شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الفصل الثالث
(1)
وقف ((عادل)) أمام كرسيه في الطائرة يرتب الجلسة، ويضع حقيبته، ويخلع جاكيتته.. وفي التفاتته إلى الخلف، حيث الصف الأول من كراسي الطائرة لتحمل المضيفة جاكيتته: انفغر فاهه دهشة من هذه المفاجأة غير المتوقعة، والمثيرة.
شاهد صديقه، رفيقه في السفر، معلمه ((حسن)) وهو يضع حقيبته في رف الطائرة، وأخذ يحملق فيه حتى استدار نحوه، والتقى وجهاهما!
أخذت المفاجأة ((الشاطر حسن)) للوهلة الأولى، وكأنه شعر أنه فقد شطارته مع ((عادل)) للمرة الأولى.
بادر ((حسن)) صديقه المازال فاغر الفاه بقوله: رحلتي هذه مجرد عبور للقاهرة ففي فجر الغد سأسافر إلى أوربا.
ـ قال ((عادل)): كان الله في عونك.. شُغل طبعاً؟!
قال حسن: وأنت.. ماذا تفعل في القاهرة؟!
ـ قال ((عادل)): محبة.. أحب القاهرة، وأجواءها الثقافية والفنية، ولي أصدقاء كُثر فيها كما تعلم.
قال ((حسن)): أقصد أنك لم تأت من أجل امرأة ما؟!
قال ((عادل)): بلى... الرجل والمرأة، كلاهما لا يستغني عن الآخر.
أقلعت الطائرة.. وفي لحظات الإقلاع، من عادة ((عادل)) أن يغمض عينه، ويسترخي ويردد دعاء السفر.
وحين عادت حركة المضيفات والمضيفين إلى جوف الطائرة، إلتفت إلى صديقه ((حسن)) يريد أن يواصل الحوار معه، فرآه قد وضع مجموعة من الصحف، والمجلات، وجاكتته على المقعد الخالي بجواره، ولم يفسرها ((يعادل)) بأنه قصد ذلك حتى لا ينتقل بجانبه.. وحملت يداه صحيفة يومية كأنه يغطى بها وجهه كاملاً.
وطوال الرحلة من جدة إلى القاهرة.. قرر ((حسن)) أن يخفي وجهه عن صديقه بقراءة الصحف، ثم المجلات.
((عادل)) تحمله الأسئلة بكل ما فى الموقف من دهشة:
ـ لماذا يتعامل معي بهذا الأسلوب، حتى لو كنت جاراً له لم يعرفه فى المقعد، كان من الممكن أن يتحدث!!
غرق ((عادل)) فى الحيرة... فهو لايعرف أنه ارتكب خطأ بحق صديقه، ولا يسمح لأحد من كان أن يتحدث بما يسوءه فى غيبته، فكيف ((عادل)) بذاته؟!
تراه محرج من رحلته الغامضة التى سعى فيها إلى ((نوار)) دون أن يخبره حتى بعد عودته من مصر؟!
ولماذا يُحرج.. هل طعن صديقه فى ظهره؟!
يستبعد ((عادل)) أن تبلغ النذالة بصديقه إلى هذه الدرجة؟!
إذن... ماذا حدث، حتى صار كل هذا التبدل، وعبوس الوجه؟!
* * *
* يحاول عادل أن يجمع خيوط الشهرين الأخيرين الفارطين.. لم يختلفا على شئ أبداً.
أوه يا((عادل)).. كيف لم يختلفا؟!
إنه لايريد أن يعيد حتى إلى مخيلته تلك الحكايه/ الفضيحة لشخص من رجال الأعمال ((الممّلينين)) أراد أن يُقحم نفسه فى وسط المثقفين والأدب، وابتدع مناسبات، ورتب مواقف لا تحمل الا الإضرار بمثقف، أو بصحافى، أو بكاتب.
حكاية غثة، عندما يتذكرها ((عادل)) يثور قيلونه العصبي.. فرجل الأعمال ذاك، لم يكن بمعنى كلمة ((الرجل)).. أراد أن يوظف ((عادل)) باسم مشروع ثقافي للإعلام له، وإلقاء المزيد من الأضواء عليه هو، واستطاع أن يخدع ((عادل)) الذى صدقّه بكل حسن نية، أو بما يقال عنه: بكل رومانسية يصفه صديقه ((حسن)) في داخلها أو بها: أنه غبي، درويش، ساذج، أهبل!
وكل تلك الشتائم كان يتلقاها من صديقه ((حسن))، بعد أن تورط ((عادل)) مع ذلك المليونير المخادع في البدء بمشروع ثقافي ودفع ((عادل)) من لحمه الحر كما يقولون، ومما استدانه، والمليونير يماطل فيه، ويقتر في الدفع المتفق عليه!
كذبة قبيحة مما قامت عليه معاملات ذلك المليونير للناس... وتدخل ((حسن)) مع أصدقاء حميمين ((لعادل)) لدى ذلك المليونير، حتى انتزعوا ما دفعه وما استدانه من فم الثعلب.
بادر ((عادل)) - يومها - وانحنى لأصدقائه الحميمين على وقفتهم معه، بما فيهم ((حسن)).
لكنه فوجىء بصديقه، بعد مضى شهرين على تلك التجربة القاسية التى تعرض لها، يطلبه من بيته لأمر عاجل، وركض إلى ((حسن)) منزعجاً:
* قال له ((حسن)): إسمع.. لقد أنهيناً مشكلتك مع المليونير، أو بالأحرى:
أنا الذي أنهيتها، ولولاي ما كان صديقاك يقدران على إلزام ذلك المليونير بالدفع.
ـ قال ((عادل)): أقدر لك هذا، وقد أجزلت لك امتنانى في حينه.
* قال ((حسن)): ليس هذا هو الموضوع الذي طلبتك من أجله.. ولكن أريد أن ترافقني إلى منزل المليونير لتصالحه، فالرجل كان كريماً معك!
ـ قال ((عادل)): ربما كان كريماً معك أنت!
* قال ((حسن)): ماذا تقصد؟!
ـ قال ((عادل)): أقصد كريماً عندما قبل تدخلك، لكن هذا المليونير الثعلب جرحني كثيراً، وأمرضني، وأدخلت بسببه إلى الى المستشفى في حالة صحية قلق فيها أهلي عليّ.. وليس له عندي شيء لأذهب إليه، بل المفروض أن يأتى هو إليّ ليعتذر عن سفالته معى!
* قال ((حسن)): أنت مغرور.. لا تعرف مصلحة نفسك ولا كيف تكسب الرجال.
ـ قال ((عادل)): ربما من وجهة نظرك... لكن هذا الثعلب لم يكن رجلاً أبداً، لا معي، ولا مع كثير غيري).
* * *
ها هي الأصداء فى سمع ((عادل)) تختلط مع هدير الطائرة التى توشك على الهبوط فى مطار القاهرة، تراه - حسن - أخذ موقفاً بهذه القسوة على صداقتهما، وعلى محبة ((عادل)) له؟!
هبّ الركاب - كعادتهم - قبل أن تتوقف الطائرة تماماً.
حمل ((عادل)) حقيبته، وارتدى جاكتته، وجاء دوره للخروج من الطائرة.. وعيناه تبحثان عن صديقه ((الشاطر حسن))!
وفى امتداد المسافة من الطائرة إلى الصالة الرئيسية للمطار: لمح ((الشاطر حسن)) يركض أمامه كأنه يهرب من أحد يطرد وراءه.. دون أن يقول لصديقه ((عادل)) سوى كلمة المجاملهّ: ((حمداً لله على السلامة)) ثم اختفى من الطائرة!
وخرج ((عادل)) من دائرة الجوازات ليبحث عن حقيبته، فشاهد صديقه، رفيقه، ((حسن)) يدفع عربة حقيبته أمامه جرياً، ويخرج من المطار، دون أن يلتفت خلفه، ربما خوفاً من أن تأتي عيناه فى عينى ((عادل)) ويُحرج معه.. وربما ظن أن ((عادل)) يحتاج أن يوصله صديقه معه إلى الفندق الذي كانا دائماً يسكنان فيه، هو لا يعلم أن ((عادل)) فى هذه المرة غيَّر فندقه واستبدله بآخر ليتمكن من رؤية ((نوار)) بلا إحراج لها فى منطقة عملها!
في الطريق من المطار إلى الفندق.. لم يستطيع ((عادل)) أن يستعيد توازن عقله، ولا أفكاره.. مازالت الأسئلة تتغلغل في نفسه من هذا - الموقف العجيب الذي تصرف به ((حسن)) معه!
كان الضجيج من داخله يلف رأسه، ويقبض نفسه، ويقلّص أمعاءه... كأي مظلوم لا يدري الجرم الذي اتهم به!
طفا على حفافي نفسه.. ومازال الضجيج يفلسف حالته.
إحساسه بغربة صديقه عنه.. يزيد ألمه، ويلج به إلى دروب الحيرة، والصدمة، مبتعداً كثيراً - بهذا الموقف - عن استمرار حُسْن الظن في صديقه... كأنه كما يقول المثل الشعبي: ((آكل لحمة نيِّة)) ومنذ رأى ((عادل))شعر بوجع بطنه، وربما بوجع ضميره.
شاطت في تلافيف رأسه عبارة، قفزت من قراءاته القديمة، تقول:
((لا تحذرني من شئ، وانما قل لي: ما الذي أستطيع أن أفعله الآن))؟!
حقاً... ما الذي يستطيع أن يفعله الآن... فالحذر لم تعد له قيمة، لأن المحظور، وغير المتوقع وغير المصدّق قد حدث.
اللحظات تحركه من المطار إلى الفندق، كأنها: الأمواج تتقاذفه.
* * *
تناهى إليه صوت السائق يقول له:
ـ حمد لله ع السلامه يابيه... وصلنا.
دخل إلى الصالة الرئيسية كأنه ((مبرمج)) وأخذ مفتاح غرفته، ورمى نفسه على السرير، يكبح جماح دموع كالجمر، كان لابد أن تفر من حدقتيه ليرتاح قليلاً!
تقفز عبارة أخرى في ذهنه، يتذكر أنها من أقوال ((نيتشه)):
ـ ((إذا أساء إليك صديق، فقل له: إنني اغتفر لك جنايتك عليّ!
ولكن... هل يسعني أن أغفر لك ما جنيته أنت على نفسك بما فعلت))؟!!
تمنى فى تلك اللحظات من خروج النهار ودخول الليل أن تلمع هذه الدموع فى عينيه، حتى تتحول إلى ضوء يخرجه من هذا السرداب المعتم!
ـ ((نوار)).. لا بد أن أهاتفها فوراً فى بيتها، وقد طلبت مني ذلك.
جاءه الرد: أنها خرجت.. غير موجودة!
فهل أخبرها ((حسن)) بقدومه؟!
* * *
(2)
أسفر البحث بعدم العثور على ((نوار)) التي حرضته على القدوم، وألحت عليه، وزركشت له الأماني!
ترك ((عادل)) كل التزاماته، وأعماله في بلده، ولبى دعوة ((نوار)) فوراً. فهل دعته... لكي لا يجدها؟!
الغائب عذره معه... ربما جاءها ظرف طارئ من المفاجآت!
يريد أن يعرف فقط. لمجرد المعرفة ليطمئن عليها، أو.... ليرتاح!
اتصل بها في عملها بالفندق، أخبروه أن فترة عملها تبدأ من الصباح حتى الثالثة بعد الظهر، والآن.. الساعة الثامنة ليلا، وفي البيت ينكرون وجودها أيضاً.
بدأ يخاف من الانتظار.. لا، بل هو يخاف من: لحظة المعرفة، عندما يكتشف شيئا!
ساورته هواجس، وزوابع من القلق، و.... التوقع:
ـ هل..... ((حسن)) له دور في هذا الغياب؟!
هل.... حضوره معه على نفس الرحلة: كان مصادفة، أم ((فكرة ذكية)) من الشاطر؟!
هل..... تعلم ((نوار)) بحضور ((حسن)) أو أنها أخبرته بقدوم ((عادل))؟!
مرة قالت ((نوار)) لعادل)) إن صديقك ((حسن)) اتصل بي من جدة!
تمددت هواجسه في صدره، واستلقى على سرير الفندق مقيداً بذلك الانتظار المشفوع بالأمل:
لعلها تتصل بمجرد أن تعود الى بيتها.
شارفت الساعة منتصف الليل.
إعتورته لحظات من الضحك وحده كالمجنون. قال:
ـ حقاً... ماذا أنتظر؟!
كان السؤال صعباً، وحزيناً... فهل يضحك فى وجه السؤال، أو يعبس، أو..... ((يُطّنشه))؟!
كان يحلو له - فى لحظة الجنون هذه - أن يهب من فوق سريره، وينظر إلى وجهه فى المرأة... ليجد أن التعبير عليه عادياً، فى شكل إجابة:
ـ لا أعلم الآن - بعد منتصف الليل - ماذا أريد أن أنتظر؟!
قبل السؤال، والتعبير أو الإجابة، وقبل وصوله إلى القاهرة... حين كان يستعد للسفر، وبعد أن ربط الحزام فى الطائرة: كانت تنتصب فى أعصابه اللهفة... فهل باضت لهفته تلك هموماً الآن؟!
أراد أن يفكر، فأوهنه التعب... كانت حيرته: من أين يبدأ التفكير؟!
تعب، واسترخى عن التفكير.. وشردت به خواطره نحو غابات أفناها الحريق!!
وتراءت له بعض أفراحه، كأنها: استطاعة.. اعتسفها، فأدخلها بيت الطاعة!
أغمض عينيه وتأهب للنوم بعد أن قفز به الوقت والانتظار والأمل إلى ما بعد الساعة الثانية صباحاً.
ـ همس: الكثير من الناس يركز رؤيته للآخرين من خلال عدسة علاقاته الخاصة، خاصة تلك المتصالحة مع أهوائه، ومع الدخول فى عذوبة العواطف المتهمة دائماً.. مثل عاطفته!
لم يستطع أن يفهم ما حدث، والسر، والغموض، والصدمة... فالذي لا يجيد إلا لغة واحدة: يندق وعيه وينسحق تحت أول خطوة تدفع به إلى الهوة السحيقة!
* * *
أيقظه في الصباح: رنين الهاتف. كان صوت((نوار)) يبدد نومه، وكل قلق عليها... وبادرها ملهوفاً، يقول لها:
ـ أين أنت... معقول أن لا تتصلي بي طوال الليل، أو أنك لم تكوني في البيت؟!
* قالت: على مهلك.. كان عندي ظرف عائلي.... و....
ـ قاطعها: هل يمكننى أن أعرفه؟!
* قالت بصراحة: لا.. آسفة، المهم أننى عدت بعد الساعة الحادية عشرهّ مساء، وبالطبع توقعت أنك خرجت تسهر مع أصدقائك، أو.... ربما صديقاتك!!
ـ قال: حسناً.. لا تقلبى الموقف لصالحك، بدري عليك هذه الخطوة، لقد انتظرتك طوال الليل، حتى الثانية، ثم نمت.. وتعلمين أننى لم أحضر لأصدقائى، ولا... لصديقاتي، بل تركت كل شيء في بلدي، وطرت إليك.
* قالت ضاحكة: تعرف... صاحبك ((حسن)) هنا!
* قال ((عادل)): أعرف.. رأيته في الطائرة!
* قالت: لقد فوجئت به صباح هذا اليوم!
ـ قال: عجيب جداً، كنت أظنك تعلمين بقدومه.
* قالت: صدقني... كان قدومه مفاجأة لي.
ـ قال: مضطر أن أصدقك لأنني حريص أن أحتفظ بك.. المهم: متى نلتقي؟!
قالت: سأنهي ساعات عملي بعد الظهر، وسترانى حوالى الساعة السادسة مساء في بهو الفندق، لكنى سأحادثك قبل أن أخرج حتى أجدك أمامي.
إذن... فقد جددت ((نوار)) أمل ((عادل)) من جديد.
في حين اكتشف أن صديقه، قد كذب عليه عندما أخبره في الطائرة:
أن قدومه إلى القاهرة للعبور فقط إلى أوربا لمدة ليلة واحدة.. و ((نوار))
قالت: إنها التقت ((حسن)) فى صباح هذا اليوم قبل أن تحادث ((عادل))!
ـ قال: إني أشم رائحة شياط!!
* * *
رغم ذلك... فقد فرح بصوت ((نوار)) أراد أن ((يعبط)) تلك اللحظات التى تكلما فيها، ويغمض جفنه لمزيد من الحلم بها، ويخرج لسانه لعقربي الساعة البطيئين جداً.
ينظر إلى نفسه الآن... إنه يشعر بامتلاكه للدنيا ومن عليها فى هذه اللحظات.
ويبتسم، وأشياء كألوان الطيف تطوف بخيالاته.. ويقول:
ـ أين تبلغ الطائرة.. عندما تتابع فلك الامتداد للسماء؟!
إن الطائرة: تعود إلى نفس الخط الأول الذى انطلقت منه!
فهل سيكون ((عادل)) مثل الطائرة، ويعود إلى نفس الخط الأول الذى انطلق منه إلى ((نوار))؟!
ويعود التفكيرة فيعصف به.
أوغلت به مخاوفه المعادة حتى الصدأ عن ((توقيت)) تواجد ((الشاطر حسن))
وأذا اكتشف - فيما بعد - أن صديقه: قد سرق منه سندريلته هذه، واستطاع الاستنثار بها... فكيف سيواجه فجيعته هذه فى صديقه؟!
((نوار))، اتفقت مع ((عادل)) الذى صاغ لها الحب كنغم، وحدثها عن الحياة من جانبها الرومانسي بألوان قوس قزح... وطلبت منه أن يحضر فوراً إليها، وقد ضمنت هذا الرجل الموله بها ((عادل)) كأنه هذا الطير الذي حط على شجرتها ولن يطير، أو لن يرضى بشجرة بديلة عنها!
ولكنها حينما وجدت ((الشاطر حسن)) أمامها.. يلاعبها بخبرة الصياد الذى سينقض على فريسته دون أن تشعر به... فقد ترى في ((حسن)) هذا، بدعوته لها إلى أوربا وتفسيحها، وبمعرفتها لمستواه من ((عادل)).. إنه: النسر الذي يحلق بها... فماذا تريد إذن بالطير الضعيف؟
ولم ينفك من هذه الهواجس إلا بارتداء ملابسه، وخروجه ليفاجىء صديقه ((سيف)) في مكتبه بقدومه!
ـ قال له ((سيف)): معقولة.. ما هذه المفاجآت الجميلة؟!
* قال((عادل)): وحشتني... اشتقت إليك، والى ((أحمد)).
ـ ضحك ((سيف)) وقال: بكاش.. اطلع من دول وصارحني بسبب الزيارة، وهل تكون المهمة العاجلة ((نوار))؟!
* قال ((عادل)): كانت ((نوار)) حتى وصلت الفندق، ثم أصبحت المهمة: البحث عن نوار حتى صباح اليوم... وتبقى حتى إشعار آخر: إكتشاف سر ((نوار والشاطر حسن))!
ـ قال سيف: حدوته دي؟!
* قال ((عادل)): أكبر من الحدوته، وأكثر بُعداً من الخوف، وأكثر غوراً من المحيط!
ـ قال ((سيف)): ياساتر... يابني أنت تجلب المتاعب لنفسك اعمل مثلى، ودع شعارك ((كُل فطير.. وطير))!
* قال ((عادل)): مشكلتي ليست في الأكل... فالنعاج كثيرة، مثلما خرفان الذئاب أكثر... مشكلتي في حياتي كلها: اكتشاف الإنسان.. وهذه ((المرأة، كمخلوق رقيق، أشعر بها تغمرني بالحنان، وتغرس الزهور في حدائق أيامي.. لم أشك في أنها: لبوءة ولا نعجة، ولا.... مجرد جنس، بل هي - في تقديري - لها: الإنسان، ونصفي الآخر، وأمي وأختي، وحبيبتي، وأبنتي!
ـ قال ((سيف)): أنت حتخطب يا بني... قوم ناكل لنا لقمة، فأنا لم أفطر.
قال ((عادل)): إنها معاناة الإنسان في حصيلة الانطباع، ومن خلال التجربة.
ـ قال ((سيف)): أحياناً.. يأتي موقف واحد يفسد كل تجارب العمر، ويرميها كالنفايات.
* قال ((عادل)): للذئاب والحملان.. الحمار والحصان.. الغيوم والمطر... حياة عجيبة.
ـ قال ((سيف)): استمر فى هذيانك حتى نصل إلى المطعم!
* * *
(3)
لم تتصل ((نوار))، في المساء، ولم تحضر أيضاً. كان ((عادل))، قد عاد إلى الفندق في الخامسة عصراً، ولم يبرحه إلا بعد الحادية عشرة... وقد أمضه الانتظار، وكلما رن هاتفه التقطه بلهفة.. ظانا أنها ((نوار)).
لكن ((نوار)) صارت - كما تخيل عادل - مثل ((سندريللا)) التي خطفتها الجنية. وأعادتها إلى بيتها.. وقد تركت له حذاءها... وقد كان حذاء ((نوار)) له: وعدها!
ـ هل اقتنص ((الشاطر حسن)) ضعف ((نوار)) أمام المادة.. فاستطاع أن يصادرها من صديقه و تلميذه ويجّيرها - كالشيك - لحسابه؟!
إن ((نوار)) في حياة ((حسن)) لن تكون أكثر من شيك كتبته له المصادفة، وحُسن نية صديقه ((عادل)) فبادر إلى صرفه في بنك المتعة، والتسلية ((بنوار))، لأن ((حسن)) في كثير من حواراته، كان يؤكد لصديقه ((عادل)) فيقول له:
ـ (أنت يا أهبل... ليس هناك شيء اسمه حب، ووله، ودموع.. نحن في عصر الحقائق والمعلومة!
سأله ((عادل)) حتى في المشاعر... فكيف تلغي التخيل، والحلم، والانتظار؟!
ـ قال: رومانسية يا بني.. والله ماراح تفلح)!
* * *
* من ملامح شخصية صديقه، ((حسن)): إنه يفشل دائماً فى الوصول إلى امرأة، ليس عندها ذلك الضعف الشديد والحاد أمام المادة... وأنه - أيضاً - يستحلي المرأة التى تميل إلى واحد من أصدقائه (!!).. ولذلك كان صيده، أو فريسته: من النساء الضعيفات أمام بريق المادة، أو من النساء (الفَضْله)!
فهل يصبح ((الشاطر حسن)) هو: الشيطان، أو ((راسبوتين))؟!
أما شخصية ((عادل)).. فقد توهجت بالرومانسية التي يعتبرها صديقه مصدر خسارة لصاحبها، ومحط سخرية الرجال العمليين من أمثاله!
و ((عادل)) فى تجارب حياته الإنسانية، كان يستميل إليه المرأة برومانسيته... وقد فقد البعض منهن، لأنه لم يتحول إلى صياد لهن من مدرسة ومنهج ((الشاطر حسن))!
وهناك شريحة ثالثة من الرجال: تستميل المرأة إليها باقتحام فكرها.. إذا كانت امرأة مثقفة!
* (قالت له صديقته سارة فى حوار بينهما ذات يوم: أن الرجل الذي يمكن أن يغزو قلب المرأة التي تحترم نفسها - وما أقلهن فى زمن المادة.
ـ لا بد أن يتحقق له النجاح عبر فكرها، فهي ليست سلعة، وليست مومساً، وليست لاهية تبتغي المتعة المؤقتة فقط.. إن لها منهجها، وأفكارها، ورؤيتها للحياة التي تربت عليها عاطفتها)!
لعل ((عادل)) تمنى فى هذه اللحظات المريرة من انتظاره لهاتف ((نوار)):
أن تتسم شفافية روحه بما سمّاه العلماء بـ (التخاطر).. فتنتقل أفكاره وخفقاته، وقلقه، إلى ((نوار)) حتى تحس بالنار التى أشعلتها في صدره، وتركته يحترق بها!
ابتسم وهو يتذكر: كيف انشغل وسط مثقفي وفناني مصر فى بدء الثمانينيات بلعبة تحضير الأرواح بالسلة!
فهل يأتي بسلة الآن، ويحضر ((نوار)) و ((حسن))؟!
ولكن... هل يقتصر تحضير الأرواح للأموات فقط، أم للأحياء أيضاً.. أم للأحياء الذين ماتوا في قلوب من كانوا يحبونهم؟!
هل يحدث له الآن: أن يتوقع شيئاً ويتخيله، ثم يراه أمامه حقيقة، في شيء مما أطلق عليه علماء النفس ((الباراسيكلوجى)) أو ما وراء علم النفس، أو ذلك التخاطر؟!
يتذكر (عادل) في سرحته هذه: قصيدة للشاعر ((كولريديج)) التي قال فيها:
- ((ماذا لو أخذتك سنَة من النوم؟
وماذا لو حلمت أنك ترقى إلى السماء..
إلى مكان عالي به جنة من الزهور؟
وماذا لو قطفت منها زهرة..
ثم استيقظ من نومك..
لتجد الزهرة بين أصابعك))؟!
- ((مجنون ياعمى... الله يلطف بعقلك))!
سرت هذه العبارة في أرجاء نفس ((عادل))، ولكنه ابتسم لها، وهو حزين. إنه يجلس الآن في موقع العاجز الذي أحبطته الصدمة عن فعل أي شيء!
إنه يتعذب من داخله، ومعاناة الانتظار تتمدد في نفسه لتشمل كل شيء فيه!
صار يخاف من مفاجأة هذا الانتظار... إنه لايريد أن يصطدم بموقف صديقه ((حسن)) منه، حين تتأكد ظنونه الآن أو هواجسه عن سبب قدومه إلى القاهرة، أو حتى مروره بها.
لو اتضحت هذه الظنون في معنى الحقيقة... فهو لن يفقد صديقه فقط، بل يخاف أكثر: أن تهتز ثقته في الآخرين، لأن ((حسن)) في اعتبار ((عادل)) يأتى في آخر من (يستحيل) أن يشك فيه، أو في وفائه له، أو فى استئمانه على أسراره.. فهو يعرف أن صديقه ((حسق)) سيجد له المبرر بحججه أمامه، بطريقة المثل الشعبي: (خذوهم بالصوت،لايغلبوكم).. فسوف يأخذ ((حسن)) صديقه بالصوت.. ويقول له بأسلوبه المعتاد:
ـ يا مغفل... لقد مددت جسر التعرف مع ((نوارك))، لأعرف خلفياتها ولأعلمك كيف تتعامل معها، بعد أن اكتشف شخصيتها!!
وتشيع على وجه ((عادل)) ابتسامة حزينة أكثر مما هى ساخرة!
حقاً... اندفاع ((نوار)) إلى ((حسن)) بأطماعها المادية: ليس إعجاباً بشخصية ((حسن))، لأنه عملي ومادي.. فلا بد أن ينكشف أمام المرأة.. فإذا كانت مثله، فإنها تستثمر هذه اللعبة لصالحها.
إن ((نوار)) أهدت إلى ((عادل)) حقيقة عظيمة عنها، وعن ((حسن))... فهي - بالركض مع ((حسن)) بعيداً عنه - أنقذت ((عادل)) من نفسها الطامعة فى المال أو المادة، وجعلته يعرفها على حقيقتها.. وكشفت له أيضاً: فصلاً آخر جديداً من السيناريو الذي يمارسه ((حسن)) كمنهج له!
* * *
وطال انتظار ((عادل)) لهاتف ((نوار)).. أكثر من خمسة أيام، وهو لم يفقد الأمل فى اتصالها، خاصة بعد سفر ((حسن)) بالتأكيد، فهو لايبقى فى القاهرة إلا ثلاثة أيام فى أكثر مايجلس.
كان من الممكن أن تتصل - بعد سفر ((حسن)) - لمجرد التبرير لـ ((عادل)) عن أسباب اختفائها!
فى اليوم السادس له فى القاهرة، طلب من صديق رافقه في رحلته هذه أن يحمل كل الهدايا التي اختارها بدقة لتفرح بها ((نوار))، ويذهب بها إليها فى مقر عملها!
قال ((عادل)) لصديقه: هل وجدتها.. تسلمت هي بنفسها مجموعة الهدايا؟!
ـ أجابه صديقه نعم.. وطلبت مني أن أشكرك بشدة، وسألت عنك، فأخبرتها أنك في فندقك، وتفكر في السفر.
ومضت الأيام بطيئة مملة.. و عادل، بدأ يمل من الانتظار.
في يوم رحيله.. اتصل هاتفيا بمنزل ((نوار))، وردت عليه والدتها، وكانت فرصة ثمينة أن يقول لها:
ـ سيدتى.. أودعكم في أمان الله، فأنا ذاهب الآن إلى المطار، وأرجو إبلاغ ((نوار)) امتنانى الشديد على حفاوتها الرائعة والمؤثرة بي، منذ أن قدمت إلى القاهرة بطلب منها، ولا حاجة لي هنا إلاّ رؤيتها، وأن أكون بقربها... شكراً على هذا الكرم الذي لن أنساه))!
وأقفل سماعة الهاتف، ولم ينتظر رداً، لأنه يتصور رد الفعل لدى والدة ((نوار)).. خاصة إذا كانت - كما أخبرته ((نوار)) مرة - تعرف كل شيء، لأن ابنتها لا تخفي عنها ما تعيشه أو ما يصادفها في حياتها!
* * *
وفي اليوم التالى لعودته إلى بلده.. كتب إلى ((نوار)) هذه السطور:
ـ أيتها الفتاة السندريللا: حذاؤك.. عدت به من عندك، وسأحتفظ بة ليذكرني بك، بعد أن أنساك.. فتصوري أن يتذكر رجل امرأة بحذائها؟!
وإذا كنت تحبين الشعر، كما قلت لى مراراً، فإننى أهديك من أجمل قصائد شاعركم الرائع المجمور بخيانة المرأة ((كامل الشناوي)) التي قال فيها:
- ((كوني كما تبغين.. لكن، لن تكوني
فأنا. صنعتك من هواي، ومن جنوني
ولقد برئت من الهوى، ومن الجنون))!!
أيتها المليحة في خمار الكذب الأسود:
عدت من كذبتك، وأنا شديد القناعة بأن الإنسان يقبل على الأشياء التي تبدو جاهزة على سطح الحياة.. لأنه يريد أن يلتهمها، يستنزفها.. يدور حولها، ويلهث، ويتضخم، ثم... ينكمش، وتعتريه حالات من: التفاني، والامتصاص العجيبة، ثم... القاتلة أحياناً!!
سأقول لك حقيقة قد تنفعك فى مستقبل حياتك، وأنت مازلت فى مقتبل العمر: إن الإنسان بعد الأخذ والامتلاك يعترف، أو يتحجج بأن ما أخذه جاهزاً، لم يكن أكثر من شيء رخيص!!
لست أريد هنا من كلامي: الإسقاط على موقفك ضدي مع ((الشاطر حسن))، أو موقفه ضدي معك... إنى سعيد جداً: أن تعرت أمامي أشياؤكما لينكشف الوجه القبيح للمادة!
ولست ألومك - صدقيني - ولا حتى ألوم صديقي ((الشاطر حسن))... كل اللوم يا صغيرتي لا بد أن نصبّه على ((الخطأ)) بأسباب استنباته فى حياتنا!
* * *
(4)
عاد ((عادل)) إلى جدة، مكسوراً.. في صدره قبر ردمه، بعد أن لحد فيه جثمان حبه لتلك السندريللا، وقبر آخر مازال مفتوحاً... ويخاف أن يودع فيه جثمان صداقة ويهيل عليه التراب!
رغم كل ما حدث... تريّث في إصدار حكم الموت على صداقته لمعلمه، رفيقه، أنيسه مستشاره، حكيمه: ((حسن)).. قرر أن يُشرع فرصة أخيرة للتأكيد، أو للنفي، وفي قرارة نفسه كان يتمنى أن تكون الحصيلة التي عاد بها من القاهرة عن صديقه: لا أكثر من هواجس. أو ظنون، أو أضغاث أحلام!
فجيعة.. أن تتأكد لديه: لعبة ((حسن)) مع ((نوار))، وضده!
وفرحة.. أن يثبت ((حسن)) لصديقه ((عادل)) نفي هذه اللعبة عنه.. وأن تكون محصورة في ((نوار)) ققط!
اتصل بصديقته ((سارة)) بعد عودته بيومين.. سألته:
ـ طمئنني.. ماهى الأخبار، استمتعت وتجولت بالسيارة الجديدة. أنت تقودها والسندريللا بجانبك؟!
تصدقي.. لم ألتق ((نوار)) إطلاقاً، ولم أسمع صوتها إلا مرة واحدة، ثم.. اختفت!
ـ عجيب... كيف تلح عليك في الحضور إليها،وتبثك أشواقها، و.... لا تراها؟!
وتْصدقي شيئاً آخر؟!
ـ ها... ماذا أيضاً، لقد أحزنتني؟!
* لقد رأيت صديقي ((الشاطر حسن)) فى الطائرة التي أقلتني إلى القاهرة!
ـ كيف؟!... لحظة من فضلك، من الأول!
روى ((عادل، الحكاية كاملة، و((سارة)) تصغي وتقاطعه أحياناً لتوضيح موقف أو أبعاد كلمة.. حتى سألها فى انتهائه من الحكاية:
ـ تفتكري.. إن ((الشاطر حسن)) خلف هذا التغيير لدى ((نوار)) وقد تحادثت معها ليلة سفري إليها، وكانت سعيدة بالخبر، وألمحت إليّ أنها تُعدَ لي برنامجاً نستمتع فيه معاً بأيام جميلة؟!
* قالت ((سارة)): الحياة يا صديقي تقوم على العرض والطلب... ((نوارك)) لها مطالب، وربما صديقك قدّم عرضاً سخياً!
ـ قال ((عادل)): حتى وهو يعرف حكايتي معها من بين شفتيّ؟!
* قالت ((سارة)): أنت لاتريد أن تظلمه، حتى يتأكد لك ظنك أو نفيه كما تقول!
ـ قال ((عادل)): أذكر مضمون رسالة كنت بعثت بها إلى صديقي ((الشاطر حسن)) قبل شهور، أي قبل أن يظهر إسم ((نوار)) فى واقعى، وفى مكوكية ((الشاطر حسن)) للقاهرة.. وكنت أعاني يومها من ميله إلى جانب ذلك ((المليونير الشاطر)) ضدى، ومحاولاته العديدة أن يرغمنى لاصطحابي إلى صديقه المليونير، كأننى أعتذر منه على ما ارتكبه فى حقي.. وكان من المفروض أن يصطحب هو المليونير إلى بيتي، ليخفف - على الأقل - مما فعله بي، وما سببه من آلام نفسية فظيعة... هذا المخلوق: قاهر كل من يملك موهبة!
* قالت ((سارة)): لا بد أن تضع الجميع أمامك حتى لاتنسى تجريحهم لك بطيبة قلبك.
سمعت عن ذلك ((المليونير الشاطر))، الذي يخدع من يتعامل معه، حتى البنوك يخدعها... إنه يدفع الإنسان الذي يصطاده إلى الحلم البعيد، حتى يظن أن حلمه صار واقعاً جديداً له، يُحسن به مصدر رزقه ومعاشه!
ـ قال ((عادل)): لقد تسلل إلى مجتمع المثقفين، والصحافة والأدب.. وأوهم الجميع بأنه النصير لهم الذي يفكر في مصلحتهم وفي الارتقاء بهم مادياً.. فأخذت البعض سنَة من أحلامه، وجعل البعض من هؤلاء يمسك النجوم، ويضع للقمر مكياجاً.. يصرف ما في الجيب انتقالاً إلى الحياة الجديدة التي وعده بها ذلك ((المليونير الشاطر)) وهل يؤمل الكاتب ما في غيب ((المليونير الشاطر))، مما يمنيه به، ويخدعه، ثم يخذله ويتخلى عنه في غمضة عين؟!
قالت ((سارة)): نعم... إنه يجيد بيع الحلم للآخرين، ثم يفسد لهم هذا الحلم، أو يسرقه!
هذا المليونير - يا صديقى - لا أكثر من ((دلاَّل)) تنتهي صفقاته في ربع ساعة، فيعاني بعد اتمام الصفقة من الفراغ.. تتوقف تليفوناته، فيفكر بذكائه أن يُجمع حوله هؤلاء المثقفين والأدباء والصحافيين ليصيد عدة عصافير بحجر واحد.. وهو عندما يصرف (500) ألف في ليلة واحدة، يبخل ان يعطى لكاتب أجر عرقه، ربما خمسة ألاف ريال.. وهو عندما يستعين بواحد من هؤلاء الذين ينسج لهم الحلم ثم يسرقه، ويشغلهم شهوراً للدعاية له، في مقابل بيعهم الحلم بمبلغ يساوي ربع النصف المليون، تكلفة أقل منحته إنشغالاً عدة شهور... فإنه بذلك يشتري انتباه كل المجتمع له!
ـ قال ((عادل)): بدأنا الحديث عن ((الشاطر حسن)) فإذا بنا نسهب في التعريف بأبعاد شخصية شاطر آخر، هو المليونير سارق الأحلام!
قالت ((سارة)): أنت تعرف الكثير عن ((الشاطر حسن)) الذي عرفت من حوارك عنه: انه يُشعر المرأة بمناصرته لها، وهوخلفها يطعنها.
ـ قال ((عادل)): لا عليك منه... فهو من شعاراته التي يرددها: ((على الرجل ألاّ يثق بامرأة))!.. لكن هذا الرجل بحق: يعتبر مدرسة، فهو ذكي جداً، أخذ الحياة بمنطقية المادة.. لايضن على أصدقائه وخلصائه، ولا يبخل بآرائه ومشورته لهم، ويغرس في نفوس أتباعه:
رغبة ((خذ وجرّب.. ولا تعطى إن استطعت، والجزاء من جنس العمل)!
له تلامذة يتابعون منهجه، أنا واحد منهم، جعلهم يحللون الحياة برؤيته، وحاول أن يُدخل فى انطباع البعض منا أن نظرة الرجل إلى المرأة لابد أن يراها وكأنها ((إيرما لا دوس))!
ولكي أنصف هذا الرجل.. فهو صادق النصح لأصدقائه وتلامذته، ولكن نصحه يأتي فى إطار منهجه، وقناعاته، ورؤيته للأشياء.. ويريد من هؤلاءكلهم أن يعتنقوا ما يوصله إلى عقولهم، وحتى إلى عواطفهم!
* قالت ((سارة)): دعنا من صديقك ((الشاطر حسن)) لننطلق إلى البعد الأشمل لهذه الشريحة الإنسانية أو البشرية.. والملامح تقوم هنا على المعادلة بين: الخير والشر.. بين الفضيلة والرذيلة.. وفى رأيي أن الحياة تقف على نقيضين غالباً: الشر ضرورة لانتصار الخير.. الرذيلة تدفع العلماء والمصلحين إلى الدفاع عن الفضيلة وتثبيتها.
هذه هي الحياة.. والإنسان الذي معدنه من الخير ينتصر على الشر فى النهاية، والرذيلة موجودة من أجل أن تبرز الفضيلة والعفة.. فإذا كان الإنسان يحرص على سلوك الفضيلة، سيتمسك، أكثر عندما يطلع على الرذيلة!
ـ قال ((عادل)): تعيدينني إلى ما قدمه بعض الروائيين من شرائح إنسانية وبشرية والبعض: قدّم نفسه، مثل ((محمد شكري)) فى الخبز الحافي، الذى استخدم الكلمات البذيئة والتعيسة، ليعلن عن صورة الرذيلة من خلال أدب ذاتي لمصلحة الإنسان.. وكأنه بذلك يقتل نفسه
أو ينتحر!
* قالت ((سارة)): عندك ((طه حسين)) فى كتابه المعروف الذي أحدث ضجة حين صدوره عن ((الشعر الجاهلي)).. أعتبره أنه قدم خدمة للحقيقة عندما يكتب أديب بهذا الحجم رأيا خاطئاً، أو خارجاً على الحقيقة،. فهوقد فكّر بصوت عالٍ، جعل الأزهر وعلماء الدين يتصدون لخطئه ويفندونه ويدحضونه بالحقيقة!
وطه حسين - بكل عظمته - يحسب له وليس عليه، لأنه فجّر خطأ فى رأسه، ليكتب العلماء الحقيقة والصواب... وهكذا نجد أناساً يسقطون في لحظة ضعف - بطبيعة البشر - ليمارسوا الخطأ أو يقولوه... ثم يدافعون عنه بمغالاة الذين يركبون رؤوسهم!
ـ قال ((عادل)): بَسْ بَسْ.. خلاص ((ياسارة))، تعبت.. سأحدثك في الغد!
* * *
اختلطت في رأس ((عادل)) ثلاث صور، الأولى: لصديقه ((الشاطر حسن))، وصورة للخادع الأعظم لعفويته ولصدقه: ((المليونير الشاطر سارق الأحلام)) و ((الطينة من العجينة، والخباز واحد))!.. وصورة لصديقته المخلصة: ((سارة))!
عادت بعض الصور تنثال عليه:
(مازال ((المليونير الشاطر)) يوظف جزءاً ضئيلاً/ قروشاً من أمواله في الإعلام عن تواجده اجتماعيا، وأدبياً... ويصّم سمعه عن دعوات البعض له بأن يوجه جزءاً بسيطاً من أعماله الأكثر ربحاً: لمساعدة المحتاجين والأسر الفقيرة التي لا تسأل الناس إلحافاً.. ولدعم بعض المشروعات الخيرية... فلا يلبي!
وصف نفسه في لقاء صحافي معه أنه: مثقف، لأنه قارئ جيد، وهذا تعريف مالي للمثقف، أو تعريف موظف لمن يريد الدخول إلى زمرة المثقفين.
وما زال ((الشاطر حسن)) يمزق بالظنون فيه ما تبقى من حسن الظن.
وما زالت السندريللا ((نوار)) في صدمتها العنيفة له.. هي هذه الأنثى التي تنطبق عليها صورة الشاعر ((كامل الشناوي)) في قصيدته ((لا تكذبي)): هو الذي صنعها من هواه ومن جنونه!
وما زالت ((سارة)) صديقته التي قامت علاقة كل واحد منهما بالآخر على قاعدة الصداقة الأنقى التي تخلو من الغرائز... وكأن كل واحد منهما قد أدمن الآخر، او هو المناسب للآخر فى زمن الصداقات التى أخفت تترمد.
قالت له ((سارة)) فى حوار سابق معه عن صديقه ((الشاطر حسن)): إن هذا الرجل البارع والذكي.. يصطاد فى الماء الصافي وليس في العكر... لذلك فهو يرى بوضوح تام حتى ما تحت أعماق الماء.. ولذلك - أيضاً - فهوناجح فى اقتناص لآلىء هذه الأعماق!
قال ((عادل)): نعم.. ((حسن)) هذا: يشكل سعادة لمن يحظى بمعرفته بالفعل، وكلما كانت معرفة الآخر به أقدم... فإن هذا الآخر سيتخرج من مدرسته، ليكون واحداً من اثنين: إما من الطيبين الأبرار، أو من الطالحين الأشرار)!
وأخلد ((عادل)) للنوم.. ليرى ماذا يمكنه أن يفعل فى صباح الغد.
* * *
(5)
* في هذا الصباح الجديد، بعد مضى أكثر من عشرة أيام على عودته... يشعر الآن وكأنه يشبه ذلك الذي صعد أعلى قمة في العالم ولم يهبط، وأيضاً لم يعد يخاف أن يهوي من هذه القمة... أو كأنه: جحا الذي حمل الحمار على كتفيه حتى لا يقول الناس عنه: إنّ قلبه كالحجر!
تمر لحظات بـ ((عادل)) يحس فيها بالزهد، والاكتفاء، وحصر الرغبة في ((دولاب))...
وتبدو أمانيه - في لحظات أخرى - كأن لها قدم طفل في سنة خطواته الأولى، مازالت أحلامه لازوردية، وعندما تطلع عليها الشمس: تبهت، أو ((تفسخ))!
حتى مشاريعه لما تبقّى من مستقبل له، لا يدري كم مسافة ما سيعيشه فيه.. هى مشاريع تنقسم إلى فئتين: مشاريع أو أمنيات، لم يعد يقدر على تحقيقها، أو على المحاربة من أجلها.. ومشاريع: يحكها، ويخرجها من أصابع قدميه.. لكثرة ما ركض، وتعثر، وتعب وشمخ، وناضل من أجل فكرته دفاعاً عن مبدئه.
ويرفع ((عادل)) رأسه في فجر النهار، فيرى سماء زرقاء صافية، أصفى من قلوب الكثير من البشر اليوم.. ممتدة لا نهائية، أرحب من صدور البشر الذين صاروا يضيقون حتى بأبسط الاشياء التي لا تخصهم!
يضحك ((عادل)) في هذه اللحظات.. كأنه يتطلع إلى نفسه وحوله، يتوق من قلبه أن يردد بصوت عبد الوهاب القديم: (انسى الدنيا وريح بالك).. لكنه لا يستطيع،، يمنعه انشغاله بالناس فى داخله، وانشغال الناس بغيرهم فى داخلهم.
يريد أن يسترجع ويحتضن تلك الأشياء الحميمة التي افتقدها الناس فى هجمة الماديات، ومن أهمها: الضمير، والصدق، والحلم الذي لم يُغدر به، والنقاء.
يريد الآن: أن يتمدد، ويتمطى، ويهرب من حرارة الشمس القادمة، ويدخل إلى حنان الأمسيات الهامسة.. يشرب أشعة القمر فترتوي بالضوء بعد أن تكثفت العتمة بين ضلوع الإنسان.
يريد أن ينوح على ((ذكرى)) الإنسان الطيب، والمحب، والأكثر وداً.
و.... يحك ((عادل)) رأسه، كأنه يفكر في شىء مهم.. وكأن شعرات هذا الرأس تحتوي على إدارة كاملة لتشغيل (العاطلين) عن العمل فى ذات إنسان هذا الزمان.. والعاطلون عن العمل فى أيامنا هذه: القلوب، والضمير، والحب، والوفاء!
يبتسم - بعد كل هذه الهواجس أو الخواطر - وما زالت الأفكار تلح عليه، وتحاوره!
يهمس بعد أن حبسه الصراخ.. عندما أصبح الافتراض: إلزامياً وعفوياً فى وقت واحد.. فيقول لنفسه:
ـ إن الشروط العقلية المرهقة.. تتمثل في: أن يفكر الإنسان جيداً، حتى لا يعيد أو يجير حماقاته كلها إلى: الضرورة... التى قال عنها الأقدمون: (للضرورة أحكام)!
الآن: الحب ضرورى فى زمن واقعى جدا إلى درجة الغرق فى مادياته.. والحرب ضرورية فى زمن البغضاء، والتمزق النفسى داخل أمة واحدة.. والتغيير ضرورى فى كثافة الأشياء المدجّنة، والأشياء الراكدة كالماء الآسن وقد تخطاها التطور..والبغضاء: أضرت بضروريات الإنسان!
* يعود ((عادل)) إلى تأثير رسالة كتبها لـ ((نوار)) بعد عودته الأولى من عندها، يوم كانت تلح عليه أن لا يتوقف أبدا عن الكتابة إليها.. يومها كتب لها:
ـ نوار: في تلك اللحظة الوداعية الفراغية، حين أزف موعد سفري من عندك عائدا إلى وطني.. كانت يدي الممدودة بدفء الذكرى: أغلى خفقة من قلبي الموجوع باحترافك لقسوتك معي!
كوني، أو لا تكوني..
كوني اللحظة التى أريد.
اللحظة: العمر، الاحساس، الامتلاء، العطاء..
أريدك اللحظه/ الغيث.. وكلمة العشق الدائمة، تلك التي نضعها بين قوسين ضيقين.. حتى لا تضيع الكلمة في فلسفة الانتظار)!
* * *
((ها هو ((عادل)) الآن: إنسان هذه المرحلة من ثمالة القرن العشرين في زحام ما سموه: العالم الثالث، أو النامي.. الفقير إلى الحضارة وليس إلى المادة، والفقير إلى الوضوح في التعامل.. إنه إنسان: يعيش، لكنه لا يحيا.. والفرق كبير بين الكلمتين!
يشعر اليوم بشيء ينقصه.. يريده ويبحث عنه.. ينتشله من هذا الفراغ النفسي، من (العادي) الذي يتحول: ساماً!
في عمقه الإنسان: يريد ((عادل)) امتلاك الإحساس بإنسانيته، وبأفكاره.. لا بغرائزه ومادياته.. كأنه هذه البحيرة الساكنة: جميلة، ولكنها لا تتبدل، لا تتفرع، لا تصب في الزرع.
الناس في هذه المرحلة يعيشون السالب بعد أن عطلوا الموجب.. ولذلك صارت الحياة عادية إلى درجة الاختناق، والخوف يشيع فيها وحولها!!
وها هو((عادل)) - كأي فرد على امتداد وطنه العربي الكبير - صار: يتوقع، ولكنه لا يحصل!
- للحلم للطعون - إنه يشعر أيضا: كأن الأشواق صارت حراساً على الإنسان اليوم.. لكن أشواق ((عادل)) - كما يحسها - هي: الموجب.. هى كلماته، وقراءاته، وإبداعاته، ونداءات روحه، وحركة الإنسان فى أعماقه... وهي: صوت جروحه، وهي: ((تخيل ((ضحكاته، وهي إصغاء اللقاء الدائم فى سريرته.
ـ يقول ((عادل)) فى حواره مع نفسة: الأشواق صارت قضية في عالم اليوم.. لأنها: ريح الحنايا التي جعلتني أردد كلمة لفنان قال فيها:
((ما تهمنى الريح المناسبة..
وهل لمن لا يعرف وجهته أن يراقب الريح))؟!
إن ((عادل)) بلحظات التأمل هذه يحاول أن يرسم بالألوان: إشراقة الحب فى عتمة خيانة البشر، وفى سأم الحياة... هذه الحياة التى يركض الناس فيها إلى (مدن واسعة الحيلة).. حيث تتراكض الأشياء، والاحداث.. ومعهما الناس.
ويشاهد الناس أنفسهم من خلال مرآة أشيائهم، ورغباتهم، وطموحاتهم.. وكيف تتحول كلها إلى منظر عادي كإعلانات الشوارع عن فيلم جنسى قذر، مر على عرضه، واستمرار هذا العرض: عام كامل!
هكذا يبصر ((عادل)) كيف يعايش قومة العرب - من المحيط إلى الخليج - تلك المدن العالمية المؤثرة، التي تبدو (واسعة الحيلة)؟!
وكيف يعايشون أيضاً: اعتيادهم.. بكل التحديق، وبمنتهى السخف، وهم يمارسون بكل إصرار أنانيتهم، وخوفهم؟!!
يفتش الآن عن لحظة فرح.. وهويلهث فى هذا العدو الطويل والمتواصل على دروب الحياة.. وهو يغري حشاشة العمر، حتى يبلغ تلك اللحظة التى يبوح فيها، ويشتاق بحرية الإنسان فيه.
ويفتش من وقت طال به الأنتظار له.. عن: لحظة معرفة لماحة كومض البرق، تضيئها: خفقة عشق صادقة فى قلبي حبيبين لا يكذب أحدهما على الآخر، ولا يخاف من الأعين التى تتلصص على الحب.. حينما تغمر ظلال الأنانية الضلوع... وتُشعل تلك اللحظة أيضا: صرخة حق، حينما يغمر ظلام الخوف نفس الإنسان، ويتراكم الصدأ على الجوانب!
* * *
تأخذ هذه الخواطر ((عادل)) إلى رغبة في الابتسام.
يبتسم الآن... بعد هذا الرماد الذي غطى توهج نيران أضلعه.
إنه حفي بالإنسان في أعماقه.. يرش بالحنين، وبالتأمل: هذه المسافة ما بين القلب والوعي، وما بين الارتواء والعطش، وما بين العثور والفقد!!
في حالاته العادية أو الاعتيادية.. يشعر: أن السأم هو ((الزهق)).. حتى صار يخاف من هذا ((العادي))، ويحس أنه يقتله!
ويخاف من الكلمة التي يتداولها الناس اليوم بكثرة، وهي: (أحياناً).. حتى أوصلها الناس إلى وريدهم.
فهل أصبح الخوف في حياة الناس: غالباً أم من الأشياء العادية؟!
والبعض - مما يتناهى إلى سمع عادل في المجالس التي يرتادها على قلة ما يرتاد - أخذوا يرددون كلمات أكبر من حجم أفعالهم، أو مسئولياتهم!
الكثير: يريد أن يكون هو وحده ((القلة)) المميزة في كل المجتمع.
ويشير ((عادل)) في تأملاته هذه إلى المحور في رؤية الناس الآن.. وهي رؤية تشكل خطورة!
وأضنى ((عادل)) هذا التأمل الحاد، والكثيف.. لما يعيشه، ولما يحسه، ولما يسِّور حياته من كل جانب.. ولم يحاول أن يمنع دمعة ساخنة من الانزلاق على خده، ليغمض عينيه بعدها، و... يصمت!!
انطلق ((عادل)) بعيداً عن كل أشياء العمر الملموسة، يفتش عن بعض الأشياء المحسوسة التي فقد هذا الجيل الإحساس بها.
كانت المناسبة ذات شبه بمعنى كلمة: ((ما أشبه الليلة بالبارحة)).
وكان يعبر شارعاً رئيسياً فى مدينة جدة، منطلقاً بخواطره، فى سيارة صديقه الذي يرافقه إلى دعوة عشاء أمام البحر، في ((كابينة)) للاسترخاء مع نهاية الأسبوع.
بادأة صديقه ((فؤاد))، فقال:
حديثك مجروح، ينز بالوجد، ويقطّر التعقل مثل قطرة الدواء!
قال ((عادل)) ضاحكاً: من فضلك.. أبعدني عن تشبيهات الأطباء، أنا ناقص يعني؟!
قال ((فؤاد)): كأنك تعاني، وأنا صاحبك أعرفك.
في المقعد الخلفي كان يتكئ صديقهما ((مالك)) يفسر الأمور بضحكة ساخرة.
((مالك)): له فلسفة فى مواجهة المواقف، ويقول لهما:
أولا: لا بد أن نمتلك القدرة على التحديد، وعلى التنظيم، وعلى تحاشى اختلاط الأشياء بعضها بالبعض الآخر.
* قال له ((فؤاد)) ضاحكاً: هل تنظم مكتبا إدارياً؟!.. الرجل يئن!
قال ((مالك)): لازم له أن يئن، وإلا ما أصبح قادراً على جعل السر حلماً، والحلم سراً في الواقع.. بمعنى أنه ما زال صامداً، ينأى بحلمه الجميل عن واقعية الحياة المادية!
قال ((فؤاد)): ومن منا اليوم قادر على الاحتفاظ بالحلم الجميل الذي تتحدث عنه؟!
صديقنا ((عادل)) يردد دائما على مسامعنا قوله: إن أحلامنا فسدت، وقد أفسدها هؤلاء الذين يسرقون أحلام البسطاء ويبيعون أحلام المتفائلين للخديعة غالباً!
ـ قال مالك: إذن... هل نئد أحلامنا، ونتوقف عن الأفراح عنها من داخلنا؟!
قال ((عادل)): الحلم في عصور الظلام، والرقيق، وشراسة الاستعمار.. كان مزهواً في صدور الناس، رغم كل في ذلك القهر.. شىء كالصهيل كان، وكان الإنسان مصلوباً على الحزن، أو في انتظار ((الأمثل)) في الأقسى والأسوأ!
إذن... لا شىء يستمر على حاله للأبد، نحن ندير وجوهنا للبحر الآن، ولكن البحر لا يرانا، ولا يسمع أصواتنا... مجرد الإحساس بأن البحر يمنح الراحة والأمل.. مثلما هو يكرس الخوف من غدره!
ـ قال ((فؤاد)): كارثة أن يفقد هذا الجيل قدرته على الإحساس!
قال ((مالك)): خلاص.. استمر يا أخ عادل في الأنين بلا حنين!
ـ قال ((فؤاد)): أنت يا ((عادل)) حزين، وكأنك غارق في فوضى منظمة! ضحك ((عادل)) وقال: حلوة الفوضى المنظمة... ربما أصبح العالم يعيش ما وصفته بالفوضى المنظمة، ولكنى أظنه: تنظيماً فوضوياً.. وبدون التلاعب بالألفاظ، أعود إلى تلك الأمنية عن الناس: بأن تتضح الرؤية في الإصرار على نسج الحب، والوفاء، والعدل، والضمير!
ـ قال ((مالك)): وإذا كانت الرؤية مشوشة عند الكثير، فكيف نربط بين ما يصب في أحاسيسنا وما ينبعث من عقولنا، و... ينفلت منا؟!
قال ((عادل)): فى الغالب.. ماذكرته هو عمق الحزن لدى أية أمة.. والعرب اليوم يحاولون معالجة الأحزان - لا الحزن الواحد - بتجريب القفز فوقه!
ـ قال ((فؤاد)): وكأنك تلمح إلى أن المواطن العربى يشعر الآن وكأن دروبه عمياء، وأن الحياة تحولت إلى مأساة، وأنه لا بد من الوقوف للتلفت وإعادة النظر في كثير مما اقتحم حياته، أو طرأ عليها، أو أفسدها!
قال ((عادل)): في رأيى.. أن الأخطر الذى يمارس ضد الإنسان العربى يتمثل فى طعن أحلامه، أو إفساد حلمه الخاص... سواء ما يرتبط بالأزمات الاقتصادية، وسقوط الكثير في الفقر، أو البطالة أو غياب الضمير.. أو ما يرتبط بجفاف المشاعر، حتى كأن هذا الإنسان العربي قد نسي عواطفه، أو جمدها، أو... ربما باع عواطفه لاحتياجاته، وهذا هو الأخطر!
* * *
أمام البحر.. إنسلخ ((عادل)) من أصداء أصوات أصدقائه، كأنه يبحر على امتداد صفحة البحر إلى عمق الليل، والى المجهول والأصداء التي تغطى أصوات أصدقائه، وهى تنبعث من أعماقه.
وكان لا بد له أن يقف وجه ((نوار)) أمامه... ولا يدري كيف اختلط وجهها فجأة في هذا الشرود بوجه ((الأنثى)) التي صورها ((كولن ويلسون))، وأجرى حواراً بينها وبينه، أو بيين أنثى ورجل يحبها:
ـ قالت الأنثى: لقد رهنت نفسى للخوف!
وبدهشة سألها الرجل العاشق لها: كيف؟!
ـ قالت: في حياة الإنسان اكتشاف أول يفكر فيه بعيداً جداً عما يعانى، أو ما يحب.. واكتشاف آخر: يشعر فيه أن تفكيره ذلك ما يلبث أن يضطرب.. وهكذا يعيش الإنسان بين التفكير، ثم اضطراب التفكير!
* قال لها: وهل تعتقد سيدتى أنه يوجد لكل شىء حل بعد التفكير واضطرابه... حتى للخوف من الفجيعة، أو الخوف من الموت؟!
ـ قالت: إن أكثر الحلول التي يستخدمها العالم.. ليست عادلة للإنسان)!
* * *
((هذا المساء.. تتقاذف لحظاته: أفكاره، ورعشة أضلعه.. كأن رمزاً حبيساً في صدره قد غادر هذا الصدر.. والأصوات في سمعه أصداؤها حتى لم يعد يفهم شيئاً مما يبلغ أذنيه.. أو كأنها أصوات من الماضى الذي يصر أن يطغى على المعايشة أو الواقع.
تُرى... هل يمكن أن تتضاءل المشاعر، حتى تبدو في حجم الأقزام؟!
بكل تأكيد.. لا دخل لخلخلة الموازين، بل... ربما هى الشروخ التى تتسع، وتقوض المعنى في داخل الإنسان!
متعب ((عادل)) الآن... ما زال يعانى من صلب الانتظار!
متعب من الأسئلة المتلاحقة التي تفترسه كلما كان وحده مع نفسه.
كان يصمت.. فتقشِّر صمته ضحكة ((نوار)) الطفولية... وكأنه أمامها يقف على مفارق الزمان... على مفارق الكلام!
ها هو ((عادل)) الآن: يتصدق الخرافات والأساطير.. كالذي يستوحي من حكايات الجدات عن: الوفاء، والجذور، و.... عرق الكادحين!
إنه لا يخلط الآن بين المشاعر والموازين، ولا بين خفقة القلب، وصرخة العقل، ولا بين إرادة الأمم وهوانها.. لكنه يحاول أن ينفي عن زمنه هذا: الثقة في الأساطير، وحتى الانتظار لعودة الحلم.. الأساطير: لا أكثر من حكايات وحواشٍ على حفافي الوقت.. فلا يمر دون أن نصدق فيه شيئاً!
ويشده رجع ضحكة ((نوار))، ويقول كأنه يهمس في أذن البحر:
ـ الرجْع حقيقى.. هو: دهر من الأيام، وحقبة من التحديق في هذا العبور الدائم الذي يمارسه الناس فى المشاعر، والهموم.. فوق جسور - بمجرد الانتقال منها إلى جسور أخرى.. فلا يقدر العابرون أن يتلفتوا إلى الخلف لئلا يسقطون من الدوار على الأقل!
* * *
((فى السيارة من البحر إلى بيته، لم يقل كلمة واحدة، سأله صديقه المحب له! فؤاد)):
ـ هل كبس ((السليق)) على معدتك.. أم أغرقك البحر، وابتلعت أمواجه صوتك؟!
سأله ((مالك)) معقباً: هل التجربة العاطفية، أم الصدمة.. هي التي تدوم أصداؤها فى النفس؟ !
ـ قال ((عادل)): أحياناً... تصبح التجربة سقوطاً فى العجز!
وعاد إلى صمته.، حتى بلغ باب البيت، وفى نظرات ((فؤاد)) قلق على صديقه، سأله وهو يودعه:
* هل أنت بخير؟!
ـ قال ((عادل)): لا تخف.. سأنام فوراً!
لكنه لم يستطع النوم، قام إلى أوراقه، وكتب... كأنه يخاطب بهمس حنون سمع ((نوار)):
* ((الآن... صرت أوكد ما كنت أردده: أن الذى ننتظره لا يأتى!
هأنذا.. خلف الليل، وأسئلتى، وندائى عليك.. محاولا أن أطرح تعبي.
أعماقي: ترقص بأنغام تلك الرقصة الهندية القديمة ((إيروسكا))، ومعناها: - النار تشتعل بين جوانحى - ولا تحسّبن أنت بهذا الطير الذي يرقص مذبوحاً من الألم!
كنت متفائلاً بك جداً..أبتكر مع إطلالة صباحك، وفنجان قهوتك: وجهاً للأمل، وبسمة لما تبقى من غدي، وفوزاً بالدخول إلى بهاء عاصمتك الإنسانية!
لم أعد أحتمل أن أسالك الآن...
لكنى - في بُعدي عنك - أهزك بعنف، لتتولى أنت إيقاظ خفقي من إغماءته فيك.. ومن استغراقي في تعب أسطوري!
كنت أبحث عن حنانك... بدون أن تتردد كلماتي في إعلانه.
وكنت أبحث عن خطرك... فالإحساس بلا خطر يصبح معاملة واهمة، تمارس اليوم في عالم الناس.
خطر العصر الآن - ياصغيرتى - أخذ يتشح بطقوس القرون الوسطى.. يجعلنا مشاهدين فقط نلهث خلف فصول رواية عنيفة، لا نعرف نهاية أحداثها، ونعجز أن نشارك في صنع أحداثها!
إن بعض ما نراه: لا نحياه... لأنه صار أكثر من تمثيل بارع))!
* * *
أطفأ ضوء الغرفة لينام... فكأنه أطفأ ثمالة شمعة في نزعها الأخير!
* * *
(7)
فى هدأة الليل.. كان غبار الأرض يختلط بغبار نفسه. ويغطيا سماء المدينة وسماء النفس.. ويتحول لون السماء الأزرق الصافي إلى لون أحمر مشوش بالأتربة.. ويتحول مزاج ((عادل)) الرائق، ونفسه الهادئة إلى: مزاج مكتئب. ونفس قلقة ومتوترة.
ـ تساءل ((عادل)) فى منتصف ليله: ولماذا هذا كله؟ !
علماء الأرصاد يقولون: إن المنخفض الجوي قدم من مكان ما - يحددونه - هو الذى أثار هذا الغبار!
ولماذا لا يكون ((مرتفعاً)) جوياً؟!
وهواجس ((عادل)) من داخله تقول: إن الانخفاض فى معدلات الصدق، والوفاء، والوضوح.. هو الذى كثف هذا الغبار فى نفسه!
وفي هذا المناخ الجوي والنفسي، كان لا بد أن ينهض ((عادل)) ويتأكد أن زجاج النوافذ مغلقاً، وأسدل الستائر على النوافذ وعلى أفكاره التي آلمته!
ـ يارب... بعد هذا الغبار الأحمر، يهطل المطر!
مدينة ((جدة)) تعانى من شح الأمطار، حتى في الأشهر التي تنعم فيها بقية المدن والمناطق برحمة المطر، تبقى ((جدة)): عطشى، جافة.. يثير الزوابع فيها هذا الغبار الأحمر ويرتقب الناس المطر، فلا ينزل! كان ((عادل)) يسمع جدته لأبيه تقول فى احتياج كهذا:
من أفعال الناس يا ولدى... لا ينزل المطر، ولا يرحمنا ربنا بالغيث!
ترى... لو بقيت ((جدته)) يسمع إلى هذا الوقت التي حدثت فيه المتغيرات في كل شىء، حتى في نفوس الناس.. ماذا كانت ستقول، أو تبرر؟!
أفعال الناس في زمن الأجداد والآباء: كانت محدودة في مطالب صغيرة، وبسيطة جداً.
وأفعال الناس في زماننا الطباشيري هذا: صارت بلا حدود، ولا كوابح.. الاحتياج يملى على الناس، والإنانية، والعنف، والتفكك النفسي والأسري، والنزغ في الأفكار من تأثير الحيرة، وفقدان الثقة.
فهل تسح السماء فجأءة، وتسكب المزن، أو الغيث.. لترتوي الأرض، وترتوي نفسه أيضاً مما ينعكس على النفس؟!
جهاز ((التكييف)) يهدر في غرفته، وبرودته ضئيلة.
حرارة في المناخ، وحرارة في نفسه.
استرخى، وفتح التلفاز.. ليشاهد ما تقذفه المحطات الفضائية العربية إلى ((وعي)) وعقل، ووجدان، وتعب: الإنسان العربي.
يحب أن يتفرج على الإعلانات، وتابع إعلاناً، وآخر.. وتذكر ((نوار)):
هل استثمرت وساطة ((عادل)) لها عند ذلك المخرج، و... أصبحت (فتاة إعلان) كما تمنت؟!
تجول ((بالريموت)) على عدة محطات.. كانت تقدم أشياء مملة، همس:
ـ نعود للإعلانات... أحلى!
فجأة... هذه هى ((نوار)):
((واللّهى.... بالله))؟!
تبدو ((نوار)) مشرقة، وأكثر جاذبية!
ـ ((طبعاً يا عم... كيلو المكياج، وعشرات الإضاءات، والكاميرات... شىء يجنن، عال، عال.. والله ونجَحْت يا بنت، مبروك يا أجمل كاذبة، وأحلى خادعة، وأذكى مستغلة))!
حتى الآن... هذه ((نوار)) قد كذبت، وخدعت، واستغلت ((عادل)) حتى العظم... فماذا فعلت مع المخرج ((عصام)) أو ماذا فعل بها (؟!).. ومع ((الشاطر حسن))؟!
في منتصف عرض الإعلان، رنّ الهاتف، جاءه صوت صديقه ((فلاح)) من البعيد:
ـ إفتح بسرعة القناة المصرية الثانية.
* فاتح يا سيدي.. إن شاء الله مرسي، خلاص، هوينا خلينا نتفرج!
ـ كده... إستغنيت ((بلقطة)) يا مفتري؟!
* قاطعه: ((ها... حنلبخ؟.. أنا أمزح معك... وهل أطيق الاستغناء عن صديقي، مدماكي في اللحظات العصيبة، أتركنا من الاستفزاز، شايف البنت؟!
ـ والله طالعه زي القمر... ثمرة وساطتك يا بيه!
* أسقى الشجرة، ويأكل غيري الثمرة!
ـ يعنى إيه... كنت حتعملها وتتزوج السندريللا، اللوليتا؟!
((مش القصد!... يعنى أصوم كل هذا العمر بلا زواج، وافطر على أعلانات... طيب مش حلوه علشاني))؟!
ـ صحيح بالمناسبة: هل ألغيت فكرة الزواج نهائياً.. ما هي الحكاية، هل تعاهدت مع أحد، والتزمت بعهدك، و.... خانك ذلك الأحد؟!
يا شيخ أتكلم في شيء مفيد.. تفتكر بعد هذا السن، أفكر فى الزواج؟ ومتى سأربي ((زغب الحواصل)) وهل يربيهم شخص أخر يلعن سنسفيل اللي خلفهم فى تربته؟!
ـ والله.. أنت صعبان عليّ!
* خلاص... إبحث لي عن عروسة!
ـ ممكن... لكنى أعرف ذوقك ومزاجبك، أنت رجل صعب فى اختيار الجمال.
* لا بأس... إذن، دعونى يا أصدقائي مع ((بنات أفكاري)) كفاية شقاوتهم معي!
رن جرس الهاتف من جديد، قال ((عادل)):
ـ الليلة دى.. ماراح تنتهى... آلو.
جاءه صوت صديقه ((غنام)) يغني منبعثاً في هدآة الليل كصوت الضفدعة.
قال له ((عادل)) ها... ماذا تريد أنت أيضا؟!
ـ قال ((غنام)): سلامتك، وكبر عمامتك، القناة الثانية تفرح قلبك.. إلا أخبرني أيها الهمام: متى صارت ((نوار، فتاة إعلان، ومن أوصلها إلى هناك؟!
قال عادل: يا عم ((غنام)).. والله أنت رجل طيب، وميال دائماً إلى إعطاء الناس ما يستحقونه... أفلا تكون((نوار)) في رأيك: ممن يستحقونه؟!
ـ قال ((غنام)): حبيت أواسيك، أو أشجيك، أو.... تتوجع!
في مساء اليوم التالي.. حكى بالهاتف لصديقه ((علي)) الذي يتابع معه حكاية ((نوار)) على البعد، ودون أن يعرف شكلها.. أخبره عن مفاجأته بالاعلان.
ـ قال ((علي)): تكلم يا ((عادل))... أنت في حاجة أن تبوح الآن، ((فضفض)).
أحدثك الآن، أنت حارس بوابة أحلامى... تعرف كل الذين يتناثرون في حقولي خلف بوابة أحلامي، و... أستغلك أحيانا لمعرفة أعماق امراة، أليست الحياة تقوم اليوم على الاستغلال؟!
ـ حسناً.. سأفوتها لك، لكن... استمر، كلامك حلو.
أحياناً أفكر في حياتي.. في ما تبقى من عمري الذي لا أعرفه، ولا أريد أن أعرفه، والمهم أمنيتى تتحقق: ((أن أموت واقفا كالأشجار))، كما قال شاعر عالمي.
وحين أفكر في حياتي هذه، والسؤال الذي يطاردني من نفسي ومن الناس:
ـ لماذا لا تتزوج... لماذا لم تتزوج حتى الآن؟؟!
أحس أن هذا السؤال المزدوج يشكل في حياتى: إدانة لجانب من حريتي الشخصية... رفض تحمل مسؤولية زوجة، وأطفال، وبيت، برغم حبي الشديد للأطفال.... لكني ((فنان)) مجنون، يطلق عقلي أحياناً فأتمرد على كل شيء، حتى على نفسي.. فكيف أوثق نفسي بهذه السلسلة؟!
* كأنك بوصفك هذا لشخصيتك.. لا تحب الحياة؟!
ـ نحن لا نحب الحياة، بل نحب من في الحياة.
وانحدرت دمعة من عينى ((عادل))، وتهدج صوته.... وغاب في الصمت.
أخذ صوت ((علي)) يتردد في الهاتف: ألو... ألو.
* بعد دقائق.. أجابه ((عادل)) يضحك: بلاش أغمك يا صديقي... ما رأيك لو دعيتك إلى زيارة حديقة الحيوان الكبيرة، أي مكان في العالم؟!
لماذا حديقة الحيوان بالذات.
* لنخرج من الهم والغم البشري... ونفرح بمخلوقات أخرى من الحيوانات الأكثر إنسانية من الإنسان!!
ـ ما رأيك لو تقفل التلفاز، وتضع موسيقى هادئة، لعلك تنام؟!
على رأيك... فأنا مازلت أفتش عن النغم الذي يضيع كلما أجده، أو عندما أجده... فالنغم فى جوانحى هو: خرافة الفرح، ولا يمكنني أن أفهم النغم إلا حينما أستلقي ووجهي يتطلع إلى رأس شجرة، بعد أن تفقد الشجرة ظلها!!
ـ وبعدين معاك، تعني ستنام فى حديقة بيتك؟!
* ليس شرطاً... أتخيل الشجرة عند رأسي، ناحية الرأس!
ـ لا.. بلغت مرحلة الهدرشة، كل هذا من ((فتاة الإعلانات))؟!
* أبداً... ربما بسبب الإعلان ذاته، وقد كانت ((نوار، تعلن عن: أحذية جديدة، عندما تلبسها لا يسمع الناس خطوتك... تصلح للحرامية، وهي كذلك!!
ـ لقد أخرجتني من ((نوار))، إلى الإعلانات، إلى الحياة، إلى النغم، إلى الأشجار والأحدية وفلسفتهما!
* جميعهم... أشياء مترابطة، لإثبات حضارة عقلك وعقلي، ومدنية أرواحنا (الحداثية)، وقدرتنا على الانتماء المتجذر في زماننا (! !)... تصبح على خير.
* * *
إذن... نجحت ((نوار)) ووجدت فرصتها أخيراً.
ها هي ((فتاة إعلان)) متالقة، مشرقة البسمة، كما شاهدها.. وكما أرادت أو تمنت!
وها هو((عادل)).. قد حجمته السندريللا، فجعلته: لا أكثر من حامل الكاميرا الذي يأمره المخرج بالتنقل بها من زاوية إلى أخرى!
لتهنأ ((نوار)) اليوم بهذه الفلاشات التي تظهر جمالها للمشاهد وتضيف عليه: لمعة كذب المكياج!
كانت ((نوار)) تبدو أجمل من حقيقتها في الإعلان... لكن هذه اللمعة لا تغمط أن ((نوار)) جميلة وملفتة.. وإلا ما كان للمخرج أن بختارها فوراً!!
يرَن جرس الهاتف في مطلع نهار ((عادل)) فيأتيه صوت الدكتور ((غنام)):
ـ حبيبي... إشتقت إليك.
أهلا بالرجل الخفي.. يا أخي تعبت في البحث عنك، أخبرونى إنك ذهبت إلى القاهرة عدة مرات، ما هو أصل الحكاية، أما الحكاية.. فأنا أعرفها؟ !
ـ مقهقهاً كعادته: الله يكافيك يا شيخ.. والله كان عندي شغل، المهم.. أبحث عنك وأريد أن أراك فعندي ما نتكلم فيه معاً حول حواراتك وكتبك.
الدكتور ((غنام)) شخص يتصف فى نواياه بالطيبة الشديدة، ويحرص على التمسك بأصدقائه، بل هو يركض وراءهم، ويدين غيابهم عنه.
في داخله انتماء للطيبة، برغم عصبيته التي تصبح عنيفة أحياناً إلى درجة الصراخ، لكنه ما يلبث أن يهدأ أو يبرد، وتعود ضحكته تجلجل فى مساحة صراخه الغاضب!
((غنام)): أكاديمي، ينكب على المطالعة، والبحث، والتنقيب عن الكتب الجديدة، وله رؤيته فى تطور الإعلام عالمياً.. ويطلق عليه صديقه ((عادل)) صفة: الأكاديمي ((النباش))، فهو ينبش فى كل شيء.. وهو ناقد لا ينتمي لموجة الحداثة، بل يناوئ أنصارها.
قال ((غنام)): يستهويني أسلوبك الملتزم أو المصرّ على الرومانسية التي ينظر إليها هؤلاء المناوئون: على أنها سادت ثم بادت، ولكن الإنسان فى حرائق هذا العصر وقلقه، هو في أشد الحاجة إليها.. وأحب رموزك التي يفهمها البعض تحديداً في المرأة، وأعرف أنك في ما ترمز إليه أكثر شمولاً من هذا الحصر.
ـ قال ((عادل)): ما نعيشه حتى على مستوى الفكر والتفكير شيء يتخذ معنى أو سلوك: التعالي، ولا بد أن نأسف لضياع ((عقل)) فى مغريات التعالي، أو لإختناق روح فى غبار الذاتية، ورؤية الناس من علو شاهق وهم في السفح.. وفي حدود نظرته: كالذباب، أو كالرمال المتحركة!
قال ((غنام)): القضية أكبر من الرومانسية، ونهج مدرسة نقدية.. وأعمق من تضئيلها داخل الطموح الشخصي الأنوي.. ولكننا بالاستخلاص المنطقى نحاول أن نوجد الزمن المفقود؟
ـ قال ((عادل)): هناك إستعارة لكلمة يونانية تعني ((غياب المعايير)).. أي خلخلة السلوكيات لدى الناس، أو كما قال عالم الاجتماع الفرنسي/ اميل دوركايم: (إنهيار المعايير يقاس في ظهورها السلوك وتحديد القيم التي تكفل للفرد تحقيق ذاته، دون أن يعتدي على ذوات الآخرين).
قال ((غنام)): مازلنا نطرح على أنفسنا السؤال تلو السؤال عن: أسباب هذا التبدل الفظيع الذي شوه سلوكيات الكثير من الناس، فأصبحت ترى في المجتمعات العربية بلا تحديد: هؤلاء الذين استسهلوا الشتيمة، والغيبة، والنميمة، ومحاولات النيل من سمعة الآخرين.
ـ قال ((عادل)): أسألك الآن عن نسبة ((أهل البلد))، الذين تراهم في الأسواق، أو الشوارع، أو الذين يقودون السيارات.. المدينة فقدت عذريتها تماماً، مثلما هي افتقدت دفء تاريخها القديم بحواريها وأزقتها الضيقة!
أدخل اليوم إلى أى مكان تجارى في ((جدة)): دكاناً، أو معرضاً، أو سوقاً.. إنك لن ترى أمامك وجهاً تعرفه من أهل بلدك.. وليست هذه هي المشكلة في احتياج البلد إلى هذا السيل المتدفق من العمالة الأجنبية.. لكن المشكلة الأخطر تكمن في: الخوف من فقدان البلد لهويته الاجتماعية!
قال ((غنام)): وهناك سبب آخر، يبرز في هذا (الاحتياج) لدى الناس..
الجميع يريد من يخدمه، ومن يعمل لأجله، وهو لا يريد أن يخدم ولا يعمل إلاما يجد فيه مكسباً مباشراً له.
ـ قال ((عادل)) الاحتياج الاجتماعي الأهم الآن.. أن يكون هناك اهتمام جدى بدراسة ما استجد على نفسيات الناس، ومعالجة هذه الظواهر، أو المستجدات التي تتحول تدريجياً إلى متغيرات لجذور المجتمع، ولهويته.. إذا ما حاولنا إحصاء: كم لغة يتكلم بها سكان ((جدة)) فقط اليوم، بهذه الأعداد الهائلة من العمالة الوافدة!
قال ((غنام)) في عمق نفسيات البعض، وربما أفكارهم، ما يسميه العلم الحديث: أزمة نفسية، لابد أنها تنشأ من المسئولية التي يشعر بها المرء نحو عائلته إذا كان موظفاً ومازال راكدأ في كادر وظيفي متدن، لم يزد دخله من وقت طويل، فيضطر لطرق أبواب أخرى، ربما جرته إلى الإنحراف.
ـ قال ((عادل)): وهناك من دفعه الطموح أيضاً إلى محاولة زيادة الدخل، والثراء السريع.. وذلك على حساب وقت راحته، والتئام شمله بأسرته، وٍمتابعته لسلوكيات أبنائه.. ونتج عن هذه التي اعتبرها شروخاً: زيادة الأمراض، وأمراض القلب بالذات، والغربة داخل أفراد الأسرة الواحدة.. وهذا ما نسميه: حصيلة المسئولية العاجزة، أو المنشغلة، والطموح المضني حتى الفشل!
وأنت ترى من يكسر إشارة المرور عمداً ليقتل نفسه أو يقتل غيره.. بمنتهى اللا مبالاة، والاستخفاف بالموت!ا
* قال ((غنام)): صدعت رأسي.. الله يكافيك، خلينا نتكلم قليلا في الحب.
ضحك ((عادل)) وقال منغماً: حب إيه إللي أنت جاي تقول عليه؟!
* * *
* آلمه رأسه بالفعل.. خاصة وأن صديقه ((غنام)) يعزّ الضحك بصوت عالٍ حتى وهو يبكى.. وهذه حالة نادرة تحتاج - كما قال له - إلى نظرية نقدية في الفكر المعاصر!
وكأن حزنه تزامن مع ألم رأسه، ولا يدري كيف يحدث هذا الإنسجام بين الألم العضوي، والألم النفسي؟!
كيف يمكنه الآن أن يربط بين كل ما يصبّ في أحاسيسه؟!
* نوار، غالية.. وقبلهما عبر ((عادل)) محطات كثيرة، بعضها تزعق فيها القطارات وتتوقف، وبعضها تقلع فيها الطائرات وتختفي.. والبعض الثالث، مع صوت ((محمد عبده)):
ـ ليله، ليله، ليله.. وتنتهي الليلة!
طفرت دمعة جديدة من عيني ((عادل)). وما أقل دموعه المفضوحة، وما أكثر حشد دموعه المكبوحة، لكن الدموع تغسل النفس من الإحباط، والارتطام، والفجيعة في الآخرين الذين وثقنا في محبتهم.. أن ندع الدموع تتواجد، فهي التصفية لكثير مما ينسرب إلى أعماق الأرض لأنه لا يستأهل الدمع.
فهل هذا هو العجز، أم مثالِية الحب؟!
((عادل)): ما زال ينادي حلماً، ويخاف على معنى أصيل في داخله من أن يفسد.. لئلا يتحطم المعنى وبالتالي: الإنسان.
يحنُّ الآن إلى ((رتم)) بلده، وإيقاعات ألحانه.. ويتنقل من ((محمد عبده))، إلى ((طلال مداح)).. وكأنه يصرخ معه بأنغام نكهة مجتمعه وأهله: (مقادير.. يا قلب العنا).. ويجد في النغم والكلمة: سلوة في الانتقال من أول جسر العاطفة إلى أوله الآخر.. لأن جسر العاطفة لا نهاية له.. والمقادير: هي في الحب أولاً.
إذن.. لا وقت لديه للدموع.. فهذا عصر جبار طغياني، حوّل الدموع إلى ماء!
لعل ((عادل)) يتألم الآن من موقف ((نوار)) الغريب معه، مثلما تألم قبل ذلك من جَلْد ((غالية)) لأغلى إحساس خصّها به.. فأهانت هذا الإحساس بإذلاله ذات يوم.
لكنه - رغم ذلك كله - ما زال يروي أناشيده بنبرة الحب.
إن الإنسان لا يلام على صدقه.. و ((عادل)) لم يضخّم حزنه بما تأثر به، ولكن حزنه أعمق من أن يتأثر بموقف، أو بتجربة.. فالاهتمامات تنبع من حفاوتنا بالعمر.
* * *
اتحدت أصوات السيارات التي تشق سكون الليل، وتمزق استرخاءة ((عادل))، وتطوح برأسه داخل كل ما فيه!
هذا فصل ((السنبلة)).. ويا ويل سكان الساحل مثل ((جدة)).
الرطوية في الخارج عالية، والضجيج: سمة المدن الحضارية الكبيرة. والعودة من الضجيج، والهروب من الرطوية إلىِ جهاز ((التكييف)): تبقى هي المطلب، ودائماً: الخروج يكون عكسياً.. أي الخروج من الهدوء إلى الصخب والزحام.. والخروج من انتعاش الهواء البارد إلى الرطوية والحرارة: يبقى نتيجة، أو ضرورة كسمة لعصر يتَّصف بهذا الزحام، وبالرطوية والحرارة معاً في نفوس الناس.
هذا التطبيق ينم على كثيرمن أشياء الناس، بلا تمييز أو استثناء، ولكنه تطبيق يتردد أحياناً، وربما يقدر المرء أن يتخلص منه عندما ينجح في فهمه لأشياء الحياة، وفى فلسفته حين التفكير، وفى عواطفه حين العفوية.
وهذه نقطة مهمة.. توقف عندها ((عادل)) في قفلة يوم آخر، صاخب، وفياض بالحيرة وبالأسئلة.. وهو في حالة المتأمل تارة، والمضطرب الضائع تارة أخرى!
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :2157  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 141 من 545
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج