شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الفصل الحادي عشر: غريب رغم القرب!
* صعب عليه أن يميّز الرملة الذهبية، ولون كفّها حين يتدثر في كفه.
همست إليها.. هي: لغته الجميلة التي تضيء ضحكتها.. هي بوحه الذي يغسل أعماقها براحة النفس.. هي غزل الدنيا لها، فهي هذه الدنيا الأجمل في عمره.
التواصل معها.. لم يعد حواراً، ولا حديثاً، ولا حتى..... همسة.
راودته أصداء من تلك الأغنية التي تتغلغل في الزمان الذي مضى... وأخذ يدندن:
-((يا حبِّيَ المر، العذب
ليت الهوى وانْتِ: كذب))!
تبقَّى له منها: أوراق وقلم... وحريته: أن يسكب على الورق نبضه إليها.
هي - حقاً - حبه: المر/ العذب.
هي التي فرضت عليه أن يكون تواصله معها: تخيُّلاً وأصداءً وتحديقاً في البعيد/ السراب، وتقهقراً دائماً إلى الزمن الأحلى/ الماضي.. حتى ولو كان الماضي هو يوم أمس القريب.
صار يحلم بها... بالتخيُّل وبالتحديق في السراب.
صارت رفقته لها فوق وسادة أحلام اليقظة لا النوم.. هي هذه المرأة التي رفضت منه تعريفها بكلمة: ((أنثى))... فهل هي ليست أنثى؟!
ترنُّ في صمته أصداء من ذلك الأمس، قائلة له:
ـ لا... أكون ((أنثى)) حين أريد فقط، لكني دائماً أنا ((امرأة)).
* يقول لها: وهاتان الشفتان المفترّتان عن نداء الحب؟!
ـ ترد عليه: لا تنظر إليّ من شفتي.. تعامل معي كامرأة من حقها أن تختارك أو...... ترفضك.
* يبتسم وهو يتمتم: أيّ مجد فرقديّ من رعشة نارك؟!
ذلك المساء - في حوارهما الهامس - واصل تحديقه في عمق عينيها وارتعاشة شفتيها، وتحول إلى ركن صامت!
* * *
* ليس من أساليبه الهروب... لكنها حلمه المجنون، وسنبلة أرضه/ حنطته التي يسقيها نبضه، وتنكر هذا النبض/ السقيا!
أمامه.. تتقصَّد أن ترتدي ((الحِدَّة))، حتى وهي تضحك له... ويقف بين يديها وهو مكتظٌّ بالأشواق إليها، وهي تبدو أميرة تاريخ وجدانه.. لا يقدر تمرُّده أن يقاومها إن حاول... تصادر كل طقوسه ورياحه!
الحوار معها: سَرْج مهرة... يغرقان في التفاصيل أحياناً، وتُخضِّبه - هي - حيناً آخر بنظرة تنتشي من ولهه المتّقد كشمعة العاشق المسهد.
تتعمد في التفاتاتها نحوه: اقتطاف آهته المكلومة.. فتحوّلها إلى أنفاس مغتبطة بوجودها.
وعاد يسكب لها خفقة كلمات في هذه الحوارات معها التي ما تكاد تلتئم حتى تنفلش.. همس لها:
ـ يا حُبِّي المر/ العذب: ما هو امتياز صداقة تطلبها امرأة من رجل؟!
كيف ينسكب الثلج في شرايين يدي حين تعانق يدك... من يضحك بارداً حينذاك، ومن يرتعش: يدك، أم يدي؟!
أكون صديقاً لك، فأبادر إلى عناقك لعودتك من السفر، تماماً كما يفعل الأصدقاء... فهل أنت لحظتها: مطفأة الأنوثة ورجل يعانقك؟!
ـ ترد عليه: لا... لا داعي للعناق، فقط نتصافح!
ـ يتوتر ويكظم.. فيقول لها: إذن... فأنت تخافين، وتهربين من ذلك الإحساس الذي تلحدينه في مسمى الصداقة!
بعد صمت قصير، وشرود بنظراتها إلى عمق عينيه.. تقول له:
ـ في فمي ماء.. وهل ينطق من كان في فيه ماء؟!.. إني أحمل لك مكانة لا يزاحمك فيها رجل.
اسمع... كل الذي أقدر أعمله، أني أسخر من ((الأشياء المقيتة))، وأحياناً أتجاوز السخرية إلى حد ((التهزيء)) الواضح/ الضاحك... ها؟!.. والغريبة أنه: يمشي الحال، مع أن هذا الحال لا يتغيّر، فهل لديك الرغبة الآن لأحكي لك عني بدلاً من أن تجري بي إلى ظنونك وتلميحاتك وتفسيراتك؟!
* قال: كلي آذان صاغية... إحكي.
ـ قالت: إحدى صديقاتي الحميمات جداً، وبعد موقف مع أحد ((الأشياء المهمة)) قالت لي مذهولة: أنا مندهشة.. كيف تحكين للناس كل شيء بصراحة متناهية، تجابهينهن في وجودهن وفي وجوههم ورغم ذلك ما يزعلوا منك.. مع أنه من الواضح جداً: أنهم فوجئوا بما قلتيه؟!
ـ فقلت لصديقتي: أنا أيضاً أستغرب هذا الأسلوب مني، يمكن يستخفوا بعقلي؟!
لكن... آه يا فارس، يا صديقي العزيز.. الله يعين اللي يفكر، طوب الأرض اشتكى، ولا أدري: لماذا يعتادني الآن صوت نازك الملائكة وهي تقول شعراً:
ـ ((ونحن ما زلنا كما كنا
.... أولئك الحمقى
الليل يمضي ساخراً منا
والفجر يروي للدجى.. أنّا
نشرب ما نُسقى))!
اسمع - يا سيد الجميع - نصيحتي لك: لا تفكر.. لا تفكر في الحياة، ولا في الناس.. ولا حتى في حبي، أو حبك لي، ولكن... اسخر، اسخر، اسخر، قدر ما تستطيع.. هذا علاج مجرَّب!
* قال: هل هذا ترياقك في سأمك، وسخطك أحياناً على الخطأ، والماثل، والمدجَّن؟!
ـ قالت: اقنع نفسك - بالرغم من كل شيء - أن الدنيا حلوة، والناس لطاف... نحن لا بد أن نصلح أنفسنا علشان نرضى!
اسمع - مرة أخيرة - عندما تكتب لي.. أكاد أمسك المعاني الجميلة بيدي، وأمتزج بالمعاناة العميقة جداً.. فتبدو بكلماتك أكثر من رائع، وكلماتك تعبر عن أشياء أحسها وأكاد أراها ((عياناً)).
لا تغضب مني... فأنا أعرف أن الحياة مرة واحدة، كما قالوا، ولكني رغم ذلك أشعر أحياناً أنني ((محتاسة)) مع كل الذي صار يشكل حياتي.. لا أقدر أن أتفرغ لحبك لي ((آناء الليل وأطراف النهار))!
تجلجل ضحكتها في أرجاء الغرفة.... وتهرب بعينيها العميقتين من نظراته، تبعثرهما على الجدار وسقف الغرفة!
* * *
* انتصبت قامتها أمامه في منتصف الصالون، وهي تمد يدها تودعه.. والليلة تخطو بساعاتها إلى ثمالة منتصفها الآخر.
وطوى سلالم البيت حتى أشرعت له بوابة الداخل، ويده تبحث عن كتفيها.
قاد عربته حين كان الليل في حشرجاته الأخيرة.. و ((سارة)) تحتل عينيه حتى وهو يغمضهما قليلاً.
هذه المرأة المكسوة بالتضاريس المجنونة... تركت له عبارتها الأخيرة في نقيع هذا الليل وهي توصد الباب خلفه:
ـ خذ وقتك.. استمتع، ترى الدنيا تركض!
هذه المرأة/ سارة.. يتصورها: كونتيسة كادحة في زمن حب المرايا، لعلها أرادت أن تحوله إلى ((عاشق عصبي جداً))، وأحياناً إلى عاشق متعصب لها.. حتى ولو كان عدلها: مقصلة لحبه!
هي ((أنثى)) ذات بهاء ودلال ودساتير تملأ أنوثتها صلفاً للحظة غير تاريخية ولا عادلة لجمالها ولرقتها.
ـ قال لها فارس يوم التقاها من جديد: لا تنتظري.. إنني لن أستقيل من نصوص عشقي لك!
لكنه - أيضاً - لم يصر على فرض نفسه عليها عنوة بلا اقتدار، وقد حسب أن اقتداره عليها تجيزه له: استثنائية واحدة تحسها هي قبل الحكم بمعرفتها!
يخرج كل مرة من حواراتهما معاً.. وهو يؤكد لنفسه: أن هذه المرأة ذات مزاج انقلابي.. برغم يقينه أنها تشتاق له، وفي نفس الوقت تبادر إلى ممارسة ((الحدّ منه)) معها.. وتعرف أن الفراغ الذي يحدثه غيابه عن حياتها لن يملأه لها رجل آخر، لكنها امرأة ينطبق عليها وصف الشاعر الذي قال: هي ((وطن لا يجيء.. وأسكن - بعدك - في لغة ليس فيها جدار))!
يسترجع في هذه الأصداء التي انثالت عليه بعد خروجه من بيتها؛ كل موقف رائع، وكل صورة جميلة توحداً داخلها.. وأيضاً: كل لحظات الشقاق والتخلي عنه من قبلها... كأنه ما زال حتى الآن يبحث عن عينيها الأمان، فتتهاوى خفقة الوجد بين أضلعه، ويثور الجرح.
كانت هذه الأرض العريضة ذات مساء، ذات عمر.. هي حلم وحدتهما، وكان يلملم الأزهار باقة للنظرة الأولى بعينيها.
اليوم.. اختلفت ((سارة))، واختلف كل شيء فيها.
صارت اندفاعتها إلى مراوحتها بين مشاغلها وهمومها الدنيوية والمادية: هي حياتها... لكن ذلك ((المدى)) من المشاعر العاطفية فيها: كأنه غاب واختفى وتغرّب بفعلها، وكأنها فرّغته تماماً من النجوى.
أراد في هذا المساء أن يغضبها لتفكر في شيء أودعته إرشيفها النفسي وقفلت عليه، بينما يرى هو في منتصف ليلها: فيضاً من الأشواق لنفسها يختلط بنظرة عينيها.
يفكر أحياناً وهو بعيد عنها، ويتساءل: هل سيصاب حبه لها بنكسة بعد كل هذا العمر، وبعد كل هذا الإصرار من قلبه عليها؟!
وهل هذه النكسة - إن حدثت - بينهما: عاطفية، أم عقلية؟!
فتح أذنه وجوارحه، منذ التقاها من جديد، على ضياع صوته الذي أخذته أمسياتهما القليلة المتباعدة ما بين الصمت والحصار.. كأنها ألقت بـ ((فارس)) في اليم الهائج والبحر يغرقه، وقد حولته إلى مجرد ثرثرة مملة في لياليها، أو أوحت إليه بأنه صار شخصاً مملاً لها يطاردها.
ويسأله هذا الصمت والحصار؛ كيف تهون الأيام الأجمل؟!
يبدو حصار الصوت كالموت... غريباً هو لديها رغم القرب.
يعرف ((فارس)) أن ((سارة)) في يوم ما قررت أنها ستتغير، وقد تغيّرت بالفعل... ويعرف إرادتها، وهي موضع تقديره، لذلك... قال لنفسه:
ـ من الهباء أن أطرد وراء سراب... أو هكذا تصرّ سارة!!
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :933  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 159 من 545
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج