شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
سطر...بدفء ليل!
(1)
● كعادته - دائماً - حاول أن يستفز مشاعرها الغافية. أراد أن ينطلق معها وبها كصاروخ.. ليرقى إلى حدود نجمة عالية، كأنها درب الغد!
كتب إليها نجواه عنها.
كتب ضلوعه حروفاً تصطفق كموج، وكلمات تتردد كخفق، وبوحاً يتمدد كآهة!
أخذها إلى خارج الزمان، واسترجع أصداء ذلك الخفق، وترجيع تلك الآهة الصافية واصطفاق ذلك الموج.
أبحر بها فوق عتو ذلك الموج وفوق انسيابه تارة، واندفاعه تارة أخرى.
تلفت نحوه.. فإذا الماضي كله، من خلال همسه لها، يتراص.. كبيت من أجمل الغزل، ويتناثر مرصوصاً في الرجع.. كنجوم متلألئة، غيبتها السحب زمناً طويلاً،
(2)
استرجع بدوره الأصداء من الماضي..
كان في زمن الطموح، والمكابدة، والعشق الذي لم يغبره تراب الزمن: يشرئب نحو أحلام لم يعتد عليها فساد الانكسار تارة. والحزن تارة أخرى.
استعاد قهقهات تلك الأمسيات الصافية.. بهجة تلك الشفاه المبتسمة.. رغم هواية "الدبابيس"
التي يجيدها بعض الناس، فيشكون بها الآخرين، ولا يؤلمونهم، ويستفزونهم ولا يجرحونهم، ويثيرونهم ولا يعفّرونهم!
يا لمعاناة هذا الإنسان اليوم. كتب إليها - أخيراً - :
ـ "هاهي أمسياتنا يجللها الشيب. هاهي شفاهنا تستغرق في الريح، وتتيبس"!
ـ "كنت في الماضي أخرج من بين ضلوعي شاباً أتقافز وأرقص على كل الطرقات، كنت أمسك
كل نجمة تحاول أن تختفي، وأجلسها بجانبي وأمامي.. لتحرس لي التلة والبحر"!
ـ هل مازلت تذكر.. أيها الوفي لليل؟!
كأنك اليوم في معاناتك، وفي استرخاءة هذا الجيل المتكئ على الذكرى.. تفاجئ الناس بكلماتك تضيء هذا الليل.
هاأنت.. هذا المتطوح في الأصداء.. كأن كلماتك حداء، وتردد:
ـ "معاد هذا المساء..
معاد هذا الليل..
إنه يزحف إلى صدري، ويثقل لساني.. فلا أجيد الكلام!
معاد هذا الليل.. ويتيم هو وحده، ويتيم أنا من الخفقة.. وحدي أيضاً"!
هاأنت.. هذا المدلج في الذكرى، تواصل إنشادك الحزين:
ـ "هذا ليل آخر.. ليلنا القديم كان يقول الشعر بالترنم والدان..
كان يملأ الدنيا إيقاعاً.. كان نشوان يصطاد النجوم حيث كانت للسماء نجوم!
كان ليلنا يفهم - بدر شاكر السياب - وكانت عيناه تسقطان دمعتين، وتخفيان الحزن.
الآن.. لاشيء أكثر من غيمة تأتي، وتذهب.. غيمة عاقر، لا تمطر"!
ترى.. هل تبدلت الدنيا.. أم نحن الذين تغيرنا؟!
لعل المشكلة تكمن في حقيقة واحدة، وهي:
ـ إن أرواحنا كانت مفعمة، حبلى بذلك الزمان الممطر وجداناً.. وأن مادياتنا أصبحت عاقراً، لا تلد الفرح لأرواحنا، فأصبح لدينا هذا الانفصام ما بين الروح، والمادة!
(3)
قبل أعوام.. حاورها عن الليل!
يومها.. خط قلمه هذه الملامح التي رسمت وجه الليل، ومضمونه بها، فقال لها:
ـ "ليل الطفارى يبني ناطحات السحاب، والقصور، والجنائن. على مد النظر"!
ويحلم الطفران.. حتى يسلبه النعاس أحلى أحلام اليقظة، وعندما يستيقظ.. يردد تلك العبارة الشعبية التي كان يسمعها
في الحارة: كلام الليل مدهون بزبدة!
ـ سألته: وليلنا.. ما لونه، ما هو مضمونه؟!
ـ قال: إنه ذلك الليل الذي تعربد فيه ألوان المشاعر، صخابة بالخفق.. مولودة بتحدي الملل.. تزرع رايات الحلم في كل الجهات!
ـ قالت له: هل مازلت تذكر؟!
ـ قال لها: في حوارنا ذلك.. قلت لك: الليل يمثل البداية عندي.. بداية أن أجد نفسي بعد تطواف حارق طوال النهار.. بداية أن ألتقط معاناتي لأسكبها في قالب نقي.. بداية أن أعثر من جديد على كل الأشياء التي افتقدتها طيلة النهار!
ألم تقرئي عبارة - جبران - التي لم تمت، رغم موت أشياء كثيرة: "إذا أماتتني امتهانات البشر لمحتواهم الإنساني نهاراً.. أعادني الليل إلى جوهرهم"!
ألم تسمعي انسياب صوت "فيروز" في وريد الليل.. رغم ما صار، وكان، وما سيكون، وهي تردد: "سهار بعد سهار.. تايحرز المشوار"؟!
المشوار.. جئنا اليوم إلى بوادر حصائله.
الليل.. هو بيتي الذي أختبئ فيه من الشرور، ومن البعثرة ومن الكراهية.. لأستمد فيضاً من المقدرة على مواجهة كل السخافات، والإسقاطات، والإحباطات..
في الليل.. أقذف ساعتي من يدي، فالليل ليس له ساعات.. الليل لحظات قد تمتد لتصبح عمراً!
(4)
ـ أسألك أيضاً: هل ما زلت تذكر لون حواراتنا، وخلافاتنا، وقهقهاتنا؟!
ـ أوه.. اندرست أكثر المواقع. أهمها: أن يجد الإنسان شارعاً، يشعره أنه بيته وليس منفاه، وأن يجد اتكاءة.. لا يسترخي في تضاعيفها، وإنما يجادل، ويحاور، ويناكف، ويشاكس، ويردد بعد ذلك كله قصيدة "السياب": مطر.. مطر.. مطر.
ويردد أشعار "أيوب طه" وأغاني "علي محمود طه" أيضاً!
أوه.. كان صديقي المتغرب الآن في ذهوله يتحفنا بعبارات مأثورة.. كان يدعي أن قائلها هو "نيتشه".. فيرد عليه أحدنا ضاحكاً:
ـ "نيتشه" لا يقول كلاماً ركيكاً!
كنا نضحك من قلوبنا، وتتزحلق الكراهية من بين الضلوع كقطعة ثلج تذوب!
وكنا بهذه القراءات لأعماقنا ننطلق من عتمة التعب، إلى همسات المساء، وأحلام الغد!
ـ هل تذكر سؤالي القديم لك عن متناقضات الليل؟!
ـ أذكر أنك سألتني مرة: البئر، النجوم، الحقل.. كيف تراها في الليل؟!
قلت لك يومها:
ـ البئر: هاوية يسقط فيها الظلام والعمى.. لكنها تضيء من أعماقها بنعمة الارتواء، فينبغي أن لا تكون آبارنا قاحلة، أو مهجورة!
ـ النجوم: شفة أنثى لم تكذب بعد!
ـ الحقل: رائحة أم..لم تترهل، رغم فقدانها لكثير من الحنان!
(5)
ـ سألتني بعد ذلك: متى تكون مفقوداً؟!
ـ نعم.. لقد أجبتك قائلاً: دعوني أنظر في عيون الناس أولاً، لأكتب لكم إجابة رائعة!
آه.. أيها الكلام!
منذ ذلك الحين.. وتطلعي إلى عيون الناس لم يتوقف.. لم يسأم.. ولم ييأس!
آه.. أيها الكلام!
لكن "نظرة" الناس اختلفت!!
لكن عيون الناس تلونت!!
ومازلت في تطلعي المستمر.. أبحث عن إطلالة صدق ومحبة.. لئلا أعود إلى الليل كل مساء، وأنا موال مجروح!!
ـ وإذن؟!
ـ لا أعتقد أنني سأقول شيئاً عن بوادر الحصيلة.. العبارة المرتقبة مع الزمن الذي يغذ إلى الشيخوخة!
لن أقول: أنا والليل وحيدان.. لم يعد يطرق بابنا أحد!
ولكن ...............
مازال معي "السياب" في قصيدته: "مطر... مطر"!
مازال معي هذا الليل.. عند منتصفه تنتشر عينا حبيبتي لتصبح بحجم السماء والنجوم!
 
طباعة

تعليق

 القراءات :833  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 43 من 545
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور سعد عبد العزيز مصلوح

أحد علماء الأسلوب الإحصائي اللغوي ، وأحد أعلام الدراسات اللسانية، وأحد أعمدة الترجمة في المنطقة العربية، وأحد الأكاديميين، الذين زاوجوا بين الشعر، والبحث، واللغة، له أكثر من 30 مؤلفا في اللسانيات والترجمة، والنقد الأدبي، واللغة، قادم خصيصا من الكويت الشقيق.