شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
كان جنوناً!!
* وقفت ((إلهام)) أمام دولاب ملابسها في غرفة النوم.. تصلح من وضع فساتينها، وتعلِّق فستان السهرة التي حضرتها، ومازالت تثرثر في سمع زوجها ((خالد)).. تحكي له عن ليلة العرس التي امتدَّت إلى هذا الوقت المتأخر.
كانت تستطرد في وصف ما رأته.. تبدي استحسانها حيناً، وتنتقد أكثر الأحيان.
ـ قالت لزوجها: تصور... أم العريس جالسة طول السهرة ما اتحركت، وأم العروس وأهلها ما جلسوا يا عيني عليهم، وقال إيه.. العائلتين مشتركين في دفع تكاليف الزواج، وفي الترحيب بالضيوف.
ـ قال خالد بصوت منخفض: يا الله... قضية خطيرة، ولا مشكلة الحرب الخليجية!
ـ التفتت إليه وقد استفزها: من يوم ما اتزوجنا.. وهذا طبعك: السخرية!
ابتسم ((خالد)) دون أن يجيب.. وهو يتأمل زوجته، وقد اكتنزت قليلاً، لكنها استطاعت أن تحتفظ بحرارة شبابها بعد تلك السنوات التي رحلت، وأخذت معها جنون الشباب وحيويته.. وها هما- خالد وإلهام- يصارعان الزَّمن، والمشيب يزحف إلى مفرقيهما، وإن كانت ((إلهام)) تبدو كأنها تستسلم رويداً لهذا الزحف.. بعد أن أنجبت ((فارس))، و ((عهد))، وأصبحت الحياة مع زوجها هي حقيقة عمرها ودنياها.. فاطمأنت، واسترخت، وتأكَّدت أن ((خالد)) لا يفكر في تجديد شبابه مع امرأة أخرى يتزوجها، وقد كانت تسمع أمها وجدتها يقولان عن الرجل الذي يتزوج عدة مرات: أنه يجدِّد فريق بيته!!
واتسعت ابتسامة ((خالد)) وهو يسترجع، ويتأمل.. وعادته عبارة قالتها له زوجته ((إلهام)) قبل عام:
ـ لقد أصبحت الفلوس لديك كثيرة، وأمسك الخشب، والمرأة تقول دائماً: إذا كثرت فلوس الرجل تزوَّج! لكني أثق فيك أولاً، وأعرف أنك تعشق عملك، حتى خفت عليك من الإرهاق، ومن إغراء الفلوس!
الآن وهو يضطجع.. يتذكر عبارتها، وهي أمامه تقف لترتب دولاب ملابسها، ويتأمل بياض جسدها الذي يواجه خطر تسرب التجاعيد إليه!
وطال صمت ((خالد)).. دون أن يعلق على عبارة زوجته.. واستدارت نحوه، وقد أغاظها إهماله لكلامها. قالت:
ـ أنا بأكلمك.. ليه ما ترد؟!
ـ قال: كلامك لا يحتاج إلى تعليق، لأن ما حدث هو من طبائع الناس وسلوكياتهم المتفاوتة.
ـ قالت: جوابك حاضر معك. إلا على فكرة.. غريبة إنك صاحي إلى هذا الوقت المتأخر من الليل. ليست عادتك.. فأنت تنام- إذا سهرت- بعد منتصف الليل. خير إن شاء الله؟!
ـ قال: لا أدري.. قلقت.
ـ قالت ضاحكة: يمكن بتحب!
ـ قال: باحبك إنت.
ـ قالت: أنا؟!.. لا، صرت دقة قديمة.
ـ قال: يا إلهام.. إنت فائقة وراجعة من عرس، وتلاقيكي كنت ترقصي وتضحكي!
ـ قالت: صحيح.. وإنت مالك حزين ومكتئب؟!
لم يجبها. غطى رأسه بالوسادة الأخرى، وقال:
ـ من فضلك.. اطفئي النور، أنا تعبان.
ـ قالت: لا.. أنا كده قلقت. فيه حاجة.. مشكلة؟!
جلست بجانبه على حافة السرير، ووضعت يدها على رأسه بعد أن قذفت بالوسادة بعيداً.
استدار ثانية يحدِّق في وجهها المتلهف عليه، والقلق.. هذا وجهها الذي صاحب عينيه كل تلك السنوات الطويلة الراحلة، وشاركه طموحاته وهمومه، وأحلامه، وتعبه، وفرحه، وقفزاته واصطداماته.
امتدت أصابع يده إلى شعرها الأسود المبعثر فوق كتفيها وجبينها، وتخلَّلت هذا الشعر بحنان، وقد لاحت ابتسامة على شفتيه وهو يتطلع إلى وجهها.
ـ قالت منزعجة: لا تخيفني يا حبيبي.. ماذا بك أرجوك؟!
ـ قال: في الحقيقة لا شيء جديد.. وفي الحقيقة كل شيء بي.
ـ قالت: فزورة؟!
ـ قال: أبداً.. لا بد أن أطوِّع كل الأشياء، وأروض نفسي.
ـ قالت: دائماً نفعل ذلك أمام الأشياء التي تقفز فوقنا، حتى نجد الحل، أو الانتصار. إحكي لي يا خالد.. هل هي مشكلات الديون، وانعدام السيولة المالية في السوق؟!
ـ قال: المشكلة مترابطة.. دائن ومدين، وانعدام السيولة. أنا أطالب الآخرين بمبالغ كبيرة، ولا يقدرون الآن على تسديدها لي، وهناك من يطالبني بمبالغ مماثلة، أو أكثر، وأعجز عن تسديدها... كأن فترة ((الطَّفْرة)) التي مرت، تشبه عربة جديدة كانت تنطلق بأقصى سرعتها، وفجأة تسرب الهواء من دواليبها، أو انفجرت تلك الدواليب، فتوقفت السيارة بنفس تلك الفجأة، ووقعت حوادث كثيرة، وموتى، وجرحى!
ـ قالت: ولكن... هناك أيضاً من استفاد من تلك ((الطَّفْرة))، وارتفعوا من الحضيض، وكانت الفلوس تتدفق مثل السيل.
ـ قال: كان جنون. البعض كان يقتنص الفرصة، والبعض الآخر أخفق في تقدير كل حساباته.
ـ قالت: وأنت... ألا تقوم كل شهر بتسديد البنك؟!
ـ قال: بلى.. ولكني أكاد أتوقَّف.. فليس هنالك دخل يساعد على إيفائي بهذا الالتزام، وتسديد البنك.
ـ سألته: وإلى أين بلغ تفكيرك؟
ـ أجابها: إنني محبط.. أفكِّر أن أبيع العمارة، وأسدد من ثمنها، أو أقدِّمها للبنك.
ـ قالت: وهل ستفي قيمة العمارة.. خاصة وأن أسعار البيع هبطت، والناس قد عرفوا احتياجاتك؟!
ـ قال: أعرف ذلك.. ولكني أضحي.
قالت: أحمد ربك أن ما عليك أقل بكثير من أولئك الذين أدخلوا السجن، لعجزهم عن تسديد ملاين مذهلة، لتذهب العمارة، وحتى هذه الفيلا لو أردت بيعها أيضاً. لا عليك.. سنبدأ من جديد.
ـ قال: تقولينها بمنتهى البساطة.. ومن أين نبدأ ذلك الجديد؟!
ـ قالت: كما بدأنا ذلك القديم.. فلا تقنط من رحمة الله وفرجه. نام الآن... اغمض عينيك حتى تراني، كما تقول أم كلثوم.
واحتوت رأسه المثقل بالأفكار والأجراس في صدرها.. ضمَّته بشدة، وأطفأت الضوء، واستلقت بجانبه.
* * *
لكنها لم يغمض لها جفن.
لعلها استطاعت أن تبدع كلاماً مريحاً في أذن زوجها ليهدأ بعده، وينام بعد ساعات التفكير الممض والإرهاق.
وبقيت بجواره على السرير يقظى.. تحملق في ظلام الغرفة، وتسترجع الأحلى من شريط العمر.. وانزلقت دمعة دافئة من عينيها.. كأنها حملت من فوق كتف زوجها صخرة الهم. وقذفت بها فوق صدرها. إنها تفكِّر في الغد أيضاً.. وتتساءل:
ـ ما هو المصير.. بعد هذا المشوار؟!
ترى.. هل يكون في قدر زوجها أن يُزج به في السجن مثل الآخرين الذين كسرهم السوق.. أم أن شريط- الكفاح في الحياة سيتقهقر بهم من جديد إلى نقطة البداية، وقد كان زوجها في حيوية شبابه.. غيره الآن، وهو يدخل إلى العقد الخامس، ويعاني من الضغط المرتفع؟!
في مرات كثيرة.. رأته يصرخ من الصداع الشديد عندما يرتفع ضغطه، ورأته وهو ينفعل ويغضب من أجل مكاسبه وتجارته.. فيرتفع ضغطه.
حذرته كثيراً أن لا يغضب، ولكنه لا يتحكم في أعصابه ! مثل إنسان عادي، وفي عصر طبيعته التوتر، والانفعال، والمواجهات العنيفة أحياناً!
عندما ذهب إلى المستشفى في العام الماضي، ليضبطوا له ضغطه.. قال لها الطبيب:
ـ لا تنزعجي كثيراً بهذه الصورة القلقة التي أراك عليها.. فقد أصبح الضغط من أمراض العصر، ويحتاج فقط إلى رقابة ومعاشرة دائمة مع حبة ضبط الضغط:
تنهدت، واستدارت تضع وجهها في عنق زوجها، وتحتضنه.. أصبحت شديدة الخوف الآن.. إنها لا تريد أن تفقده بهذه السرعة، وفي هذه المرحلة من العمر.. بعد أن تخطيا معاً مرحلة التسابق مع الزمن، ومحاولة اللحاق بالثروة، وبالاستقرار المعيشي.. إنهما يبلغان الآن مرحلة النضوج التام.
هي في مطلع الأربعينات، وهو في مطلع الخمسينات.. وهي مرحلة شباب أقوى وأكثر وعياً، وتدبراً، وتصرفاً.
أمامها- مع زوجها- مهمة أكثر صعوبة من جمع المال، والمحافظة عليه.. هناك.. في الغرفة الأخرى: فتاة جميلة.. يتكاثر عليها الخطاب، وهي ترفض.. لأنها مصممة على إنهاء دراستها الجامعية والشهادة التي تعتبرها سلاحاً في يدها.. مثل أية فتاة اليوم لم تعد تثق كثيراً بشباب هذه الأيام.
وهناك في الغرفة الثالثة: شاب يدخل الجامعة في السنة الأولى، ولا تقل مشكلاته عن أخته البنت!
إنه الخوف على هذه الفلذات.. خوف من العصر، ومن الزمن، ومن أفكارهم وأحلامهم.
لقد تبخَّرت ضحكات سهرة العرس.. ولم تعد ((إلهام)) تجد في عينيها سوى تلك الدمعة الدافئة.. مسحتها بكم قميصها، وازدادت التصاقاً بزوجها.. لتنام!
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :974  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 106 من 545
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج