شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
عَصَا المجنون
تعود الناس أن يروه في كل يوم.. يتسكع بين متاجر ((سويقه)).. يقف عند اصحابها دقائق.. يمازحهم، ويضحك بأسلوب لافت للنظر والسمع، ويبدي ألواناً من الموشحات.. المغرقة في الضحك وتحت إبطه يحمل عصاً غليظة يرفعها على كل من يتعرض لأذاه، وعلى رأسه يضع ((طاقية)) تتخذ شكل القبة.. فيبدو.. وكأنه.. ((بلياردو)).. ويحلو للناس أن يداعبوه وينتزعوا منه غطاء راسه.. أو عصاه العزيزة عليه.. فيعدو خلفهم، ويثير جلبة من الضحك بين الباعة والمشترين.
لكنه لم يقدم يوماً على ضرب إنسان بتلك العصا الثقيلة.. بل يتشجع دائماً.. بإخراج أنواع عديدة من السباب.. يلونها بفن.. ويقذف بها المتعرضين له..
ويحاول هو - أيضاً - أن يجعل من متاجر من يداعبونه.. متّكأً، ومستراحاً فيحل عليهم في منتصف النهار أو قبله يطالبهم بالشاي.. يطالبهم بسيجارة.. ومن يقابله بالعناد والنكال.. يعرض متجره لضربات متتالية من عصاه.. ضربات من الخشب ((فقط)) ثم يولي هارباً كأنه أسال دماء كثيرة..
وشوهد ذات صباح وهو يجري مسرعاً.. بقدميه الحافيتين دائماً، وطاقيته في ارتفاع ((الخيمة)) وعصاه الغليظة.. لا يجيب نداءات إنسان، ولا يلتفت لمعترض طريقه.. حتى وصل منتهى ((سويقه)) ووقف عند متجر كبير.. ثم نظر في صاحبه.. نظرات طويلة. وارتفع صوته بالبكاء طويلاً.. ثم تحول البكاء إلى ضحك صاخب متواصل لحظات من الوقت.. وتلصص حتى قارب واجهة المتجر، وألقى بنفسه في داخله.. واتكأ على عصاه.. وقال لصاحب المتجر:
ـ شاهي.. بسرعة أعطني شاهي.
وجلس وعصاه في أحضانه ينتظر الشاي المطلوب.. واقترب منه صاحب المتجر وقال له:
ـ لماذا بكيت؟
ـ عندما رأيت وجهك.
ـ وهل وجهي يبكيك؟
ـ نعم.. ويضحكني أيضاً.
ـ كيف؟
ـ عندما نظرت إلى وجهك في البداية.. شاهدت فيه الطيبة والحنان.. وتذكرت أمي التي ماتت منذ سنتين، وبكيت.. ثم رأيتك تضحك عليَّ وشاهدت في ضحكتك صورة امرأة أبي.. فقد لاقيت منها العذاب الكثير.. كانت تبكيني ((بباكورة)).. ثم تطلب مني الضحك وأنا أبكي.. وضحكت.. كأنني ضحكت عليها..
ولماذا تحمل هذه العصا؟
ـ احتفظ بها لليوم الذي أنثرها فيه على جسدها.
ـ من هي؟
ـ المرأة التي أبكتني..
وتناول من الرجل الشاي.. ثم أطلق ضحكة عالية، وقذف بالفنجان أمام المتجر، وأطبق على عصاه بيده، وانطلق يعدو في وسط سويقة وارتطم جسده بامرأة طويلة.. فرفع العصا، وضرب بها المرأة بشدة واختفى عن الأنظار بعد أن ألقى بالمرأة على الأرض..
وأسرع وراءه أحد المشاهدين للحادثة.. فوجده يقف في زاوية من ((زقاق)).. يضع عصاه في فمه، ونظراته تدق التراب.. وأمسك به واقتاده إلى منطقة الشرطة.
ـ وسأله الضابط: لماذا ضربت المرأة؟
ـ قال: لأنها ضربتني كثيراً..
ـ قال الضابط: وهل تعرفها؟
ـ قال: إنها زوجة أبي.
ـ قال الضابط: وماذا عملت لك زوجة أبيك؟
ـ قال: ليس لك داع في هذا الموضوع.. إنها أمور خاصة..
ـ ولكن إذا لم تقل سأودعك السجن.
ـ وسأرسلك إلى القبر.
وأومأ الضابط برأسه إلى الجنود، واقتادوه إلى غرفة أجلسوه فيها بمفرده..
وانتقل التحقيق إلى المرأة..
سألها الضابط: هل تعرفين هذا الشاب الذي ضربك؟
ـ قالت: لا أعرفه.. ولم أصادفه قبل هذا اليوم.
ـ ولكنه يقول.. إنك زوجة أبيه؟
ـ يمكنكم أن تعرفوا عائلة الشاب وتتأكدوا، أما أنا فأنكر معرفتي وصلتي به..
وعاد الضابط إلى منطقته، والتقى هناك رجلاً يبدو عليه الإعياء، والتعب، في عينيه دمع مر، وتكلم الرجل.. قال للضابط أين الشاب ((المجنون)) الذي قبضتم عليه يوم أمس.
ـ قال الضابط: بعثناه إلى مستشفى المجاذيب بالطائف حتى لا يتسبب في إيذاء مزيد من الناس. أمس ضرب امرأة، وغداً يقتل طفلاً بعصاه.
ـ لكنه مسالم، لم يتعرض بأذى لأي إنسان.. منذ عام، منذ فقد عقله.
لكنه تعرض أمس يا سيدي - لامرأة كانت تسير في الشارع، وضربها بعصاه الغليظة وأدعى أنها زوجة أبيه.. وبعد الآن لا يؤمن شره.
ـ وأنه ولدي يا أفندي.. أريد أن أراه.
ـ يمكنك أن تراه إذا سافرت إليه في الطائف، ولو كنت حريصاً عليه - لما تساهلت في تسكعه بين الأزقة والمتاجر.
ـ صدقت.. أنا لم أحافظ عليه منذ توفيت أمه..
* * *
وركب الأب أول سيارة متجهة إلى الطائف وهو ساهم لم يعد يملك الإرادة القوية، أو التفكير السليم، ورجع بنفسه إلى سنوات طويلة مضت.. عندما أنجب أول آدمي له يراه في دنياه إذ كان يضعه في نفسه موضع الحفاوة والاعتزاز.. ورعاه بحبه.. حتى تخطى الرابعة عشرة.. حتى قضت الأم نحبها وهي على سرير الولادة..
وتزوج بعد عام. هذه المرأة.. تزوجها وهي ((ثيب)) عرفت قبله رجلاً، وطلقت منه..
وجاءت نقمة على الشاب المتفتح للحياة.. أصلته جحيم الحياة.. استعملت معه أساليب الجور، والتخويف حتى فقد عقله.. خرج إلى الشارع حافياً.. بعد أن سحب من يدها العصا التي كانت تضربه بها، وهام على وجهه..
وتنبه الأب.. وهو يحس بحرارة الدمعتين على وجهه. أبصر أمامه الحقول الزاهية، والأشجار الخضراء.. ومن خلالها.. كان يتخيل بداية العمر.. فورة الشباب، وحلاوته.. وتذوق طعم الدمعتين المنحدرتين بمرارة.. وأسرع نحو ((مستشفى المجاذيب)).. نحو النهاية.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :654  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 23 من 545
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذ الدكتور عبد الله بن أحمد الفيفي

الشاعر والأديب والناقد, عضو مجلس الشورى، الأستاذ بجامعة الملك سعود، له أكثر من 14 مؤلفاً في الشعر والنقد والأدب.