شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الطائرات في سَماء مكة
ومن الذكريات المحببة إلى نفسي مشاهدتي لأولى طلائع النسور في سماء مكة المكرمة - وكان ذلك بين عامي 1351 هـ - 1352 هـ حيث فوجئ الناس في صباح يوم يسجل بحق أول انطلاقة فضائية في سماء مكة - بأزيز صوت الطائرات المروحية وهي تحلِّق في سماء مكة وتلفُّ بجبالها جيئة ورواحاً.. ولأنها مفاجأة لم تدر في خلد الكثير منهم فقد أحدثت عند البعض إزعاجاً يحفه الخوف ويشوبه القلق.
وانطلق الناس أثر ذلك في هرج ومرج ربما لعدم معرفتهم هوية هذه الطائرات إذ لم يسبق هذه المفاجأة أي علم بها - وتساءل آخرون كيف دخلت هذه الطائرات أجواء منطقة الحرم؟! ومن يا ترى يقودها؟! حتى ذهبت ببعضهم الظنون إلى أن هؤلاء ربما يكونون أجانب نصارى، إلى أكثر من سؤال وسؤال.
بعد كل هذا ماذا تنتظرون من ردود الفعل؟ نعم لقد تداعى الرجال والعمد منهم في الطليعة واتجهوا مستفسرين ومستخبرين إلى مبنى الحميدية في مكة. (دار الحكومة).
وكان مبنى الحميدية وبجواره مبنى التكية المصرية يقعان بين باب الوداع وباب أجياد ويطلان على المسجد الحرام وكانت في الحميدية "ساعة منبهة" لها جرس شديد الرنة يُسمع بدقاته جهات المسجد الحرام وإلى مناطق بعيدة وخصوصاً في أوقات الصلاة.
ووصل القوم إلى الحميدية مقر مدير الأمن العام مهدي بك الصالح.. وهنا واجههُ بعض هؤلاء مواجهة امتعاض كتعبير عن استيائهم من حركة الطائرات التي كانت مفاجئة لهم. فقابلهم مدير الأمن بابتسامة تنم عن علمه التام بتحليق هذه الطائرات قائلاً لهم: لا تنزعجوا ولا تقلقوا هذه طائرات سعودية بطيارين سعوديين وهم الطليعة الأولى الذين أرسلهم الملك عبد العزيز إلى إيطاليا في وقت سابق واشتريت لهم هذه الطائرات وسيحلِّقون كل يوم في طلعات مختلفة بين مكة وجدة والطائف ليشعروكم بنجاحهم.
وكانت هذه هي الدفعة الأولى من الطيارين وهم:
صالح عالم، عبد الله منديلي، صدقة طرابزوني، حمزة طرابزوني، أمين شاكر، سعيد بخش - هنا طلب هؤلاء الرجال من مدير الأمن العام أن يرفع أسمى آيات الشكر والامتنان اعتزازاً بهؤلاء النسور إلى جلالة الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود وأن يؤذن لهم بأن تعمل كل محلة حفلة استقبال لهؤلاء الطيارين وقد أذن جلالته بذلك فأقام كل حي حفلاً مسائياً تكريماً لهؤلاء. وتوالت الحفلات في مكة ثم أقيمت لهم حفلات مماثلة في جدة داخل الأسواق.
تسري فتسبق صوتها
كالذئب يخلفه العواء
تطوي المسافات الطويلة
دون كرب أو عناء
النسر قد ترك الفضاء
لها ليبحث عن جواء
في الجو تبدو.. كالنعام
يهيم في وسط السماء
إن هذا مقطع من قصيدة قلتها في استقبال أول طائرة "بوينغ" 707 انضمت إلى الأسطول الجوّي السعودي منذ عام 1380 هـ فأي شيء تسمع يا ترى في حديث الذكريات لما قبل خمسين عاماً إلا قليلاً؟.. اصطحب الطيار عبد الله منديلي المرحوم الأستاذ محمد حسن عواد في رحلة أراد منها أن يقدِّم عنها أديب الحجاز لأهالي مكة "ريبورتاجاً صحفياً" عن كيفية قيامه من جدة جواً إلى مكة وتحليقه في أجوائها والدوران حول جبالها قمماً وهضاباً وأجواء المسجد الحرام والكعبة الشريفة ثم اتجاهه دون انقطاع إلى منطقة المشاعر بعرفات واعتلائه جبل الهدا الشامخ إلى غير ذلك مما يثار في نفسية هذا الأديب من عجائب الرحلة التي تعتبر في ذلك الوقت كأهم رحلة فضاء يقوم بها مواطن في طائرة مروحية لا يصحبه غير الطيار لأنها لا تقلّ أكثر من شخصين اثنين فهي طائرة تدريب. ولا يستغرب القارئ.. فقد كان المثير هنا للعجب في كل الأوساط الأدبية والشعبية أن الجميع كانوا يترقبون انطباعات الأديب عن هذه الرحلة - وفعلاً تناولها العواد بكتابته في جريدة (صوت الحجاز) فوصف الرحلة وصفاً شيِّقاً كيف طارت بهم حتى حوَّمت على مكة وكيف يرى الشوارع والأزقة المتعددة تلتف حولها الدور صغيرة وكبيرة وكيف رأى الجبل هذا وذاك من علٍ كجبل أبي قبيس ثم كيف كانت رؤياه من فوق للطائفين حول الكعبة إلى غير ذلك من انطباعات أديب مرموق.
وتتابعت قراءة الناس لما كتبه وكأنما هم يقرأون في عصرهم انطلاق صاروخ لغزو الفضاء.
وتذكرت في حيني بعض أبيات حديثة من قصيدة لي بعنوان (رحلة إلى القمر) قلت فيها:
هو العلم في عصرنا قد أطاح
بكل خيال بعقل البشر
فهذي الحقيقة لو قلت عنها
لمن عمر الكون فيما غبر
لقالوا جنون بل الترهات
ووهم الخيال وكذب الفكر
ولنعد إلى ما قاله العواد في انطباعته عن الرحلة - إن الخوف مسه لأن الضباب غطى زجاج الطائرة عند دخولهم أجواء منطقة الهدا حتى اشتد خوفه، فطمأنه الطيار إن هي إلا دقائق ونجتاز الضباب وتحط الطائرة على الأرض..
وكانت نهاية الرحلة هبوط الطائرة بمطار الطائف والمطار يومها داخل مدينة الطائف ويقع في موضع القشلة حيث مبنى الوزارات اليوم وكان المطار في طرف الساحة التي يقام عليها القصر الملكي أمام دار جلالة الملك فيصل الذي وقف يومها وبمعيته الكثير من المسؤولين والوجهاء والأعيان وقف يحييهم في مهرجان شعبي شاركت فيه جدة ومكة والطائف وكان يوماً مشهوداً احتفاء بطلائع النسور من الطيارين لعصر الجوّ لأول طائرات الملك عبد العزيز وهي تحمل علم المملكة (لا إله إلا الله).
وكانت مشاركة الشعراء والأدباء في هذه المهرجانات بارزة ومما يحضرني من ذلك مقطعٌ من قصيدة طويلة للمربي الكبير السيد أحمد العربي يقول فيه:
أهلاً بقادمة النسور
طليعة العهد النضير
الرافعين لواء مجـ
ـد بلادهم فوق الأثير
المنتضين عزائماً
أمضى من السيف الطرير
إن الحجاز وكل من
ضم الحجاز بكم فخور
هو أيككم وعلى ربا
ه نما جناحكم الصغير
أرأيتُم في الجو طيـ
ـراً دون أجنحة يطير
والقصيدة في مضمونها من القصائد الغراء التي تسجل حدثاً مشرقاً في تاريخ المملكة العربية السعودية وقد طبعت هذه القصيدة في الكتاب التاريخي "وحي الصحراء" الذي ضم نماذج تاريخية رائعة نماذج شتى للرّعيل الأول من أدباء مملكتنا الفتية..
ومما يجدر ذكره هنا أن هذه البعثة السعودية الأولى للطيران كانت هي البراعم وكانت هي التي أسست النادي الذي وضع عليه علم الطيران في موضع مطار جدة القديم بالكندرة حيث كانت حظائر الطائرات هناك...
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1542  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 332 من 414
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج