الإيصال اعتماداً نهائياً في تخريج الأحاديث في بقية كتبه، ولم يتعب نفسه في المراجعة؛ ولهذا دخل عليه نقص كثير في الحكم على الأحاديث تصحيحاً وتضعيفاً.. وبهذه المناسبة أشير إلى أن أبا محمد عبد الحق بن الخراط بنى كتابه الأحكام على كتاب المنتخب المنتقى لأبي عمر أحمد بن عبد الملك الأنصاري ابن أبي مروان ( ـ 549) الذي جمع فيه ما افترق في أمهات المسندات من نوازل الشرع وكان ظاهرياً (111) ، ولأبي عبد الله محمد بن محمد بن عبد الملك المراكشي صاحب كتاب الذيل والتكملة كتاب جمع فيه بين كتابي ابن القطان وابن المواق على الأحكام لعبد الحق مع زيادات نبيلة من قبله.
وقال الشيخ محمد المنتصر الكتاني عن الوهم والإيهام: ((فقد رد عليه ابن المواق الفاسي، وانتصر له ابن عبد الملك المراكشي، ورتبه مغلطاي الحافظ المصري.. وهو عمدة الحافظ ابن حجر المصري في جميع مؤلفاته الحديثية، كما رتبه صدر الدين بن المرجل)) (112) .
قال أبو عبد الرحمن: وعمدتي في الرجوع إلى كتاب ابن القطان ((بيان الوهم والإيهام الواقعين في كتاب الأحكام)) صورتان لنسختين خطيتين صورتهما من معهد المخطوطات بمصر، ولقد طبع أخيراً في ستة مجلدات بتحقيق الدكتور الحسين آيت سعيد، وصدر عن دار طيبة بالرياض عام 1418 هـ.
ومن تلك النصوص قول صلاح الدين الصفدي (696 ـ 764 هـ): ((أنشدني الحافظ المحدث الأديب فتح الدين محمد بن أبي عمرو محمد بن أبي بكر بن محمد بن سيد الناس اليعمري بالقاهرة المحروسة قال: أنشدني والدي قال: أنشدني الحافظ أبو العباس أحمد بن محمد بن مفرج البناني (113) قال: أنشدني أبو الوليد سعد السعود بن أحمد بن هشام قال: أنشدني الحافظ أبو العباس أحمد ابن عبد الملك قال: أنشدنا أبو أسامة يعقوب قال: أنشدني والدي الفقيه الحافظ أبو محمد ابن حزم لنفسه:
من عذيري من أناس جهلوا
ثم ظنوا أنهم أهل النظرْ
ركبوا الرأي عناداً فسروا
في ظلام تاه فيه من عبرْ
وطريق الرشد نهج مهيع
مثلما أبصرت في الأفق القمرْ
وهو الإجماع والنص الذي
ليس إلا في كتاب أو أثرْ
ولابن حزم أيضاً أبيات عينية في هذه المادة أضربت عن إثباتها لطولها إلا أنه ختمها بقوله:
فخيرُ الأمورِ السالفات على الهدى
وشر الأمور المحدثات البدائعُ
وقد بالغ في الشناع حيث قال:
إن كنتِ كاذبةَ الذي حدثتني
فعليك إثم أبي حنيفة أو زفر
الواثبين على القياس تمرداً
والراغبين عن التمسك بالأثر
واستطرد استطراداً قبيحاً (وحاش لله) ليس أبو حنيفة وزفر ممن يُقال في حقهما مثل هذا (114) .
وقال الصفدي: ((وعلى ذكر ما الموصولة أنشدني من لفظة الشيخ الإمام الحافظ أبو الفتوح محمد بن محمد بن سيد الناس اليعمري قال: أنشدني والدي أبو عمرو محمد قال: أنشدني والدي أبو بكر محمد قال: أنشدني ابن عروة القيسي قال: أنشدني أبو عبد الله محمد بن أبي محمد بن علي بن سعيد ابن حزم الظاهري لنفسه:
تجنَّب صديقاً مثل ما واحذر الذي
تراه كعمرو بين عرب وأعجم
فإن صديق السوء يزري وشاهدي
كما شرقت صدر القناة من الدم
قلت: قوله: ((مثل ما)) أي صديقاً يحتاج إلى ما يكمله كاحتياج ما الموصولة إلى الصلة والعائد، واحذر الذي تراه كعمرو أي صديقاً فيه زيادة لا حاجة إليها كالواو التي في آخر عمرو؛ لأن صديق السوء يزري بصاحبه كما أن المؤنث إذا جاور المذكر أكسبه التأنيث كقولهم: ذهبت بعض أصابعه.. وكقول الأعشى:
وتشرق بالقول الذي قد أذعته
كما شرقت صدر القناة من الدم
لأن الصدر الذي هو مذكر لما أضيف إلى القناة أُنَّث فعله وهو شرقت، والتأنيث سُوءٌ بالنسبة إلى التذكير.. قال الله تعالى: قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى [سورة آل عمران /36] وهذا البيت مما أنشده سيبويه، وأهل الكوفة يستشهدون به، وساقه ابن السكيت في كتاب المذكر والمؤنث له، ويحتمل أن يكون أراد بالذي كعمرو عمراً الذي في قول الشاعر:
والمستجير بعمرو عند كربته
كالمستجير من الرمضاء بالنار
والأول أليق وأحس (115) .. وقال الصفدي: ((وقال الخليل بن أحمد رحمه الله تعالى:
إن كنت لست معي فالذكر منك معي
يراك قلبي وإن غيبت عن بصري
العين تبصر من تهوى وتفقده
وناظر القلب لا يخلو من النظر
وقال في هذا المعنى الشيخ جمال الدين بن الحاجب رحمه الله تعالى:
إن تغيبوا عن العيان فأنتم
في قلوب حضوركم مستمر
مثلما تثبت الحقائق في الذهن
وفي خارج لها مستقر
وابن حزم لم يرضَ بهذا المعنى (116) بل قال:
لئن أصبحت مرتحلاً بجسمي
فقلبي عندكم أبداً مقيم
ولكن للعيان لطيف معنى
له سأل المعاينة الكليم (117) ))
وقال: ((وقد أوردت في ترجمة الحافظ فتح الدين محمد بن محمد بن محمد بن سيد الناس ما أنشدنيه بسنده إلى الحافظ أبي محمد ابن حزم وهي أبيات أولها:
من عذيري من أناس جهلوا
ثم ظنوا أنهم أهل النظر
قال الحميدي أنشدته قول أبي نواس:
عرِّضنْ للذي تحب بحبٍّ
ثم دعه يروضه إبليس
فقال:
أبن وجه قول الحق في نفس سامع
ودعه فنور الحق يسري ويشرق
سيؤنسه رفقاً فينسى نفاره
كما نسي القيد الموثق مطلق (118) ))
وقال الصفدي: ((أنشدني والدي أبو عمرو محمد قال: أنشدني والدي أبو بكر محمد بن أحمد بن عبد الله بن محمد بن يحيى بن سيد الناس رحمهما الله تعالى قال: أنشدني الحافظ أبو العباس أحمد بن محمد بن مفرج النباتي قال: أنشدني أبو الوليد سعد السعود بن أحمد بن هشام قال: أنشدني الحافظ أبو العباس أحمد ابن عبد الملك أنشدنا أبو أسامة يعقوب قال: أنشدني والدي الفقيه الحافظ أبو محمد ابن حزم لنفسه.
من عذيري من أناس جهلوا
ثم ظنوا أنهم أهل النظر
ركبوا الرأي عناداً فسروا
في ظلام تاه فيه من غبر
وطريق الرشد نهج مهيع
مثلما أبصرت في الأفق القمر
وهو الإجماع والنص الذي
ليس إلا في كتاب أو أثر (119)
قال أبو عبد الرحمن: البيتان: ((تجنب صديقاً مثلما.. إلخ)) نسبهما ابن سعيد لأبي عمرو ابن حزم النحوي (120) . وهو أحمد بن محمد المذحجي.. وأبو محمد ابن حزم الفارسي جده من أمه، وإسناد الصفدي ـ إن لم يكن فيه سقط ولا تصحيف ـ يدل على أن الأبيات لأبي عبد الله محمد بن علي، ويدل على أن لأبي محمد ولداً اسمه محمد وكنيته أبو عبد الله.. على أن هذا الإسناد يحتاج مني مستقبلاً إن شاء الله زيادة تمحيص.
والقصيدة العينية التي ذكر منها الصفدي بيتاً لم أحد أحداً أشار إليها قبله، والبيتان: ((إن كنت كاذبة الذي.. إلخ)) ليسا لأبي محمد ابن حزم، وقد ذكرهما محمد أمين بن فضل الله المحبي [1061 ـ 1111هـ]؛ فقال: عن عبد الحفيظ عبد الله المهدوي ( ـ 1077 هـ): ((وله في الأدب مرتبة عَلِيَّة؛ وأشعاره بمثابة علمه واضحة جلية؛ فمما بلغني من شعره ـ وقد أنشد بعضهم بيتي ابن حزم الظاهري، وهما:
إن كنتِ كاذبةَ الذي حدثتني
فعليك إثم أبي حنيفة أو زفر
الواثبين على القياس تمرداً
والراغبين عن التمسك بالأثر
فأنشد:
ما كان يحسن يا ابن حزم ذمُّ من
حاز العلوم وفاق فضلاً واشتهر
فأبو حنيفة فضله متواتر
ونظيره في الفضل صاحبه زفر
إن لم تكن قد تبت من هذا ففي
ظني بأنك لا تباعد من سقر
ليس القياس وقد تكون أدلة
للحكم من نص الكتاب أو الخبر
لكن مع عدمٍ تُقاس أدلة
وبذاك قد وصَّى معاذاً إذ أمر (121)
وقال المحبي عن عبد الحفيظ المذكور: ((ولما أنشد بعض من حضر مجلس سماعه في الحديث بزبيد المحروسة على شيخه محمد الخاص الحنفي بيتي ابن حزم الظاهري وهما)):
إن كنتِ كاذبةَ الذي حدثتني
فعليك إثم أبي حنيفة أو زفر
الواثبين على القياس تمرداً
والراغبين عن التمسك بالأثر
أخذ الشيخ في ذم ابن حزم لأجلهما؛ فقال صاحب الترجمة بديهة:
ما كان يحسن يا ابن حزم ذم من
حازم العلوم وفاق فضلاً واشتهر
فأبو حنيفة فضله متواتر
ونظيره في الفضل صاحبه زفر
إن لم تكن قد تبت من هذا ففي
ظني بأنك لا تباعد من سقر
ليس القياس وقد تكون أدلة
للحكم من نص الكتاب أو الخبر
لكن مع عدمٍ تُقاس أدلة
وبذاك قد وصَّى معاذاً إذ أمر
فأعجب الحاضرون بذلك، وكتبوه عنه في الحال)) (122) .
قال أبو عبد الرحمن: رد عبد الحفيظ نظم بارد ميت، وهذا المقلد النكرة عدا طوره في شتمه للإمام أبي محمد ابن حزم، والأفظع من ذلك أن البيتين ليسا من شعر ابن حزم، بل قيلا قبل أن يولد ابن حزم؛ فهذا الخطيب البغدادي ينسبهما لأحمد بن المعذل، ولم يولد ابن حزم إلا بعد موت ابن المعذل بقرون، وهذا ابن عبد البر يروي عن غلام خليل ـ وهو قبل ابن حزم بقرون ـ أنهما لأحد البصريين، وهذا الإمام الطحاوي (وهو قبل ابن حزم بقرون) يسمعهما فيقول: وددتُ أن لي أجرهما وحسناتهما وعلي إثمهما وسيئاتهما (123) .
ولعل أبا محمد ابن حزم رأى هذين البيتين في كتاب جامع بيان العلم أو غيره فاستشهد بهما.. ولأبي حنيفة وزفر وغيرهما من الأتباع رحمهم الله جنوح عن النصوص الشرعية اتباعاً للأقيسة غير متعينة الاحتمال والآراء المرسلة.. ولو كانت آراؤهم هذه في الأدب أو اللغة أو الثقافات النظرية لفرحنا بها افتخاراً بالتراث العربي، أما مع حضور النصوص الشرعية فالمطلوب مراد شرعي لا ثقافة بشرية، ومن النصوص الإحالة إلى العفْوِ والبراءة واستصحاب الحال.
ومن النصوص التي تحتاج إلى محاكمة قول أبي الأصبغ عيسى بن سهل الأسدي الجياني [ ـ 486 هـ].. قال محمد إبراهيم الكتاني: ((كتاب التنبيه على شذوذ ابن حزم لمعاصر ابن حزم أبي الأصبغ عيسى بن سهل الأسدي (124) . الجياني القرطبي المشَاوَر بها، نزيل سبتة، وقاضي طنجة ومكناسة وغرناطة، المتوفى سنة 486 هـ / 1093م: يندد بابن حزم فيما خالف الحق، ونافر الصدق من غمطه على أئمة الدين، واستخفافه بأقدار العلماء الراسخين، وقطعه عمره في تزييف دقائق علومهم وبديع أقوالهم في الأصول والفروع، وترك ما وجب عليه وعلى غيره ممن يدين بالإسلام من اتباعهم بإحسان، والدعاء لهم بالرحمة والغفران (125) .. ويذكر أن شرذمة لا دين عندها، ولا عقل معها، ولا خلاق لها: مالت إلى القول بمذهبه، ومطالعة تآليفه التي لا تفيد إلا سب من سلف، والطعن عليهم والمعاداة لهم (126) ؛ فرأى التنبيه على قبح مذهبه، وسوء معتقده للأئمة (127) ، وفاضلي هذه الأمة، وإظهاره: لثلبهم في كل باب من تآليفه، ولهجته بالاستخفاف بهم في كل ورقة من تصنيفه فِعْلَ من لا يتقي الله تعالى ولا يستحيي من عباده ولا يراعي حق سلفه.. ويذكر طرفاً من جهله فيما أورد، واضطرابه فيما ذكر، وتصحيفه لما نقل وسطر، وقوله بما لم يقله من تقدم أو تأخر.
والمؤلف ينقل فصلاً من كلام ابن حزم قد يبلغ الورقة والورقتين ثم يعقب بالرد عليه بسيل جارف من السب الفاحش، والقذف اللاذع البذيء، واللعن والتكفير.. وهو يملك ثروة ضخمة جداً من هذه الألفاظ النابية ينفق منها على ابن حزم في إسراف وتبذير في لهجة مَنْ توتَّرت أعصابه وفقد السيطرة عليها؛ فهو مخذول، ضال شقي، مارق، معطل، جاهل، مفتون، وقح، معاند، فاسد، كافر ملحد، مخلط، مستخف، سخيف العقل، قليل الدين، عديم الحياء، مفارق لجماعة المسلمين، متلاعب بدينه، كذَّاب أشِر، أعمى البصيرة، تائه في مهْمَه الحيرة، سابح في بحر العمى والظلمة.. ما حاول في كتبه إلا هدم الإسلام ونقض عُراه؛ اتباعاً لهواه.. ويقول: إن جميع ما يأتي به ويصنفه من اللغو الذي يجب الإعراض عنه والهجر الذي يجب أن لا يسمع عنه.. وهو يذكر من مؤلفات ابن حزم: (الفصل) و (الإحكام) و (التوقيف على شارع النجاة)، و (كتاب القواعد) على مذهبه و (المرطار) [كذا].. ومما شنع فيه على ابن حزم تشنيعاً شديداً ما ذكره في (الفِصَل) من إظهار تبديل اليهود والنصارى للتوراة والإنجيل، وبيان تناقض ما بأيديهم مما لا يحتمل التأويل، وهي الناحية التي أشاد الدارسون قديماً وحديثاً بعبقرية ابن حزم فيها، وسبقه إليها.. وشنع كذلك تشنيعاً فظيعاً بالبرنامج الرائع الذي قدمه ابن حزم لتعليم الأطفال في كل من (مراتب العلوم) و (التوقيف على شارع النجاة) الداعي إلى الجمع في الدراسة بين العلوم الشرعية والعلوم العقلية والرياضية والأدبية.. ومما شنع فيه على ابن حزم تشنيعاً كبيراً قوله بكروية الأرض (128) . غير ذلك مما لا يتسع المجال الآن لإيراد شيء منه هنا.
وتوجد من هذا الكتاب بقايا أوراق لا أول لها ولا آخر، ولا صلة بينها في مكتبة القرويين بفاس أوقفني عليها محافظها الزميل الأستاذ العابد الفاسي، واستطعت التعرف إلى حقيقتها بعد دراسة طويلة.
قال أبو عبد الرحمن: هذا نموذج ممن ذكرهم ابن خليل العبدري فيما سلف من كلامه، وأبو الأصبغ من مقلِّدة المالكية، وله كتاب عن النوازل صورته من المغرب وهو مجرد نقول، ثم قام الدكتور المحامي رشيد النعيمي بتحقيقه.
وحسبك من جهل هذا المدَّعي للفقه أنه ينكر على ابن حزم سبقه فيما أيده العلم الحديث من كروية الأرض، وحسبك من جهله أنه يستخف بكتاب ابن حزم في الملل والنحل وهو أحد كتب قلائل يفخر بها التراث العربي والإسلامي في هذه العصر.
وكتاب المرطار في اللهو والدعابة من تأليف ابن حزم أول من ذكره أبو الأصبغ، وقد رأيت نصوصاً كثيرة منقولة عن ابن حزم في الجذوة كلها من باب اللهو والدعابة.
وقال علي بن محمد بن علي الرعيني من أعيان القرن السابع: ((أخبرني [يعني أبا الحسين محمد بن زرقون] قراءة عليه وسماعاً من لفظه قال: حدثني الحافظ أبو بكر الجد قال: حدثني أبو الحسن بن الأخضر قال: حدثني أبو الحجاج الأعلم: أنه لقي ابن حزم، فقال له مكان التحية: يا أستاذ: هل تجمع العرب فاعلاً على فعلان؟.. قال: فقلت له: نعم.. وأخذت أورد له أمثلة على جهة البيان.. فطفق يركض دابته غير مصيخ للجواب وهو يقول: أرحتني من سبحان.. أرحتني من سبحان!.
قلت: وقد ذكر نحو هذا عنه القاضي أبو الأصبغ بن سهل في كتابه الذي سماه بالتنبيه على شذوذ ابن حزم، وقال: إن الأديب أبا بكر محمد بن أغلب المرسي حدثه: أن الأعلم ذكر ذلك في نحو ما تقدم.. إلا أنه قال: إن ابن حزم قال له عندما أجابه عن سؤاله: فما يمنع أن يكون سبحان جمع سابح؟.. قال الأعلم: فعجبت من جهله اهـ)) (129) .. وذكر عن شيخه أبي زكرياء يحيى بن أبي بكر بن عصفور العبدري: أنه قرأ على المحدث أبي العباس أحمد بن سلمة الأنصاري كتاب حجة الوداع لابن حزم (130) ، وذكر أنه قرأ على أبي الحسين محمد بن القاضي أبي عبد الله محمد بن سعيد بن زرقون كثيراً من تأليفه الكبير الذي سماه (المعلى في الرد على المحلى والمجلى) (131) .
قال أبو عبد الرحمن: ابن زرقون ولد سنة 539 هـ وتوفي سنة 621 هـ، وقد ذكر ابن الآبار أنه متعصب للمذهب المالكي، وشيخه في هذه الرواية أبو بكر محمد بن عبد الله بن يحيى بن فرج بن الجد سمع أبا الحسن بن الأخضر وبحث عليه سيبويه وأخذ عنه اللغات.. توفي سنة 586 هـ، وأبو الحسن بن الأخضر هو علي بن عبد الرحمن بن مهدي التنوخي من أهل إشبيلية توفي سنة 514 هـ، وأبو الحجاج الأعلم هو يوسف بن عيسى بن سليمان النحوي ولد سنة 410 هـ وتوفي سنة 476 هـ بإشبيلية وقد كان رحل إلى قرطبة سنة 433 هـ وأقام بها مدة.. ولعل هذا الخبر بهذا الإسناد مما ساقه ابن زرقون في كتابه المعلى الذي رد به على المحلى لأبي محمد ابن حزم وعندي يقين بأن هذا الخبر منتحل مكذوب لعدة اعتبارات:
- أولها: أن موردي الخبر خصمان لابن حزم متعصبان عليه، وأبو الأصبغ الذي كفَّر ابنَ حزم وفسَّقَه لا آمن أن يكذب عليه.
- وثانيها: ربما صحَّ الخبر عن الأعلم إلا أنه نحويٌّ أديب، وهؤلاء غير رجال الشريعة.. ربما ملَّحوا مجالسهم ببعض الكذبات تباهياً بالعلم، وافتخاراً بلقاء ابن حزم وتجهيله. وعلى أي حال فليس الأدباء كالعلماء في الثقة.
- وثالثها: أن الخبر متناقض يكذِّب بعضه بعضاً؛ فرواية أبي الأصبغ أن ابن حزم قال للأعلم عندما أجابه عن سؤاله: فما يمنع أن يكون سبحان جمع سابح؟.. وفي رواية ابن زرقون: فطفق يركض دابته غير مصيخ للجواب وهو يقول: أرحتني من سبحان!.. فأي هاتين الكذبتين نصدق؟!.
- ورابعها: في سياق هذا الخبر روح العداء والتعصب؛ لأنه ذكر فيها أن ابن حزم قال للأعلم مكان التحية: يا أستاذ!.
قال أبو عبد الرحمن: محال أن يترك إمام المسلمين أبو محمد ابن حزم تحية الإسلام، ومستبعد أن يسأل الأعلمَ وهو صبي ويلقبه بالأستاذ، ومحال أن يجهل أبو محمد بداءة التصريف وهو إمام في العربية قبل أن يكون إماماً في الفقه، ومستبعد أن يصح هذا الخبر فلا يتناقله الناس الذين يفرحون بكل طريفة ظريفة عن ابن حزم ويكون هذا الخبر وقفاً على خَصْمَيْ ابن حزم (ابن زرقون، وابن سهل)، ثم مع هذا لا تشتهر القصة في ترجمة الأعلم بكتب الأعلام.
قال أبو عبد الرحمن: ومع هذه البلايا في هذا الخبر فلو صح ـ وهو لا يصح، لكان الأمر أبرد من ماء التشرين، ولا يضير إمامة ابن حزم ذلك.
وابن الجد كما قال ابن الأبار: يحدث من حفظه بأشياء غريبة (132) .
ومن النصوص التي تحتاج إلى محاكمة قول ياقوت الحموي [574 ـ 626 هـ] ((قرأت بخط أبي بكر محمد بن طرخان بن بلتكين بن بجكم قال: ولد الشيخ الإمام أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم بقريته، وهي من غرب الأندلس على خليج البحر الأعظم في شهر جمادى الأولى من سنة 457.. والقرية التي له على بعد نصف فرسخ من أونبة يقال لها متليجم وهي ملكه وملك سلفه من قبله.. قال: وقال لي أبو محمد ابن العربي: إن أبا محمد ابن حزم ولد بقرطبة، وجده سعيد ولد بأونبة، ثم انتقل إلى قرطبة وولي فيها الوزارة، ثم ابنه علي الإمام، وأقام في الوزارة من وقت بلوغه إلى انتهاء سنة ستاً وعشرين سنة.. وقال: إنني بلغت إلى هذا السن وأنا لا أدري كيف أجبر صلاة من الصلوات.. قال: قال لي الوزير أبو محمد ابن العربي: أخبرني الشيخ الإمام أبو محمد علي ابن أحمد بن سعيد بن حزم: أن سبب تعلمه الفقه أنه شهد جنازة لرجل كبير من إخوان أبيه؛ فدخل المسجد قبل صلاة العصر والحفل فيه، فجلس ولم يركع؛ فقال له أستاذه (يعني الذي رباه) بإشارة: أن قُمْ فصل تحية المسجد.. فلم يفهم.. فقال بعض المجاورين له: أبلغت هذا السن ولا تعلم أن تحية المسجد واجبة (وكان قد بلغ حينئذ ستة وعشرين عاماً).. قال: فقمت وركعت وفهمت إذن إشارة الأستاذ إليَّ بذلك.. قال فلما انصرفنا من الصلاة على الجنازة إلى المسجد مشاركة للأحياء من أقرباء الميت دخلت المسجد فبادرت بالركوع؛ فقيل: اجلس اجلس. ليس هذا وقت صلاة، فانصرفت عن الميت وقد خزيت، ولحقني ما هانت عليَّ به نفسي، وقلت للأستاذ: دلني على دار الشيخ الفقيه المشاور أبي عبد الله بن دحون؛ فدلني، فقصدته من ذلك المشهد، وأعلمته بما جرى فيه، وسألته الابتداء بقراءة العلم، واسترشدته؛ فدلني على كتاب الموطإ لمالك بن أنس رضي الله عنه؛ فبدأتُ به عليه قراءة من اليوم التالي لذلك اليوم، ثم تتابعت قراءتي عليه وعلى غيره نحو ثلاثة أعوام، وبدأت بالمناظرة.. قال: وقال لي الوزير الإمام أبو محمد ابن العربي: صحبتُ الشيخ الإمام أبا محمد علي ابن حزم سبعة أعوام، وسمعت منه جميع مصنفاته حاشى المجلد الأخير من كتاب الفصل، وهو يشتمل على ست مجلدات من الأصل الذي قرأنا منه؛ فيكون الفائت نحو السدس.. وقرأنا من كتاب الإيصال أربع مجلدات من كتاب الإمام أبي محمد بن حزم في سنة 456، ولم يفتني من تأليفاته شيء سوى ما ذكرته من الناقص وما لم أقرأه من كتاب الإيصال.. وكان عند الإمام أبي محمد ابن حزم كتاب الإيصال في أربعة وعشرين مجلداً بخط يده، وكان في غاية الإدماج.
قال: وقال لي الوزير أبو محمد ابن العربي: وربما كان للإمام أبي محمد ابن حزم شيء من تواليفه ألَّفه في غير بلده في المدة التي تجوَّل فيها بشرق الأندلس فلم أسمعه، ولي بجميع مصنفاته ومسموعاته إجازة منه مرات عدة كثيرة.. آخرها كان بخط البجكمي رحمه الله)) (133) .
قال أبو عبد الرحمن: أبو عبد الله شهاب الدين ياقوت بن عبد الله الرومي الحموي كان جماعاً للأخبار، وله أوهام كثيرة في كتبه.. أما هو في ذات نفسه فموثَّق غير متَّهم، ولعل كتابه (المقتضب) اختصار لجمهرة أنساب العرب لابن حزم، وهو لا يزال مخطوطاً.. وكذلك كتابه أخبار أهل الملل وقصص أهل النحل ذكره في معجم البلدان في مادة بربر، وربما لخَّص فيه فِصَل ابن حزم أو استفاد منه؛ لأنه يحتفي بأبي محمد كثيراً.. وكتابه معجم الأدباء قال عنه الزركلي: (وفي النسخة المطبوعة نقص استُدرِك بتراجم ملفقة دست فيه) (134) .
وابن طرخان الذي ذكره له ترجمة في الوافي للصفدي (135) ، وقد شهدوا له بصحة النقل، وبالصلاح والزهد والعبادة والأمانة والصدق. وشيخ ابن طرخان أبو محمد ابن العربي تلميذ ابن حزم ثقة، وياقوت ثقة.. إلا أن كل ما رواه ابن طرخان عن ابن العربي في هذه الترجمة ليس بصحيح والخطأ فيه من وجوه:
- أولها: أنه حدد تاريخ وفاة أبي محمد بسنة 457 والمتفق عليه أن وفاته سنة 456 هـ.
- وثانيها: الزعمُ بأن أبا محمد أقام في الوزارة من وقت بلوغه إلى انتهاء سنه ستاً وعشرين سنة.. قال أبو عبد الرحمن: أول ما ولي أبو محمد الوزارة للمرتضى في حدود سنة 408 وعمره يقارب السادسة والعشرين، ولم يبقَ فيها إلا شهوراً.. هذا باتفاق المؤرخين، وقد نص ابن حزم على ذلك في الطوق.
- وثالثها: أنه ذكر أن أبا محمد كان وزيراً وهو في السادسة والعشرين، وأن مربِّيه كان معه، وأنه لا يعرف ما يعرفه العوام من أحكام الصلاة؟!.
- ورابعها: أن قراءة أبي محمد الفقه، واسترشاده إلى طلب العلم كان حسبما رواه ياقوت سنة 409 هـ حيث كان عمر أبي محمد ستاً وعشرين سنة، وهذا خطأ؛ لأن أبا محمد قرأ الحديث الفقه على المشايخ سنة 399، ومن مشايخه الذين يروي عنهم بإكثار ابن الجسور وابن وجه الجنة، وكلاهما مات في سنتي 401 ـ 402 هـ.
- وخامسها: أن ابن العربي يذكر حسب هذه الرواية: أن الفِصَل ستة أجزاء قرأ منها على أبي محمد خمسة وفاته السادس.. ومن هذا النص استدل بعض المتأخرين على أن كتاب الفِصَل المطبوع ينقص منه الجزء السادس.
قال أبو عبد الرحمن: الفِصَل خمسة أجزاء فقط والدليل على ذلك: أن أبا محمد ابن حزم قال: (وقد أحكمنا هذا غاية الإحكام والحمد لله رب العالمين في باب أفردناه لهذا المعنى في آخر كتابنا الموسوم بالفِصَل ترجمته باب الكلام على من قال بتكافؤ الأدلة) اهـ (136) .. وتكافؤ الأدلة من المباحث الأخيرة في الجزء الخامس؛ فدل ذلك على أن الفِصَل خمسة فقط.
- وسادسها: أن دراسة أبي محمد كانت في المسجد: مسجد الجامع، ومسجد القمري، ومسجد بالرصافة.. وكل ذلك منذ سنة 399 قبل أن يبلغ السادسة والعشرين بعشر سنوات؛ فكيف لا يعرف ما يعرفه العامي من أحكام الصلاة وهو ابن وزير يدرس في المساجد على مشايخ الفقه والحديث؟!.
- وسابعها: أن هذه القصة التي رواها ياقوت توحي بأن صلاته على الجنازة وهو ابن ست وعشرين هي أول صلاة يحضرها على الجنائز؟!.. وهذا غير صحيح؛ فقد أخبرنا أبو محمد رحمه الله أنه صلى على الجنائز قبل ذلك بأحد عشر عاماً أي وعمره خمس عشرة سنة عندما حكى صلاته على المؤيد (137) هشام.
- وثامنها: يفهم من حديث ابن حزم المزعوم لابن العربي في هذا الخبر: أن ابن حزم لا يجيز الركعتين بعد العصر، وإنما أراد أن يصليهما في طفولته جهلاً بذلك.
قال أبو عبد الرحمن: ما شاء الله كان!.. مذهب أبي محمد استحسان صلاة ركعتين بعد العصر، وقد نصر هذا المذهب بأبلغ حجة (138) .
- وتاسعها: يفهم من هذا الخبر المكذوب: أن ابن حزم بعدما كبر يرى أن تحية المسجد واجبة!.. قال أبو عبد الرحمن: وهذه طامَّة أخرى؛ لأن تحية المسجد عند ابن حزم في آخر مؤلفاته سنة مؤكدة وليست واجبة (139) .
قال أبو عبد الرحمن: لهذا كله أقول: إن مَتْنَ هذا النص عن ابن العربي منكر جداً؛ لأن كل حرف فيه ينافي البديهي المشهور من حياة ابن حزم: فإما أن نشك في ياقوت أو ابن طرخان أو ابن العربي لأجل هذا النص مع أن كل واحد منهم ثقة، وإما أن يكون ابن طرخان سمع كلاماً من ابن العربي لم يدوِّنه إلا بعد سنين فوهم، وإما أن يكون ياقوت قرأ خط رجل غير ثقة وكان يحسبه خط ابن طرخان، وإما أن يكون لا يعرف خط ابن طرخان فَغُشَّ بخط غيره.. ولسنا نزعم بأن النص محرَّف من ست عشرة إلى ست عشرين ـ كما قال أبو زهرة ـ؛ لأن دعوى التحريف لا ترفع جميع بلايا النص!.
وقال الحافظ شمس الدين الذهبي [748 هـ]: ((قال اليسع بن حزم الغافقي ـ وذكر أبا محمد فقال ـ: ((أما محفوظة فبَحْرٌ عَجاج وماء ثجاج.. يخرج من بحره مرجان الحكم، وينبت بثجاجه ألفاف النعم في رياض الهمم.. لقد حفظ علوم المسلمين، وأربى على كل أهل دين، وألف الملل والنحل، وكان في صباه يلبس الحرير ولا يرضى من المكانة إلا بالسرير (140) .. أنشد المعتمد فأجاد، وقصد بلنسية وبها المظفر أحد الأطواد.. وحدثني عمر بن واجب قال: بينما نحن عند أبي ببلنسية وهو يدرس المذهب إذا (141) .. بأبي محمد ابن حزم يسمعنا ويتعجب، ثم سأل الحاضرين مسألة من الفقه جووب فيها فاعترض في ذلك، فقال له بعض الحضار: هذا العلم ليس من منتحلاتك.. فقام وقعد، ودخل منزله فعكف، ووكف منه وابل فما كف، وما كان بعد أشهر قريبة حتى قصدنا إلى ذلك الموضع فناظر أحسن مناظرة، وقال فيها: أنا أتبع الحق وأجتهد، ولا أتقيد بمذهب)) (142) .
قال أبو عبد الرحمن: شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز التركماني ولد سنة 673 هـ المحدِّث المؤرِّخ المشهور الثقة وله عناية بالإمام أبي محمد، وقد اختصر المحلى وسماه (المستحلى).
واليسع بن حزم الذي نقل عنه الذهبي ترجمة أبي محمد مؤرخ غير موثوق به مجازف في أقواله كما ذكر ذلك الذهبي في كتابه: ميزان الاعتدال، وفي ترجمة اليسع: أن أبا محمد أنشد المعتمد.. والظاهر أن هذا تحريف؛ لأنه ليس في ملوك وأمراء عصره من لقبه المعتمد، وإنما هناك المعتمد بن عباد، ولم يدرك أبو محمد حكمَه، وهناك المعتَدُّ بالله آخر من وزر له أبو محمد من خلفاء بني أمية، فلعله المقصود.
والمظفر هو المظفر العامري الذي حكم بلنسية هو ومبارك العامري، وقد أدركه أبو محمد في بلنسية في آخر حياته سنة 408 هـ، وقاضي بلنسية هو عمر بن محمد بن واجب، ولكن اليسع لم يدركه وبينهما سنين؛ فلعله يروي عن أحد أحفاده، ويكون في الكلام نقص.. على أن أبا محمد صار إماماً لأهل الظاهر متبحراً في العلوم قبل أن يبلغ قاضي بلنسية الحلم؛ لأنه لم يبلغ إلا قريباً من سنة 425 هـ، فكيف حضر أبو محمد مجلس صبي لم يبلغ الحلم؟!.. ولقد شارك ابن واجب أبا محمد في السماع من شيخه أحمد الطلمنكي المتوفى سنة 429 هـ.
وقال عمر بن خليل يُحذِّر طالب العلم من كتب ابن حزم: ((وليحترز من كلام ابن حزم إذا تكلم فيما يتعلق بأصول الدين وقواعد العقائد، وفيما يتعلق بالمعاني والحقائق؛ لأن هذا الرجل لم يكن من أهل هذا العلم؛ فلما تكلم فيما ليس يعنُّ له لم يحسن)) (143) .
قال أبو عبد الرحمن: صاحب هذا النص هو أبو علي عمر بن محمد بن خليل السكوني الإشبيلي المتوفى بتونس سنة 717 هـ، وكتابه هذا عن أغلاط العامة في إيمانهم وبدعهم وعوائدهم، ومنهجه في هذا الكتاب لا يبعده عن غمار العامة الذين يرد عليهم؛ ولهذا كان حكمه على أبي محمد بأنه ليس من أهل العلم بالأصول والعقائد من عجائب عوام المنتسبين للعلم الذين بُلي بهم أبو محمد في حياته وبعد مماته.. على أن أبا محمد غير موفَّق في كثير من مسائل الأسماء والصفات، وليس مرد ذلك لجهله، وإنما مرده لخطإ نظره في تطبيق الظاهر.. مع أنه بحر لا ساحل له في العلم.
وقال أبو إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبي [790 هـ]: ((لا تجد عالماً اشتهر في الناس الأخذ عنه إلا وله قدوة اشتهر في قرنه بمثل ذلك، وقلَّما وجدت فرقة زائغة ولا أحد مخالف للسنة إلا وهو مفارق لهذا الوصف؛ وبهذا الوجه وقع التشنيع على ابن حزم الظاهري، وأنه لم يلازم الأخذ عن الشيوخ ولا تأدَّب بآدابهم.. وبضدِّ ذلك كان العلماء الراسخون كالأئمة الأربعة وأشباههم)) اهـ (144) .
قال أبو عبد الرحمن: إن الإمام الشاطبي قرة العين في كتابيه المليحين الموافقات والاعتصام.. إلا أن هذين الكتابين لا يساويان مجة من نمير ابن حزم مع ما فيهما من تعقيد وأخطاء ليس هذا محل بسطها.. هذه واحدة.
والثانية: أن الشاطبي غير مُحِقٍّ في زعمه أن أبا محمد عار عن الشيوخ؛ لأنني ما قرأت عن عالم يُشار إليه بالبنان في بلاد أبي محمد دون أن يتتلمذ عليه أبو محمد، بل هو من أكثر أترابه شيوخاً وله معجم بذلك.. ولكن أبا محمد يتميز بملحظين:
- أولهما: أن روايته عن مشايخه بالإجازة، أو النقل عنهم فيما يجمع من طرائف وأخبار.
- وآخرهما: أن له قلة من المشايخ الخلَّص لازمهم في صغره ملازمة التلميذ، ثم كان له مشايخ لازمهم ملازمة الند يستفيد من علمهم ولا يستسلم لحضانتهم؛ لأن علمه وعقله أكبر من ذلك.
وقال الشيخ أبو عبد الله محمد أحمد عليش [1217 ـ 1299هـ]: ((واعلم أن أصل هذا الزيغ للظاهرية الذين كانوا ظهروا في الأندلس وتقوَّت شوكتهم مدة، ثم محا الله آثارهم فشرعت هذه الشرذمة في إحيائها.. قال البرزلي: وأول من طعن في المدونة سعيد بن الحداد؛ ففي المدارك أن ابن الحداد صحب سحنون أولاً وسمع منه ونزع آخراً إلى مذهب الشافعي، بل كثيراً ما يخالفه ويعتمد على النظر والحجة وكان يسمِّى المدونة المرونة (145) ، وينقض بعضها، وذكر غيره أنه قال: ترك الناس السنن وانتقلوا إلى قوله: قلت، رأيت.. ورفضه أصحاب سحنون، وهجروه، وأغروا به ابن طالب القاضي؛ فَهَمَّ به، ثم نشأت بينهما صحبة؛ فتركه، وبقي مهجور الباب قليل الأصحاب إلى أن ناظر آخراً عبد الله الشيعي وأخاه العباس عند دخولهما بدعوة بني عبيد القيروان؛ فمالت إليه قلوب العامة، وأجمعوا على فضله؛ وذلك أنه قام معهم مقام ابن حنبل في القول بخلق القرآن، وباع نفسه في مناظرتهم لله تعالى وكان ناف على سبعين سنة (146) .
قال: قتيل الخوارج خير قتيل؛ لأنهم كانوا قتلوا اثنين من أصحاب سحنون، وأرادوا حمل الناس على مذهبهم؛ فدخل منهم على أهل القيروان روعٌ كبير؛ فناظرهم حتى أوقفهم وسلَّمه الله منهم بحسن نيته.. ثم قال البرزلي: ورأيت في بعض تواريخ الأندلسي أن ابن حزم رأس الظاهرية بالأندلس.. قال: إنما أشهر مذهب مالك والمدنيين وهذه الفروع بأفريقية دخولُ سحنون بن سعيد بمسائله؛ فولي القضاء بها؛ فأُخذت عنه مسائله لأجل قضائه ورياسته، واشتهر أمره واشتهرت مسائل مالك بالأندلس؛ لدخول عيسى بن دينار ويحيى بن يحيى وغيرهم من رؤساء الأندلس وقضاتها؛ فاشتهر عنهم أخذها والتمذهب بها، وإنما كان ذلك لرياستهم فترك الناس السنن واتبعوه.
وذكر الباجي أنه اجتمع مع ابن حزم بميورقة، وكانت بينهما مطالبات واحتجاجات آل أمرها على ما قال إلى إبطال مذهبه، وذكر أن أخاه إبراهيم بن خلف الباجي لقي ابن حزم يوماً فقال له: ما قرأتَ على أخيك؟.. فقال له (147) كثيراً أقرأ عليه.. فقال: ألا أختصر لك العلم فيقرئك ما تنتفع به في الزمن القريب في سنة أو أقل؟.. فقال له: لو صح هذا الفعل؟.. فقال: غيره ينفعك بذلك في سنة؟.. فقال: أنا أحب ذلك.. فقال له: أو في شهر.. فقال: ذلك أشهى إلي.. فقال: أو في جمعة أو دفعة.. فقال: هذا أشهى إلي من كل شيء.. فقال له: إذا وردت عليك مسألة فاعرضها على الكتاب؛ فإن وجدتها فيه وإلا فاعرضها على السنة، فإن وجدت ذلك فيها وإلا فاعرضها على مسائل الإجماع، فإن وجدتها وإلا فالأصل الإباحة فافعلها.
قلت له: ما أرشدتني إليه يفتقر إلى عمر طويل وعلم جليل؛ لأنه يفتقر لمعرفة الكتاب ومعرفة ناسخه ومنسوخه ومؤوَّله وظاهره ومنصوصه ومطلقه وعمومه إلى غير ذلك من أحكامه، ويفتقر أيضاً إلى حفظ الأحاديث ومعرفة صحيحها من سقيمها ومسندها ومرسلها ومعضلها وتأويله وتاريخ المتقدم والمتأخر منها إلى غير ذلك، ويفتقر إلى معرفة مسائل الإجماع وتتبعها في جميع أقطار الإسلام وقلَّ من يحيط بهذا.. قال الباجي: وبالجملة فإن الرجل ليس معه قوة علم، ولا تضلُّع في الاحتجاج، ولكن إلمامه بالأمور الفارغة ومُبْتدي (148) . الطلبة؛ فإذا سئل عن مسألة يقول لمن حضره أو السائل: ما قلتَ أنت فيها، وما ظهر لك؟.. ولا يزال يستميل حتى ينطق فيها بشيء من رأيه؛ فيجوِّد فعله ويستحسن رأيه ويقول: قولك فيها خير من قول مالك، ويُزيِّن له ذلك، ويشككه في نفسه حتى يصير يرى رأي نفسه ويتعاظم، ويقع في مالك وغيره من العلماء.. وقد سلطتُ عليه في شيء كثير؛ فخمل أمره، واستجهله أهل الفروع بالأندلس، ولم يزل في خمول وعدم اعتناء في مذهبه (149) .
وكثر أهل الشورى والفقه والوثائق بالأندلس حتى خرج الموحدون وأخذوا مراكش من لمتونه حاضرة ملكهم؛ فوجدوا فيها كتب فقه كثيرة فاستصعبوها وباعوها من الشواشين (150) . وغيرهم، وتقدموا إلى الفقهاء الفرعيين، ولما أن اطمأنت بالأمير عبد المؤمن الدار جمع الفقهاء ـ: إما لاختبار مذهبهم، أو (151) . حملهم على مذهب ابن حزم ـ، فحكي عن أبي عبد الله ابن زرقون جامع الاستذكار والمنتقى.. قال: كنت فيمن جمعهم؛ فقام على رأسه كاتبه ووزيره أبو جعفر ابن عطية؛ فخطب خطبة مختصرة، ثم رد رأسه إلى الفقهاء، وقال لهم: بلغ سيدنا أن قوماً من أولي العلم تركوا كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام وصاروا يحكمون بين الناس ويُفتون بهذه الفروع والمسائل التي لا أصل لها في الشرع ـ أو كلاماً هذا معناه ـ، وقد أمر أن من فعل ذلك بعد هذا اليوم ونظر في شيء من الفروع والمسائل عوقب العقاب الشديد وفعل به كذا وكذا.. وسكت، ورفع الأمير عبد المؤمن رأسه إليه، وأشار عليه بالجلوس، فجلس، وقال سمعتم ما قال؟.. فقال له الطلبة: نعم.. قال: وسمعنا أن عند القوم تأليفاً من هذه الفروع يسمونه الكتاب (يعني المدونة)، وأنهم إذا قال لهم قائل مسألة من السنة ولم تكن فيه أو مخالفة له قالوا: ما هي في الكتاب، أو ما هو مذهب الكتاب.. وليس ثم كتاب يرجع إليه إلا كتاب الله تعالى وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.. قال: وأرعد وأبرق في التخويف والتحذير من النظر في هذه الكتب والفقهاء سكوت، ثم قال: ومن العجب أنهم يقولون أقوالاً برأيهم وليست من الشرع ـ أو قال: من الدين ـ؛ فيقولون: من طرأ عليه خلل في صلاته يعيد في الوقت.. فيتحكمون في دين الله تعالى؛ لأنها إما صحيحة فلا إعادة أو (152) باطلة فيعيد أبداً؛ فيا ليت شعري من أين أخذوه؟.. فصمت القوم ولم يجبه أحد لحدة الأمر والإنكار.
قال ابن زرقون: فحملتني الغيرة (153) على أن تكلمت وتلطفت في الكلام لهم، وأن الله تعالى أحيا بهم الحق وأهله، وأمات الباطل وأهله، وذكر نحو هذا المنحى.. وقلت: إن أذن لي في الجواب تكلمت وأدَّيتُ نصيحتي وهي السنة؛ فقال (كالمنكر علي): وهي السنة أيضاً.. وكررها، فقلت: ثبت في الصحيح أن رجلاً دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلى، ثم جاء وسلم عليه، فرد عليه، وقال: ارجع وصل فإنك لم تصل حتى فعل ذلك ثلاث مرات.. ثم قال له: والذي بعثك بالحق ما أحسن غير هذا فعلمني؟.. فقال له: إذا افتتحت الصلاة إلى آخر الحديث.. فأمره بإعادة الوقتية، ولم يأمره بإعادة ما خرج وقته من الصلوات؛ فعلى هذا بنى الفقهاء أمرهم فيمن دخل عليه خلل في الصلاة (154) .. فلما أصغى إليَّ اتسع لي القول، فقلت له: يا سيدي جميع ما في هذا الكتاب مبني على الكتاب والسنة وأقوال السلف والإجماع (155) ، وإنما اختصره الفقهاء تقريباً لمن ينظر فيه من المتعلمين والطالبين؛ فانطلقت ألسنة الفقهاء الحاضرين حينئذ ووافقوني على ما قلت، ثم دعا؛ فقال: اللهم وفقنا يا رب العالمين.. وقام إلى منزله، فقال الوزير: أقدمت على سيدنا اليوم يا فقيه.. فقلت: لو سكتُّ للحقني عقوبة الله تعالى.. قال: فكنت أدخل بعد ذلك على عبد المؤمن فأرى منه البر التام والتكرمة، ثم سكت الحال بعد ذلك حتى جاء أيام حفيده الأمير يعقوب؛ فأراد حمل الناس على كتب ابن حزم، فعارضه فقهاء وقته وفيهم أبو يحيى بن المواق وكان أعلمهم بالحديث والمسائل؛ فلما سمع ذلك لزم داره وعارض وأكب على جمع المسائل المنتقدة على ابن حزم حتى أتمها وكان لا يغيب عنه، فلما أتمها جاء إليه؛ فسأله عن حالة وغيبته (وكان ذا جلالة عنده، وَمُبرّْاً (156) له؛ فقال له: يا سيدنا قد كنت في خدمتكم لما سمعتكم تذكرون حمل الناس على كتب ابن حزم وفيها أشياء أعيذكم بالله من حمل الناس عليها، وأخرجت له دفتراً، فلما أخذه الأمير جعل يقرؤه ويقول: أعوذ بالله أن أحمل أمة محمد صلى الله عليه وسلم على هذا.. وأثنى على ابن المواق، ودخل منزله، ثم سكت الحال بعد في الفروع وظهرت وقويت، والحمد لله)) (157) .
قال أبو عبد الرحمن: البرزلي الذي ينقل عنه عليش هو أحمد بن محمد بن المعتل البلوي القيرواني المالكي (740 ـ 844هـ) له النوازل، والفتاوى، والديوان الكبير في الفقه، وأغلب الظن أن مصدر البرزلي كتاب الفرق للباجي، والرد على المحلى لابن زرقون.
وحُكْم عليش على الظاهرية بالزيغ وحمد الله على انقطاع آثارهم: سببه أنهم دعوا إلى الاجتهاد، وأنكروا تقليد الأئمة الأربعة!!.
ولست أدري أي برهان لهؤلاء في تبديعهم من يُخطِّئ المدونة وكلها: قلت، ورأيت؟!.. أليس هؤلاء مأمورين بالاجتهاد والتدبر في نصوص الشرع لا في نصوص المدونة؟!.. هل جاءهم أمر من الله بأنه إذا توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانقطعت الأجيال إلى عهد تأليف المدونة: فلا يسعهم عند الله إلا أن يقلدوا أمر دينهم لما تدلهم عليه المدونة!؟.
وإن صح ما زعمه الباجي من حوار ابن حزم لأخيه في اختصار العلم فهذا محمول بلا ريب على أن ابن حزم يتَّهم إبراهيم الباجي بمقومات الاجتهاد؛ لما ظهر له من حرصه العلمي؛ فدلَّه على الطريق المستقيم.. على أن إبراهيم غير مشهور بين العلماء؛ وإنما المشهور أخوه أحمد.
وتحايل ابن حزم على الطلبة في كسر الجمود على مذهب مالك ـ إن صح ذلك ـ من السعي المشكور جزاه الله خيراً.
قال أبو عبد الرحمن: وبهذا أنهي مقدمتي هذه شاكراً للمحقق الفاضل هذه البداية الرائعة في التحقيق.. كما أشكر من ساعد في التصحيح من أمثال الشيخ أحمد يوسف القادري، والشيخ علي إدريس، وأستاذنا الدكتور محمد خير البقاعي، والحمد لله بدءاً وعدداً.
وكتبه لكم
أبو عبد الرحمن ابن عقيل الظاهري
ـ عفا الله عنه ـ
تم الفراغ منه بمدينه الرياض ظهر يوم الخميس الموافق 12/12/1423 هـ، ثم تمت المعاودة بالرياض أيضاً ظهر يوم الإثنين الموافق 28/3/1425 هـ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
طباعة

تعليق

 القراءات :2416  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 2 من 17
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج