شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الفصل العاشر: مواجهة ما سيأتي!
* مصباحه: شاحب الضوء، تذوى فتيلته.
تخيُّله: عود ثقاب يحرقه، يرمده... وهذه النسمة الخفيفة تذرع وجه البحر، ترشق ((فارس)) بالنوى، وبالأصداء الحبيبة... ووجهه يتموج في الحنين للؤلؤته/ سارة.. وما زال صدره يمتليء عشقاً لها، ويفيض اشتياقاً.
فهل أخبر أحداً عن قسوة غيابها عنه، واختفائها في غبار السفر الذي يستهلك أكثر شهور العام؟!
لا يعرف وسيلة للاتصال بها وسماع صوتها... هي التي قررت ((له)) أن تحادثه هاتفياً من أسفارها كلما سنحت لها الفرصة، لكنها خطرت عليه أرقام هواتفها، ومعرفة خارطة سفرها.
لكنه - الليلة - يفيض اشتياقاً إليها... فهل يبلغها هذا الاشتياق بالتلبثي؟!
في اختفائها، ومن بعدها: صوتها... تخطى الحنين لها، فقد هجم القلق عليه وشاع في أرجاء نفسه:
خاف على قدره فيها... فهي الجانب المضيء المزهر من قدره.
هذا زمنه: بلا ألوان... وتبقى ((سارة)) هي: نخلته التي يتفيأ ظلالها وتلقي بثمرها في كل أرجاء حقوله.
بعدها من يكون، ولمن يكون، وكيف يكون؟!
أهدته أبيات ((محمود درويش)) قبل أن تبدأ سفرها الطويل، وعاد يتذكر ذلك الشعر:
*((علقوني على جدائل نخلة
واشنقوني.. فلن أخون نخلة))!
* سألها - يومها - عن مناسبة هذه الأبيات ومعناها.. فأجابته:
ـ المبدأ جميل.... فقط!
وحده - هنا - في هذا الحصر للمساحة الذهنية، ولانتفاضة الخفقة.
البحث الآن يستهدف: نقطة الضوء المختفية.. أين ذهبت؟!
إنه يتساءل في مدّها وجزرها معه.. في ظهورها ثم اختفائها من حياته:
ـ لماذا تجعل مع نفسها في حياة فارس: جودو الذي ينتظره دائماً.. الذي يأتي ولا يأتي؟!
عطش الأماني: يكتبه نداء عليها، حتى يتحول ضد نفسه!
رؤية أماني العمر في حياته: وعد عابر يغيب كالذبذبات الصوتية.. وهو يحفُّها ويتصاعد بها في الزمان المسروق.. وهو يفتش عن وجه: ضاحك/ حزين، فينعكس إليه من المرآة!
* * *
جدة/ هذه الليلة: تسقيه الطل، وأصداء من إبداع الفجر المتوحد دوماً في موج البحر.
مدينة تتمدد، وتتسع، وتكبر... وكأنها ترقب ركض الأفكار بديلاً عن الركض اليومي بالأقدام: دورة الناس الدموية، والقلب الخفّاق بنظرة، وتدافع موج أبيض نحو الشاطئ والأضلاع.
هذا البحر أمامه قد اختلط بتذكار الأضلاع.. بوجوه تختال أمام المرآة/ الذات.. وبآثار العجلات على الطرقات اللا متناهية الغيبية.. وبصمت الأشجار تنادى: بوح النسمة عندما تخنقها رطوبة هذه المدينة الساحلية!
اختلط نبض ((فارس)) بأمواج البحر.. تناهى، تمزق.. خاض الرحلة الكاملة من ليلة/ لحظة، حتى الليلة /ألف، والألف سؤال منثور فوق رمل الصحراء، وزرقة البحر.. وفي سمع ((سارة)) الذي لا يشعره أنه يسمع له!
اختلط تفكيره بالأسئلة!
* لماذا نشلع الزمان بالأسئلة؟!
* لماذا انكسار القلب.. بفعل الحب، أو حتى باسمه؟!
* لماذا في عصر ((الشكوى)) من الذي نحب.. ينشقُّ هول من المفاجآت؟!
كانت ((سارة)) تردد على مسامعه بين فترة وأخرى مقطعاً من أغنية غربية.. تضغط على صورة واحدة منها: (لمن أشتكي.. وأضع رأسي على صدره)؟!
لم تغرب الأسئلة عن تفكيره، وشروده في هذه الليلة الخرساء التي يختلط فيها هو الآخر بالرطوبة...... ((والآه)) التي يحبسها بين ضلوعه.
فجأة... دوى في خرس الليلة جرس الهاتف، ولم يصدق أنّ هذا صوتها:
* قالت له: كنت بعيدة.. بعيدة جداً.
ـ قال بغيظ يستفزها: ولمَ عُدْت الآن؟!
* ردَّت بتوتر: لم أعُد لأُشبع جوع انتظارك، وما دريت أنّ فقدك لي يحولّك إلى كأس يحكمون عليها من منتصفها: فارغة، أم ملآنة.. كل حسب نظرته وشعوره.
ـ حرص أن يربط جأشه.. وأجابها؛ يبقى النداء.. زمان آخر لك ولي.. له نصف ملآن، ونصف فارغ، مثل.... سفرك هذا!
* قالت بحدة: اتصلت بك لأطمئن عليك.. أنت ماذا تريد مني الآن بعد القطيعة؟!
ـ قال: أنت التي اتصلت.. عاشقة هاربة رافضة........
* قاطعته: لا... أنا لست عاشقة، لم أعد أركض وراء الحب.
ـ قال: بل تركضين، وتتمنينه.
* قالت: أبحث عن ((رفيق))... مللت من الأصدقاء، والجوقة، والحاشية.. رفيق، هل تفهم معنى هذه الكلمة؟!
ـ قال: عدت الآن - بصوتك - لأسمعك: متلبسة بالحنين لدفء رجل بجانبك.. متشفعة بالنداء المخضَّل بعفوية آهة الشوق، وبرقصة فرح تؤجلينها في أعماقك حتى يظهر ذلك ((الرفيق)).
* قالت: لا يزال لك مذاق.. فشلت أن ألقمه نيران النسيان!
ـ قال: ربما... لأن مذاقي تلقَّح من شجرة: سِرُّنا الوحيد المعلن.
* قالت: كأنّ مهمتي انحصرت الآن في محاولة إسعاد الآخرين، ويمكن... أنَّ منهم من لا يهمني أمره أبداً.... أنت اصطدت من فمي كلمة: ((رفيق)) وطوَّحت بها، اسمع من فضلك يا هذا.... القضية عندي لا تتجمع في وجود رفيق، أو افتقاري إليه، لأ... القضية تتركز في: وجودي أنا... سعادتي أنا.... بس، خلاص مع السلامة!
* * *
* كأنّ ((فارس)) بعد أن أعاد سماعة الهاتف: واصل تحديقه في وجه الزمان.. كأنه يناديه قائلاً:
ـ الناس يدورون حول زمانهم، والزمان يدور حولهم وبهم.
الناس يهاجرون كل ليلة - إما بأفكارهم، أو بأحلامهم، أو بطموحاتهم - إلى غبطة أسطورية، ويعودون كل نهار إلى: خوفهم الخرافي... يعودون في: ((لذة الصُّدْفة))!
وعندما كان ((فارس)) - في مشوار حياته - يعدو خلف الظلال: عاشقاً يطارد بسمة أو نسمة.. وعندما كان مرصوداً تحت نجمة أضاعت قمر ليلها الوحيد: كانت لحظات صمته مجروحة الأصداء، وكانت كلمات أشواقه: حبلى بالشجن.
كان يتمنى، ويتمنى... لعل صبابة تضيء مشاعر الآخرين.. وكان يهمس من داخله لكل دواخله، قائلاً:
ـ الحياة في واقعها: جدل طويل يفيض سأماً... وكلمات الناس النقية: طوتها التضاريس مع الغبار... ذلك أن الحياة: مناظرة مكشوفة، حافلة بالرُّغْم!!
وذلك هو حزن ((فارس))... وفي العَدْو خلف الظلال، والرصد تحت نجمة، والتمني المُلحّ على الثقة... فوجئ بتلك الكلمات النقية تنبعث من وراء الغبار وتضاريسه، وتحتضن حزنه، و ((سارة)).. لم تعد إليه تلك الليلة عبر الهاتف.
جاءت الليلة الأخرى.. بدايتها: حملت صوت ((سارة)):
ـ قالت: هل زعلت مني أمس.. أقصد هل أغضبتك، أم استفززتك كعادتي القديمة معك؟!
* قال: أنكرت الزعل معك.. لملمت الغضب وشكَّلته لأجعل منه فرحاً بعودة صوتك.. أما استفزازك فهو عادتك!
هذه الليلة.. فاجأها بمخاض جديد لأسلوب حواره معها.. وهي: لم تفاجئه باستغراقها المعهود معه في برودة ردّة الفعل.. لكنها فجَّرت في سمعه سؤالاً لم يتوقعه أبداً:
ـ قالت: أما زلت تحبني؟!
* قال: ليس ندمي، بل اعتزازي أن قلبي استعصى على التوبة من عشقه لك!
منحها شهادة انكسار قلبه في ابتعادها عنه... وقد غاب في فضاء العمر!
ولم ترد على سؤاله/ الإجابة... لكنَّ أمواج نفسها تلاطمت مختلطة بحزن نبرة صوته... وما زالت التفاتته صوب زمانها.
لعله تخيلها هذه الليلة من صوتها... وطفق يفرح، يفرح، يفرح.
ردد عبارة النفري: ((..... وأفرح، فإني لا أحب إلاّ الفرحان))!
ما زال اشتياقه لها: اختراق لكل محاولات نسيانه لها.
هي ((الأنثى)) القادرة - وحدها - أن تُنهض من بين ضلوعه: أشد خفقات قلبه وجيباً، ونداءً عليها!
* * *
* جاء صوتها - للمرة الثانية في ليلتين متعاقبتين - ليس هو.. نبرته مبعثرة، نبضها يختلج بالحزن.
أراد أن يقول لها همساً:
ـ ((هل تعلمين أن للنخيل أجفاناً؟!
فأية زوبعة اقتلعت جفن نخلتك))؟!
ولماذا تتركيني وحيداً في هذا التيه.. وأنت فراشة عمري البيضاء التي تأخذني دائماً إلى نبع الحب؟!
هل يصرخ الآن... ينسفح كأدمع أشواقه إليها؟!
لماذا - هي - تقول ولا تقول.. كلما حادثته؟!
كأنه في غموض محادثتها وسرها المكنون.. ترمي به إلى عالم مأخوذ بالغياب، وعليه أن يعيد اكتشافه... فهل تعتقد ((سارة)) أن في عمره بقية (طويلة) ليعيد اكتشافها من جديد؟!
هنا - في هذا العصر، أو في هذا العالم، أو في هذا الواقع - ظلام على دروب الحقيقة في اكتشاف الإنسان.. وهنا - أيضاً - بياض عظيم يتجلى في (القوة) التي جعلوها هي: معرفة هذا العصر، تصاحبها حرارة.. والأسباب التي يركض وراءها إنسان هذا العصر، أو يفتش عنها: تتركز في أنه ليست هناك وجهة نظر أخرى لغير القوة، حتى في العلاقات الإنسانية.. أو لم تعد هناك وجهة نظر أخرى يعترف بها الآخرون إلا وجهات نظرهم الذي قد (يَحْولّ)!!
إن ((فارس)).. يتعذب في أفكاره وتأملاته هذه.. ويتذكر عبارة العبثي ((بكيت)): الخيال مات... فتخيل!!
فهل مات الخيال؟!
ـ قال: كل شيء يتذبذب... كل شيء يهتز، فنحن نعيش في عالم: معبوث به!
بقي شيء غير مكنون.. إنها التجربة، مهما كانت: سامية أو سافلة.. لا بد أن يشعل الإنسان منها نقطة ضوء لحياته.
ويتلفت ((فارس)) حوله في المكان، في الجدار... يتذكر أن ((سارة)) أعادت الاتصال به هذه الليلة، وتسللت لتتركه في هذا الفراغ، وهي تعرف: أن لا امرأة غيرها: تملأه في هذا العمر، وتحشده، وتفجره!
خلخلته رعشة شديدة في كل بدنه.
يشعر باشتياق شديد إليها.. بضربات عنيفة من قلبه، وظمأ شقَّق شفتيه.
كفكف دمعة تسللت فوق خده، كم هي موحشة الحياة بدونها.
في زمن اللقاء الدافئ الذي كان يجمعهما معاً: اشتعل صهدها وصهده... كانت كل الأشياء طليقة بينهما، حتى عادت ((سارة)) فقيدتها بلا مبالاتها.
ما زال يحبها... فهي مفرداته التي يشكل منها عباراته المفيدة لعمره.
استلقى فوق سريره الوثير... كأنه ينعزل بوحدة روحه، ليفقد السؤال المنادى عليها.
تتجندل أحلامه كالعصافير المقتولة برصاص صياد نزق... وكل هذه ((الرؤى)) أضحت غربالاً في أوجاع العصر.
يبحث - كإنسان - عن ذلك النشيد الأروع في صدور الناس المنشغلين بصراع المادة، الذي تناسوا أصائلهم لكثر ما يتذكرون، و.... يفقدون!
وها هي أمسياته قد تعلمت: معنى الخرافة.. من أجراس ذهاب ((سارة)) وسفرها الدائم، ومدِّها وجزرها في حياته!
استرخي.. لعله يحقق ولو ذلك الحلم: أنه تركها ومشى.... بلا قلب.
لكنها - حتى في أحلامه - تطلع: خروجاً ساهراً عليه.
صار وقوفه وسط بحار الأسماك المكتظة حول شباك الصياد، ولم يعد له زمن خاص إلاَّ من زمنها هي!
ولأنها كثيراً ما كانت تخاطبه بأبيات شعر مما تحفظه حتى تجنَّ به... فقد ذكَّرته أصداؤها بصورة شعرية قرأتها ذات مساء عليه مترنمة بشاعرية بلند الحيدري:
ـ ((هذا أنا: ملقى... هناك حقيبتان
وخُطى تجوس على رصيف لا يعود إلى مكان من ألف ميناء: أصار.. وبناظري: ألف انتظار))!
* * *
* من ذلك الزمان/ الذكرى... حتى هذا الحاضر/ التذكر: يجري دمه مجنوناً لأنه (ضَعْف) إنسان كثيراً ما حشدت لحظات الفرح المؤقتة غروراً فيه.. ولأنه (قسوة) إنسان يقف عند النقطة الفاصلة ما بين خروج فصل ودخول ما بعده...يحاول الآن أن يكون: مواجهاً لما سيأتي في كل الأحوال والحالات حتى الموت، بدلاً من أن يكون ما سيأتي هو المواجه له!!
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1009  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 158 من 545
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور عبد الكريم محمود الخطيب

له أكثر من ثلاثين مؤلفاً، في التاريخ والأدب والقصة.