شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الرسالة الثامنة عشرة
ـ ((يا قناديل الشوارع.. ساعديني.
إجعلي الماضي مضارع.. اطفئيني))!!
ـ سيدتي:
أغسل أحداق الليل من الآهات، والتوجّع، والنوى..
تبدو الدنيا من حولي في صحوة النسيان، والناس يصنعون أيامهم لذكرياتهم، ويتولّد ذلك النسيان اليومي، ويتكثف في البعد ارتحال.. لعلّنا نسميه ((التغيير)) تارة، ونسميه الملل تارة أخرى!
في مشوار النسيان تنهزم الأفئدة.. فهل انهزم فؤادك؟!!
فلماذا - إذن - تطرحين سؤالك الفولاذي: عجباً، أو صحوة، أو حنيناً.. فتقولين:
ـ هل يقدر القلب أن يحب بُعد مشوار النسيان، أو بُعد الارتحال إلى ((بُعد))، أو بُعد التغيير، أو بُعد الملل؟!!
ليس المهم من طرح السؤال: أنت أم أنا... لكن الإجابة، والنتيجة، وردّ الفعل.. يدفقون ذلك الشعور الصادق، بالقدرة.. أم بالتعب!
عندما تتعب المشاعر.. يتكدر نبض القلب.
عندما يشيخ الإحساس.. يسترخي القلب، وينسى، وينهزم!
كنا - معاً - نغازل الحياة من حولنا.. نسمع همس الوردة، وغناء الطبيعة، وابتهاج الأرض بالقمر، وبالمطر، وبالعشب، وبعطر الليل، وبنجوى الوجدان.
لم يكن حبك يمثل عزلتي عن الناس.. بل كنت أحيا بهؤلاء الناس. في صخبهم، وعراكهم، وجريهم، وعطائهم، وخوفهم، وأمانيهم.
حتى عندما لاحت تلك الشعرة البيضاء اليتيمة على مفرق شعرك، وحاولت إخفاءها بالحناء!... رأيتها نجمة باهرة تلمع في دكنة سواد شعرك الليلي!
وضحكت في ((سر)) ليالينا... وسألتك:
ـ هل تخافين الشيخوخة؟؟!
ـ وسمعتك تجيبين: طالما أنت بجانبي، فلن أخاف الشيخوخة ولا العمر، ولا التعب.. لأن بقاء كل منا بجانب الآخر: تجديد للحياة، وللعمر.
كانت كفك دافئة في ذلك المساء.. أخذتها بين كفّي، وقبّلتها، وفي أبعاد ذلك الصمت.. رددت السؤال إلي، فقلت لي:
ـ وأنت.. ألا تخاف الشيخوخة؟!
ـ أجبتك: شيخوخة قلبي.. مرهونة بعطاء شباب روحك لي.
أعرف أن قلبي سيشيخ.. في اللحظة التي يتغير فيها نبض قلبك ويتحول عني.. في اللحظة التي يتكثف فيها ارتحالك بعيداً عني.
ترى... هل تأتي قرعات الشيخوخة، كما قرعات ((انكيدو))؟!
ما زلت أتذكر معك أسطورة ((جلجامش))، وقد عرفتك من داخلك، وعرفتني بكل أبعادي ومناخاتي، ونحن - معاً - عرفنا عبر مشوارنا: سقوط ((الجدار الرابع))، وضحكات القسوة، والابتسامة التي تلوح هموماً.. فنصبغها بصفاء قلبينا، والدمعة التي تنزلق حبة لؤلؤ.. فتغسل خوفنا من الفراق، وخوفنا من الزمن، وخوفنا من الخوف!
كثيراً ما استفتيت عقلي.. كلما حذرني قلبي من الكراهية.
كثيراً ما سألت قلْبي.. كلما وقف عقلي مناقشاً: هل تندم؟!
لأنني لم أعرف الكراهية.. فإنني لم أعرف الندم!
لأن الحب ضوء من التفاؤل، والتسامح، والعطاء.. حتى إذا اصطدم بالجحود، وبالنكران، وبارتحال من نحب إلى الملل و النسيان.. فلا بد أن يخفت ذلك الضوء!
* * *
إنك - يا سيدتي - لم تكوني في حياتي: ((تجربة)).. أتحدث عن ما قبلها، وأتهيأ لما بعدها:
أبداً.. لقد كنت وما زلت: أنت الضياء، والمعنى، والقيمة، والخفقة.
فانظريني - يا سيدتي - بكل القدرة، والمضي، والتواصل، والرومانسية أيضاً: ((فارساً)) أطرد بـ ((مهرتي)) ميمّماً نحو - ختم الزمان - كما قال شاعر حسبناه يوماً ما: مجنوناً!!
انظريني - يا حبيبة - بحّاراً.. يخوض عتوّ الموج، ويلعق ملح الشواطئ، ويغني: ((الحدري)).. بكثافة ذلك الحزن الذي ((توهناه)) على امتداد الشارع الواحد الذي حدثتك عنه.. كل عمرنا!
فأية شيخوخة تعنين؟!
اليأس، التراجع. العزلة. الخوف. الشك. الحذر؟!
برغم موجات الغضب والخصام والنوى.. تلك التي تقاذفتنا، وطوحت بصفائنا، وبصدقنا، وبجنوننا.. فإنني لم أعرف اليأس معك، ولم أعرف اليأس في طريق مشيته بقناعاتي، وبأشواقي، وبعطائي، وبأحلامي.
لو يئست منك، أو يئست مني.. لو تراجعنا، فذلك يعني أن حبنا قد أصيب بالشيخوخة!
أما عزلتي.. فإنها تشيخ وتكبر، عندما تبعثرين كل الذكريات في النسيان.
إن قصدت - يا سيدتي - شيخوخة الروح.. فدعيني أعلن عليك نبأ الروح:
ـ أنا لم أمت بعد.. وأنت لن تموتين بين أضلعي!
من شاخت روحه: مات، حتى إن لم يمت جسده.
إن قصدت شيخوخة العقل.. فإن معاناتنا المرهقة، تكمن في عصر لا يريد أهله أن يفهموا ما يريدون، ولا يريدون الذين يفهمونهم!
إن قصدت شيخوخة الجسم.. ففي هذا العصر: عصر الآلام النفسية، والإحباطات، والأمراض المفاجئة والقاتلة، والكربة.. لا بد أن يشيخ الجسم مبكراً!
* * *
ضحكت.. وأنا أتذكّر أمجاد وماضي ((البطل)): محمد علي كلاي.. ذلك الذي شاخ وهو في السابعة والعشرين، ولكن... هل شاخت روحه، وحوافزه، وعواطفه، وقدراته؟!!
وكم كتبت إليك أتحدّى أية شيخوخة من تلك التي تنال عقلي، أو روحي، أو حوافزي، أو أحلامي!
وكلما كتبت إليك.. كنت أؤكد لك أن الكتابة ليست عضل جسم، ولكنها ((عضل زهرة))، وكيان عصفور.. لأنها صوت قلبي إليك، ولأنها رؤية روحي ونفسي.
أما إن كنت قصدت شيخوخة القلب، فـ ((آه)) على القلب الذي يشيخ، و ((آه)) من القلب الذي لا يشيخ... كلاهما: موج وتيار!
القلب الذي يشيخ.. موج من الذكريات التي تتجنب تيار البحر، لئلا يصعقها الارتطام.
والقلب الذي ((لا)) يشيخ: موج من الابتسامات التي تمخض الهموم.. تندفع نحو تيار البحر ليحملها إلى الشاطئ، فترتطم تارة، وترتد مثل زجاج مهشّم تارة أخرى!
* * *
إن الليالي - يا حبيبة - ما زالت مضيئة، مليئة بالنبض.. مبصرة بالخفق.
لكن الليالي لا تطول بغدق الحب والعطاء.. إن الإنسان يعطيها رمادية انبلاج الفجر.. يعطيها نصف النظرة، ونصف اليقظة.. ليسقط وهجها على حفافي الشمس، فتتحول إلى ذكرى!!
إن الليالي تبدو في نهاياتها... مرتطمة بذلك الصباح، في ليلة راس السنة، ووداع سنة!!
وقبل هذا اليوم الذي أناديك، وأصغي فيه إلى فلسفتك للتجربة، وخوفك من الندم، ولهفتك على استطاعة استمرار الحب.. قبله: بكى ((ابن زيدون)) وقهقهت ((ولاَّدة))، وتسهّد ((نابليون)) وأغفت ((جوزفين))، وهجر النوم ((قيس)) في أصداء نداء صنعته الرغبة واضمحلت بعد ذلك.. بعد سقوط توهجها!
وخاطب ((طارق بن زياد)) الساعات الأخيرة من الليل، وهو على مشارف ((غرناطة))، وابتهج المدى بصرامته، وهي تتحد مع صوت ((فلوراندا)) الإسبانية التي كانت تنادي: ((ادخل الأبواب يا طارق.. حررنا من غفوة زماننا عنا))!!
كان الجميع يبحث عن: الإشراق، والوضوح، والأهداف... بالحب!
كان الجميع ((يناضل)) الحياة.. لصناعة لحظة الرؤية والعطاء الذي ليس له مقابل.
كان الجميع - بالحب وحده - يقف على ابتكار أمانيه.. ينزرع ((سنبلة)) في أعماق وجوده!!
* * *
والآن - يا حبيبتي - تحضرني عبارة، قالها الروائي الحديث ((جابرييل ماركيز))، تقول:
ـ ((الحب هو الحب في كل مكان، و... زمان، ولكنه يشتد كثافة كلما اقترب من الموت))!.
آه يا حبيبة.. إن موتهم هناك للحضارة. أما موتنا هنا فللحب!!
الموت ليس في الشيخوخة، ولكنه في تغيير خارطة الإنسان... فهل عرفت أن القلب الآن هو هذه الجراحات؟!
هل أصدق أنك تغيرين خارطة نفسك.. خارطة قلبك؟!
ابلغوني أنك ركضت إلى ((فارس)) آخر، يجيد لعبة الانتباه.. فجاء التصاقك به من ناحية عقله وتفاعلاته مع النضال للحياة.. وليس النضال في الحياة!!
والآن - يا سيدتي - تحضرني - أيضاً - عبارة قديمة، كتبتها ((فرانسواز ساجان)) المرأة التي غرقت في الحزن من أجل شيء لم تعلن عنه، فقالت في روايتها ((مرحباً أيها الحزن)):
ـ ((أنت في العشرين.. تستطيع أن تحب!
وأنت في الثمانين.. تستطيع أن تحب!
وهناك دائماً مناسبة لاشتعال البرق))!
نعم - يا سيدتي - هناك دائماً مناسبة لاشتعال البرق، ولكن... متى. وكيف؟!!
إننا نبحث عن ((تعادل)) شيء.. ما بين الأخذ والعطاء!
أرجوك.. لا تدعي أعصابك تغضب، ولا أنانيتك تغضب، ولا صبرك يغضب، ولا ثقتك بنفسك تغضب!
ولكن... دعي موقفك يغضب، وكلماتك تغضب، وضميرك يغضب، ووجدانك يغضب!
إن ((الموقف)) حتى في العاطفة.. يتطلب الحكمة، والعقل، والتبصر!
والكلمة.. تتطلب الحوار، والمنطق، وحسن التعبير.
والضمير.. يتطلب الحق، والعدل، واليقين، والشرف!
والوجدان.. يتطلب الوضوح، والصدق، والنقاء، ورفض الكذب!
أما شيخوخة العمر.. فقد يطوحنا الخوف منها في حالة واحدة: إذا فرغ القلب من وجيبه، ومن ذكرياته!!
 
طباعة

تعليق

 القراءات :946  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 218 من 545
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور عبد الكريم محمود الخطيب

له أكثر من ثلاثين مؤلفاً، في التاريخ والأدب والقصة.