شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
ذلك المساء.. الساعة
ذاك المساء..
كان هو السفر الطويل محشوداً..
مختصراً في ساعة من الزمان.
برّاق ذلك الزمان ((الساعة))..
كأنه زفاف الخفق.
كأنه قوس قزح بعد سحب متراكمة.
فجائيّ ذلك الزمان ((الساعة))..
كأنه الميلاد الجديد بعد الموت..
كأنه المطر.. الذي انهمر على الجفاف..
كأنه النداء بعد عجز الكلام!
* * *
ذاك المساء الساعة..
كان هو الزمان الأهم في العمر المبدد..
في الانتظارات المتعاقبة كالمحل.
كان زمانه الذي أفتقده..
كان الزمان الذي يملك الإنسان..
ويعجز الإنسان أن يمتلكه!
* * *
ذاك المساء...
كان هو السفر الممزق المؤقت..
يفيض من ساعة في زمان..
قاهر ذلك السفر في زمانها الذي عثرت عليه بالبغتة.
لا.. بل كان العثور على زمانها بالتلباثية..
عندما ارتعش خفقها:
في أمسية أخيرة كانت تودّع فيها السفر المؤقت..
لحظتها تذكرت زمانها وتساءلت:
ـ أين يكون الآن؟!
هل يذرع الشاطئ المسكون بالغروب..
على سيف بحر ((جدة)) كعادته.
يدفع خطواته كأنها شموع.
يشعلها للسمك الذي يلتحف الماء..
كأنها خطوات الضائع..
وهو يحسب أن كل حبة رمل.
هي أصداء سأمها،
وهي أحياناً صخب ركضها..
فهل يكون هناك،
أم أن الـ ((هناك))..
في تصوره دائماً تبقى أنا؟!
* * *
وجاء ذاك المساء..
يدعوها أن تقفل حقيبة السفر،
وتعلّقها على كتفها الحزين يتيماً..
في بعده عن إغفاءة زمانها عليه.
كأن هذا هو الضياع!
ولكن.. لماذا تحس الضياع..
وأضلاعها تزف كل لحظة اسمه إلى قلبها؟!
إنه يأتيها دائماً عبر خفقها..
يبث في هذا الخفق رائحة الحنين،
وشظف الغياب.
يسكب في هذا الخفق مولودهما معاً:
الحب الذي لا يلتقي رغم أنه يتوحد!
* * *
ذاك المساء...
كانت بعيدة عن الرؤية،
كانت حميمة مذابة في رؤاه،
تذكر زمانه وتساءل:
ـ ترى أين تكون الآن..
هل توغل تخيلاتها في مفاوز التنهدات،
وتصعد ((أجاوسلمى))،
ثم ترتد شاخصة إلى الغد..
ترى البعيد بعيني زرقاء اليمامة،
ثم تتلفت في الأصداء من حولها،
حينما يتصاعد ((النغم)) قادماً بنداءاته إليها؟!
* * *
وجاء ذاك المساء..
يدعوه أن يفتح حقيبة السفر.
في محطة الوصول المؤقتة..
يتحسس كل شعرة تنام على صدره العاري.
في شتاء المدينة الأوروبية الغائمة.
هنا فوق هذا البيدر الذي لا ينبت إلا اسمها،
ولا يطرح ثمراً إلا عهدها.
هنا تمنى شعرها أن يسكن هذا البيت..
أن ينزرع فيه نخلة صابرة على الظمأ!
إنها تأتيه دائماً عبر فراغ هذا البيدر..
فيفيض بالحنين إليها.
ثم يغرق في الأطياف والأشياء الباردة!
* * *
لم يمتلئ بأبعاد الحكاية.
كانت الحكاية.. مفاجأة العثور:
ـ هل أنت هنا؟!
ـ هل أنت الحقيقة أم الطيف؟
النغم أم بقايا أصدائه..
الزمان أم لعبة الوقت؟!
ـ أركض.. أدعوك،
فلا وقت يثبت في الزمان الذي يمتلكنا!
ـ بل أريد أن أصلك..
بعد أن أقشر من أذني مفاجأة العثور!
ـ لا وقت. ألاّ تذكر،
إنه ليس العثور بل رائحته!
ـ ولكني لا أريد الإبحار المؤقت والمنفرد،
أدعوك أن نبحر معاً،
لنقتلع الشوق ونبذر مكانه التوق!
ـ أعدك أن أحمل معي هذا العثور.
وأنتظر إيابك،
ـ لا أطيق المساء بدونك.
لا يرويني المطر عندما أبقى أنا الأرض التي وحدها،
لا أرى وجهي عندما يغيب وجهك عني!..
سأحمل حقيبتي بعد ساعة..
إلى ميناء مؤقت آخر،
فلا تجعلني أضيعك!
* * *
ذاك المساء...
هطلت الأمطار بغزارة،
تكاثفت السحب فكأن حبات المطر المنهمرة هي النجوم.
كان السفر - من جديد -
هو ساعة العثور،
وهو ساعة الفقد،
هو زمان الوصل،
وهو رحلة أخرى إلى موانئ الانتظار!
كان السفر - ما زال -
هو العهد الذي لا يفي،
ولكنه لا ينمحي،
وتبقى حكاية ((الدنيا الصغيرة))
هي التصبّر الذي يتذكره الفاقدون،
ويلوّح به الذين يعتادهم الحنين،
فينبعثون في النغم المهاجر!!
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1062  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 193 من 545
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذ محمد عبد الرزاق القشعمي

الكاتب والمحقق والباحث والصحافي المعروف.