شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
واحد حزين.. جداً
وقفة تذكُّر.. تسرقني من صقيع الروح.. حيث الزمن حلقة مفرغة وساخنة.. ليس فيها ثمن مانح، وفيها افتقار إلى المعاني، وخسارة في القيم، وخواء بين الضلوع، وفيها اجترار لشعور مرتد مثخن بالفقد، ومجروح بالفجيعة، ونازف للغربة!
وقفة تذكر.. تهرب بي من زمن الماديات الموغلة، والإحباطات المتراكمة، والانفصام في العاطفة.. فلا يعرف الإنسان إن كان ما يحس به حباً، أو هروباً من الحب!
إن شفتي تنفرجان كما فتحة ((قربة)) ماء جافة.. تتقاذفها الريح في صحراء قاحلة!
إن عينَيّ كنجمتَي شتاء.. غريبتان وحيدتان.. تائهتان في سماء ملبدة بالسحب الداكنة!
ويخيل إليَّ أنني أسمع قهقهات العالم تتعالى مجنونة، ثم تذوب في كأس من الثلج، أو تحترق في فوهة بركان يقذف الحمم!
إنني الإنسان في هذا الزمان الموحش بزحام الترف المادي.. الفائض بفراغ الوجدان.
إنني أعبر كل مساء فوق بحار ازدادت ملوحتها.. من كثرة ما تردد القراصنة فوقها، وتعبرني كلمات الغزل كقوس قزح نتمنى ظهوره كلما ارتفع جفاف الروح، وطلبنا الاستسقاء لهطول الوجدان وإمراعه!
ترى.. هل ما زلنا نحب ونعشق، ونذوب شمعة تضيء رؤية من نحب؟!
إن خفقات الإنسان تنسحق.. فهو يغني كلمات من غبار راكضة، لأن نبرة الحزن تحولت إلى تاريخ حب.. لأن الإحساس بالحب قتلته الرغبة في صناعة الضياع لصدق الإنسان، ولجوهره، ولميزاته!
ورغم ذلك - كإنسان حزين - بادرت إلى إسقاط تعبي، وتلفت إلى الوقت من العمر وكأنني المتوتر بالضحكات التي يفعلها الآخرون ونطبعها على شفاهنا!!
إن عروقي كأوتار جيتار يعزف عليها غجري يقتل الوحدة بالغناء.. فكأن غنائي هو وقف التنفيذ روحياً.. أشعر بالحب وأناجيه في زمن الحروب، وفي مناسبات التنازلات، فقد قيل:
ـ ((إن قطرة واحدة من ماء البحر.. تخزن في جوفها كل أسرار البحر))!!
إنه سباق الإنسان مع رغباته، ومادياته، وعجزه، وفجائعه.. إنه الدوار الذي يعصف بالخفقات قبل الرأس.. فوق أمواج تنكسر وتغرق في جزرها كل آهات الإنسان!!
وهل تبقَّى على الأرض في امتداد الكون: محب ومحبوب.. عاشق ومعشوق؟!
وهل ما زالت الذكرى.. صبابة يجدها الإنسان كلما رمى به الظمأ تحت الهجير؟! إنه منتهى الألم.. هذا الذي أصبح بقايا في أعماق النفس الإنسانية:
ـ أن يتحول المحب إلى مشفق، وأن يتحول المحبوب إلى مشفق عليه، أو إلى إشفاق ينادي!
الآن.. يتبدل الزمان!!
الآن.. اسم الحب: شفقة.. فلنبحث عنها بين ضلوعنا في لحظة وقف التنفيذ للحب، أو وقف التنفيذ روحياً!
الآن.. وقفة التذكر - تومض - من وراء كثافة السحب الرمادية، فاسترجع شيئاً مما كان شبعاً للروح، وارتواء للشعراء.. كأنها القصة التي لا نهاية لها في لحظات ميلاد الحب، وعندما تحول الإحساس بالحب إلى إشفاق.. أصبحت النهاية خبراً ينفصم عن الزمن، ويتموه فيه الحب!
وهكذا بدأ يروي لي الحكاية:
* * *
ـ كانت في عينيه دمعة تتلألأ.. استغربتها في البداية، فلم تعد هناك عيون مليئة بالدموع، بقدر ما أصبحت العيون بؤبؤاً يتجمد في الدمع، وسألته:
ـ هل هذه دموع؟!
ـ قال: هذه ذكرى.. ظننت أن الأيام قد نجحت في تجميدها، ولكني أفاجأ بها معك وهي تسيل!
ـ قلت: أعرف أن الدموع للحب دائماً!
ـ قال: ولكن الحب قد تحول إلى إشفاق!
ـ قلت: كيف.. وقد كان ما بينكما أقوى من عبث النسيان؟!
ـ قال: إنني أصبحت الشجرة التي تعرت من أوراقها!
ـ قلت: ولكنك بعدك تثمر!
ـ قال: ربما.. أستطيع أن أعطي بعض الظل المستقيم، وأن أفيد بحطبي دفئاً لمقرور في ليلة باردة!
ـ قلت: ولذلك.. فأنت تحس الآن بعد عبث النسيان بينك وبينها.. إنك تدعوها للإشفاق عليك!
ـ قال: ربما أيضاً.. فلا أستبعد إنها في خلوتها وهي تفتح صندوق عمرها وتراني في مرآته القديمة.. لا بد أنها تشعر بالإشفاق عليَّ بعد كل السنين التي رحلت بالجذوة، وبالقدرة على السباق!
ـ قلت: وأنت.. ألا يعتريك نفس الشعور بالإشفاق عليها؟!
ـ قال: بلى.. فعندما أعرف أن خفقاتها تحولت إلى وظيفة في صدرها، وإلى خبر في سمعي، وأنها بدأت التلفت حولها في لحظات خلوها إلى نفسها وتأملاتها.. فإن ذلك يعني أنها لا تحيا الحلم الذي كانت تسقيه في أيامها، وأنها عجزت أن تمزج بين واقعها المادي وبين أحاسيسها وحتى أفكارها التي سبق لها معايشتها، وتجرح بها معاناتها!
ـ قلت: ولكن هذا الذي تحسه.. حب!!
ـ قال: أبداً.. الحب يا صديقي هو مقدرتنا على العطاء والأخذ.. قدرتنا على تجاوز النسيان، والتفوق على الانخذال الذي تصنعه الأيام في حوافزنا وخفقاتنا!
ـ قلت: ولكنك تستطيع أن تعطيها الآن رغم وحدتك، ووحدتها!
ـ قال: ما الذي أعطيه لها غير الشفقة، وأخذ منها غير الشفقة؟.. فأنا أعجز أن أجدد الأماني فتغذي الحب، وعندما نكتفي بدغدغة الذكرى في النسيان يصبح كل شيء لا قيمة له.. إلا ما تثيره الذكرى من حزن يطفو على حفافي النفس ثم يعود إلى ترسبه من جديد!
ـ قلت: دعني أرسم ابتسامة على شفتيك حين أذكرك بعبارة لكامل الشناوي، فهو يقول: ((الحب جحيم يطاق، والحياة بلا حب جنة لا تطاق))!!
ـ قال: إنني أبتسم بمرارة الآن.. فهذه العبارة لن تصلح إلا للرثاء. لأن كامل الشناوي قالها وكأنه الشاعر الأخير، وإلا فقل لي أي شاعر بعده تحدث عن الحب ممزوجاً بالحياة؟!.. فحتى الشعر اليوم هو تعبير عن الشفقة أو نداء على الإشفاق، ولا تحزن.. فالعاطفة دائماً هي مشكلة البشر، فلو رقّت أحاسيسهم وتجاوبت معهم تعبوا، ولو تلوثت عواطفهم بالماديات وانشغلت عنها بهموم العيش.. أَتعَبُوا!!
ـ قلت: لا أرضى منك بنبرة التعاسة هذه، فنحن لا نمتلك كل شيء، وأيضاً لا نجد كل شيء.. ولكننا نرضى أن نحصل على جزء مما نريد.. أن نقطع خطوات مما نمشيه من مسافة العمر.. أن نرى جانباً واحداً مرئياً من عدة جوانب غامضة، والحب هو أن تعطي دون أن تأخذ!
ـ قال: ولكن ما الذي سأعطيه؟.. لا أمتلك إلا الشفقة!
ـ قلت: حتى من أجلها؟!
ـ قال: لأن الإشفاق هو الشيء الوحيد الذي يمكن أن يتبادله الناس.. أما الحب فهو إمكانية الذي يستطيع أن يعطي، فالشفقة هي: وقف التنفيذ.. روحياً!!
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :902  التعليقات :1
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 381 من 545
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج