شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
واحة الصبح المعزولة!
يا خفق الشوق في الصدور النابضة..
يا حنين المسافات، والزمن، والرؤية..
يا دأب الوجع، وإصرار العافية، وأجراس الوحدة القاحلة.. في ليلة غاب عنها همسها، وضاع صدى موجها، وآمن الصمت فيها بالترقب المتعاقب!
ليلة.. ما تفاوتت فيها الأشياء وإنما تجمعت، وتألفت، وتمازجت.. فكانت العبارة.. عبارتها، والكلمات سطراً احتشدت فيه معاني الانصهار، والذوب.. كلمات تكوّنت من الأنفاس، والنبض، والرجفة.. فكان سؤال عقب ذلك.. ينهض على شفتين منفرجتين عن استفسار:
ـ في الريح احتجب الغمام.. في الغمام احتجب ضوء القمر.. على الأرض شوك الصحاري، وإنسان دثاره الريح، وأديمه الشوك.. فما هو سؤال الإنسان دائماً؟
في ليلة الريح.. كان وداع أخرس.. أهان النطق وجمَّد الوعد، وملأ الصدر بالشجن!
ولم تزل الأصابع القلقة المستفسرة ابداً تجول.. تندس في شعر الرأس.. تخطو مثلما العبارة الصامدة في الصدر.. تتوق أن يتضخم صوتها، أن يكون لها الصدى!!
ليلة.. كان فيها كل شيء يرحل بعيداً..
الكلمات كانت ترحل.. النظرات.. خطوات الأصابع المتوارية داخل شعر الرأس.. ضجيج الخفق، احتجاج الاستفسارات التي تقضها فكرة الرحيل، ولا تملك إلا الإذعان لها!!
في كثافة الرحيل ذاك.. كنت أؤوب.. أتواجد.. أتشبث بمجدافين.. أشق بهما خرس الليل، وأرفض التساؤلات، وأستدني نتائج مرهقة.. لا يسمعها الليل.. لا تصغي لها الثواني.. لا يصمد أمامها خفق الشوق!!
يا أنت.. يا كل الشوق في حنايا هذا النوى.. هذا الفراغ المتمسك بورقة شجرة جافة هشة.. اسمها: الضرورة، عنوانها: الصحراء، زمنها: كل وقت يفرض الوداع!!
* * *
الزمن هو ((الحالة))..
الاستشعار هو ((الملابسة))..
الاقتناع لم يكن حصيلة استفتاء النفس، أو العقل.. إنما هو ((الحاجة)) إلى الاستقرار على شيء.. على رأي.. على كلمة.. على معايشة!
أنصتي - إذن - إلى لحن شرود.. يغذي هروب انتباهك.. يصاحب خطوات رحيلك إلى حالة لا يعترف بها - بيت شعر -.. إلى ملابسة لا تقرها زحمة الأماني العطوفة في نفسك.. إذا ما حاولت العودة بها إلى الانتباه.. فالاقتناع إما أن يكون إرهاص إصرار، إما أن لا يكون اقتناعاً.. بل مداجاة أليمة لمعرفة كيفية زراعة الطيب!!
هذا ((وليم فوكنر)) يموت غير بعيد عن أيامنا التي نعاصرها.. إنه يسبل جفني عينيه، ويصغي إلى هدير البحر في نفسه.. إنه يسكن لحظة إلى ((عنف)) الأسئلة التي تصطرع في أعماقه.
هذه اللحظة لم يكن في حاجة إلى أي نوع من الإجابة.. هذه اللحظة هو يموت، وفي نفس اللحظة هو يتواجد كلياً، ويشعر بامتلاء دنيوي مشحون.. فيرفع نظراته ويحدق في كل الذين كانوا حول سريره، ولم يكن هناك أحد.. أبداً.. لم يكن حول سريره سوى امرأة لا يعرف أن عليها وجهاً كهذا.. تغضن.. تجعد.. حفرت عليه السنون أخاديد، وأحالته إلى قطعة جبس لم يكمل ((المثَّال)) حفر الصورة التي يريدها عليها!
مرة ثانية.. أغمض عينيه..
إنه يستعيد صورتها الحقيقية.. وجهها الأصل يوم رآها أول مرة في مزارع بنسلفانيا، وأقترب منها بقلبه، وضاعت منه شهوراً.. كان خلالها يبحث عنها ليقول لها كلمة واحدة فقط.. لا يهمه أن ترفضها، أو تتقبلها بابتسامة مجاملة، أو ابتسامة وداد.. كلمة واحدة هي: أحبك!
وعثر عليها ذات مساء على ربوة معشوشبة. داكنة الليل، موغلة السكون.. يشعر بالضيق، فخرج يترصد خيالها، ويجسده هناك، فإذا هو أمام الحقيقة، وإذا هو يسمعها تقول له: أين كنت.. تعبت وأنا أبحث عنك!!
كان ثلاثيني العمر.. وكانت عشرينية الشباب!.. لكنه بعد أيام كان يرحل بعيداً عنها.. وفي كثافة الرحيل ذاك، جذف وخاض، ولم يفلح.. الانتقال من بنسلفانيا ضرورة تحتمها ظروفه المعيشية.. ولم يقتل الرحيل تلك الصبوة في نفسيهما.. كانا يتخاطبان بالعبارات المسافرة على الورق.. شهوراً طويلة.
وفكر أن يؤوب.. وحينما عاد إليها أفتقدها.. كانت قد رحلت دون أن تقول له: إلى أين رحلت.. ولماذا؟!
سنوات شاقة.. جافة.. هشة كورقة الخريف مرت عليه: عمراً، حالة، ملابسة.. ثم اقتناعاً.. اقتنع أن ما ذهب لا يعود.
إن الهروب عظمة الخائفين!!
إن إسقاط الإصرار على ما أردناه.. هو ((الحاجة)) إلى الاستقرار على شيء.. من أجل شيء آخر مفروض!!
ولحظة موته.. كان يشرع الجفن.. كانت حول سريره كله.. بل كانت تمثل امتلاء النظرة الأخيرة له إلى الحياة.. تماماً لحظة ما رآها أول مرة، وكانت تمثل النظرة الأولى له إلى الحياة واكتشاف الحياة!
وأراد أن يتكلم، فأمسكت يده.. خبأتها بين كفيها، وقالت له دموعها:
ـ قل إنك ستعيش!
وتكلم.. يقول لها:
ـ هذه اللحظة ((اقتنعت)) أنني سأحيا بالموت!
ورفعت رأسه إلى صدرها لتسقيه من كوب الماء الذي بجانبه.. شرب بيدها، وآخر حركة في حياته كانت.. عندما أمسك بيدها، ووضعها على شفتيه ومات على قبلة، وابتسامة!!
* * *
ولم يكن هذا الجانب من حياة ((فوكنر)) مؤلف رواية: الصخب والعنف)) الشهيرة هو الجانب الذي استأثر بصفحات كبيرة عن حياته.
كانت الصفحات التي تحكي وراء حياته الذي أمد فكره، وتأملاته بذلك الإلهام، والإبداع.. صفحات قليلة في منتصف كتاب عن هذا الروائي الأميركي الذي مات وهو ينادي: خفق الشوق، وحنين المسافات، والزمن، والرؤية ودأب الوجع، وإصرار العافية!!
لا تدعيني - هنا - أفلسف امتنان الصمت لهذه الوحدة المبتلة بالدموع.. المجروحة بالآهة.. المقرحة بحنين المسافات، والزمن، والرؤية!!
هنا أستعير عبارة طويلة.. لكاتب لم يشب حزنه إلا بمقدار حنين واحد فقط.. إما أن يكون حنين المسافة، أو حنين الزمن، أو حنين الرؤية!
أستعيرها وفي جوانحي الحنين كله.. بكل تلك الأشياء، والمعاني..
وتصغين معي:
أبذرك في تربتي.. كما تبذر الآهة في صدر الكليم الضائع..
بغير الآهة.. ما جدوى أن نحزن يا صغيرة؟!
بغير الحزن.. ما أسخف أن نضاجع ابتساماتنا البلهاء بكلمة فرح منسربة.. لا تقوى على النهوض، والبقاء على الشفاه؟!
أزرعك على شفتي.. فقد أقتنعت أن المواكبة في الحياة.. لها قوائم من الألم، ومن المسرة.. هذا ليس بدهياً دائماً.. هذا يكون بمقدار الإحساس، وبعمق الانجذاب، وبرسوخ الصوت حينما يستطيع أن يكبر، وأن يتلاشى أيضاً!!
ذلك عالم.. تنتعش فيه محاورتك لعوامل التبدل، والتعرية في نفسي عندما لا أجدك، وأيضاً عندما أجدك في مواجهتي بدون سياج شفاف!!
إذن.. تصغين إلى عبارة الكاتب التي قرأتها:
ـ ((أتركيني أزهر في الخرافة!.. أين يدك تدلني على الطريق.. أين أنت كلك من عالمي الذي يشهق؟؟ وجهك الزمن البعيد، وأنا عالم المسافات!!)).
متى نوهت لك عن بادرة كانت؟ تفصلين المرغوب عن المتألق بالحزن!؟
تجادلين تكتكة الساعة حول معصمك.. وأنت لا تحبين متابعة خطوات عقربها؟!
من أغرق ماجدولين بالماء الذي روى شجرة الزيزفون؟!
من أحرق جان دارك، وهي شابة ترفض وتؤكد؟!
من أفنى بهجة غادة الكاميليا.. في عنفوان الامتلاك للحياة؟!
بدأتك بالتساؤل..
نسيت.. لقد بدأتني بالإجابة قبل أن أطرح السؤال!!
في أي زمن.. حدث هذ؟!
فواصل الأيام لا تتشابه مع فواصل الإحساس!!
الإحساس بلا فواصل.. هذا أعرفه.. غير أن الدمية التي تحدث عنها الكاتب الإيطالي ((هفمان)).. لا زالت تتحرك أمامي عروساً ممتلئة بالحياة.. ليست دمية من خشب!
وفي صدري امتلاء بالحياة.. لا أحب أن أقتنع بالنظرة التي تأتي من الداخل إلى الداخل!!
تذكرت أن ((إبراهيم ناجي)) تساءل مرة.. يقول لملهمته:
((أي سر فيك إني لست أدري.
كل ما فيك من الأسرار يغري))!
ذلك لم يكن تساؤلاً عن اقتناع بدمية من الخشب.. كان شاعراً وطبيباً.. نجح في الأولى، وفشل في الثانية.. لأن الزهرة لا نمسكها بالمبضع، ولأن تشريح الأشياء يفسد سرها، ويعري جمالها حتى القبح!!
وقد سألته ملهمته مرة.. تقول:
ـ أيا شاعر القيثارة قل لي: متى تحبني أكثر؟!
ـ وأجابها: عندما لا أفكر فيك.. أنت دائماً في خاطري بلا شك.. ملامحك قناع شفاف جميل لبسته فرأيت الحياة أجمل، وأروع.. لكني حينما أفكر فيك.. حينما أجلس وحدي واستدعي ملامحك، وجسدك.. أشرحك.. تتكالب عليَّ صور كل النساء!
وأنا لا أود أن أجلوك عن نفسي.. إني أحبك، والحب نظرة شفافة.. طيفية الرؤية!!
مسكين.. هذا شاعر (!!)
دائماً كان يشعر أن مسافات حنينه تتغير.. لكنه لا يخضعها للزمن، وللرؤية.. كل الأشياء المجردة حقيقة، والحب لم يكن حقيقة كاملة.. إنه مزيج من اللمس، ومن التخيل، ومن الهمس، ومن غنى الأحلام!!
التحولات لا تعنيني!!
منعكس أنا على موجة بحر في شروق يوم من أيام الصيف!
منساب خفقي في طيات غيمة بلا غبار.. تتفاعل مع البحر.. تسقط مطراً!!
أكره أن تصفيني بالغرور.. لو كنت هذ الموصوف ما عرفتك.. فزهوة جمالك لا ينافسها غرور آخر!!
ميلاد الحنين يوقظ في نفسي المسافات، والزمن، والرؤية!
دأب الوجع، وإصرار العافية، وأجراس الوحدة في ليلة غاب عنها همسها يجعلني كبخور العود.. أفوح بالكلمات تلك زرعتها، لكني أحترق.. أحترق حتى الترمد.. فهل ينفعني هذا الغرور؟!!
هنا في صدر الدنيا دعوة للحياة، ورغم هذا.. فالإنسان يبحث دائماً عن سؤال.. ويبحث عن سؤال آخر ليجيب عليه.. وهو - أيضاً - يطرح إجابات بلا أسئلة!!
فهل عرفت جدوى الرحيل؟!
إنني لا أضع سؤالاً.. إنني راحل.. إليك راحل!!
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1287  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 345 من 545
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذة بديعة كشغري

الأديبة والكاتبة والشاعرة.