شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الفصل التاسع: يعيش ولا يحيا!
* ها هو ((فارس)) - بعد رحلة سارة في السنين، وبعد سفرها واستغراقها في الغياب - ما زال أمام البحر الذي يقذف الأصداف والوشل على بعد خطوات منه... يجلس وحده، تكويه جمرة اشتياقه لها، يشاهد أضواء الميناء الصفراء على البعد، وشلالات بيضاء من النافورة التي زرعت كفنار في عرض البحر... حضن يعانق ويلتقي، وذراع يُلوّح بالوداع، لعل في التلويحة وعد أخضر!
منذ سافرت ((سارة)) إلى عمق الغرب، لم تحاول أن تطفئ ظمأه إليها بصوتها إلاّ مرة واحدة، لتتركه يحاول دائماً معها.. يتصل بها عبر الهاتف فلا يجدها، ويبعث إليها برسائله عبر الفاكس/ أحدث وسيلة أسرع... وهي موغلة في صمتها، لم ترد عليه إلا مرَّات يعدها على أصابع يده الواحدة!
عيناه تبحران على امتداد النظر... تترقبان انبلاج وجهها.
أعماقه تحولت إلى ميناء إنساني، ما زال مضاءً رغم غارات الكراهية، وتكريس الحروب الصغيرة بين الأهل - كالحرب التي أشعلتها العراق ضد جارتها الكويت - وإخلاء الجرحي: جرحى الحرب، وجرحى النفس في عالم: الإنسان والنسيان!
فهل تراها: نسيت؟!
منذ تلك السنوات التي تعارفا فيها وتقاربا حتى الامتزاج. وهو يسكن أعماقها، وهي تجليه عنها، وحبه لها ينغل في وريده وهو يستعذب تأليمه!
لا... لم تَنْس سارة، لكنها صارت تعاني من حشود في أعماق نفسيتها، ومن التزاماتها نحو ابنها وتأمين مستقبله، ونحو ((واقعها)) وتحقيق الاستقلالية الآمنه له.
لكنَّ ((فارس)) في غيابها يشعر: أن الزمن في غربتها عنه، صار مجرد وقت يقطعه، ولا تنتهي الرحلة الصعبة... ما زالت هي في نفسه: مساحة العمر، في الفرح والترح.. في الابتسامة والدمعة، وفي غيابها عنه.. بقي يرضع من سحابة تُلوّح بالغيث ولا تمطر، كأنها سحابة من زجاج!
قام من جلسته أمام البحر، يجرّ خطواته المتثاقلة ميمماً نحو بيته، وهو يهمس لنفسه بما قاله الشاعر بشار:
ـ إن الفؤاد يرى... ما لا يرى النظر!
لقد تحبب إلى ((سارة)) منذ أحب نفسه.. كانت النظرة: صادقة حيناً، وكاذبة حيناً آخر... لكنَّ نظرة الفؤاد هي التي تبقى عميقة لأنها عريقة، لا تكذب وإنما تتكاذب أحياناً من وازع الاحترام.
خفَّت خطواته إلى جهاز ((الفاكس)) في اللحظة الأولى من دخوله إلى بيته.. تهللت أساريره وهو ((يلمح)) خطها، فقد اتزانه، ونسي أن يبدل ملابسه، التقط الورقة من الجهاز برفق خوفاً عليها من سقطوها.. وجلس يقرأ رسالتها، كأنه يصغي إلى صوتها:
* يا سيد الجميع:
سيدي: أنا ما نسيت، ولا بطَّلت، ولا خاصمت.. أنا قاعدة أقرأ وأعيد القراءة، وأفكر فيك وفي الدنيا!!
تقدر تسامحني... ممكن.. ممكن؟!
ممكن يعني تعذرني علشان ما رديت؟!
أكيد... ممكن!
أفكر فيك - وحدي - لا تشوش عليّ لو سمحت.. دع تفكيري فيك وعنك لي وحدي... مالك دعوة فيك... اتفقنا؟!
لا زلت أنا على قيد الحياة... الله يخليك، خليك إنت على ((قيدها)).. لازم واحد فينا يمسك فيها والا تخرب.. أليس كذلك)؟!!
كأنّ اليأس منها.. قد تحوّل الآن إلى أمل جديد في قدومها إليه، وقد اكتمل النضج الذي لا بديل له لكل ثماره وحقوله.
لم يصدق أنها تعود - ولو عبر رسالة قصيرة - وأنها تعلن عن بقائه في ذاكرتها، أو أن ذاكرتها لم تخن بياضه في عمقها!
يسترجع من الماضي صوتها.. أصداء لتلك العبارة التي خصته بها ذات مساء:
ـ (أنت ما زلت السر الوحيد المعلن.. في حياتي وفي حياتك)!
* سألها يومها: فهل أنت ضد هذا السر، أم معه؟!
ـ عادت إلى أسلوبها المعتاد معه.. تقول له: لا تصدقني، لا تصدق نفسك.. فكل هذا العالم يقوم اليوم على الكذب، والتزوير، والأقنعة.. على العمر المؤقت، والكلمة المؤقتة، و..... ربما على الخفقة المؤقتة أو العابرة، وبالأبيض والأسود... وهذه هي: ذاكرة خاتمة القرن العشرين!
يومها.. لم يرد عليها، استغرق في الصمت أو الإصغاء لها، وهو يتمنى أن تواصل إعلان الحقيقة الموجعة على الواقع البشع!
* * *
* ها هو يمشي: يتيماً منها.. يقطع منعطفات الأشياء المؤقتة: لحظة مؤقتة، ضحكة مؤقتة، فرحاً مؤقتاً... حتى الحب، صار الناس (يمارسونه) مؤقتاً، لذلك اختصرت دروب كثيرة إلى الجنس الذي يحدد تماماً في التفريغ بشكل عاجل ومؤقت!
كثير هي الرسائل التي كتبها إليها، ونادها فيها، ولكنه لم يبعث بها لأنه لا يعرف ساعي البريد الذي يمكنه أن يوصلها إليها دون أن يسرق منها دفء قلبه!
عاش على ((الحلم)).. حتى بلغ عنده إلى حد: الاجترار، فكيف لا يكون هو الجمل الظمآن في صحراء من الرمال السافية؟!
حتى الخيال: فقده.. وجلس يلملم قدراته، ويقف حارساً على ما تبقَّى له منها وعنها: الحلم... يخاف عليه أن يفسد هو الآخر، كما فسدت قيم أخرى ثمينه مثله.. كالضمير، والخُلق، والمودّة!
وهي بعيدة... ها هو يلملم - مع قدراته - الحزن المرغم على الضحك، ويرى هؤلاء المتعبين، ويسمع شجنهم.. تقضمهم هموم المعاناة اليومية وهي تزداد تعقيداً كلما ازدادت الحضارة تضخماً!
الكل - اليوم - صار يبحث عن (واسطة) يتقدم بها حتى إلى الفرح ليقبل به، وإلى الراحة لتحضنه، وإلى الحب ليظلله من هجير الحياة.
ها هو: يرفو عبارة الحزن المرغم على الضحك... بعد أن دخل في حياة الناس شيء لم يألفوه من قبل، وهو: الخوف... ومطلوب من الناس في واقعهم هذا: أن يرسموا الحب بالقلم ((الرصاص))، بشرط أن يعرضوا لوحة الحب، وكلمة الحب على (الرقيب)!
يشتاق هذه اللحظة أن يُقبِّل لؤلؤته.
على شرايين قلبه... يحبو إلى بهاء وجهها - في تخيله لها أمامه - ليقطف من بين شفتيها أجمل ابتسامة لم يشاهدها رسام الجيوكندا/ دافنشي على وجهها.
لا أحد يمرَّ من هنا..... هكذا يريد فارس في تخيله الجميل.
الكل يقف: متبتّلاً، خاشعاً.. يتأمل اللوحة/ هي ((سارة))، ويغرق مثله!
* * *
* سرعان ما أتى زمان جديد.. طلعت به كلماتها القصيرة في رسالتها عبر الفاكس... كأنها في هذه الرسالة: أطلقت لفتاتها، ونثرت ضحكتها.. وتساءل ((فارس)):
ـ ((ترى... هل هو زمان جديد... زماننا حتى الموت/ أنا وهي؟!
كيف نقسو على أنفسنا بإهدار زمان يطلع ملكاً لنا، ولا نتشبث به، بل نتجافى؟!
ما زال ((فارس)) يحفر صوته في قصائد ((سارة)).. كل كلمة تكتبها إليه هي: قصيدة.
استمزج أن يرد على رسالتها القصيرة/ المفاجأة... فكتب إليها:
* (يا سيدتي اللؤلؤة المصدوفة:
من أين بدأت الرحلة نحو اللحظة؟!
أين يصب جنونك: فرحاً، وشباباً ما زال، وتلاقى؟!
وأنا... أبحث عن صفصافة، لا تفقد ذاكرتها.. أكتب في فيئها قصيدة عشق وفيّ، وأمنحها من سريرتي: انتمائي للحب وللحزن!
فهل تتركيني أتخطى مسافات ظنونك وجنوني حتى أبلغ حدّ السيف.... ذلك الذي يحكم على خفقاتنا؟!
أريدك أن تطعميني حنانك، حتى أمنحك حقولي وغاباتي، وكل أنهاري وسنابلي.
آهٍ.. ما أبلغ تجذرك بين ضلوعي، فقد صرت كل السُّبُل.
آهٍٍ.. ما أقوى الحرمان منك عندما يرتدي دثار الالتزام المبذور في أيامك وأيامي الضائعة.
ألتقي بك كل ليلة فوق صارية سفينة الحب: (نعم... أنا ما بطَّلت).. أرجوك - إذن - أن لا تحبسي هذا الشجن المتدفق من بين ضلوعك.. دعيني أختلط برموشك ونظرتك، فأنا عاشق التفتح فيك.
يُتمي الحقيقي: حيت تغيبين، أو تقاطعين... أنت التي تطهرين نزفي وتغسلين روحي من أوشاب الحياة... وتعيدينني ذلك الإنسان: العاشق، المجنون، المتوتر، الفَرِح، الإنساني... فأي حلم يزهر في زمن: ((لا يمنحنا حق الإجابة))؟!
في غيابك... أمرُّ بقلبي فلا يكلمني.
آلمني خصام قلبي لي كثيراً، كثيراً.
تسرقني أحياناً تلافيف غيمة.. ورغم ذلك: أبحث عنك، أحمل ميراث أحزاني، ووحدتي ووجعي.
تدفعني رغبة قوية لأحدثك اليوم عن نفسي، وبماذا أحس في أيامي هذه؟!
ترى.. أية نفس تريدين أن أسلط عليها عدسة ((الزوم))... النفس التي تجمّع في أعماقها عشقي لك حتى الثمالة.. أم النفس التي تجمَّع حولها: العمر بهذا العراء فيه اليوم؟!
حسناً.. ((عبد الصبور/صلاح)) قال:
- (( الحب في هذا الزمان يا رفيقتي
كالحزن... لا يعيش إلا لحظة البكاء
أو.... لحظة الشبق!
الحب بالفطانة... اختنق))!
وما زلت باقٍ هنا على المفارق.. أحدثك عن شموس تشرق في المساء، ترسل قصائد لا مبرر لنشرها، أو مع الرقيب تداولها.. لأنها في حياتي هي: دمع الفجر، وعين السهر.. وهي صوت الغيد الحسان وهُنَّ يغنين: ((يا قمرنا يا مليح... شُدّ حصانك واستريح))!
قهقهي معي.. فقد صرت أستاف الـ ((دوماً))، وأغدو كحلقات الماء المتسعة بعد سقوط حجر صغير، وأحياناً أشعر أنني صارية وسط بحر متجمد!
في بعض الأوقات - مثل أي آدمي نتشارك معاً معاناة هذا الواقع - أضع حالتي النفسية على ما أسترجعه من ذكريات جميلة، وأطبعه طبعة جديدة.. كأنّ الحالة النفسية تحولت إلى متعة كربونية، فأشعر - حينذاك - بمتعة كربونية!
يبدو أنني (أعيش) الآن، ولكنني لا (أحيا)... أو أنني أعيش الأيام بواسطة زر.
ذهب الأصدقاء ورفقاء الحوار، وبقي رفقاء السمر... وهؤلاء ليست لديهم صفارة يدهشون بها هجوع المواني.
ذهب الأصدقاء.. دعستهم أنانية المصالح، فتنكروا حتى لأصداء الزمان.. فصرتُ ألزم غرفتي، وقد لا أرى الشارع إلاّ لماماً، مللاً من روتين الخروج إلى حيث يزداد الإنسان إحباطاً أو سأماً من التعود.
إنها المتعة الكربونية.. في هذه اللحظات التي تفترسني، ثم.... أبكي عليها بعد ذلك، لأنها - في الغالب - أرحم من القادم، ولست في هذا الشعور متشائماً، ولكن... يبدو أن ((سلفادور دالي)) الرسام السيريالزمي صادق في مقولته هذه: ((من الصعب الاحتفاظ باهتمام العالم أكثر من نصف ساعة))!
صراخي: يُشِّكل ولادات (صوت) الإنسان الدائم المحبط في أعماقي، وفي عالم يقف ضد ابتكار الأمنية، ويعمل على إفساد حلم الإنسان... لا بد أن أقف في وجه هذا العالم أو هذا الواقع، أقاوم الوجع، والقهر، والإحباط، والطغيان... لا بد أن أنتصر لرأيي، ولمبدئي، ولموقفي، ولو خرجت من رحم الصراخ والعذاب!
وأنا - بعد كل هذا الصراخ والعذاب - أجد عندي قدرة التخيل على منح النفس لكل الدروب المشعبة المكسوَّة بابتسامات الناس، ولكل المنطلقات الزاهية برفاهية السنابل، ولكل الطرق المضاءة بالنجوم المغسولة بالغيث... فكيف أفلح كل هذا التخيل في واقعٍ: صبَخه؟!
الجمال عندي هو: امتلاك الإنسان لحريته.. وحرية الإنسان في رؤيته هي: أبعاد الجمال.
والجمال عندي هو: الرحمة.. حتى لو كان يضيء بها وجه مليح، أو زهرة، أو جدول، أو قطرة مطر، أو انتشار الشفق، أو رقصة ساق وردة أخضر.
صار يبكيني اليوم: موقف بسيط جداً يحدث من عيني طفلة، عندما تنهرها أمها.
أو.... كأنني - في هذه المرحلة من العمر - صرت أواصل حركة الحياة بداخلي، أو حركتي بداخل الحياة.. بالدمعة، وفي حياتنا هناك من يستحق دمعتنا، وهناك من يقتلها، وهناك من يتعالى على دمعته... فيجف من العاطفة!
إن الدمعة.. ليست مجرد ((نقطة))، لكنها: رؤية، وبوح، وراحة، و.... ربما جموح أحياناً إلى درجة الرفض)!!
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :947  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 157 من 545
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذة الدكتورة عزيزة بنت عبد العزيز المانع

الأكاديمية والكاتبة والصحافية والأديبة المعروفة.