شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
مقدمة: لحظات النّبض.. ونبض اللّحظات
بقلم: سبَاعي عثمان
حينما صدر كتاب الزميل عبد الله الجفري، بعنوان ((لحظات)) منذ بضع سنوات.. تساءل كثيرون ممن أطلعوا عليه: شعر هو، أم نثر، أم هو كلام بين الشعر والنثر، وبعضهم وصفه بـ ((الضبابية والتهويم الحالم))؟!!
وأظنني كتبت حول ((لحظات)) في حينه، ولا أذكر بم وصفته، ولكنني - قطعاً - تعاطفت معه، لعشقي هذا اللون من التعبير، فهو من أصدق ألوان الكتابة الأدبية وأكثرها خصوصية، إذ ينعكس عن الوجدان في أوج معاناته، وشفافيته، وفي هذه المرحلة من التأمل الداخلي، والتعامل مع الذات، يعيش الإنسان صراعاً مع مجهول يحبه، ويتعذب به، وأحياناً يستمتع بعذابه، وبقدر صدق عذابه ومعاناته، وعنفها، يجيئ عطاؤه عميقاً، وغزيراً!!
وأنا أطالع أصول هذا الكتاب ((نبض)) تذكرت الكتاب الأول ((لحظات)) وقد أهداني أخي عبد الله نسخة منه، مصدرة بكلمات رقيقة.. تذكرته بما يشبه التواصل الفكري، والوجداني الذي انتظم الكتابين، ولعلّي أجد نفسي عاجزاً عن طرح ما يتردد الآن في خاطري من بعض الشك فيما إذا كان هذا الـ ((نبض)) غير ذلك الـ ((نبض)).. أو لعلّه نسخة أخرى من تلك الـ ((لحظات)) النابضة.. ربما لا تكون نسخة طبق الأصل، ولكنه، هو، على نحو قد يصدق على بعضه، أو معظمه، وربما كله، وأرجو ألاّ أكون قد تجاوزت الحقيقة في هذا الظن!!
لا أستطيع أن أجزم بهذا.. ولكن التصور قائم على أي حال..فبين ((لحظات)) النابضة كتاب عبد الله الأول و ((نبض)) اللحظات، كتابه الثاني الذي بين أيدينا الآن علاقة مضمون، وشكل، فقد استبدل الكاتب ثياب هذا بثياب ذاك، أو مضمون هذا بمضمون ذاك، ولا فرق.. إذ ينتظم الأخير جميع عناصر الأول:
ـ اللغة الشاعرة.
ـ حرارة الأداء.
ـ تقليدية المعاناة.
ولعلّ التعبير عن المعاناة بهذا اللون من الكتابة، وبهذا المستوى الجيد، أصبح مفقوداً على الساحة الأدبية المعاصرة، فالكتابة الوجدانية، كعمل أدبي، تكاد تنحصر اليوم في الشعر فقط، لغنائيته المتوافقة مع طبيعة لغة الوجدان وقد خلت الساحة الآن أو تكاد من الشعراء الذين تألقوا في هذا المجال، ومعظم الجديد، الذي بين أيدينا نتاج سطحي، لا يحمل مضموناً ذا قيمة، وهو - في الغالب - شكل ممسوخ ومهترئ..!
وعندما أصف ((المعاناة)) في هذا المجال بالـ ((تقليدية))، فإنني أعني أنه لا يكاد يتعدى حدود الذات، مهما تباينت، وتعددت دواعيها وصورها، وأظنني لم أبتعد كثيراً عندما ترددت في تقرير إمكانية التكرار بين الكتابين، فمحدودية ((المساحة التعبيرية)) في هذا المجال، تفتح الباب واسعاً أمام احتمال ورود مثل هذا التكرار، واحتمال قيام مثل هذا التصور!!
يقول الزميل الجفري في كتاب (( لحظات )) :
آه من الزمن المكسور بفعل دقيقة..
بفعل عقرب ساعة.. بفعل الانتظار - المتأخر -!!
خذوني إلى ((نظام قلقي))..
دعوا قلقي ينتظم، وبعد ذلك.. ما أروع حطب المدفأة!
الزمن لا ينكسر إلا بأخلاق عقربية!!
* * *
الذهن يتمدد..
الخفق يحترق..
الآهة برقية مستعجلة
.. الدنيا ليل!!
* * *
نجمة الصبح لم تطلع هذا الصباح!!
هل فاجأكم المطر في لحظة إشراقة الشمس؟!
مهلاً.. إني لا أسأل.
ولكني أبحث عن ((الصبح أبو نجمة!)).. عن المطر
والشمس تشرق!
وحدوا بين المناخين!!
* * *
لا استأهل لومك فمقدار الإخلال بالعهد يرتقي ويعظم.. دون أن يتعرض للتفاؤل، أو الانحدار!
الذي يقف محفوفاً بالحب.. لا يجسر شيء أن يقف شبيهاً له!
إذا كان النبض، والفكرة، والذكرى، والتأمل ملكاً للأصل المتوسد بين الضلوع، فالابتسامة - حتى ولو كانت غبية! - هي الصفح بعد اللوم!
و.. أحتاج إلى منحة ابتسامة!!
* * *
أيتها الطالعة من صداه..
نازلة في مسافاته:
لقد كنت البريء في صدره..
المتهم بين شفتيه، وفي سمعه!
أسكت أنا لأنه أستمع بعد أن تكلم.
وتكلمت أنتِ قبل أن تستمعي!
مع ذلك ((ترى.. ماني صاحب صنعتين))!!
إن بعض النكران على أحد رغبة في هذا الأحد!!
يقول الزميل الجفري في كتابه (( نبض )) الذي بين أيدينا:
في الحب.
نجري إلى كل الجدران لنزيلها،
فمكان كل جدار نحاول أن نزرع غرسة من الزهور لتنمو وتكبر،
وتتحول تلك الغرسات إلى سياج...
يحوط بيت الحب الأسطوري الذي نسكنه.
إنني أتواجد في هذه المساحة الهائلة..
أبني حروفي لتصبح شمعة كبيرة،
أشعلها من لهب صدري لتضيء وجهك.
إنك تأتين كزهرة اللوتس..
أود حينئذ لو أتحول من شمس تبزغ
إلى مساء تتفتحين في ظلاله.
إننا نبحر في الزمان والمكان،
فإذا أنت منزرعة في بهاء الحزن،
وفي دفء أشواقي،
وإذا أنا شهقة فرح..
في لحظات الفرار من التحديق
ووجهك يبرعم يباسي..
يصوغ وحدتي من تخاطف يصنع مفارق الأيام!
* * *
كوخي يهتز تحت رياح غضبك،
وأنت تفكرين في نفيي.
كوخي.. بابه مشرع،
يستقبل إشراقك
والليل يرضعني أسفاري
و... ((أتدروش))..
وأهز الظلال بجفني.
أصبح كل ما يطوف على الساعات، هو وجهك الآتي دائماً..
الذاهب قسراً،
وأحمل انكساراتي وهي مخاض زمني،
وأحولها تضاريس ملامئمة،
لتقبل كل ما ينام في الفواصل المعتادة بين الليل والنهار.
فتأملي هذا الليل..
إنه مستنفر بكل لحظاته،
ليحمل إلى إصغائك حكايتي،
وجرحي، ووميضي،
ورصاصي ورائحتك العبق،
وخلودك تحت جفني!!
* * *
إن حالة التأزم لدى الإنسان، أوسع من هذه المساحة ((الجزئية)) بكثير، وهي حالة يعيشها الإنسان من خلال ممارسته اليومية، وتعاملاته القابلة للإخفاق، والنجاح.. للكسب والخسارة.. وحالات الإحباط فيها، وهي التي تشكل المنطقة الساخنة في النفس أو حالة الذروة، ومنها ينبع العطاء الإنساني لدى الأسوياء الموهوبين!!
إن حالة الذروة هذه، هي منتهى الطاقة المادية للإنسان، ونهاية قدراته أمام قوى مختلفة، لا يملك مواجهتها بقدراته المادية المحدودة، وهو عندئذ يلجأ لقواه الخفية.. ((اللامحدودة)): الروح. الخيال. الوجدان، ومن خلالها يجد متنفسه المريح الذي يستمد منه القوة، ليتهيأ لجولات أخرى جديدة.. ثم تدور الدورة ذاتها بكل متناقضاتها: الربح، والخسارة.. النجاح، والإخفاق!!
ومع أنني لا أكاد أفهم، كيف يمكن أن تنشأ القوة من الضعف، والعطاء من العجز، فإن حصيلة التأزم لدى الموهوبين، هي رصيد الفكر الإنساني الذي يتجدد على مدى العصور.
وبهذه الثروة، استطاع الإنسان أن يقطع مساحات شاسعة من الرقي، والتقدم خلال المسيرة البشرية الطويلة!!
* * *
في الحقيقة أنا لا أحاول - هنا - أن أقدم دراسة، أو تحليلاً لموضوع هذا الكتاب بقدر ما أقوم بسياحة فيه، وحوله، وهي، في الوقت نفسه تلبية متواضعة لاستضافة كريمة من الصديق الأستاذ عبد الله جفري، في هذا العمل الأدبي، المفعم بالأحاسيس الدافئة والمشاعر الصادقة!!
والواقع أن لغة الوجدان لا تخضع للمناقشة، ولا تعترف بالأقيسة، والمعايير المتعارف عليها في الأمور الجادة، وهي ليست أحكاماً عقلانية، ولا هي قضايا ذات مقدمات تتوقع لها نتائج إيجابية، أو سلبية، بقدر ما هي نوع من ((التذوُّت)) وشموخ ((الأنا)) أتضاؤله.. ثم هي في النهاية ((أنانية)) مفرطة قابلة لـ ((العشق)) حتى العظم!!
يقول الجفري في كتابه (( لحظات )) :
رغم أننا معاً..
نذهب كل يوم إلى حديقة أشواقنا حول قلبينا..
ونلتقي في أصداء كلماتنا..
ونرجع إلى هذا العالم المزدحم..
وإلى هؤلاء الذين يحبوننا، وتعودنا على حبهم..
فما زال الحزن - يا حبيبتي - هو قارورة العمر..
وقد أحكمنا إقفال سدادتها، وقذفنا بها إلى البحر..
لعلّ أولادنا من بعدنا يلتقطونها ذات يوم..
لعلّهم يقرأون ما بداخلها من حزن عظيم!.
* * *
رغم أننا معاً...
عبرنا زمن الوله، ورغبة الامتلاك..
فما زلنا نغوص في داخل النفس..
وما زلنا نبحر في سرحاتها..
نهرب من خفقة الصدق وما سكن الفؤاد..
لكن وعدي لك - يا أعز الناس:
أن يثمر صوتي البهجة في إصغائك..
فكلما سافرت نظراتي وجدتك واستعدتك!
* * *
أحمل ميراثي وأمشي إليك..
أنت في جذوري قرار الحياة.. لا استقرارها.
أنت الميلاد والموت والميلاد المتجدد.
أنت الأمل والفصول المتعاقبة..
تعلنين إشراقك في وجداني كله..
وتهربين إلى أطرافك!
* * *
ومن هذه الزاوية يمكن أن نطلق على هذا اللون بأنه تعبير ((توقيفي)) نقرأه على نحو من التسليم بمضمونه، بكل متناقضاته اللاعقلانية!!
ويبقى ((الشكل)) - حينئذ -، جانباً حراً، خاضعاً للتقويم و ((التقييم)) الفنيين في درجته الإبداعية، وبنيته التعبيرية.. يبقى عملاً أدبياً، وليس عملاً فكرياً!!
ومضمون - هذا ((البوح)) الحميم عند الجفري - مضمون إنساني يغرق في الرومانسية، تعيش معه الصدق ((الحزين)) أو الحزن ((الصادق)).. إنه يغرق في الألم كثيراً، وينزف كثيراً، وهذا هو الوجه ((الإيجابي)) للمعاناة عند الجفري..
أما الوجه الثاني.. وجه الابتهاج والرضى في هذا العالم الرومانسي المتوهج، فيكاد يكون وجهاً سلبياً عند الكاتب، وهو وجه مفقود، أو غائب، مهما حرص على الحضور لأن الحاجة فيه، أكثر من ((المتوفر)) والعطاء فيه أقل من ((الطلب)) الملح الذي لا يرتوي، ولذلك يتواصل فيه الظمأ، وتتواصل فيه الشكوى!!
أنا لا أنكر على صديقنا الجفري، هذا ((التأزم)) فالكاتب لا يستطيع افتعال ((المعاناة)) وهي على أي حال - دليل ((عافية)) نفسية.. وأن يتمتع الإنسان بدرجة عالية من القدرة على الحب - لا شك - ((سوية وجدانية))، وظاهرة صحية، ومؤشر من مؤشرات عمار النفس!!
إن معظم الآثار الأدبية والفنية التي بين أيدينا، هي - في الواقع - حصيلة آلام، ونزف داخلي، ناتج عن الصراع الأزلي مع الحياة، لأنه - في الغالب - صراع خاسر، ولذلك يحبه المتلقي، ويتعاطف معه، لأنه يتوافق مع ما في نفسه من إحباطات متراكمة، وقليل هذه الآثار هو حصيلة فرح، ورضى، ولحظات سعيدة نادرة بالقياس إلى عثرات الإنسان الكثيرة، حيال طموحاته، التي لا تعرف الحدود..!
* * *
أما بنية هذا اللون من التعبير، وشكله، فقد احتدم حول تسميته جدل كثير.. بعضهم سماه: ((شعراً مرسلاً)) وبعضهم سماه: ((شعراً منثوراً))، وفريق ثالث سماه: ((نثراً فنياً)).. وقد جاءت كل هذه التسميات، في وقت لم يكن - فيه - النقاد والباحثون، قد قنَّنوا، وقعَّدوا للأشكال الجديدة من الكتابة، بعد!!
وكما احتدم الجدل حول هذه التسميات، كذلك احتدم الجدل حول أول من كتب هذا اللون، وأوردوا أسماء كثيرة واختلفوا حولها، دون أن يدعي أحد من هؤلاء، وأولئك أسبقيَّته في هذا المجال، ودون أن يعترف أحد منهم بـ ((شعرية هذا اللون))!!
ولقد رفض صفة الشعر لهذا الأسلوب كثيرون، وردوه بعنف.. بل لقد سخر منه بعضهم وسماه بـ ((النثر المشعور)) وشنوا عليه هجوماً عنيفاً، واعتبروه - في ادعائه الشعر - تخريباً يستهدف بنية الشعر العربي، فقد كانت نزعة ((التقليدية)) - في ذلك الوقت - لا تزال قوية وصامدة وكان الغيورون على اللغة والتراث، يسيطرون على الساحة الفكرية، سيطرة ((عملية)) تامة، بما كان لهم من حصيلة علمية، غنية، ونتاج موفور، في الحقيقة، هو رصيدنا الباقي، حتى اليوم!!
أما طلائع المحدثين، فكان، تعريف ((الشعر)) التقليدي السائد - وقتئذ - وحتى أوائل عصر النهضة، دون طموحاتهم، وتطلعاتهم، ودون استيعاب ما استجد من أحداث تعقدت معها الحياة، وتناقضت متطلباتها بحيث لم يعد من المقبول، أو المنطقي أن يعنى الشعر بـ ((الشكل)) فقط دون المضمون، كما يفهم من ((التعريف)) القديم، فالشاعر ابن المجتمع وهو أول من يتفاعل مع أحداثه.. أفراحه، وآلامه، وتطلعاته، ومختلف متناقضاته، وتعريفهم للشعر - بأنه: ((الكلام الموزون المقفّى)) - لا يتناول المضمون في اعتباره، ويجيز كل كلام موزون، مقفى، ويعتبره ((شعراً)).. ومعنى هذا أن المنظومات العلمية القديمة كـ ((ألفية ابن مالك)) وغيرها من المتون الفقهية المنظومة، التي وضعت تسهيلاً لحفظها، تدخل في مفهوم الشعر، وفي هذا تقليل من قيمة الشعر ككيان فكري قائم بذاته.. ليس الشكل فيه إلا أداة، مهمتها خدمة ((المضمون)) بكل أهدافه الكبيرة، فالمضمون - إذن - هو ((الأساس)) الأول ولا يجوز إغفاله في أي تعريف للشعر!!
ومن هذا المنظور اتجهت طلائع المحدثين - أيضاً - إلى البحث عن ((تعريف)) جديد، مقبول، بل، لقد تعدوا ذلك، إلى البحث عن شكل، أو أشكال جديدة للشعر تتوافق مع ما سمي، فيما بعد، بـ ((أزمة الجيل المعاصر)) التي تمثلت في حالات مختلفة تتابعت سريعة نتيجة عوامل، وأسباب كثيرة، ربما، لم يكن يعيها الجيل السابق، وربما غفل عن تهيئة أبنائه لمواجهة هذه ((الحالات الطارئة)) التي أول ما تغزو الطلائع الجديدة - عادة - وهي أول من يحس بها..!!
ومهما يكن من مسؤولية الجيل الأول، أو عدم مسؤوليته، فإننا لسنا في موقف إدانته، أو تبرئته في هذه العجالة، بقدر ما نحاول إبراز صورة مبسطة لهذه الأشكال الأدبية وأسباب نشوئها، وطرائق التعبير الحديثة التي نتجت عنها!!
على أن المحافظين تصدّوا، أيضاً، لهذا الاتجاه، وحاربوه بعنف ورفضوا كل شكل لا يعتمد على أوزان الخليل، واعتبروه موجة غربية، تستهدف هدم التراث، وهدم المكتسبات الموروثة.. ولكن المحدثين وجدوا بين هؤلاء بعض المناصرين، المتساهلين. بيد أن هؤلاء تساهلوا في المضمون الذي تأثر كثيراً بالتعبيرات والصور الغربية التي لم يألفها الجيل الماضي، ولكنهم لم يتساهلوا في الشكل واعتبروا الموسيقى شرطاً أساسياً للشعر، مهما كان شكله، سواء قام على ((المقابلة المتوازنة))، ومماثلة طرفي البيت، أو قام على الأساس ((النسقي والجرسي)) فيما يشبه ((القرار والجواب)) في السلم الموسيقي العربي، وهو ما سموه - فيما بعد – بـ ((الشعر الحر)) أو ((شعر التفعيلة))!.
ولقد كان الجيل الجديد معذوراً في اتجاهه الذي وصف بالتطرف أحياناً وبالعجز، أحياناً أخرى، وبالتنكر للتراث في أحيان كثيرة، فقد شب، مرهق الفكر، والنفس، يحمل تركة مثقلة من أحزان وآلام الحربين العالميتين، إلى جانب عوامل أخرى كثيرة، تشابكت وتداخلت من خلال التطور، وانقلاب كثير من الأوضاع، والمفاهيم، ونشوء مذاهب، وأيديولوجيات، واتجاهات جديدة في الفكر والفن والسياسة والاقتصاد، بدأت تغزو العالم بشكل مثير، لم يكن معاصروهم من الجيل السابق يحسون به، أو يستوعبونه، شأنهم في ذلك شأن الأجيال في كل عصر.
في عام 1921م في مصر، وفي عام 1932م في العراق بدأت تظهر أصوات جريئة، تكتب هذا اللون - مفككاً مرة، ونشازاً تارة، وموزوناً في بعض الأحيان - وتجنح إلى الخروج عن التقليدية بما اقتنعت بأنه تغيير ضروري، وتصورته الطريق إلى تحقيق رؤيته وانطلاقته الحتمية لمواجهة المرحلة الجديدة من تاريخ الأمة العربية، بكل قهر الواقع المعاش في ظل الاستعمار الذي كان يسيطر على معظم الدول العربية ولكنها أخفقت، ولم تنجح، ربما، لأنها لم تكن قد نضجت بعد، على الرغم من قناعتها بمبدأ التغيير، وضرورته!!
ومهما يكن من وجاهة هذه القناعة، أو تطرفها، فإن طلائع هذه الانطلاقة ظهرت - بجدية - مرة أخرى في العراق، بعد أن أخفقت الإرهاصات الأولى التي كان صوتها خافتاً ودعواتها إقليمية، ربما بسبب ضعف وسائل الإعلام، وعجز اصحابها عن الصمود أمام قوة المحافظين وكانت نازك الملائكة، وبدر شاكر السياب في مقدمة هذه الأصوات الجديدة - على خلاف بين النقاد، ومؤرخي الأدب، حول أيهما الأسبق في هذا المجال..
على أن نازك الملائكة لا تعترف بأسبقية المحاولات الأولى التي ظهرت في مصر عام 1921م وفي العراق 1932م كما اسلفنا، وتشترط للأسبقية عدة شروط منها: أن يكون الكاتب قد قصد التجديد فعلاً، وأن يكون قد دعا إليه، وأن يكون هناك رد فعل لدعوته بين الأدباء والنقاد.. الخ. تلك الشروط، لم يتحقق شيء منها في آثار كل الذين كتبوا هذا اللون في تلك الفترة المتقدمة.
وتؤكد نازك بأنها أول من ((اكتشف الشعر الحر)) في النصف الأول من كانون الأول ((ديسمبر)) عام 1947م ثم صدر ديوان شاكر السياب في النصف الثاني من الشهر نفسه، والسنة نفسها، بعنوان: ((أزهار ذابلة)) وفيه قصيدة حرة.. ودعت نازك إلى ((الشعر الحر)) في مجلة الأديب في عدد يناير عام 1954م بعنوان ((حركة الشعر الحر في العراق (1) وقعَّدت له القواعد من أوزان الخليل ما بين عامي 49 - 1962م (2) وبذلك حققت لنفسها الأسبقية كما تقول.
ولكن نازك لم تسلم من بعض النقاد، وإن ناصرها كثيرون منهم، أما الذين ناصروا ((بدراً)) فقد ادعوا أسبقيته عليها، وحاجَّتْهم هي، وصدت دعاواهم بشدة وأقامت براهين لدعم وجهة نظرها، ومع ذلك لم يمنحها أحد منهم - حتى الآن - صك الاعتراف بهذه الأسبقية، ولا يزال الجدال يثور كلما اقتضت المناسبة ذلك..
على أنه لا جدال أن نازك أدت خدمة جليلة للأدب العربي في هذا المجال يجب أن نسجلها لها بكل تقدير، على الرغم من أصوات المعارضة التي ثارت في وجه محاولتها الناجحة في تقعيد أوزان الشعر الحر.. فقد وضعت حداً لفوضى المتطرفين وأنصاف المثقفين ومدّعي الشعر، وقعَّدت لهذا اللون من التعبير الأدبي أوزاناً وبحوراً مستمدة من علم العروض ربطت بها الحاضر بالماضي، والقديم بالجديد عن علم ودراية وتمكُّن وقد حددت ثمانية بحور للشعر الحر، مع إمكانية إضافة تنويعات جديدة حددتها بتفصيلات مطولة.. وقالت إنها بعد التجربة، والاستقراء، والمتابعة لسنين طويلة، وجدت أن هذه البحور الثمانية بتنويعاتها التي أضافتها فيما بعد، هي أكثر البحور الخليلية طواعية لهذا اللون من الشعر وسمّت هذه البحور، وأوردت أمثلة كثيرة لما صيغ منها، وكيفية الصياغة منها.. الخ..
* * *
ولعلّ السؤال البديهي الذي ينشأ الآن هو: أين موقع هذا الـ ((النبض)) من هذا كله؟:
يقول الجفري في كتابه الجديد:
أحلم.. أحلم، فآخذك إلى البعيد..
أفرش لك الدرب اللانهائي عشباً أخضر
أتوسل للسماء..
فتزخ رشات غيث تنقر مفرق شعرك الليلي،
وأدع يدي تحتوي يدك..
وتأخذني أصابعي تتخلل أصابعك ويخفق!
أتشبث بك..
أخاف أن تفرقنا عاصفة..
أو ريح مجنونة!!
أقول لك: تطلعي إلى البعيد..
هناك حيث ديمة تظلل استراحة عمرنا..
هناك حيث يقف كوخ كالخيمة.. تنصبه وتقيمه خيوط من الأفق!
* * *
آخذك إلى البعيد..
وكلما تلفتنا خلفنا رأينا ظلينا يتحدان في عناق!
ونعدو إلى الـ ((هناك))..
نبتكر الزمان الطالع من خفقنا..
نرحل إلى الضلوع..
نغيب في هتاف الحياة عندما تعطي وأروي لك حكاية السنونو
المهاجر، والوردة الطالعة من ساق أخضر كما ((فلة)) القلب،
والجدول المنساب..
عطاؤه من النبع إلى الحقول لا ينضب ولا يمل..
أروي لك سنين الركض في وجه الشمس..
مشوار العرق والحزن، وفراغ الحياة وأنت بعيدة،
وجنون الحياة وأنت صامتة وضوء الحياة وأنت تثمرين..
فتملئين مساحتي زروعاً.
صوتك وعد..
وهمسك عهد..
وإيماءتك تأذن للفجر أن يبزغ!
والجواب البديهي أيضاً: أن ((نبض)) ليس ((شعراً مرسلاً)) ولا ((منثوراً )) لأن الشعر لا يرسل، ولا ينثر، مهما تجددت أشكاله، ويظل ((الشعر)) شعراً، ويظل ((النثر)) نثراً، مهما ارتقت صوره وألفاظه.. وكل كلام مرصوف ومبعثر الجمل والعبارات والنقط، وعلامات التعجب، والاستفهام، لا يعد شعراً، ما دام لا يعتمد على أوزان العروض الخليلية كأساس موسيقي سواء على نمطه القديم - وهو النمط الأصيل - أو على نمط ((التفعيلة)) ((النازكية)) على قواعده الأصيلة الصحيحة..
وفي هذا المجال يتألق ((نبض)) نثراً فنياً جيداً يحلق فيه عبد الله جفري بخياله الخصب، ويحلم، ويغفو، ويبني آماله، ويشكو آلامه، كأروع ما تكون الإغفاءة، والحلم، وكأحلى ما يكون الأمل، وأمرّ ما تكون الشكوى!!
على أن عبد الله لم يدَّع شعرية هذا الـ ((نبض)) ولم يدَّع ((شعرية)) ((لحظات)) من قبله.. لذلك، فإن هذه ((التوزيعات)) في جمل وعبارات الكتابين، هي اجتهاد بحت، قد تصدق فيه إعادة التوزيع، بشكل، أو بآخر، دون أدنى تحفظ سوى ما يستلزمه سياق الكلام، وسلامة التعبير، وجمال الأسلوب.
ولا بد من أن نشير إلى خصائص متميزة لهذا اللون عند عبد الله جفري، وهي خصائص جمالية، دون شك، ولعلّها تنتظم أسلوب عبد الله جفري بصورة عامة، وهي:
ـ العبارة القصيرة.
ـ اللامباشرة.
ـ ((حركية)) العبارة.
ـ صدق المعاناة.
وعبد الله جفري - كما أعرفه - من أفضل من كتبوا في هذا المجال، ومن أقصرهم عبارة وأكثرهم شفافية وصدقاً، ولا أتفق مع من يصفه بأنه ((مقلد)) لأنيس منصور، أو هو نسخة منه في رأي بعضهم.. ربما لأن أنيس اشتهر بالعبارة القصيرة في كتابته..
إن ((خاصية)) الكتابة ((موهبة)) قبل أن تكون ((تقليداً)) و ((التفرد)) بأسلوب خاص، هو أكثر خصوصية، وهو يأتي بعد الموهبة، من خلال التعامل الطويل مع الكلمة، ومن خلال النضج الفكري، ثم إن فكر أي أديب، هو - أولاً، وأخيراً - حصيلة قراءات متعددة تبدأ بـ ((المطالعة المدرسية)) ولا تنتهي إلا بنهاية الأديب، وهو يكتسب، خلال ذلك، رصيداً من المعرفة، ورصيداً من طرائق التعبير، تكوّن عنده اسلوباً خاصاً، في بعض مراحل هذه الرحلة، وفي هذا يتفاوت الكتّاب.. كل بقدر حصيلته، ومتابعته، وقدرته على التفرد..
و ((التقليد)) في هذه المرحلة غير وارد، شكلاً، ومضموناً.
وفي ختام هذه - السياحة - لا أدري إلى أي حد استطعت تقديم هذا الـ ((نبض)) إلى قراء الصديق عبد الله جفري ولكن - قناعتي دائماً - هي أن الكاتب ذاته، هو خير من يقدم لنفسه، ولأدبه وأظن أن عبد الله جفري، استطاع أن يقدم نفسه لقارئه بنجاح في موضوع هذا الكتاب.
سباعي عثمان
 
طباعة

تعليق

 القراءات :2350  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 170 من 545
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الأعمال الكاملة للأديب الأستاذ عزيز ضياء

[الجزء الثاني - النثر - حصاد الأيام: 2005]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج