شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
ناني
ـ كل الأمكنة واحدة إذا اجتمعنا.. كلها مختلفة إذا افترقنا!
لأن الموت حقيقة، فهو وحده الباهر في دنيا تلونها الأوهام!!
ـ تجف الأرض.. تجف!
تتشقق عطشاً، ونداء..
تتفلح الأرض، والخطوات فوقها تدك العطش..
تدك النداء، وينبجس الظمأ كالنبع الذي ينوح!
يا ذلك المطر: انسكب في النفس.. أغمرها يا ذلك المطر!
يا هذا الليل الممطر أصداء ولوعة وشجناً: دفعة واحدة وينغرس النصل في خفق الفؤاد، أو تنبت زهرة في فيافي الظمأ وحشية تحنو على الدموع.. دفعة إلى الأمام، أو دفعة إلى الخلف!
ولكنه لا يدري.. لا يحصد إلا سحل الحياة..
كان قد اقترب من سياج الكورنيش. كانت أشياء كثيرة قد ابتعدت من رأسه، وفارقت صدره المرتجف.
ما الذي يفارقنا، والذي نفارقه إذا اضطربت الرؤى؟!
ولكنه لا يدري...
خروم كثيرة متشابكة ومعقدة.. كما شبكة الصياد كانت نظراته. طوح بها في اللامدى.. بعثرها في الظلام الكثيف لتضيع به.. تضيع معه في لا نهاية هذا البحر الممتد أمامه كما السر.. كما التعب، لتختلط بعد ذلك بترددات الموج الخافتة.. كأن البحر يتنفس!
ـ (ما أجمل هاتين العينين، وهما تهمسان بالنظرة الواثقة.
لا.. بالنظرة التي ظن أنها واثقة في المساء الأول، وكانت تحف صوته بهاتين العينين، زائغ النظرات هو، ولكنها وجدت في نبرة صوته شاطئ أمان. تشبثت بالصوت. أدمته بالجدل ليستطرد ويحكي أكثر وأطول. وبتينك العينين ذات النظرات المدثرة في ظلال المساء.. شدت الصوت إليها بلا هوادة. طرحت نبرته وبعثرتها فوق رمال باردة لزجة بالرطوبة، ولم تنم العينان، وانشرخ الصوت وهو يحتبس في حنجرته بعد توديعها)!!
تجف الأرض.. تتفلح بالظمأ..
وهو لم يعد يدري.. هل كانت دفعة إلى الأمام، أم دفعة إلى الخلف؟!
نفخ بشفتيه المكتنزتين قليلاً على التراب البارد المبتل بالطل.. على الحصى المتناثرة كأنها نفايات المد.. على الغبار الذي عجنته الرطوبة فوق السياج لئلا يتسخ ثوبه الناصع بياضه.
بياضه؟!.. هه..
أيكون الثوب أثمن بكثير من نصاعة النفوس التي تلوثت بالحقد، وبالحدة، وبالأدواء الغريبة والمقتحمة؟!
ولكنه كيف يستعيد الآن نظراته الهاربة من عينيه؟!
وما الحصيلة؟!
النظرات محدودة بمداها.. لكن الشعور منطلق إلى أبعد من حدود الأرض، وقد جفت الأبعاد بفعل هذا الجفاف في رؤية الحس.. في عاطفة الإنسان!
يا ذلك المطر: انسكب في الصدر يا ذلك المطر.. ليختمر ببذرة الوجد!
الأحجار. الرمال. الموج الواهن المتسكع على وجه البحر في صمت الليل، وبقايا الناس... كلها أشياء تلتصق بجدار سياج الكورنيش على حافة البحر الواقف أمامه، وبساقيه المتدليتين من فوق السياج.. يطوح بالفراغ كأنه ((يدوخ)) ما تبقى في صدره من عشق.
وجهه إلى البحر، وأذناه لم تعودا تسمعان أصوات السيارات المنطلقة بجنون فوق الأسفلت من خلفه.
الناس يثقبون الليل بتفاهاتهم. طرقات منطقة ((الحمرا)) تشتعل بسرعة السيارات التي تدور حول نفوس أصحابها، وقد اختبأوا داخلها يبحثون عن الصدى في هذا الليل!
ـ (ساحر صوتها وهو يتردد في سمعه من خلفه. كانت تختبئ بظلال نفسها، وحيرة بوحها في المقعد الخلفي للعربة. كان صوتها نجمة في ضباب، وكانت تحاول أن تنتزع نفسها من الضباب في نفسها لتتناسى ما يمزقها من الداخل. لحظة رؤية للحياة ولو بالوهم. وهو أمامها.. أمام مقود العربة، وهمها الجميل الذي عايشته في خلوتها هو.. في تفجر أنينها الذي تكبته كلما واجهت الناس وصديقاتها.. هو)!!
وما زال الناس يثقبون الليل، والسيارات تنطلق من خلفه فوق ظلام الليل، ونظراته تنطلق هي الأخرى بجنون.. لا تنظر إلى شيء، وإنما إلى كل شيء غامض مبهم.. لكنه يشع في ظلمة هذا المساء حزناً!
نظراته تسافر ولا تعود.. تدخل صدره وتحتبس!
نظراته تجسد في حدقتيه ملامح تشف وتشف حتى تتحول إلى روح..
نظراته تتخطى الأضواء الباهتة المتناثرة فوق أرصفة ((الحمرا)):
تتخطى أيضاً الأضواء الصفراء المرئية عن بعد قادمة من الميناء.. صفراء كما هذا الألم في صدره، وقد افتقد ميناءه!
رأسه يدور في كل الاتجاهات..
في الصمت.. كأنه غلالة للبحر، وصرخة في أعماقه المكتومة.
في الشجن.. كأنه صدر العالم المطعون الفاسد، وعذاباته.
في اللهب.. حينما ابتدأ شمعة أضاءت جوانحه، ثم أحرقت الجوانح! الرطوبة شديدة، والهواء يلفح أنفه وصدره..
ما الذي يفر منه هؤلاء الناس الذين يتجولون عبر شوارع ((الحمرا)) في هذا الليل الفارغ؟!
الفراغ يفرغ الفراغ.. يفرغ السأم ويقذف به إلى البحر، وتهدأ النفوس والغرائز.. بالوهم أيضاً!
ـ (هل نتحرك إلى مكان آخر يا ((ناني))؟!
من وراء المقعد جاءه صوتها قادراً على تحييد التعاسة:
ـ ولكن.. كل الأمكنة واحدة إذا اجتمعنا.. كلها مختلفة إذا افترقنا!
ـ آه.. تتحركين بصوتك في مسامي كالضوء.. تنعشين هذا المتعب المعنَّى بالحسرة ليستيقظ ويتكامل من جديد!
ـ قالت ناني: لم أسمعك تجيب. هل كنت تحادث نفسك أيها الفنان الغريب؟!
ـ قال: كنت أفكر في الظمأ. الإنسان يا سيدتي شره طماع.. يشرب الكأس الأولى ولا يرتوي ولا يكف.. يخوض التجربة ولا يكتفي ولا يحذر، ولكن.. كيف نجعل القلوب تحذر؟!
ـ قالت ناني: هل تقصد أن المكان يمكن أن يكون هو الظمأ، أو يكون هو الارتواء؟!
ـ قال: أقصد أن الشعور بالظمأ، أو بالارتواء هو الذي يعطي المكان أبعاده وقيمته.. لذلك فكرت أن نتحرك من هذا المكان لنجرب الشعور الآخر!
ـ قالت ناني: هل تشعر في هذا المكان الذي يضمنا الآن بالظمأ؟!
يبتسم كأنه يهذي.. يلتفت خلفه لينبش ملامحها من تراكمات الظلال عليها.. يقول لها:
ـ لا أستطيع أن أعرف شعوري عن هذا المكان.. إلا إذا جربت مكاناً غيره، وعرفت شعوري فيه!
ـ قالت ناني: إذن.. لنذهب إلى الرصيف الآخر الملاصق للبحر. هناك رجل يسهر الليل ليبيع السهارى الذين يشعرون بالظمأ زجاجة بيبسي.. ألا تود أن نشرب أنت وأنا من زجاجة بيبسي واحدة.. ليكون بيني وبينك ماء وسكر مثلما بين الناس عيش وملح؟!)..
الفراغ يفرغ الفراغ.. وتهدأ النفوس والغرائز بالوهم أيضاً!
وما زالت ساقاه مدلاتين من فوق سياج الكورنيش يسترجع الكثير، وخفقاته كلها مدلاة. الذي يضيع لا يعود. الضربة القاصمة، وشاهد الإثبات في النهاية هو العقل لو بقي.
آه منه هذا العقل..!
إما أن يعود بالقناعة والتجربة، أو يتبدد في الفقد لأشياء غالية!
إنه يستعيد ذلك المساء..
كان يقف أمام باب بيته في ((البغدادية)). عيناه تحولتا إلى كاميرا سحرية تلتقط أغرب المناظر والملامح والتصرفات. عالم يموج بالمتناقضات: مكتبة مفتوحة لا يدخلها إلا نفر قليل.. أكثرهم يبحث عن كراريس مدرسة، ومحايات، ومساطر. طز على الكتاب والمعرفة لا يؤكلان عيشاً!.. بجانب المكتبة ((سوبر ماركت)) بابه مزدحم.. داخله مزدحم. يا الله.. ليت الناس يفكرون بنصف الوقت الذي يأكلون فيه.. كأن الحياة معدة!.. سيارة يابانية صغيرة تتلوى فوق الأسفلت المكسر تتخطى كل السيارات.. لماذا يتعجل الناس الموت والتشوهات؟!.. امرأتان تشيران لسائق تاكسي فلا يقف.. لماذا هو تاكسي؟!
ـ آبيه عاصم.. آبيه عاصم؟!
أخته الصغرى التي يدللها.. حلوة وشقية، لقد رعاها بعد وفاة والده. إنها كثيراً ما تدخل عليه غرفته وهو يرسم. كثيرة هي أسئلتها.. تسأله في كل مرة:
ـ من هذه المرأة الحلوة التي ترسمها يا آبيه.. هل رأيتها.. صاحبتك؟ ليه طيب ترسمها؟.. اللون الأخضر أجمل من اللون البني يا آبيه.. أنت ذوقك وحش يا آبيه.. بس لما رسمتني كان ذوقك يجنن يا آبيه!
ـ ماذا تريدين يا غادة يا شقية؟!
ـ التلفون يا آبيه يقول لك فيه واحدة تبغاك!
ـ وحدة؟.. قالت لك اسمها يا غادة؟!
ـ اسمها.. اسمها. يا خويا ما شاء الله يعني!
ـ بس يا بنت.. عيب!
ـ عيب عيب.. إنما صوتها حلو بشكل يا آبيه. بنت الكلب صوتها يسطح!!
ـ (يومها أمطرت السماء. ارتوت الأرض. يومها كان اسمه: يوم المرة الأولى. كانت ((ناني)) تتكلم بصوت مغموس في الحزن)!!
ـ قالت له: رأيت معرض لوحاتك. أعجبتني لوحة واحدة اسمها: الموت!
ـ قال لها وهو يلون فزعه بنبرة ضاحكة: ولماذا الموت بالذات.. ألم تعجبك لوحة الأمل؟!
ـ قالت ناني: الموت لأنه الحقيقة.. هو وحده الباهر في دنيا تلونها الأوهام!
ـ قال: لماذا اليأس.. لماذا هذه النظرة الداكنة؟!
ـ قالت: بالعكس.. إنها نظرة صافية.. أحسب أنها تضفي وضوحاً على كل نظراتنا الأخرى لشهواتنا وملذاتنا وأفراحنا!
ـ قال: لكن الحياة تحفل بالسعادة، الأمل وحده سعادة. إننا لا نقدر أن نحكم على الحياة بالموت. لا نستطيع أن ننتج ونحب ونترابط ونبدع ونتناسل إلا بفكرة الحياة.
ـ قالت: الموت يكبر في أعمارنا.. بينما الحياة تسلبنا هذا العمر!
ـ قال: ولكني أخالفك.. أشعر أحياناً بالحزن، لكنني لا أدع نفسي تضيع في اليأس!
ـ قالت ناني: تكفينا لحظة صدق.. إنها عمر كامل:
ـ قال عاصم: هل تقبلين عرضي؟!
ـ قالت: هل تريد أن ترسمني؟!
ـ قال: لأؤكد لك أن ملامح وجهك - رغم أنني لا أعرفها الآن - هي ملامح تعبر عن الفرح!!
ـ قالت: وجوهنا ليست هي نفوسنا يا عاصم .. أغلب الوجوه التي تراها هي أقنعة مزيفة!
ـ قال: والقلوب؟.. إنها ترفض الزيف والأقنعة، ومن خلال حوارك أعتقد أن قلبك مطبوع على وجهك!
ـ قالت: قلبي؟!.. إنه محارة مترسبة في عمق مناسبة حزينة!
ـ قال: كيف.. إنني لا أفهم؟!
ـ قالت: لا يهم أن تفهم الآن حتى تعرف قلبي لتستطيع أن ترى وجهي جيداً!!
* * *
ليته لم يولد ذلك المساء...
لا.. بل ليته تمدد وتمدد، وبقي وحده لا مساء بعده.. هو البقاء الدائم في العمر!
لكن مساء آخر آت..
الهاتف مرة أخرى.. إنه بجانبه ينتظر بلا موعد. إنها لم تمنه. لم تعطه موعداً. إنها ذابت مع صوتها وهو محكوم بالانتظار له.. الانتظار ما أقساه.. ما أروعه!
والأيام تتعاقب..
هل قال الأيام؟!... بل اللحظات تتفسخ.. تتقشر بين أضلعه، ولا يأتي صوتها.
سئم من رنين الهاتف وهو يحمل إليه الأصوات كالكرنفال.. ألوان غير متجانسة. مفاهيم تعيسة وسخيفة.. كل صوت يأتي إلى أذنه بمأذون:
ـ هل أنت عازب يا عاصم؟!
اللعنة.. متى كانت الحياة زواجاً فقط؟!
قبل اللعنة.. هو يفتش بضنى.. هو يبحث عن أنثى لا تتخلف في شعوره جثة هامدة بعد شهور. هو متعب جداً حتى الهلاك، ولا يعثر على أنوثة تهمس بالفهم وتعزفه. العالم مليء بالنساء الفترينات. جمال يهبل.. إنما الوعي في الحس بورصة.. النتيجة فيها غالباً هي الخسارة!
ـ يا عاصم.. كم فتاة عرفت؟!
عمى.. نفس السؤال السخيف. أرأيت يا سيد عاصم.. يا أيها الفنان الكسيح إن المفاهيم كوبيا؟!
ـ كثيرات يا صغيرتي، وأسخفهم أنت!!
ويرن الهاتف من جديد.. لا بد أنها تفاهة أخرى!
ـ قال: من؟.. محارة مترسبة في عمق مناسبة حزينة؟!
ـ قالت ناني: أنت لم تنس عبارتي.. ما رأيك لو جعلتها عنوان لوحتك الجديدة؟!
ـ قال: و.. كيف أجد مكان المحارة؟!
ـ قالت: عاصم.. أنت الإنسان المريح في كل هذه الحياة من حولي!
! ...........
ـ قالت ناني: أين ألوانك الصارخة في لوحاتك.. أنت لا تجيب؟!
ـ قال: الصمت يا ناني هو الألوان مجتمعة.. فيها الراحة والقلق.. فيها الخوف والفرح.. فيها العثور والفقد!
ـ قالت: لقد استطعت أن تلون نظراتي بألوان لوحاتك، وأن تلون أيامي أيضاً، والمفروض أنك لا تخاف.. أنا التي أخاف لأنك لا ترى نقطة واحدة في صدري لونها قاتم!
ـ قال: دعيني أدخل.. لأضيف إلى النقطة لوناً يجعلها فاتحة بيضاء!
ـ قالت: أمنيتي، ولكنها عجزي أيضاً. دع أشواقنا بريئة من إدانة الفراق لها يا عاصم!
ـ قال: هل مقدورنا أن نحيا المناسبة الحزينة طول العمر؟!
ـ قالت: عندما تعرف الحقيقة سيطول صمتك. أخاف عليك من هذا الاكتشاف يا عاصم، فدعنا نتحرك قليلاً.. لقد قررت أن أجعلك تحاول رؤية قلبي على وجهي.. إنني أنتظرك غداً بعد الساعة السابعة!
* * *
ليته لم يولد ذلك المساء..
((ناني)) تختار المقعد الخلفي وراء عاصم.. بجانبه تجلس أخته الصغرى الشقية غادة، وخلفها تجلس أخت ناني!
ناني تبتسم في ظلال المساء. ترسل صوتها من جانب أذن عاصم تقول:
ـ هذه أختك التي حدثتني عنها يا عاصم؟.. ستصبح في العشرين ملكة جمال!
ـ قالت الصغيرة غادة: سبقتيني يا أبلة ناني.. لولا الليل لحدثت الآن أزمة في المرور!
ـ قالت ناني: يا شقية.. عاصم قال لك أن تقولي هذا الكلام؟!
ـ قالت الصغيرة غادة: آبيه عاصم؟ يا حرام.. خلاص ما يعرف يتكلم، وهو اللي كان ما في أحد يقدر يوقفه عن الكلام!
ـ قال عاصم: متى نبدأ في تأمل القلب على الوجه؟!
ـ قالت ناني: لا تتعجل الأسى يا عاصم. قلبي محروث.. لقد حرثه صوتك، وحرثته كلماتك، وحرثته ألوان لوحاتك. قلبي على وجهي.. على لساني.. في رعشة يدي، فلا تدعني أصمت في أقصر وقت!
ـ قال عاصم: ناني.. إنني...
ـ قالت: أعرف.. إنك في الليلة الأولى التي تعرف فيها وجهي، ولكنك في الليلة الواحدة بعد الألف التي عرفت فيها قلبي وخواطري ورؤيتي!
ـ قال: هل نسكت عن الكلام المباح؟!
ـ قالت: الأرض العطشى لا يرويها مطر السحاب.. إنني لا أكثر من سحابة تعبر حياتك!!
وأغلق الصمت الشفاه.. أقفلها حتى فرغت العربة من ركابها، ولكن الصدور أخذت تنزف.. الجرح غائر وجثة!
عندما بلغ عاصم باب البيت.. سألته أخته الصغرى غادة:
ـ آبيه عاصم.. ليه الناس يسكتوا فجأة؟!
ـ قال لها: عندما يصبح الكلام سخيفاً يا صغيرتي!
ـ قالت غادة: وما هو الذي يبقى غير سخيف؟!
ـ قال لها: ذلك الصمت الذي سألتني عنه!
* * *
في المساء الآخر.. أتاه رنين الهاتف. صوت ناني مضرج بالحزن:
ـ قالت له ونبرتها دمعة: عاصم.. لا تلحدني في صدرك. صدرك لن يكون قبراً لكل الذي أحسه بين أضلعي. صدري هو القبر، ولقد جاء الخوف يا عاصم مدوياً.. إنني فقط خفت عليك من صدري.. خفت عليك من البقعة الداكنة، هل لاحظت ليلة أمس؟.. إن كل ألوانك لم تستطع أن تضيف إلى النقطة الداكنة ما يجعلها تتفتح!
ـ قال عاصم: عرفت الآن أن يأسك أقوى من حبك!
أجهشت ((ناني)) بالبكاء.. قالت:
ـ لا تقل هذا يا عاصم.. حبك حياة، فكيف أضع حبك في الموت، وصدري موت؟!
ـ قال: إنني لا أدري.. لم أعد أدري.. إنني في متاهة كأنني أرسم لوحة سيرياليزم في معرض للوحات التقليدية!
ـ قالت: عاصم.. غداً أريد أن أرى الحلوة غادة.. دع أختك تأتي إلى البيت.. سأعطيها رسالة لك!
ـ قال: لا.. إنني أشعر أنك تصدرين حكماً بالإعدام.. إن خوفك شرس!
ـ قالت: لا تهرب إلى الوهم.. إنني أريد أن أنقذك.. لأنني أقولها لك للمرة الأولى: أحبك!!
ـ (ليته لم يولد ذلك المساء...
يا ذلك المطر: انسكب فوق الأرض القاحلة العطشى.. يا ذلك المطر!
تجف الأرض.. تتفلح بالظمأ، وهو لم يعد يدري.. هل كانت دفعة إلى الأمام.. أم دفعة إلى الخلف؟!
وما زال الناس يثقبون الليل، والسيارات من خلفه تنطلق فوق ظلام الليل، ونظراته تنطلق هي الأخرى إلى المتاه!!
ما زالت ساقاه مدلاتين من فوق سياج الكورنيش، وخفقاته كلها مدلاة. الذي يضيع لا يعود)!!
وفي الظلال.. من خلال أضواء السيارات العابرة، وفوانيس الشوارع المتثائبة.. ينشر ((عاصم)) ورقة صغيرة بين كفيه.. زمنها ساعات.. زمنها دهر بكامله.. يردد كلماتها في الشرود:
ـ (عاصم أيها الحياة..
سامحني بمقدار ما أحببتك. بشعة هذه الحياة. بشع هذا العمر. إنني أعجز أعجز. أرجوك.. دعني أقتنع أنني عاجزة لا أستطيع. أريدك لأنني أريد الحياة، ولكنني لا أمتلك هذه الحياة. سأقول لك السر.. التعاسة:
اعلم يا عاصم إنني...
يا إلهي.. إنني أتصبب عرقاً.. كم أموت في الثانية آلاف المرات.. فكيف أفقدك؟!
لكن.. لا أريد أن أظلمك، وقراري لا جدال فيه، ولا رجعة عنه. لا نستطيع أن نجعل الوهم حقيقة.. أنت حقيقتي الوحيدة، وسري هو الوهم، أرأيت كيف أعكس الحقيقة من أجلك.. من أجل حبي؟!
من أجلك يا عاصم.. من أجل النقطة الداكنة في صدري التي حدثتك عنها.. أصغ جيداً وتصبر، فاحتمالي يفوق فجيعتك.
عاصم.. يا سيد عمري: لا أستطيع أن أربط حياتي بحياتك، فأنا نهاية.. أنا طريق مسدود.. أنا موت يا عاصم.
عاصم.. سأقول لك السر: إن النقطة الداكنة في صدري هي قلبي الذي أحبك وعشقك كأنك الحياة المفقودة.. أنت الحياة، ولكنني بلا مستقبل.. بلا عمر يا عاصم. إن صمام قلبي مسدود لا يعمل.. لن أعيش أكثر من عامين.. مضى أولهما وأنتظر انتهاء الآخر. أعطاني الأطباء حكم الإعدام بين يدي، وتركوني أترقب اللحظة الأخيرة، وأخرج لساني للعلم، ولانتصاراته العظيمة، وقد جئت يا عاصم في اللحظة الأخيرة، وحبي لك يمنعك ويمنعني أن نستمر في العدم!
لا تقل إن الأطباء يخطئون.. أعرف هذا الوهم الآخر، لكن شعوري لا يخطئ.. أحببتك بكل العنف الذي ساد انتظاري للموت!
عاصم.. وداعاً يا أجمل لحظة في عمري.. هي كل العمر.. لا تستأنف الحكم.. فالحقيقة تفوق الوهم)!!
* * *
وتراخت أصابع يده.. تراخت!
وسقطت الرسالة فوق بقايا الناس.. كأنها بقايا الحياة.. فوق الأحجار، والرمال اللزجة، والموج الواهن المتسكع على وجه البحر..
إنه لا يدري.. لا يحصد الآن إلا سحل الحياة..
لم يتبق له إلا نظراته والأصداء، ولم تعد أكثر من خروم متشابكة معقدة كما شبكة الصياد.. طوح بها في اللامدى.. في لا نهاية هذا البحر الممتد أمامه كما السر.. كما التعب.. لتختلط النظرات بحروف الرسالة.. بترددات الموج الخافتة!
 
طباعة

تعليق

 القراءات :697  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 32 من 545
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج