شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
التجربة
ـ إن حياة الناس تكبر في الأسرار.. وتتضاءل في الرثاء!!
عاجز هو عن الدخول في الجلد الزائف!
تعذبه الحيرة بعنفها الذي شرخ أعماقه، ويتلوى في أحشاء هذا الليل فوق سريره وحده..
جاء منسحباً من النهار.. وقد غادر الشوارع، وحلقات السمر التي تتعالى أصوات أصحابه فيها صارخين:
ـ أربعة حكم. ألعب يا غشيم. أجننك!
ـ ويرد صوت آخر: وحدة ميه.. اكشف ورقك..اللعبة خسرت!
عدة مرات ربما يستطيع أن يحصيها على أصابع يده.. تلك التي حاول فيها أن يسهر، وأن يجاري أصدقاءه في لعبة قتل الوقت، أو قتل الملل، وكان يقول لهم ساخراً:
ـ أنتم لا تقتلون الوقت.. أنتم تقتلون قدرة الإنسان فيكم! كان يتطلع إلى وجوه أصدقائه، وإلى وجوه زملائه في العمل، وإلى كثير من الوجوه العابرة في الشوارع.. فيشعر لحظتها وهو يحدق في تلك الوجوه، وكأنه يغمس عمره في الحياة كما كسرة خبز جافة.. وكأنه كان يريد أن ينبش صدور الناس ليحصي ما تبقى داخلاً من صدق، ومن حنان، وأن يتسلق أذهانهم ليبصر ما علق على جدار الرأس من المراثي، وأن يدق على ضلوعهم لعلّه يستعيد همسة شاردة منها. يرغب فعلاً أن يجمع دموعه فيغسل بها ذلك كله وأن ينثر ابتسامته فيسترد أشياء كثيرة ضاعت!
كان يتأوه في هذا الليل وحده، وتردد الجدران أصداء تأوهاته.
كانت تؤرجحه نوازع مختلفة.. جعلته يقف في وسطها مشدوداً من الجانبين!
إنها الحب، والمعاشرة، والالتقاء، والاختلاط.. وتتصاعد آهته أكثر.. يخاطب نفسه:
ـ إننا لا تقدر أن نجرد ذواتنا من هذا المزيج.. لأننا لو فعلنا.. لو تأكسدنا.. نتحول إلى خارطة عليها جغرافية الممارسة، ومناخ الأصداء الضائعة، وتضاريس التعامل المحصور في الرغبات أو تفرد الذاتية!
لقد خاض الكثير من التجارب.. بعضها انتهى تافهاً، وبعضها الآخر ترسب في داخله كوجع يشتد عليه ما بين حين وآخر!
ويعرف أن التجارب العميقة لا يمكن أن تتلاشى بنهاية.. لا تدفع الإنسان في محصلتها أن يقول: ليتني لم أفعل، فهذا يعني الندم، وهو - حتى الآن وهو يبلغ السادسة والعشرين - لم يندم، ولكنه يردد كلما خلا إلى نفسه فيقول:
ـ لا بد لكل تجربة في حياتنا أن تخضع زمن الإنسان للمقياس الذي تتشكل منه مجموعة التجارب!
إن حياة الناس تكبر في الأسرار، وتتضاءل في الرثاء!
وفي وحدته هذه يشعر أنه كثيف الوحدة.. متضاعف في الرثاء..
كان يصغي إلى الحيرة في نفسه.. يتمنى لو كان يعرف حقيقتها؟!
ومن صفاته التي أحبها في نفسه، وجافاه الناس بسببها: اتهام أصدقائه له أنه إنسان ((وحداني)) يميل إلى العزلة، والخلوة الطويلة إلى نفسه!
إنه لا يقحم نفسه في أمور الناس.. لا يتطلع إلى محاكاتهم.. إنه شيء سلبي في رأي الناس، ولكنه في رأي نفسه: إنسان يتاخم الشفق، ويجرح الأبعاد، ويصير المسافات من العمر وجعاً في الكشف عن الحزن، وألماً في الامتلاء من الشعور!
ويتذكر تلك الأمسيات.. عندما يعود إلى البيت مبكراً، ويرى شقيقته الوحيدة قبل أن تتزوج وهي تشاهد التلفزيون وبجانبها مجلة، والخادمة تغسل الأوعية في المطبخ، ويسلم على أخته بفتور، وتقترب منه تسأله:
ـ هل أحضر لك العشاء؟!
ـ ويقول لها: أخبار نفسيتك إيه؟!
ـ وتقول له: عايشين!
ويعتذر لها عن العشاء، ويدخل إلى غرفته مستأذناً منها بتعبه!
لكن هذا المساء سيطول حواره مع نفسه.. وكأن أنفه قد تورم.. لأن الناس قالوا عنه: إنه لا يرى غيره. أما إحساسه فكأنه يتبلور تجربة جديدة قادمة تختلف عن كل ما عبره أو تجاوزه، وعن كل ما شعر به وتلاشى، وكأنه أيضاً يحاول القفز فوق الحيرة.. أن يفتتها ليخلص إلى حل، أو إلى قناعة بكل ما رفضه في الماضي، وإلى تقبل لكل ما سيأتي!
وبكل ملابسه.. قذف بجسده على السرير يحفر بنظراته سقف الغرفة.. إنه يحاول في هذا التأمل أن يطرح الزيف الاعتيادي المكتسب من علاقاته بالناس.. فالإنسان أصبح في ظروف هذا العصر يخضع لهذه القاعدة:
ـ أنا لست مع نفسي، ولست ضدها!
وفكر طويلاً.. مضت ساعة من الزمن، وساعتان، وهو لا يحس بهذا الزمن السلحفائي.. وهمس لنفسه:
ـ ترى.. هل قلت إنها تجربة؟!
نعم.. إنها تجربة، ولكن.. وما كانت التجربة أكثر من مغامرة تدغدغ الذات، وتنعش الأنانية بعض الوقت، وتبرد الغريزة، ثم تستدعي فينا الدواعي النفسية مثلما ننادي القطط لتألفنا!
وقرر الآن أن يفعل شيئاً:
ـ الآن يا مجنون؟.. أثبت. المزيد من التفكير لئلا تندم!
كان يحادث نفسه كمخبول.. لكنه يريد أن يقطع بالرأي، ويحسم التردد، ويختبئ في جوف حصان طروادة ليختار الوقت الذي يجعله قادراً على الوثوب فوق ظهر الحصان، وينطلق بأحلامه.. حتى أحلامه كان يعاملها مثل الناس.. بالوحدة، وبالعزلة، وبالهروب منها!
وعاد يتساءل: ولكن.. هل هي مغامرة، أم هي تجربة تختلف عما سبقها؟! أوه... اللعنة على هذه الحيرة. كل الأسئلة كالشوك، وأهم ما يحرص عليه أن لا يخسر مستقبله!
إنه ناجح ومتفوق في عمله..
وفي حوافزه لبناء الإنسان المتكامل في داخله.. يعتقد أنه قد حقق شوطاً بعيداً.. درس، وتحصَّل على شهادة جامعية، ونمّى تجارة والده بعد رحيله عنه، ويحب القراءة بقدرة تجعله يفصل بين طموح التجارة، وضرورة غذاء العقل والروح، ولكنه لا يريد أن يصبح نجم مجتمع، فهو يكره الزحام، وفي خلواته مع نفسه يبلغ مراقي الأفكار المشعة، والشعور الذي يرغد نفسيته ويغذيها!
ولكن.. إلى متى يزيف أحلامه ويدعها تغذ في المتاه؟!
وهل كل أحلامه محصورة في وجود أنثى في حياته؟!
ربما الآن.. هذا هو المطلب المباشر والهام، فحياته المادية ناجحة، والحمد لله كلها متيسرة وزيادة في الأرباح. وهذا العام استطاع أن يثبت قاعدته التجارية ويكسب الكثير.. وقبل ذلك كان منقوعاً في الاحتياج المادي.. أو أنه كان إنساناً متوسط الدخل.. رضي بما وجد عليه نفسه بعد أن رحل والده وترك له تجارة مضعضعة بعد عدة سقطات وخسائر. ولم ينل اليأس من عزيمته وتصميمه، وخرج من الأزمة، وانطلق كرجل أعمال ناجح!
وعندما مات والده.. لم يكن يشاركه في بيته سوى أخته التي تصغره، وقبل عام.. احتفل بزفافها إلى شاب يحمل الدكتوراه، وتنفس الصعداء، فالآن قد ضمن مستقبل أخته وحياتها، والآن يستطيع أن يفكر في نفسه، وأن يكمل النقص الذي يجعل حياته باهتة، والآن يختار الأنثى التي تملأ قلبه وحياته بالحب وبالحنان وبالأطفال، وترسم معه درب المستقبل الجديد!
الآن.. يمكن أن يطوح بكل التجارب السابقة المؤقتة، ويتلفت بحثاً عن التجربة العميقة التي تصبح بذرة لشجرة العمر!
وحينما كان يختال في أمانيه.. أيقظه جرس الباب من هذه الرؤى الرومانسية:
ـ ترى.. من يقرع الجرس، فأنا لا أتوقع زيارة أحد؟.. وأكثر أصدقائي ينفرون من زيارتي، فأنا لا أتحدث في الكرة وأكره ذلك، وأنا لا أحب كثيراً أن أستعمل الوقت كثور هائج أعامله كمصارع الثيران، فإما أن أقتله بدون أن أستفيد منه وبوحشية، وإما أن يدهسني بحوافره وأقضي!
وتثاقل على نفسه.. يخطو إلى الباب وصوته يتقدمه: حاضر سأفتح!
ثم كانت المفاجأة.. أخته تقف أمام الباب وقد بللت الدموع وجهها، واحتضنها، وأجلسها على حافة سريره حائراً فزعاً.. يسألها بإلحاح:
ـ ماذا حدث.. تكلمي.. أخبريني!
وما زالت أخته تواصل البكاء بنشيج:
ـ قال لها: لم تمض على زواجكما ستة شهور بعد.. فماذ حدث؟!
ـ قالت أخته: إنني لا أطيق هذا الرجل.. إنه أناني في كل شيء. إن شهادة الدكتوراه التي يحملها قد رمته أبعد من سور منزله، فهو لا يتكلم إلا عن قيمته في المجتمع، وعن علمه الواسع، وعندما يكتب مذكرة في البيت.. أصحح له فيها أخطاءه النحوية!
ـ قال أخوها: لا تبالغي وأنت في غضبك؟!
ـ قالت: صدقني، فأنا لا أكرهه، ولكن طريقته تجعلني أمقته، ولقد تحملت الكثير من سخافاته، لكنني ما عدت أحتمل طالما أنني أسمعه وأراه يتكلم من أنفه.. إن له أنفاً أكبر من الدكتوراه، وفي نفسيته قدرة على تعذيب عفوية الآخرين بما لديه من عقد لا تحصى!
ـ قال لها بعد أن هدأ توترها: عودي إليه، فهذه مهمتك.. إن البسطاء دائماً هم أصحاب الأدوار الصغيرة التي تؤثر وتغير في التصرفات المرهونة بمركز، أو بحالة، أو بانتفاخ. احتملي عدم قدرته على أن يكون إنساناً طبيعياً.. بقدرتك على البقاء بجانبه في واقعك الإنساني، ودورك كزوجة، وإلا.. فسوف يطلق كل النساء في أيام الزواج الأولى!
* * *
وأحاطته الوحدة من جديد.. داخل جدران الغرفة الأربعة. لقد استطاع أن يقنع أخته بدورها الصعب وهو يعرف أنها تحب زوجها ولا بد أن تنجح بالحب!
واختال في تحديقه وجه الأنثى الذي حفر في عينيه، وفشل أن يبدده!
ترى.. هل يتحول ذلك الشعور الذي أحس به يومها ينغل في عروقه.. فيصبح لا أكثر من ذكرى جميلة تطوف به في ليالي الوحدة والملل؟!
إنه يستعيد ما كان:
ـ (قبل أربعة شهور.. كان ينجز عملاً تجارياً له في إيطاليا، وشعر بعد إتمام صفقته التجارية بالرغبة في الراحة، وبعفوية قطع تذكرة إلى لندن.. لعلّه يقضي وقتاً طيباً في الريف الإنجليزي، وفي اليوم الأول له في لندن.. أراد أن يطوف المدينة ليتفرج، ثم يختفي هارباً في الريف. وأتعبه التجوال فدخل متجراً كبيراً، والتقى هناك بزميل قديم له في الدراسة، وتعارفا بعد تلك السنوات الطويلة، وقدم إليه صديقه امرأة في الخمسين: أمه، وفتاة في العشرين: أخته، وساروا جميعاً في حوار متشعب غير مترابط، وأصر صديقه أن يتناول معهم الشاي في مسكنهم.
وهناك.. سألها عن دراستها، وشعر أنه يضطرب.. لقد ارتج عليه وهي تقول له:
ـ حصلت في بداية هذا العام على الدكتوراه!
وخفضت رأسها حتى كاد يلامس صدرها النافر، وقد شاع في وجهها خفر العذارى.. أما رأسه المرفوع، فيحس به متطوحاً في فراغ شاسع، ولكنه حاول أن يتماسك، وسألها مجدداً:
ـ ماذا كانت رسالتك؟!
ـ قالت: أخذتها في الأدب الإنجليزي!
ـ قال مبتسماً: أما أنا فلا أملك إلا البكالوريوس، ورجل أعمال يحاول أن يكون ناجحاً:
ـ قالت: اللغة الإنجليزية تفيد كثيراً في التجارة!
ـ قال ضاحكاً: بشرط أن لا نتكلمها بأسلوب شكسبير مثلاً)!!
* * *
وحمل معه إلى البلد أصداء تلك الضحكات البريئة الصادقة، وقد تجمعت من قلبين.. أحدهما يصارع أشتات الحيرة والحنين، والأسئلة التي لا تنتهي!
كان يتكئ برأسه على الوسادة ويحدق في ظلال الضوء المنعكس:
ـ هل هي مغامرة.. هل هي تجربة.. هل تكون مجرد حلم يتحول الآن إلى وهم ماتع بهيج؟!
الأسئلة لا تكفي، واستطرد يحاور نفسه:
ـ هل هي الحياة الحقيقية القادمة.. وهل أخرج الآن من داخل حصان طروادة وانطلق لخطبتها؟!
قدماه ترتعشان.. قلبه يدق كمنفاخ.. كجرس يضغط عليه إصبع قلق:
ـ ترى.. هل يمكن أن تكون شهادة الدكتوراه في نفسها.. مثل شهادة الدكتوراه في نفس زوج أخته؟!.. كان لا بد أن أكتشف.. أن أجرب عفويتها.. أن أسبر أغوارها.. أن ألاحق أفكارها عن المستقبل والحياة الزوجية!
وكيف يكون التعامل بين أنثى تحمل الدكتوراه، ورجل لا يملك إلا البكالوريوس.. هل يشكل هذا فارقاً، وتأثيراً على العاطفة الإنسانية؟!
أبداً.. لماذا هو يصعد الحكاية بهذا الشكل المدمر؟!
ـ ألا تهدأ.. فكر طويلاً لتصل إلى قناعة تامة؟
يحادث نفسه كما مجنون، ويرد عليها:
ـ وإذا هدأت وانتظرت، وطارت الطيور وخطفها من هو أسرع مني خطوة.. ما الذي أفعله حينذاك.. كيف أكون بعدها؟!
بعدها؟!.. أنت تحبها بالفعل، ولكن.. الدكتوراه.. أوه.. أوه..
* * *
وقرع جرس الباب!!
ـ يا ألطاف الله.. اللَّهم اجعله خيراً..
وخلف ضلفة الباب كان وجه أخته!
عرك عينيه يحاول أن يثبت رؤيته:
ـ ماذا أيضاً.. فشلت خطتنا؟!
دخلت أخته هادئة لا تنبس بكلمة.. وهو يركض خلفها متسائلاً:
ـ أريد أن أرتاح.. لماذا هذا البرود؟!
أضاءت الابتسامة وجه أخته، وأخذت يده إلى يدها قائلة:
ـ بارك حياتي يا أخي.. أخيراً.. لقد تخلصت من مقتي لزوجي. كان كل تفكيري أنني أحبه حقيقة، وحاولت أن أفهمه، وبسطت له كل شيء في نفسي، ففهمني، وأقنعته بالنقاش، وإن كل إنسان يحمل عيباً، ولا بد أن يعالج عيوبه وهي ستقتله إن لم يذوبها، ولا بد أن يواجهني بعيوبي، ونحن الآن من أسعد الناس.. لقد انتفعت بكل ما قلته لي.. لقد جئت إليك بفرحتي، فأنا حامل!!
وركض يجري إلى غترته وعقاله، ويرتدي ثوبه على عجل، وأخته تفغر الفاه مندهشة:
ـ ماذا حصل يا أخي.. ما الذي ستفعله؟!
ـ قال لها: أنت حامل، وهذا خبر سعيد، وأنا ألقيت كل حملي وهذه نتيجة سعيدة.. لقد نجحت التجربة.. نجحت!
وانطلق يجري نحو باب الخروج، وأخته تلاحقه وتنادي عليه:
ـ أخي.. ما هو الذي نجح.. أية تجربة.. إلى أين أنت ذاهب؟!.. تمهل فتأخذني معك إلى بيتي!
صوته بقربها في العربة يغني: ذاهب إلى التجربة الحقيقية.. ألا يسعدك أن أتزوج الآن؟!!
 
طباعة

تعليق

 القراءات :689  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 34 من 545
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاثنينية - إصدار خاص بمناسبة مرور 25 عاماً على تأسيسها

[الجزء الخامس - لقاءات صحفية مع مؤسس الاثنينية: 2007]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج