شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
خوف الحب!
أسبوع كامل تصرَّم.. دون أن يطرق ((خالد)) باب أهل زوجته!
كانت معاناة ((إلهام)) طوال هذا الأسبوع قاسية على احتمالها، وفي معايشتها لابنها ((فارس))، ولابنتها ((عهد)).
((فارس)) خاصمها.. لا يتكلَّم معها، وإن كلمته لا يجيب.
و((عهد)) غرقت في حزن يتضاعف كل يوم.. أصبحت تبكي بدون سبب.
التجربة مريرة في أيام ((إلهام)).. ولكن عنادها لم يهدأ، وإصرارها لم يتزحزح.
حاولت مع والدها مرات عديدة أن تقنعه بمنحها مالاً.. تستأجر به ((شقة)) لتجعلها مكتباً.. تستقبل فيه الزبائن، وتمارس عمل مهندسة الديكور.
تحدَّث معها والدها عن خطوات عديدة مطلوبة لتتمكن بها من فتح ذلك المكتب، ومن أهمها: السجل التجاري، والعثور على امرأة أخرى معها تساعدها.
تحدث معها عن صعوبة تعامل المرأة في السوق.. مع الرجال الزبائن، ومع العمال الذين ينفذون الديكور.
في كل يوم يتضاعف الإحباط عندها.. فالتجربة شاقة.
وفي كل مساء يتكثَّف الحنين في صدرها لبيتها. اشتاقت إلى ((خالد)) ودفئه.
تتطلع إلى ((فارس)) و ((عهد)).. فتجدهما كغريبين، يغمرهما حزن شديد. ويلفت ((فارس)) انتباهها دون أن يشعر.. فتلاحظ عليه أنه فقد حيويته، وشقاوته، وحتى ((لماضة)) لسانه المحببة إليها، وإلى أبيه، اختفت.. فهو يبدو مثل الطفل اليتيم.
ـ قال له جده: تعال نروح نشوف بابا!
رفض ((فارس)) بإصرار، وقال:
ـ بابا ما يحبنا.. لما رحت له أنا وعهد، ما كان اللي بيتكلم معانا هو بابا.. ما يحبنا، ما يحبنا!
فاضت الدموع من عيني ((إلهام)) وهي تستعيد تعبيرات ((فارس)) حين كان يتكلم عن أبيه.
هكذا يزرع الآباء والأمهات كراهية أطفالهم لهم!
ـ ألم تكن المشكلة في أساسها تافهة؟!
سألت ((إلهام)) نفسها هذا السؤال. أجابت:
ـ لعلها تافهة في مقابل هذا الحصاد المر.. لكني كنت أطالب بالاعتراف بشخصيتي!
ـ شخصية الأم تتحقق، وتكبر في دفق أمومتها، وأداء دورها كزوجة ناجحة!
ردَّت على نفسها بهذه الإجابة. صمتت قليلاً، ولكن الحوار الداخلي مع نفسها لم ينته. واصلته قائلة:
ـ ولكننا في عصر العلم والتقدم. المرأة المتعلمة مثل الرجل المتعلم، سواسية في العلم، والفكر، والإنتاج، والإبداع..
فلماذا يحرم الرجل على المرأة أن تشاركه مسؤولية العمل؟!
شعرت أن إجابة عالية تزاحمت في رأسها من خلال هذه الأصداء:
ـ هل تعملين في وسط مجموعة من الرجال؟!
ـ وماذا يضير.. إذا كنت مستقيمة، وناضجة، وقوية؟!
ـ ولكن.. قوة المرأة قبل نظرة الرجل الأولى إليها، وبعد ذلك تتلاشى تلك القوة!
ـ خطأ.. ليست نظرة كل الرجال.. فهناك رجل واحد تحبه المرأة.
ـ ولو مللت هذا الرجل، ووجدت أمامك شخصية جذَّابة، أو حتى نظرة حانية دافئة؟!
ـ أوه... المرأة ليست حيواناً، ولكنها إنسان.
ـ صحيح.. لذلك تجدين الرجال عندما يلتقون بامرأة معهم في العمل يتحلقون حولها، خاصة لو كانت جميلة مثلك، والرجل أيضاً ليس حيواناً، بل هو إنسان.. ولكنها غريزة البشر!
ـ ولكني لم أطلب أن أعمل في وسط الرجال؟!
ـ أي عمل.. لا بد أن يتصل بمجتمع الرجال.
ـ فكيف عملت المرأة العربية في أماكن كثيرة؟!
ـ لها تجربتها.. وكانت البداية صعبة.
ـ كل بداية، لا بد أن تكون صعبة!
ـ وهل توافقين أن تكوني من الضحايا؟.. البدايات تحتاج إلى ضحايا!
ـ يا إلهي.. رأسي يكاد ينفجر. أين أنت يا ((خالد))؟!
ويتكرر هذا ((المونولوج)) الداخلي في أعماق ((إلهام)) كل ليلة.. يتطوَّر حيناً، ويرتطم حيناً آخر.
تتبعثر ((إلهام)) في خطورة الأسئلة التي تطرحها على نفسها من عقلها.. فالقضية التي أشعلت عذاباتها وحزنها لا يمكن أن تعالج بغضب يحدث الشروخ في بيتها الحياتي الذي بدأت تعميره بطفلين، وأخذت الرياح تهدِّده.
كانت كل طموحاتها وهي تقتحم أجواء الدراسة الجامعية في خارج بلدها.. أن تحقِّق نجاحاً متفوقاً، وأن تنفذ أفكارها عبر تجسيد أحلامها منذ نضج بها العلم، وصقلتها الدراسة.
وعندما تحصَّلت على الشهادة الجامعية في الفنون الجميلة.. سخر منها زميلاتها وصديقاتها.
كن يقلن لها:
ـ أنت تحلمين.. إلا إذا رضيت أن تصبحي فنانة ترسم اللوحات، وتقيم المعارض فقط، ولكن.. أن تعملي، وترتدي البنطلون، وتنتقلي من بيت إلى مكتب، إلى شركة، إلى معرض لعمل ديكورات فيها، فذلك صعب جداً على مجتمعك.. لا بد أن تكون هناك حدود ملتزمة بالعادات والتقاليد!
لم تأبه لسخريتهن، ولا لمنطق حوارهن. وبمجرد عودتها من الخارج بعد حصولها على الشهادة الجامعية.. اعترضها والدها بعريس.. لم تكن تعرف شيئاً عنه إلا معرفة صديقات وجارات أمها، وسمعة أسرته وبيته.
حاولت أن ترفض لتحقق أحلامها. لم يكن هناك وقت وهي ترى إصرار والدها على ((خالد)). وعندما رأت ((خالد)) لم ترفضه.. تحدَّثت إليه، ورضيت بأفكاره.
يومها.. استفتت نفسها:
ـ الحظ.. لا يأتي إلا مرة واحدة!
وهي ترى في شخصية ((خالد)) حظَّها الذي يتبلور أمامها. وقبلت الزواج بعد تفكير. لم يرغمها أبوها.. لكنه أشعرها باستحسانه لهذا الشاب.
في ليلة زفافها.. كانت تسمع تعليقات صديقاتها بتشفي:
ـ لازم حبيتيه!
ـ يمكن يفتح لك مؤسسة ديكور!
ـ وإلا.. يمكن يلاقي لها عمل معه في الشركة!
أجابت صديقاتها في أصداء الدفوف:
ـ خالد.. متطور في أفكاره.. وأيضاً.. لقد شعرت أنني أحببته!
ـ هذا هو المهم.. الحب يا ((إلهام)).. الحب يا سنيوره!
حقاً... هل هو الحب؟!
أفاقت ((إلهام)) من. استغراقها في تلك الأصداء، واستعادة شريط لم يطل به الزمن كثيراً.
إنها- بالفعل- تحب زوجها، وقبلت به بقناعة تامة.
وإذن... أين تكمن المشكلة الآن.. هل هي في شخص وأفكار ((خالد))، أم تراها في طبيعة الحياة، والظروف؟!
سمعت جرس الباب يدق متواصلاٍ. نهضت من سريرها متثاقلة، متسائلة:
ـ أليس هناك من يفتح الباب؟!
وعندما شرعت الباب، كادت أن تشهق!
كان ((خالد)) يقف أمامها بوجه تنكره.. ليس هذا هو وجه ((خالد)) الوسيم، ولا هذا هو هندامه الأنيق.
ـ خالد؟!.. اتفضل.
ـ فين فارس وعهد؟!
ـ ما أدري.. يمكن في غرفة من الغرف مع ماما.. أدخل.
ـ أعملي لي شاي.
ـ حاضر.. إنت مريض يا خالد؟!
ـ أرجوك.. أنا ميِّت
ـ بعد الشر.. إن شاء الله عدوك.
ابتسم ((خالد)) ساخراً، ومشى إلى غرفة الجلوس متهالكاً، مهدوداً.. بينما ((إلهام)) تتطلع إليه في ذهول وحزن.. فرت من عينيها دمعة تختلف عن كل دموعها التي أهرقتها.
ركضت في البيت تفتح أبواب الغرف.. بحثاً عن ((فارس)) و((عهد)). وجدتهما يحتضنان جدتهما في نوم عميق. أيقظتهما بفرح. فتحت أمها عينيها فزعة، متسائلة:
ـ حصل إيه.. مالك مضطربة كدة؟!
ـ خالد يا ماما.. خالد في غرفة الجلوس.
ـ قالت أمها: خالد؟!.. هادي البشارة والله.. قوم يا ((فارس)). قومي يا ((عهد))!
ركض الطفلان إلى أبيهما.. يفركان عيونهما فرحاً.
تلقفهما، ليستقرا في حضنه. ((عهد)) أخذت تبكي وتقبِّله.
و((فارس)) يضربه على خده محتجاً، قائلاً له:
ـ أنت وحش.. أنت الرجل الأخضر!
جفت الدموع في تعالي الضحكات. و((إلهام)) تحدق في وجه زوجها في حالة مضطربة من القلق عليه، ومن الاستفسار، ومن الحب المتدفق. قالت له:
ـ كده يا خالد.. هانوا عليك أولادك وزوجتك؟!
ـ قال: وليه ما تقولي لنفسك؟.. ليه ما رجعت بيتك، والا العناد بس؟!
ـ قالت أمها: خلاص يا أولاد.. الحمد لله. خالد أصيل وبيحبك، والا ما كان جاء!
ـ قال فارس: إنت جيت ليه يا بابا؟!
وقبل أن يجيب.. ردَّت ((عهد)) قائلة:
ـ خاف من ماما.. علشان بيحبها!
ـ قال فارس: لو عملتها مرة ثانية.. أضربك بالعصايه. خد بالك أنا حمش!
ضم ((خالد)) طفليه إلى صدره، وتطلَّع إلى زوجته مشيراً إليها بطرف عينه أن تلبس ملابسها.
ـ قال فارس: أنا ما بدي أروح معاكم البيت.
ـ سأله والده: ليه يا حبيبي.. البيت من غيركم ظلام.
ـ أجابه: لأ يا سي بابا.. كيف جلست في الظلام كل المدة دي؟.. أنا جالس عند جدو، وجدتي. بعدين تتخاصموا تاني، والله.... والله أضربك!
عادت الضحكات ثانية، وحمل ((خالد)) ابنته ((عهد)) و((فارس)) يمسك بيده.
أطلت ((إلهام)) من باب الغرفة، متَّشحة بعباءتها:
ـ أنا جاهزة يا خالد.. هيا.
مسحت أمها دمعة انزلقت من عينيها، ورددت:
إلهي يهدِّي سركم، ويوفقكم.. مع السلامة.
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1133  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 91 من 545
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

عبدالعزيز الرفاعي - صور ومواقف

[الجزء الثاني: أديباً شاعراً وناثراً: 1997]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج