شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
على سياج السفينة
.. وانفضَّت حملات الموج عن جانبي السفينة.. وبدأ الطريق هادئاً أمامها كأنها تسير على بساط من القطن.
وأطلق أحد مساعدي القبطان آهة ارتياح.. وانطلق إلى ظهر الباخرة.. يلحق بآخر نظرة من هذا اليوم الآخذ في الأفول.. وأعجبته حمرة الشفق القاني.. والشمس تذوب بين أحضان الغروب.. فمال بظهره العريض على سياج السفينة.. وضبط آلة التصوير التي بيده.. ثم التقط صورة فنية للشمس في آخر لحظاتها..
وظن أنه انتهى من تصويره.. ولكنه أبصر على بعد قريب منه.. ذراعين بضَّتين.. وخصلاً من الشعر الأشقر.. تتناثر في عدم اكتراث على كتفين.. سوياً بفنية.. وازدادت نظراته اتساعاً.. كأنها عدسة تصوير.. ثم أحسَّ حركة تدبُّ في رجليه.. سار معها.. حتى وجد نفسه وجهاً لوجه.. لا يفصل بينهما إلا المساحة التي قدَّرها.. ليستطيع أن يلتقط صورتها.. وركّز عدسة التصوير.. على عينين زرقاوين.. وضعتا بعناية فوق خدين.. في لون الشفق..
وتنبَّهت للواقف بمقربة منها على صوت آلة التصوير.. وعلت وجهها حمرة خجل.. ثم تحوَّلت إلى غضب..
ـ إنه صفيق هذا الرجل!.. كيف يجرؤ على التقاط صورتي بهذه الوقاحة.. هل ظنني تمثالاً لا يملك الحركة والكلام والتصرف؟..
ولكنه.. بعد أن أعاد آلة التصوير إلى جرابها.. تقدَّم إليها في خطى دبلوماسية كان فيها الاستغفار عما فعله.. ووضع ابتسامة خفيفة على شفتيه.. وهو يقول:
ـ آسف.. يبدو أن تصرُّفي هذا أزعجك؟
! .........
ـ لقد كنت أعتقد - في وقفتي - أن الجمال تتمتع به الشمس في لحظات غروبها.. والشفق يسدل عليها غلالته الوردية.. ثم تحوَّلت نظراتي بمنتهى السرعة إلى حيث كنت.. فإن كان تصرُّفي أثارك.. فهو تصرُّف بدون إرادة!..
ـ ولكن.. مفروض عليك أن تستأذن عند التقاط الصورة.. ومن حقي أن أوافق أو أرفض..
ـ وإذا كنت فقدت الإرادة.. والتصرُّف؟..
... لقد رأيت وجهك أمامي.. فظننت أن الممانعة من قبلك لا وجود لها!
ـ ألم تشعر بأنني كنت شاردة عن كل ما حولي؟
ـ ولم الشرود؟!..
ـ أنا أرجو أن أتسلَّم الصورة التي التقطتها!..
ـ حالاً.. دقائق، وأعود بها مرآة تعكس لك المنظر الذي أفقدني التصرُّف!
وحجبته غرف السفينة عن عينيها.. وبقيت وحدها.. تشاهد أنوار السفينة.. يضيئونها استقبالاً للمساء.. وقد انعكست ظلالها على صفحة الماء!
وشرد بها التفكير إلى وطنها ((السويد)).. إلى أمها العجوز التي أتت يد الزمن على نضارة وجهها فحوَّلته إلى تجاعيد على طبقات!.. لا تستطيع أن تعمل.. أن تساعد ابنتها لكسب العيش..
إنها تذكر الدموع المنهمرة من عيني أمها.. وهي تخبرها بنبأ فصلها من المصنع الذي كانت تعمل فيه.. إنها في حيرة.. لعدم حصولها على عمل.. وقررت أخيراً أن تعمل على ظهر هذه الباخرة - في أي عمل - لتعيش حياة الشرفاء!..
وتساقطت قطرات من الدمع المر.. ألهبت الوجنتين اللتين اقتطعتا من الطبيعة!.. وسمعت من يقول لها:
ـ أراك تبكين.. آسف - مرة أخرى - لما سببته لك يا عزيزتي!
ـ إنني لا أبكي - يا سيدي - على الصورة المصورة.. ولكني أبكي على الصورة الأصل!
ـ وهل من يملك كل هذه الثروة من الجمال يبكي؟.. إن من يملكون هذا الجمال.. يشتاقون دائماً إلى قطرات من الدموع ولا يجدونها!..
ـ أنت تعيش في البحر - يا سيدي - .. أنت تشاهد الشمس وهي تنشر ابتسامتها العذبة في لحظات شروقها.. ثم وهي تستحي.. فتحتجب عند الغروب.. هذا جو الشعراء.. أنت مصور يا عزيزي السيد!..
ـ عجيب منك هذا السواد النفسي الذي يخيم على حياتك.. وأين موطنك؟
ـ موطني السويد خلفت فيه أماً أخاف عليها في كل يوم أن تلفظ أنفاسها.. ولا يقوم أحد بدفنها!..
ـ وما هو العمل الذي تشغلينه؟
ـ أنا!.. عملي هنا على ظهر هذه الباخرة..
ـ كيف؟.. من متى وأنت تعملين هنا؟..
ـ قريباً.. من يوم أن أقلعت الباخرة عن بلدتي..
ـ ي.. ي.. يبدو أنك آنسة؟
ـ واحمر وجهها وهي تقول: فعلاً!..
ـ إذن.. أنت زميلة في العمل.. والرحلة.
وقدم لها صورة جميلة لفتاة.. تقف على سياج السفينة.. تترك شعرها لقبلات النسيم..
وابتسمت.. وهي تقول له:
ـ إنك تجيد إخراج الأصل.. في نفس الصورة!..
ـ أشكرك.. إن هذه هوايتي، أمارسها كلما انتهيت من عملي هنا.. وأملك مناظر كثيرة تصور الطبيعة الرحيمة.. أحاول أن أصبغ نفسيتي بجمالها..
ـ وأين موطنك؟..
ـ موطني الأصلي ((المكسيك)) ولكن أعيش - الآن - في موطني هذا.. وسط البحر.. ولي فترة أستريح فيها.. وأعيش مع الناس على الأرض، ولو أني أحس بشوق عظيم إلى البحر كلما بعدت عنه أياماً!
ـ وكيف تترك أهلك!
ـ إن أهلي - يا سيدتي - هؤلاء.. كل الذين على الباخرة.. أهلي زملائي في العمل!.. وأهلي كل زملاء الرحلة من ركاب السفينة..
ـ ولكن عمرك يقاس بالخامسة والأربعين.. وليس لك أطفال؟
ـ إنني أبحث عن الأم.. قبل الأطفال..
ـ إنك إنسان طيب.. كالطبيعة الخيرة..
ـ وأنت إنسانة.. بدأت أحبها.. فهل تقبلينني زوجاً لك.. أحمل على كتفي 45 عاماً؟
ـ إن الرجل.. يعرف مكان عقله في الخامسة والأربعين من عمره!..
* * *
واتفقا على الزواج.. في بلدها.. وبجانب أمها - بعد انتهاء رحلة هذه الباخرة..
وبعد أيام.. وصلت الباخرة إلى ميناء جدة.. تفرغ حمولتها.. ثم تواصل سيرها..
ونزلا معاً إلى الأرض.. ليتجولا في أسواق جدة.. وفي طريقهما إلى الأسواق.. تعلقت النظرات بعنق الفتاة الجميلة..
والتقط عدة مناظر للناس.. على أرض جدة.. وفي شوارعها.. واختار عدة مناظر لهما.. تذكاراً لزيارتهما معاً لأول مرة!.
ثم عادا إلى الباخرة.. في انتظار الرحيل..
ولكنهما فوجئا بالبوليس.. يقتحم عليهما مكانهما.. وينزلهما محوطين بالجنود!..
وسكت الرجل المكسيكي وهو في يد رجل البوليس في جدة!.. وتعلقت فتاته بذراعه في ذعر وخوف.. لا تدري من أمرهما شيئاً..
وفي السجن.. وجد من يتكلم معه بالإنجليزية.. فقال له:
ـ ماذا فعلنا؟
ـ يقولون إنك تتجسس، وتأخذ معك صوراً تستخدمها للغرض نفسه!
ـ وخطيبتي التي معي.. أين هي؟
ـ سيطلقون سراحها - على ما أعتقد - لأن المشتبه فيه أنت وحدك!!..
ـ وضحك الرجل بجنون.. واقتحم غرفة رئيس السجن.. يصيح:
ـ إذا كنت جاسوساً عندكم.. فاسجنوا خطيبتي معي.. لقد كنا معاً على ظهر السفينة من بداية الرحلة!.. إنني أتهمها معي زوراً.. كما اتهمت أنا!
ولم يهدأ الرجل من هياجه.. إلا عندما شاهد خطيبته.. ووقف بعصبية.. ثم توجه إليها.. كمن أصيب بلوثة جنون، وضحك في وجهها.. ثم قال:
ـ ابعثي إلى أمك برقية.. قولي لها سنتزوج.. سأتزوجك أنا فقط.. لوحدي.. حتى ولو بقينا في السجن!
 
طباعة

تعليق

 القراءات :924  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 14 من 545
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج