شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الميلاد
* تتصاعد رائحة الشواء إلى الطابق الثاني في العمارة المكونة من خمسة طوابق..
هنا تحت العمارة مطعم يفتح أبوابه للزبائن، ويقدم المأكولات بأنواعها، ولكن في المساء.. يخرج المطعم إلى رصيف الشارع بشواية ((الشاورما))، واللحم والفراخ المشوية، ويستقبل في الغالب الشباب من ((العزَّاب)).. ممن لم يستطيعوا حتى الآن أن يوفِّروا ((المهر)) المطلوب لزوجة تكوّن البيت والأسرة!
وتتعالى أصوات أبواق سيارات الشباب وضحكاتهم ومزاحهم إلى طوابق العمارة!
ولكن الطابق الرابع يختلف هذه الليلة بالذات عن كل طوابق العمارة.. إنه الطابق الذي يحتوي على شقتين.. واحدة تحمل رقم (7)، والأخرى تحمل رقم (8) وهي التي تطل على المطعم، تحتها.. وهي شقة مكونة من ثلاث غرف، ومطبخ، وحمام، ((وبلكونة)) تطل على الشارع، والمطعم!
وعلى باب ((الشقة)) ثبتت لوحة من البلاستيك الأخضر، كتب عليها اسم صاحب الشقة: ((خالد السعيد)).. وهو شاب يعمل في شركة خاصة، بعد أن تخرج مهندساً مدنياً من بلد عربي.. وعندما عاد ألحَّت عليه أمه أن يتزوج لتفرح بأولاده!
وبقي يماطل فترة طويلة تعدَّت العامين، حتى يختار الأنثى التي ستشاركه كل الحياة.. ويجد عندها الاستقرار الذي يعينه على شق طريقه في حياة ناجحة.
وازدادت ضغوط أمه عليه حين كان يراوغها.. حتى وافق أخيراً على ((إلهام))!
تخرجت ((إلهام)) من الجامعة، وسمع أمه تقول إن هذه الفتاة- ابنة صديقتها الحميمة ((عائشة)) ستبقى في البيت حتى يبعثوا إليها بأمر التعيين في إحدى المدارس، وكانت أمه تتحسر على ضياع الوقت قائلة:
ـ البنت يا عيني حتجلس حوالي سنة.. حتى يلاقون لها وظيفة!
ـ قال لأمه: أوصفيها لي.. شكلاً وأخلاقاً!
وبدأ يفكر.. ولم يقتنع بالوصف، فطلب أن يراها.
-- قالت أمه: ((وَيْ.. وايش نقول للناس، هيّا البنت فرجة))؟!
ـ قال لأمه: أنا هذه المرة جاد.. أراها وتراني، وإن حصل النصيب فالفرحة أكبر. لا خاصة أنها ابنة صديقتك!
وضمت هذه ((الشقة)) الصغيرة زوجين.. لم يكملا بعد عامهما الأول، فقد مضى على اقترانهما عشرة شهور.. صنعا في خلالها التفاهم بينهما. ولم تغب ضحكاتهما، وابتساماتهما.
ولكن... هذه الليلة بالذات، حدث تغيير في مناخ ((الشقة)) الصغيرة، وفي أجوائها.. فقد غصت بأم ((إلهام)) وبأم ((خالد))، و((الزوجين)) وبالأخوات وبالأخوة!
إن ((خالد)) مضطرب وهو يواجه لأول مرة تجربة جديدة لم يعهدها في حياته بهذا التخصيص له!
إن زوجته ((إلهام)) تعاني من آلام المخاض.. اللحظة الهامة التي استدعت إعلان حالة الطوارئ، وحانت مع هذه اللحظة فرصة البدء لتكوين أسرة!
وجاء الزوج ((خالد)) مهرولاً.. يقفز سلالم العمارة جرياً وتعثراً، لأن المصعد قد عُطِّل بفعل فاعل، والفاعل هو صاحب العمارة الذي عمد إلى ذلك من أجل ((تطفيش)) سكان العمارة القدامى الذين لم يزد إيجارهم بنسبة كبيرة يريدها.. فكأن ((خالد)) يدفع الثمن عن كل السكان.. بينما ((القابلة)) تركض وراءه لاهثة، فقد كانت سيدة بدينة.. تبدو أردافها كأنها امرأة أخرى تجري وراءها!
أمه رفضت أن ينقل زوجته إلى المستشفى، وهي تقول:
ـ ((وي.. ماذا يقولوا الناس))؟!
ـ قال لها: بالعكس يا أمي.. التوليد في المستشفى الآن ضمان بعد الله للأم وللطفل.. ثم إنه شيء كالتنافس بين الناس للذهاب إلى المستشفى الأشهر؟!
ـ قالت له: لا.. لا أوافق، البيت أستر، وأنا هنا أرعاها مع أمها.. يعني فكرك أخليها للممرضات ممنّ ينمْن في الليل، والمريض يدق الجرس ولا أحد هنا!!
ـ قال يجادلها: لكنها ليست جريمة؟!
ورمت عليه اليمين.. وحتى لا تغضب عليه، نفذ رغبتها، وذهب إلى ((القابلة)) رغم قناعته أن مهمة القابلة محدودة، خاصة مع امرأة تلد لأول مرة!
وعندما كشفت القابلة، على زوجته المتوجعة.. ضربت على صدرها بيدها، وقالت:
ـ يا لطيف.. دي ((بكرية)) ومتعسرة كمان.. لازم تنقلوها للمستشفى!
ونظر ((خالد)) إلى أمه، وقد أغضت محرجة، وخرجت من الغرفة، وهي تتمتم:
ـ يا ربي لطفك. ما تضيِّع تعب ابني يا رب!
وتدافع كل من كان في ((الشقة)) إلى السيارة.. بينما أحاط ((خالد)) بزوجته وأعانها حتى العربة!
* * *
وفي المستشفى.. طلب الطبيب إدخالها فوراً إلى غرفة العمليات، قائلاً لزوجها:
ـ لا بد من عملية قيصرية.. إن حجم الطفل كبيراً، ووزنه فاخر ما شاء الله!
ـ قالت أم خالد للطبيب: ((أنتم يا دكاترة ما عندكم إلاَّ العملية.. جزارة إيه))؟!
وانتقلت زحمة ((الشقة)) الصغيرة إلى ردهة المستشفى، وقد تكوم الجميع قريباً من باب غرفة العمليات.. بينما كانت أم الزوجة تبكي والقلق يعصف بها، و ((خالد)) يذرع الممر الطويل جيئة وذهاباً، وهو يردد: يا رب أنقذها.. لا أريد طفلاً، أريدها هي!
وأمه تجلس على مقعد وسط هذه ((اللمَّة)) تشعل سيجارتها ونظراتها تلاحق ابنها، وهي تهمس لنفسها: يا رب.. أعطيه ولداً!
وجاءت ممرضة كانت تعبر الممر، وفوجئت بهذا الزحام أمام غرفة العمليات، فقطبت حاجبيها وقالت غاضبة بلغة لم يفهمها أغلب المزدحمين:
ـ ((إحنا فين.. مستشفى، ولا فندق))؟!
ـ أجابها ((خالد)) بالإنجليزية: نعتذر.. لكنها زوجتي التي في غرفة العمليات، وهي الآن تلد!
ـ قالت له: قل لهم أن يخفضوا أصواتهم.. يعني ولادة، دي عملية صغيرة!
ـ وعلقت أمه قائلة: ((هادي بترطن تقول إيه.. إحنا خلصنا مع العربي حتى يجيبوا لنا واحدة نصرانية؟!.. كل المستشفيات صارت تتكلم بالرطانة، هُمَّا يعني بناتنا فيهم إيه))؟!
وارتفعت نسبة الزحام في ردهة المستشفى المؤدية إلى غرفة العمليات.. لقد وصلت إلى المستشفى أخت ((خالد)) ومعها أطفالها الثلاثة في أعمار صغيرة متقاربة.. ثم حضرت بعد قليل أخت ((إلهام)) ومعها الطفل الرابع، وحولوا الممر إلى حارة صغيرة يجرون فيها وأصواتهم تضج!
وعادت الممرضة ثائرة.. لكن الطفل الرابع لم يمكنها من بدء الكلام، بل سارع فأمسك ب ((روبها)) الأبيض وشدَّه بقوة.. وتعالت ضحكات الأطفال، وأخذت الممرضة تركض هاربة تستغيث، والأطفال وراءها.
((خالد)) لم ينتبه لما فعله الأطفال، فقد ترك الممر يتجول في ردهات وممرات المستشفى قلقاً، فالعملية طال زمنها، ولم يخرج أحد من غرفة العمليات حتى الآن!
أصبح أكثر لهفة.. يفتش عن أحد يسأله، وتداعت صور كثيرة من المواقف والذكريات، وهو يقفل راجعاً إلى حيث كان ينتظر أمام باب غرفة العمليات..
وفتح الباب فجأة، لتخرج منه الممرضة الأولى، ثم الطبيب وهو ينادي ((خالداً)) إليه!
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :2223  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 64 من 545
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور عبد الكريم محمود الخطيب

له أكثر من ثلاثين مؤلفاً، في التاريخ والأدب والقصة.