شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
مهمَّة التَعْليم في العَالميْن العَربي والإسلامي اليوم
في الحديث عن سر مهنة التعليم قلت:
إن مهمة التعليم ليست حشو المقررات واستظهار النصوص وأداء الواجبات بل ينبغي أن تكون:
(أ) توليد الطاقة العلمية في النفوس بالتشويق والإيحاء والإغراء.
(ب) تنمية هذه الطاقة بالتعويد على المطالعة والتكريم على الإنتاج والتيسير في أسباب المعرفة.
(ج) تغذية هذه الطاقة بالتعريف والتدريب على وسائل التعامل مع المراجع والمعاجم ومصادر المعرفة.
(د) ترويض هذه الطاقة على العمل منطلقة من قواعد الإيمان وأصول المعرفة إلى آفاق التجديد والابتكار بمعناها العلمي الصحيح.
هذا من الناحية العلمية إلى جانب تكوين الشخصية بنواحيها الأخلاقية والاجتماعية والصحية كما هو معلوم. وفي كل هذه النواحي فإن شخصية المعلم ذات أثر عظيم في بناء شخصيات تلاميذه وهذا ما كان موضوع ذلك الحديث فليس من الجديد في شيء أن أقول.. إن الغرض من التعليم ليس حشو ذهن الطالب بمعلومات مهما تنوعت ومهما ضخمت كَماً، وإنما الأهم من ذلك كله هو الكَيْف. والمعلومات -بعد ذلك- أدوات ضرورية وهامة لهذا الكيف. هذا الكيف هو تربية النفس والعقل. إن النفس والعقل يكوّنان الجهاز الذي يستقبل هذه المعلومات ويستوعبها ثم يصهرها فهماً ثم يصنفها أفعالاً وتصرفات.
ولكن تربية النفس والعقل لا يكفي أن تكون مثاليات مزجاة أو ألفاظاً ومعاني خالية من التطبيق عارية عن الحقيقة والواقع في النفس والعقل. ولذلك فإن تربية النفس والعقل في كل عصر ينبغي أن تنبع من حاجة العصر نفسه. ونحن في هذا العصر نواجه ومنذ زمن بعيد غزواً فكرياً. ولكننا الآن وقد تفتحت عيوننا على الآفاق وداهمتنا الدنيا من حولنا من كل مدخل نواجه ضغطاً شديداً من هذا الغزو الفكري الحاد والفكر -هو مصدر كل- التصرفات.
ونحن -المسلمين- كأمم نامية تبهرنا اليوم حضارات الدول الكبرى ومدنياتها وثقافاتها. وذلك دائماً شأن القوة والضعف. ولقد بهرنا العالَمَ ذات يوم..
نحن -نواجه - اليوم- غزواً فكرياً في ذواتنا، وعروبتنا، وعقيدتنا، ووحدتنا، وتاريخنا، ولغتنا، وشخصيتنا، وقضايانا، وبلادنا، وثقافتنا.
فمهمة التعليم اليوم، مواجهة هذا الغزو ومن جميع اتجاهاته.
وهذا الغزو يدخل علينا في عقر دارنا بكل الوسائل الحديثة. وأهم من ذلك أن بعض طلبتنا سيكونون بعثات علمية إلى الخارج فينتقلون بأنفسهم إلى مصادر الغزو.
ثم نحن -شيوخاً وشباناً- نرحل إلى هذه المصادر. ولكن الذي يهم في هذا الدور هو الشباب منا. لأنهم أكثر تعرضاً للإصابة والعدوى بطبيعة الخلقة، ولأنهم -وهذا الأهم- رجال المستقبل وعدته فهم أمة العرب والإسلام، التي تصنع المستقبل للعرب والإسلام. فيجب أن يحملوا المؤونة والعتاد قبل رحيلهم إلى مصادر الغزو، وإلا تعرضت شخصيتهم للتحوير والانحراف. وعلينا أن نُطَعِّمَهم باللقاحات الواقية وإلا تعرضوا للإصابة والعدوى.
فمهمة التعليم في مواجهة هذا الغزو هي - قبل كل شيء تكاد تنحصر في حاجاتنا إلى تنمية الثقة في شباب اليوم وعدة المستقبل.
فأمتنا في حاجة إلى تنمية وتربية..
الثقة بالنفس قدرة وعطاء.
والثقة بالوحدة الإسلامية شعوراً وتاريخاً وواقعاً.
والثقة بالعقيدة وسيلة للحياة الراقية وحقيقة تاريخية في تطبيق هذه الوسيلة لصنع الحياة الراقية.
والثقة بالتاريخ الإسلامي واقعاً مشرفاً وماضياً مؤثراً في حضارة العالم.
والثقة باللغة أداة للوحدة وتعبيراً عن الحضارة والروحانية.
والثقة بالشخصية أمة قائمة وتقاليد شريفة وصحيحة وواقعية.
والثقة بقضايانا ترسيخ مفاهيم وحجة دامغة.
والثقة ببلادنا تربة صالحة ومناخاً صحياً للحياة الاجتماعية المثلى طبيعة ومجتمعاً ومجال حياة.
وأن تكون هذه الثقة ثقة مفتوحة غير مغلقة. وسأعرض لكل اتجاه بشيء من الإيضاح والإيجاز.
1 - الثقة بالنفس..
إذا أردنا معالجة مشاكلنا فعلينا أن نكون صرحاء مع أنفسنا. إن من العرب من ينظر إلى تاريخ العرب قبل الإسلام فيراه ظلاماً دامساً ثم ينظر إلى فترة هالة النور فيراها مرت سريعاً وأخذت تنطفئ حتى صارت خطاً رفيعاً فإذا هو لا يرى في أمة العرب إلا هذا الظلام الدامس شع فيه قمر فكانت له هالة من النور ثم اختفى القمر فرجعنا إلى الظلام طبيعة لحياة العرب لا تفارقهم فإلى هؤلاء أرفع الستار عن الجانب المشرق في هذه الحياة واذكرهم بما نسوا.
وإن من العرب من بهرته حضارة اليوم وقدراتها المادية ثم ينظر إلى واقع العرب وبعده عن هذه الإمكانات والقدرات فيستحيل عليه الأمل. فهؤلاء أذكرهم بأننا قادرون على صنع مثلها وعلى صنع أفضل منها بالعقيدة كما فعلنا من قبل. وإن من العرب من ينظر إلى حضارة الإسلام فيستكثر مساهمة الشعوب الإسلامية الأخرى حتى ينسى نصيب العرب من هذه الحضارة وحتى يستكثر أسماء المستعربين وينسى أسماء العرب فهؤلاء أذكرهم بوفرة نصيب العرب في هذه الحضارة وبسُمُوِّ معنى الحضارة فيهم حتى اتسعت لهذه الصورة التي تخلت عن الأَثَرةِ والقومية والمحلية.
إن نظرات هؤلاء وهؤلاء كانت كلها مقدمات لنتيجة ومزالق إلى هاوية هي الاستهانة بالعرب والازدراء بالنفس ولن ترتفع أمة حتى تنتشل نفسها من هذه الهاوية.
إن الشعور بالنفس ليس الاستعلاء وإلا كان سقوطاً من القمة وتلك جريرة بني إسرائيل، وأن الثقة في النفس ليست تخلياً عن العقيدة بل هي من التحلي بها. إن احتقار النفس -وهو غير التواضع وغير الأدب ومشقاتهما- ضعف في الإيمان يسلانه هوان بالإنسان وأول معاني الإيمان تكريم الإنسان خلقاً وسلالة ورسالة.
وأن الحديث عن العروبة ليس منافياً للإسلام شأنه في ذلك شأن حديث كل عربي عن بلده وموطنه ليس منافياً للعروبة ولا تجزئة لها وإنما تقوية لكل لبنة من لبنات العروبة ككيان والإسلامية نفسها لا تنافي العالمية وروابطها.
والعرب عليهم في حساب الإسلام مسؤولية الدعاة والمرشدين فمن لم يثق بأهلية نفسه للدعوة وحمل الرسالة لم يؤدها.
ولكن هؤلاء وهؤلاء معذورون.
فلقد تعرضت أمتنا الإسلامية لحرب نفسية وغزو حاد مسلط على قلبها وقلب الأمة الإسلامية العرب. فهم الذين قاموا بدور الأعضاء المؤسسين في هذه "الشركة المساهمة العالمية غير المحدودة" الأمة الإسلامية. وهم الذين قام على أكتافهم بناء اللبنات الأولى في هذا الكيان العظيم. وهم الذين كانوا الخطوط الأمامية في الدفاع عن هذا الكيان العظيم.
قام بهذا الغزو -في البداية- الشعوبيون الذين لم يسلموا وإنما حكمهم المسلمون والشعوبيون الذين لم يدخل الإسلام إلى قلوبهم ولكنه غلبهم على أمرهم، والشعوبيون الذين أسلموا ولكن في نفوسهم مرض. أثرت على هذه القوة الجديدة الغالبة، وكل أولئك كانوا يتصرفون بسوء نية. ومنهم من كان يتصرف بسوء فهم فلم يدرك أن الإسلام أخوة فيه واجتماع عليه من كل جنس. ولمحاولة الإنصاف فربما تاه بعض العرب أفراداً بالشعور بالغلبة فشأنهم ككل الشعوب لا تخلو من بعض الناقصين أو الحمقى الذين تستفزهم تصرفات شخصية. وإن لم يسجل ذلك على حكومات العرب إبان مجد العرب بل سُجِّلَتْ لهم عكس ذلك صور رائعة من التعامل حتى مع الذميين وغير الذميين.
وهؤلاء الشعوبيون لم يمسوا العرب فحسب وإنما مسوا العقيدة نفسها بالأسلوب نفسه عامدين أو مخطئين.
فباسم تمجيد الإسلام -وهو بالتمجيد جدير- هدفوا إلى إذلال العرب وبالإيغال في الدين دخلوا من الباب الأمامي حتى خرجوا من باب خلفي فمسوا العقيدة كما حدث في بعض النظريات الضالة لبعض المذاهب المنشقة على الجماعات ولبعض مذاهب الصوفية المنحرفة وليست من الصوفية في شيء. ولست بصدد تفصيل الحديث عن هذا الجانب. ولعب بعض اليهود الأعداء التقليديون للعرب والإسلام دورهم الخفي والظاهر في كل هذه المراحل.
ومن سوء الحظ أن الدور نفسه استقبله الإسلاميون والعرب منهم ببساطة وسذاجة تصرف وحسن نية فانغمسوا في تمجيد الإسلام -وهو حقاً بالتمجيد جدير أقولها وأكررها لئلا يساء فهم الحديث- حتى فقدوا شخصيتهم، كما انغمس بعضهم سوء فهم – في بعض المذاهب الصوفية المنحرفة.
ثم جاء المستشرقون بسوء فهم أحياناً لأنهم نقلوا صوراً وجدوها وبسوء قصد من بعضهم من عملاء الاستعمار والحاقدين بزيادة هذه الصور تشويهاً.
إن الإسلام لم يمنع خليفة رسول الله الأول أبا بكر - وهو العليم به والألصق فيه - من أن يقول ولا تدين العرب إلا لهذا الحي من قريش لأنها حقيقة تقضي مصلحة المسلمين مراعاتها، وهو من سار تحت بعير أسامة بن زيد ومن قبله قال سيد المرسلين الخلافة في قريش وهو القائل أنا سابق العرب وصهيب سابق الروم وسلمان سابق الفرس وبلال سابق الحبش وهو من هو فوق كل ذلك - بل قال ذلك أنا سيد ولد آدم ولا فخر. وما أعلّم نبيَّ هذه الأمة بمداخل الضعف إلى هذه الأمة التي صورها بعض حديثه الشريف وفي قوله.. بُغْضُ العرب نفاق والتحقير أبلغ من البغض وهو من الإنسان لنفسه أو جنسه أرذل الهوان. وكما أصابوا القلب لم يعفوا بقية الأعضاء أعضاء هذه الأمة وقد تفككت وتشعبت.
وحين نتكلم عن العروبة فلا نتكلم عنها باعتبارها بديلاً عن الإسلام أو كياناً منفصلاً عنه فتلك هي القومية الجاهلية التي كانت في العرب قبل الإسلام فجاء الإسلام مروضاً لها مهذباً إياها فتطامنت لتكون نواة لهذا الكيان العظيم. ولكن إذا أصاب النواة العطب فلن تسلم بقية الشجرة وإنما ذلك أبلغ في الموات من إصابة الشجرة فرعاً فرعاً.
وإذا تحدثنا عن حق العرب في أن يعرفوا أنفسهم أمة معطاءة قادرة على المشاركة في هذه الشركة المساهمة العالمية (الأمة الإسلامية) فإن من حق كل الشعوب الإسلامية بل من واجبها ودواعي افتخارها أن تعرف لنفسها هذا القدر كأمم قادرة على العطاء في أنصبة هذه الشركة فإن كل لبنة في بناءِ ما تعطي قوة لذلك البناء منسوبة إلى قوتها الذاتية. ولذلك كانت تتمة الحديث في مسندي الإمام أحمد والطبراني الكبير الخلافة في قريش والحكم في الأنصار والدعوة إلى الحبشة ولعله رمز إلى كل أفريقيا والجهاد والهجرة في المسلمين والمهاجرين بعد.
نعم إن الإسلام عقيدة ودين وليس قومية ولكنه اتحاد أممي يصهر الأمم المتعددة في عقيدة واحدة وذلك أسمى ما يصبو إليه الإنسان. إن مساعي الإنسان إلى تكوين عصبة أمم ثم إلى الأمم المتحدة هي أسلوب وتعبير لمعنى حاجته إلى هذه الوحدة. ولكن الإنسان حاول أن يصنع هذه الوحدة بمحاولة توحيد قوانين وأسلوب عمل والاتفاق على غايات محددة.
والإسلام صنع هذه الوحدة بوحدة العقيدة التي تصنع كل هذه الوحدات والاتحادات تلقائياً وبصورة غير متكلفة بل إننا كمسلمين - نتفاءل بهذه الخطوات الاتحادية العالمية لأنها خطوات إن لم تكن على طريق وحدة العقيدة فعلى الاتفاق على كثير من معانيها العالمية، وإن كانت - مع الأسف - تتبدى حبراً على الورق عند اصطدام المصالح الخاصة للشعوب. لأنها لا تقوم على العقيدة الموحدة.
فالحديث عن العروبة ليس حديثاً منافياً للإسلام إذا أخذ هذا الاعتبار الصحيح.
والحديث عن أهمية كل شعب مسلم بحضارته وماضيه للإسلام (مصنع صحيح الحضارة) ليس حديثاً منافياً للإسلام إذا أخذ هذا الاعتبار الصحيح.
وحديثي عن أهلية الشعوب للإسلام ليس منافياً لعمومية الرسالة ولكني أعني أنه كلما كانت الشعوب أرقى في مفاهميها كلما كانت أسرع إلى الاستجابة للدعوة، وأن انتشار الإسلام في أفريقيا وأمريكا وأوروبا -اليوم ومع ما عليه أهله في بلاد الإسلام من حالة اجتماعية وسياسية واقتصادية لا تقوم حجة له- لدليل واضح على أن رقي الشعوب يقربها إلى الإسلام استجابة إليه وفهماً له. ووعياً لحقيقته منفصلة عن واقع المنتمين إليه وهذا ما يؤكد لنا سرّ كون الإسلام خاتم الشرائع السماوية.
أما بالنسبة إلى العرب قبل الإسلام. فمن بقايا الشرائع السماوية فيهم ما عاش من تعاليم شريعة إبراهيم حتى طلع عليهم الإسلام، وظل عدد منهم يسمون الحنفاء ومغالون منهم يسمون الحُمْس.
ومن ذلك ما ورد في بعض أشعارهم من الاستهانة بالأصنام ومن البحث عن الله أو الإيمان بالله.
ومن ذلك تعظيمهم الكعبة وأن لا يبنوا حولها ثم حين بنوا حولها صيانة واحتماء بها حرصوا على أن لا يعلو بناء على بنائها وأن يكون بناؤهم مستديراً حتى لا يشبهها.
وحين استوردوا الأصنام وأنا أعني كلمة استوردوا فذلك ما حصل فعلاً جعلوا أهمها عند الكعبة وقالوا مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى (الزمر: 3) ولم تكن عبادة الأصنام كذلك في غيرهم من الأمم.
أما من الناحية الاجتماعية فكانت الخيمة والأسرة تمثل الوحدة الصغيرة ثم تكوّن مجموعة الخيام أو الأسر حياً ومن الأحياء تتكون القبيلة. وتنقسم القبيلة نسباً إلى عمارات ثم بطون ثم فخوذ ثم فصائل. وتتجمع القبائل في الشعب وتتجمع القبائل والشعوب بالخؤولة والأحلاف.
فلأي أمة مثل هذه الروابط العائلية والأُسَرية والاجتماعية. حتى الآن فصلاً عن الماضي.
أما رئاسة القبيلة فليست منصباً وراتباً ولكنها صدارة بجدارة تجمع بين التكليف والتشريف يمثلها مثلهم العربي سيد القوم خادمهم فليست تشريفاً فوق النقد ولا تكليفاً لا كرامة له.
وكان لشيخ القبيلة مجلس شورى يسمى الملأ ومستشارون يسمونهم الحكماء ومشرعون وخبراء يسمونهم الحكام.
وإذا كانوا أقوام نجدة لا يسألون أخاهم حين يندبهم للنائبات على ما جاء برهاناً -وهذا بعض ما أساء المؤرخون فهمه وتصويره- فذلك لحسن ظنهم بواحدهم فإذا خيّب واحدهم حسن الظن خلعوه بل لقد يبلغ من مروءتهم -وتصوروا مروءة أشرارهم- أن من يجد في نفسه شراً يورط القبيلة خلع نفسه بنفسه.. والخلع عندهم إعلان تَبَرأُ القبيلة به من هذا الواحد أو إعلان انفصاله هو عنها.
وأما شعرهم في مكارم الأخلاق ففوق الحصر..
وقريش هاته التي خصها المفسرون بما لا يوجب التخصيص فحيثما وردت في القرآن كلمة المشركين أو الكفار قالوا يعني كفار مكّة مع أن الكلمة عامة وليست خاصة وهي عمومية الحكم إلى الأبد بصرف النظر عن خصوصية السبب مع أنهم لم يكونوا أصحاب السبب في كل الأحوال. بل إن في هذا التفسير حجراً للمعنى.
وكان لقريش مجلس شورى يسمى دار الندوة. لا يدخلها إلا الحكماء ومن بلغ منهم الأربعين حتى لقد ظلت هذه السن تحديد كثير من الأمم المفاخرة لأعضاء مجالس ثوارها. ويسمى أعضاؤه الملأ. وكانت المناصب الاجتماعية فيها موزعة توزيعاً حكيماً.
فعمارة المسجد وسقاية الحج في بني هاشم. وسدانة البيت وخدمته وتنظيم دار الندوة في بني عبد الدار ثم بني شيبة.
وراية الحرب في بني عبد شمس، والرفادة في بني نوفل، والقضاء والخزانة في بني سهم.
والأيسار (أمر الأزلام) في بني جمع. والأَعِنّة (إدارة الخيل) وسفارة الحرب في بني عَدِيّ.
والقبة (مخزن أدوات الحرب) في بني مخزوم.
والأشناق (الديات والمغارم) في بني تميم.
والمشورة (مستشارو الرأي) في بني أسد.
وكان لهم ما يشبه قوة الشرطة من الموالي. وكانت لهم قوة دفاع تقوم على الأحلاف بين قبائل مكة وضواحيها تسمى الأحابيش وليسوا من الأحباش كما وَهَم بعض المستشرقين ولكن الأحابيش لغة الجماعة ليسوا من قبيلة واحدة.
وكانت لهم معاهدات تجارية مع الشام واليمن أشارت إليها سورة قريش. وكان بينهم تكافل اجتماعي يقوم على مشاركة الفقراء للأغنياء في أرباح هذه التجارة أشار إليه شاعرهم بقوله..
والخالطون غنيهم بفقيرهم
حتى يكون فقيرهم كالكافي
وكانت المناصب بينهم مغارم لا مغانم ولذلك كانوا يسمونها (مناقب) ثم امتد تنظيمهم إلى غيرهم من الوافدين عليهم فعدا السقاية والرفادة كان حِلْف الفضول الذي قال عنه الرسول صلى الله عليه وسلم لقد شهدت مع عمومتي حلفاً في دار ابن جدعان ما أحب أن لي به حمر النعم ولو دعيت به في الإسلام لأجبت وهو حلف حماية وكفاية لحجاج البيت وضيوف مكة يكاد يكون نواة حقوق الإنسان ثم لنتدبر المعاني الأخلاقية والاجتماعية في بعض هذه المناصب والمناقب من السقاية والرفادة والأشناق.
وعلم الرسول الخفي بهذه الحكمة جعله يقول ما أوردت الخلافة في قريش والحكم في الأنصار.
أما الناحية السلوكية والخلقية للعرب قبل الإسلام وهي ما أعطى الفرصة لتصوير حالة الجاهلية على هذا النحو المصنوع فقد كانت بلا شك مصابة بالانحراف ولكن إذا قال الفلاسفة -والكلمة لأرسطو- إن الفضيلة وسط بين رذيلتين وأيدها وعممها رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال خير الأمور أوساطها فإنني أضيف إلى أن أقول (وأن للرذيلة طرفين طرفاً أعلى وطرفاً أسفل). وأن الفرد أو المجتمع الذي يكون في الطرف الأسفل من الرذيلة لا يمكن تقبله للإصلاح أو رفعه إلى مستوى الفضيلة. بينما يكون الفرد أو المجتمع الذي في الطرف الأعلى من الرذيلة مؤهلاً لتقبل الإصلاح للاعتدال إلى مستوى الفضيلة. وفي ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم .. خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا.
ولذلك وجدنا من أخلاق الجاهلية الإسراف ولم نجد البخل ووجدنا التهور ولم نجد الجبن وحتى في عيوبها السطو والنهب والغزو لأن ذلك طرفاً أعلى من الرذيلة، ولم نجد السرقة لأنها الطرف الأسفل من هذه الرذيلة. ومن نُدْرَةِ ذلك في أخلاقهم أن عُقد فصل في تاريخ العرب بعنوان (باب سُرّاق العرب) وكانوا عد الأصابع بل أقل من ذلك في ما روي.
وبتطبيق نظريتي المكمّلة لقانون الفضيلة فإن السالب الناهب قد يعف عن ذلك إلى الكسب الحلال ولكن السرقة تظل داء عضالاً في النفس كالرشوة وإن بلغ صاحبهما أعلى المناصب وجمع أوفر الثروة.
والسبب في قابلية الإصلاح وعدمها أن الذي يكون في الطرف الأعلى من الرذيلة يصدر عن نفس قوية فهو يقبل الارتفاع والذي يكون في الطرف الأسفل من الرذيلة يصدر عن نفس منحطة فهو لا يقبل الارتفاع وهذا ما كان من أمر العرب في جاهليتهم كانوا في الطرف الأعلى من الرذيلة حسنات وسيئات.
ولقد أطلت في هذه الفقرة من الحديث وبدأت بها لأهمية الكشف عنها ولست أريد أن أطيل في هذا البحث أكثر مما أطلت فليس هذا المجال مخصصاً له وحده ولكني فاعل إن شاء الله. غير أني أحببت لفت نظر إخواني من المعلمين وغيرهم إلى مراجعة هذا التاريخ بنحو من هذا التصور الصحيح ليعلموا أية غلطة كبرى ارتكبناها في حق أنفسنا فقعدت بنا عن كثير من العطاء الإنساني الممكن لهذه الأمة الشامخة وعن استمرارية العطاء الذي قدمته بعد أن فقدت القيادات العارفة لنفسها وعروبتها. جاء الإسلام إلى هذه الذاتية القوية فضاعف من قدرتها ومنحها قدرة فائقة إلى قدرتها المؤهلة وصحح أخطاءها وطامن غلواءها ليثق العرب في أنفسهم كأمة لأن من لا يثق بنفسه يفقد قدرته. والله يقول الله أعلم حيث يجعل رسالته.
وفي ختام هذه الفقرة من الحديث وحين نؤكد عراقتنا وأصالتنا كأمة فإننا نؤكد أن مسيرتنا الفكرية المثالية المثلى بدأت بقائد هذه المسيرة خاتم النبيين وصاحب الرسالة التامة العامة الأبدية وإننا حين نراجع هذا التاريخ البعيد فإنما لنتبين في أنفسنا وليتبين لغيرنا أننا أهل لحمل هذه الرسالة بمشيئة الله فعلى المعلمين أن يؤكدوا هذا المعنى في نفوس الطلبة لتكون الثقة بالنفس ثقة نيرة مؤمنة.
2 - الثقة بالوحدة الإسلامية..
وبعد أن تمكن المغرضون من طعن الأمة الإسلامية في قلبها في مركز الريادة منها فتبعثرت الخلافة الموحدة إلى دويلات رجعت بالعرب سيرتهم الجاهلية الأولى وأنا أعني بها الرذيلة في طرفها الأعلى ولذلك ظلت قوى قائمة ومبعثرة في البداية ثم هبطت بهم إلى الرذيلة في طرفها الأدنى لتحللهم من عروبتهم على بقية من جاهلية الرذيلة العربية لم تتخل عنها الطبيعة العربية في كل عصور تخلفها ولذلك لم يكن شأن الاستعمار فيهم شأنه في بقية الشعوب.
وبعد أن هان على المسلمين مركز الريادة وقامت الخلافة في تركيا المسلمة والمغرضون من اليهود وغيرهم لها بالمرصاد تمكن المغرضون مرة أخرى من ضرب الأمة الإسلامية في أجنحة اليمين والشمال واختل ميزان الخلافة فعلت نعرة القومية الطورانية في وجه الدعوة الإسلامية الموحدة حتى تمزقت الوحدة الإسلامية.
وحين وجه الغزو ضرباته إلى كل شعب مسلم لم يقم هذا التفتت على أساس من تقوية كل شعب على حدة وإنما قام على أساس إضعاف هذه الشعوب حتى لا تكون لبنات صالحة مرة أخرى للوحدة الإسلامية. وحين استقلت هذه الشعوب وأخذت طريقها اليوم إلى القوة بدأت تتحرك في تقارب وتتهيأ للوحدة الإسلامية من جديد.
ذلك كان شأن هذه الشعوب عند الوحدة الإسلامية الأولى.
فالعرب كان شأنهم من النيل إلى المحيط إلى الفرات على ما ذكرته في الفقرة السابقة من هذا الحديث.
والفرس كانوا أهل حضارة سابقة على ما أصابها من انحلال في زمن مواز لزمن جاهلية العرب. والهند كانت ذات حضارة على ما طمس من معالمها. في تلك الفترة.
وكان لا بد لهاتين الحضارتين أن يمتد شعاعهما إلى ما بينهما من الآفاق وأكرر ما قلت من أن ما أشير من تهيؤ الشعب لتلقي الإسلام ليس منافياً لعمومية الدعوة وإنما كقياس لسرعة الاستجابة لها ولذلك كانت أول دعائم الأديان تكريم الإنسان خلقه ورسالة وسلطاناً على الطبيعة بإذن خالقها.
إن القوة الذاتية للشعب هي التي تؤهل الشعوب لحمل رسالتها الاجتماعية العالمية على وجه صحيح. فالضعيف في ذاته لا يشع بالقوة ولا يشارك فيها.
والقوى في ذاته هو مصدر قدرة على الإشعاع بها والمساهمة العامة فيها وبها ذلك ما فعله الإسلام من قبل فانفساح الإسلام لهذه الوحدة كان يتقبله لكل الأجناس وإشاعة القوة في كل الأجناس وانفتاح هذه الأمم على الإسلام بمعانيه ومبادئه كان سبيلاً لمشاركتها الفعالة في حضارة الإسلام وتاريخه.
وشعور المسلمين بهذه الوحدة كان وما زال وسيظل قائماً بينهم حقيقة لا يتجاهلها عنا إلا مكابر وحقيقة نحس بها في أعماقنا بكل الفرحة والاعتزاز وما زلنا إلى اليوم. نذكر بلالاً وصهيباً وسلمان وأبا بكر وعمر وعلياً وغيرهم على سواء.
ونذكر البخاري ومسلماً والترمذي والنسائي وابن ماجه ومالكاً وابن حنبل والشافعي وأبا حنيفة وغيرهم على سواء.
ونذكر الجوهري والثعالبي والفيروز أبادي وغيرهم على سواء.
ونذكر جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ومحمد بن عبد الوهاب وجمال الدين القاسمي وغيرهم على سواء.
ونذكر اليوم أبا الأعلى المودودي وأبا الحسن الندوي وحسن البنا وسيد قطب وغيرهم على سواء.
بل نذكر قرطبة وغرناطة في ماضيهما والزيتونة والأزهر ومعاقل العلم في بلاد الهند وبخاري وما وراء النهر وغيرها على سواء.
ولا تحضرني الأسماء ولا أردت استحضارها الآن ولكنا نذكر في تاريخنا الماضي والحاضر كل رجالات العرب والمسلمين من كل جنس على سواء.. ويختلط في تاريخنا أبو مسلم الخراساني بطارق بن زياد وقتيبة بن مسلم وكل مسلم من أي جنس بكل مسلم عربي. بل اختلطت دماء كل مسلم من كل جنس بدماء كل مسلم عربي وتحطمت الحدود الجغرافية في الماضي بين كل مسلم عربي وكل مسلم من كل جنس. ووجد كل مسلم من كل جنس وعمل كل مسلم مواطناً مسلماً في كل أرض مسلمة وفي أعلى المناصب.
بل ونذكر تاريخ الإسلام من الأندلس إلى أطراف الصين على سواء. وكنا وما زلنا ندرس تاريخ الإسلام لا تاريخ العرب وحضارة الإسلام لا حضارة العرب..
وقامت الوحدة ولم تكن تلك الجنسيات موضع نقاش ولا مثار عنعنات بل اتسعت العروبة نفسها لكل جنس مسلم فكل من تكلم العربية مسلماً فهو عربي. بل لقد سبق الإسلام كل القوانين الحديثة بنظرية التجنس في ما رُوي من حديث:
وحين نذكر لغة العرب وفقه العرب وعلم العرب نذكر كل اسم مسلم كتب بالعربية على سواء.
وعشنا إلى قريب لا نجد في بلادنا المسلمة لفظة مواطن ولا مهاجر ولا غريب بمعنى الجنس ولكننا نعرف الغريب من يفارق الأهل والسكن والمهاجر من قصد الحرمين الشريفين.
فلنحطم أسوار الفرقة في قلوب شبابنا المسلم بالعقيدة كما حطمتها العقيدة في قلوب أسلافنا الصالحين. وليكن كل مسلم في كل بلد مسلم مغموراً بمشاعر أهلها وأحاسيسهم ومصالحهم لا يعيش فيها وقلبه لها كاره أو يعيش فيها بمسألة الحاجة لا بطبيعة الولاء. ولتكن معرفة كل مسلم لنفسه واعتداده بجنسه في إطار فلسفة تَجَمُّع القوي وصلة التفوق ولقاء الأقوياء ووحدة الرسالة على ما قلت في حديثي عن العروبة فإن رابطة التفوق خير من رابطة الضعف ولكنه تفوق بالمعاني قبل الصور وبالروح قبل المادة.
فعلى المعلمين تنمية الثقة في الوحدة الإسلامية لتكوين جبهة قوية، وقوة خلاقة في السِّلم ضاربة في الحرب.. حرب في الحق لا حرب استعلاء ولا باطل..
ولنتنبه اليوم إلى جديد وهو أن الاستعمار كان يفرق بين حكامنا المسلمين حتى يحقق مآربه منهم فوجد أنهم يضطرون للاجتماع والمصالحة والتفاهم في الأزمات القوية خضوعاً لإرادة شعوبهم فقرر أن يوجد الفرقة بين هذه الشعوب وعلم أثر الاقتصاد في حياتهم ففرق بينهم بالغنى والحاجة حتى يقوم الاحتقار في نفوس بعضهم للبعض الآخر ويقوم الحقد في البعض الآخر لغيرهم وربما اصطلحت مع الأسف مصالح بعض الحكام مع الاستعمار فاستطابوا ذلك وهذا بداية الهاوية للجميع.
3 - الثقة بالعقيدة..
وواجه المسلمين -العرب منهم وغير العرب- تهمة الإسلام بالتخلف ولم تقم حضارة العرب الباقية إلا بالإسلام. ولم تقم حضارة تركيا إلا بالإسلام.
وما حافظت أمم ذات حضارات بائدة على نفسها كالهند وإيران وأفغانستان إلا في ظل الإسلام.
ولم تقم حضارة أمم لم تعد مسلمة كأسبانيا والبرتغال إلا في ظل أندلس الإسلام والأمم التي غلبت على أمرها بغير الإسلام في تركستان وأذربيجان وخراسان والصرب كانت لها حضارة في ظل الإسلام.
ولم تقم أمم كبرى اليوم كباكستان وإندونيسيا إلا بالإسلام. والإسلام لم يقضِ في ظل حضارته على حضارة الشعوب التي أسلمت وإنما غذاها ونماها وقواها حتى كانت ضربات الاستعمار للجميع.
والإسلام في ظل حكمه أغنى الحضارات القديمة ولم يفنها. وأثر الحضارة الإسلامية في حضارة اليوم ليس حديث المسلمين فحسب وإنما هو حديث كل العلماء في العالم على ما يحاول بعضهم من تهوين شأن هذه المشاركة وما يحاول بعضهم من الإنصاف، وما حاول الاستعماريون من طمس هذه المعالم وكشف عنه رقي الشعوب المسلمة اليوم من جديد.
ونحن في هذه الزاوية لا ندعي أن المسلمين وصلوا إلى كل شيء ولكن الحضارة تراث الإنسانية كلها بل إن المسلمين هم الذين جعلوها تراثاً إنسانياً وكانت من قبل تراثاً شعبياً يموت بموت الشعوب. وقد شارك المسلمون في هذا التراث بقسط موفور.
وهذا القسط لا ينبغي أن ينتظر منه أن يكون كل شيء في تاريخ العلم والعالم وإنما ينتظر منه أن يكون كما كان نتاج عصره وأوانه بل خير ذلك النتاج ابتداء أحياناً ومواصلة لسابق جهد أحياناً وصلة وصل بين سابق تراث ولاحقه أحياناً أخرى ليست صلة ساعي البريد بالكتاب وإنما صلة العالم بالعالم والكاتب بالكاتب والكتاب بالكتاب.
ثم إن العلم سلسلة من المسائل لا تنفصم. لا تقوم الثانية لو لم تكن الأولى ولا تكون الثالثة لو لم تكن الثانية ويحتار طالب العلم أيتها أهم وربما كانت البداية أهم من النهاية لأن النهاية على ضخامتها وليدة البداية. فلولا الصفر الذي اصطلح عليه علماء العرب لما كان كل ما بعده من الحساب.
وأفكار الإسلام أو مبادئ الإسلام الفكرية لا تقوم عامل التخلف وإنما تقوم دافع تقدم. ولست في حاجة إلى الإشارة لهذه الأفكار فهي معروفة لدى المسلمين وغير المسلمين.
والحضارة الحديثة قام تقدمها المادي على الأفكار الإسلامية في تحسين الحياة وتحسين أسلوب الحكم وتطوير العلم وحرية العلماء وتسخير الطبيعة للإنسان ويقوم تخلفها الروحي على تخليها في هذا الجانب عن الأفكار الإسلامية أخلاقاً وسلوكاً ومشاعر.
على أن هناك ملاحظة هامة في تاريخ الحضارات هي أن الحضارات فيما قبل الإسلام عند الإغريق والرومان والفرس والحضارات العربية القديمة عند الفراعنة والفينيقيين والآشوريين والبابليين، والعرب البائدة في الجزيرة كانت تتسم دائماً بالصبغة المحلية فلا تعدو موقعها الجغرافي.
أما حضارة الإسلام فهي أول حضارة اتسمت بالعالمية فامتدت خلال القارات الثلاثة القديمة أوروبا وأفريقيا وآسيا على بعد الشقة وصعوبة المواصلات وعسر الأسباب. فكانت بذلك منطلقة من طبيعة الإسلام لا من إمكانات العصر.
وهي أول حضارة عرفت وفرة المتعلمين والعلماء وجعلت العلم مشاعاً. وأول حضارة عرفت وفرة الكتاب وهو سجل الحضارة واقعاً وتاريخاً وميراثاً. فلم تكن العقيدة عالمية في شريعتها فحسب بل كانت تبعاً لذلك عالمية الحضارة أيضاً.
فإذا اتخذت الحضارة اليوم صفة العالمية بتقارب المسافات وسهولة المواصلات ويسر الأسباب وقامت المؤسسات العالمية بين الشعوب فإن فكرة العالمية وليدة الإسلام.
وملاحظة أخرى هي أن الحضارة الإسلامية كانت صناعة الإسلام وحده أو صناعة أمم تدين كلها بالإسلام. بينما حضارة العالم اليوم صناعة مسيحية محرفة ومنحرفة في الغرب ووثنية فكرية في أقصى الشرق وشيوعية ملحدة بينهما.
فحضارة الإسلام حضارة مؤمنة وحضارة العالم اليوم حضارة لا إيمان لها ولذلك يمكن أن تسمى مدنية أكثر من أن تسمى حضارة ولهذا المعنى حديث بعد.
فعلى المعلمين مهمة تنمية الثقة بالعقيدة بحسن تصويرها وفهمها وعدم الحجر فيها وعدم التفسخ منها فمن لا عقيدة له فلا ميزان له يحتكم إليه ولا مصدر قوة يلتمس القوة منه. ولذلك فإن كل أمة تجتمع على عقيدة ما تبلغ من القوة مبلغها من الإيمان بتلك العقيدة ثم تضعف بحسب تحللها منها. ولن يبلغ إيمان الإنسان بعقيدة صنعها إيمانه بعقيدة يعتقد أن صانعها هو صانعه نفسه صانع الإنسان.
4 - الثقة بالتاريخ الإسلامي..
وواجه الإسلام حالة ضياع التاريخ الإسلامي من أهله وتشويهه من أعدائه أو طمسه، فانصرف الشباب إلى الحضارة الغربية وتاريخها والاهتمام بها وساء تصورهم لتاريخهم، بحثوا عن النقائص كما أشهرها الأعداء وغفلوا عن المحاسن جهلاً بها أو سوء فهم لها وفي كل أمة النقائص كما فيها المحاسن، وليس هذا صنع المستشرقين وحدهم ولكنهم وجدوا المرتع الخصب في ما صنعته أيدينا نحن المسلمين والعرب حقيقة نقر بها للإنصاف.
لقد انشغل مؤرخونا في عصور الضعف حين كتب التاريخ باستهواء العواطف أكثر من استقراء الحقائق حتى هلهلوا بعض الشخصيات العربية العامة وانشغل المؤرخون بآرائهم الشخصية وتحزباتهم عن حقائق التاريخ وسلامة الحكم حتى طغى تبادل المطاعن على صور كل الأطراف وضاعت الصورة المحايدة بين غلبة الأهواء.
ولم أتحدث هنا عن العقيدة من حيث مضامينها: دافعة إلى التقدم، دعامة لصحيح الحضارة، داعية إلى الخير، شاملة به الأمة والإنسانية، مُصْلِحَةً للمجتمع، مشيعة للسلام، لأن كل هذه المضامين تحدث عنها العلماء طويلاً وكثيراً ولكنّ المُثل المجردة لا تقوم في عامّة الأذهان حججاً بقدر ما تقوم التطبيقات الصحيحة لها وسائل إقناع مفحمة، لذلك لجأت إلى الاستشهاد بواقع التاريخ على صلاحية العقيدة الإسلامية لنشأة الحضارات طويلة الأمد عبر عمر البشرية. وإن كان لي حديث آخر على نهج خاص -إن شاء الله- حول هذه المضامين سيكون موضوعاً مستقلاً بعنوان (ذاتيّة الإسلام).
إن كثيراً من الشباب في العالم الإسلامي أو مَنْ هم فوق هذه السنّ الذين تتلمذوا على الثقافة الغربية الحديثة؛ يحسبون الإسلام ديناً كسائر الديانات على ما وجدناها ولعلها كانت في الأصل أكثر من ذلك صلة بين العبد وربه، وعلى ما فيها من معان روحية للعلاقات الاجتماعية، فإنها لا تعطي تنظيماً كاملاً للحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وإن اعترفوا للإسلام بالمزيد عن هذه الحدود فإنهم يرونه مزيداً محدوداً في ذاته.
والحقيقة أن هذه النظرية قاصرة بسببين: سبب من جهلهم بتكامل الإسلام عقيدة ونظام حياة وسبب من بُعْد الإسلام عنهم خروجاً عليه في مجتمعات أو تطبيقاً له في مجتمعات تطبيقاً لا يعطي الصورة الواضحة كما يمكن أن تَبْلُغه رائعة وجذّابة وقوّية.
إن الذين درسوا ويدرسون "الحقوق" على بعض اطلاعهم بالإسلام جديرون بأن يتعمقوا الدراسة فيه والذين درسوا أو يدرسون الشريعة الإسلامية جديرون بأن يدرسوا القوانين الوضعية ليعلم الفريقان ما يعلم الراسخون في العلم منهم من أن الشريعة الإسلامية كانت مصدر إثراء لهذه القوانين وأن العالم مدين في تطوير تشريعاته للفقه الإسلامي. حتى ليكاد يكون محكوماً بنظرياته أو تفرعات عنها في نظم القضاء والمرافعات وأغلب نظمه والقانون المدني إلا حين يخرجه الهوى عن تحكيم بصيرة العقل أو بقصر العقل عن بلوغ فهم الغاية. وتلك هي الحال نفسها بالنسبة إلى القوانين والعلاقات الدولية. ولقد قلت في محاضرتي "المهمة الصعبة" برابطة العالم الإسلامي.
(ولكن كان وما زال من حسن حظ البشرية جمعياً أنها بالرغم من انفصالها عن الدين واقعاً وتنفيذاً وسلوكاً وعقيدة فإنها ظلت تتدرج تشريعاً وتنظيماً في كل أنحاء الأرض بحكم العقل اجتهاداً أو نفاقاً نحو الكثير من مبادئه العملية حتى وصلت في بعضها إلى حد الالتقاء به نظرياً وتخلَّفت في البعض ليس تخلفاً ناتجاً عن قصور العقل بقدر ما نجم عن سلطان الهوى في المجتمع والإدارة).
وهذا ما سيكون -بعون الله- موضوع حديث مستقل لي بعنوان "العالم يُحْكَمَ بالإِسلام" فشرح مضامين العقيدة في مختلف المناسبات والعلوم والفنون مسألة دقيقة وهامة تقتضي من المعلم كثيراً من الدرس والعمق والتفقه وكثيراً من اللباقة والدقة وحسن الملاحظة.
واستهوى الأدباء والقصاصين خيال الصور فألّفوا على ذلك القصص والروايات.. وانشغل المؤرخون بالأحداث والحروب عن تاريخ الحضارة والعلم. وانشغل المؤرخون بتاريخ الحكام عن تاريخ الشعوب. وانشغل الخطباء بالتهويش والتهويل عن دقة إيراد الحقائق والسعي وراءها لأن مخاطبة العواطف أسهل من جهد العقول.
كل ذلك لأنهم استخدموا التاريخ أداة للسياسة أو ملهاة للشعوب على المقاهي والسمر.
وانحاز كل ذي مذهب إلى حكامه ثناء وعلى خصومهم هجاء وشوه حقائق كل جانب وغلب الهجوم على الثناء حتى ساءت الصورة كلها.
وأخطأنا في تدريس التاريخ الذي اقتصر على تاريخ فلان مولداً وبيعة وسيرة وموتاً وفتوحات.
إننا لا نكاد نجد تاريخ الحضارة الإسلامية إلا مزقاً ونتفاً بين الكتب الكبيرة التي لا يمكن مع الأسف – أن تدرس في المدارس ولم يجمع بعضها إلا في بعض الكتب الحديثة على قلة وضعف عمق ونقص في المصادر العلمية وهذا ليس نقداً لواقع مدارسنا اليوم ولكنه التاريخ منذ كانت دراسته في شعوبنا من قديم ولعله الآن أفضل. ولكننا اليوم في عصر لا يهتم بمثل هذه الدراسة ولا يقيم لها وزناً.
فالشباب معذورون أمام هذا كله أن لا يعيروا كثيراً من اهتمامهم لمثل هذا التاريخ وأن ينصرفوا عنه ويهملوه ويتهموه بالزيف على خطل أوقعناهم فيه وأوقعنا أجيال سابقة فيه.
فمن واجب الأمة وجهات الاختصاص أن تعيد كتابة التاريخ الإسلامي في كل بلد مسلم وأن تَنظر له على ضوء هذه الانطباعات، غير منكورة الجهد الذي بذلته في سنوات أخيرة، وقد يكون لغيري من المتخصصين ولست منهم وجهات نظر أهم ووسائل أجدى.
وعلى المعلمين مهمة التنبيش في أحضان التاريخ عن مصادر الروعة ومواطن القوة، وحضارة الشعوب تنمية للثقة في تاريخنا الإسلامي. وأن يأخذوا حقائق الأمور وصحيحها وينصرفوا عن غثها إلى السمين النافع المغذي ويعفوا عن سفاسف الروايات وضعيفها وأن يعنوا بفلسفة التاريخ فوق العناية بمولد فلان ووفاته.
إن عظمة الرجال الذين نؤرخ لهم من حكام وعلماء ليست في تواريخ الميلاد والوفاة وإنما في الأفعال التي ينبغي أن نسجلها وليست تكريساً على الحكام وإنما على الدولة والشعب. وهذه المعاني الباقية من التاريخ هي التي ينبغي أن يسلط عليها الضوء في الدرس وفي الامتحان لا الأرقام ولا التواريخ ولا الأَنساب لا إهمالاً لها أو إلغاء ولكن كل ذلك من مهمة المعلم ليصنع جيلاً يثق بتاريخ أمته. إن من لا يثق بتاريخ أمة لا يثق بمستقبلها. من لا يثق بسابق عطائها لا يثق بمقبل قدراتها على العطاء، فالتاريخ يمنح الثقة في القدرة المعطاءة للأمة.
5 - الثقة باللغة..
وتعرضت لغتنا إلى هجمات مغرضة عنيفة فمن دعوة صعوبة اللغة إلى دعوة للعامية إلى دعوة كتابة اللغة بالحروف اللاتينية ولم تجد دعوة الكتابة بالحروف اللاتينية صدى استجابة من أحد والحمد لله لأنها مست كرامة الشعوب العربية فرفضتها.
ولكن دعوة صعوبة اللغة قد تجد لها مبرراتها، والدعوة إلى العامية تجد لها المستجيبين. ومن الغريب أن كل اللغات صعبة على غير أهلها ومع ذلك لم يتخل أهلها عنها وهل من لغة مثل الصينية واليابانية وهما لغتا ثلاث دول كبرى وربما كانت صعوبة كل لغة حسب رقيها في بعض ما نعلم فالفرنسية أصعب من الإِنجليزية وهما لغتان عالميتان.
فلماذا نتفرد نحن بهذه السفسطات؟ ولماذا تسلط على اللغة العربية هذه الحملات. نعم لأنها لغة القرآن. اللغة التي يجتمع عليها العالم الإِسلامي وهو العدو الأكبر للصهيونية والشيوعية والاستعمار. ومن المؤسف أن هذه الدعوات الخطيرة قد يطلقها إلى جانب المغرضين شباب يحاول التجديد على عجلة من أمره. فلقد حدثني الدكتور منصور فهمي -رحمه الله- قال كنا شباباً عدنا من التحصيل في أوروبا استهوانا أن نرفض كل قديم ونحن الآن في مجمع اللغة العربية أحفظنا لألفية ابن مالك أقدرنا على الحجة فأرجوكم وأنتم في مقتبل أمركم أن لا ترفضوا القديم كله ولا تأخذوا بالجديد كله وإنما تدبروا أمركم بين ذلك.
ويطلق هذه الدعوات شباب أو شيوخ على قاعدة المخالفة.
ويجد فيها الضعفاء منا مبرراً لفلسفة الضعف فللضعف فلسفته كما للقوة فلسفتها، يختبئ وراءها الذين لا يجدون في أنفسهم القدرة على الصواب. ويقف المغرضون ينتهزون كل فرصة من مثل ذلك ليروجوا لهذه الآراء الهدامة ولقد يلتمس هؤلاء وهؤلاء الأسباب في بعض ما كتب الكاتبون من قديم وفي عصور الضعف الأدبي بالذات.
ولقد يلتمس بعضهم الحجة في بعض أشعار الجاهلية. ولقد يلتمس بعضهم الحجة في تنطع بعض المتنطعين من المعاصرين. ولقد يلتمس بعضهم الحجة من اللغة ذاتها كالمترادفات وتعدد الأسماء ومن قواعدها والأمر يختلف على وجوه.
أما بالنسبة للجاهلية فلعل ما في الكثير من نثرهم وشعرهم من رائع واضح جلي فإن ما نعتبره اليوم غريباً علينا ونكرة لنا ربما كان متداولاً بينهم معرفة لهم فلهم عصرهم ولنا عصرنا. فليس لنا أن نطالبهم أن يكتبوا لنا كما نريد ولا علينا أن نكتب كما كتبوا ولكن على الذين يختارون النصوص للطلبة أن يقدموا بعناية فائقة النماذج الصالحة للعصر. ويمكن جداً الاستغناء في النصوص بالإِكثار من النصوص الإِسلامية والمعاصرة لأن الغرض من ذلك ليس تاريخ الأدب وإنما تنمية الذوق اللغوي.
وكذلك عند تاريخ الأدب العربي في مرحلة المدارس نستعين بالقليل الممتع المفهوم من كل العصور العربية. ونترك ما عدا ذلك لمرحلة التخصص الذي يقوم على الهواية والدراية والذوق المتمكن الذي يألف الصعب شأن مرحلة التخصص في كل مجال.
أما ما كتب في عصور الضعف الأدبي فليس حجة على اللغة وليس مثالاً يقتدى أو يراد أن تكون عليه لغتنا المعاصرة.
أما المتنطعون من الكتاب المعاصرين فإنهم حين يزيدون من غريب الكلمات وحين يشددون الحصار على التطور في اللغة والتجديد في أساليبها وصورها فإنما يسيئون إليها أكثر مما يحسنون. إن ارتفاع نسبة الرسوم الجمركية تدعو إلى التهريب وصعوبة الإجراءات تدفع إلى مخالفة النظام وكلاهما يحضان على الرشوة. وفرق بين هذا الذي أنقده وبين المحافظة على عدم الإخلال بالقواعد اللازمة لسلامة اللغة.
أما المترادفات في اللغة فلم توجد لتكرر في أكثر من مكان من مقال واحد أو لتأتي كلمات متتالية في التعبير عن غرض واحد أو لاستعراض العضلات في علم اللغة ولكنها في الحقيقة ليست كلمات بمعنى واحد كما فهم المتأخرون أو عرفوها وإنما كان العرب أعرف بمعناها حين سموها مترادفات أي كلمات متعددة تأتي تعبيرات عن درجات مترادفة من المعنى الواحد وكذلك الأسماء المتعددة هي صفات متعددة لمسمى واحد تذكر حسب ورود تلك الصفة عليها. ووجودها في اللغة إغناء لها فيها وليس وجوداً للتكرار وللاستعمال في كل مجال دون تمييز لمعاييرها الدقيقة وهذا التدابر في اللغة والترادف في درجات المعنى الواحد والدقة في تصويره والأسماء المتعددة للشرح الواحد باختلاف صفاته دليل وحدة على مقدار حضارة العرب وروحانيتهم فبغير الممارسة لا توجد اللغة واللغة لا تسمى ما لا تعرف فلولا تدرجهم في كل المعاني لما عبروا عنها بألفاظ متعددة ولولا مخالف صور حياتهم لما سموها. ومن حقنا كأمة معاصرة أن نختار ما نشاء للاستعمال وندع ما نشاء وذلك ما يقع فعلاً بلا تدبير اختيار عندنا وفي كل لغة فالمسؤولية في ذلك على الكتاب والمعلمين وليست على اللغة. فالمعاجم في كل لغة تاريخ ألفاظها لا لغتها المعاصرة فحسب.
ونحن لا ينبغي أن نحذف الكلمات التي لا نريد استعمالها من المعاجم لأننا لا نستعملها فليس كل ما في معاجم اللغات مستعملاً استعمالاً يومياً وكذلك لا نستغني عن وجودها في معاجمنا لما قد نحتاج إليه عند البحث في تراثنا فمسؤولية كتابنا اليوم أن يكتبوا السهل الممتنع كما سماه البلاغيون من قديم وهذه ليست دعوة مني بل هي الواقع الذي حاوله الكتاب اليوم على فرق الجهد في القدرة على الحفاظ على سلامة اللغة ويسر الأداء.
ولغتنا لا ترفض التجديد والتطوير وهما في اشتقاق الكلمات وفي التعريب وفي الصور اللفظية وفي اعتماد الجديد الذي رضيه الكتاب وتداولوه وذلك ما فعل من قبل فكانت الكلمات والاشتقاقات التي سميناها مولدة وما زال الكتاب يولدون رضي المتنطعون أم كرهوا.
أما قواعد اللغة فقد كتبت في عصر غير عصرنا وبأسلوب غير أسلوبنا ومن حقنا أن نكتبها بشكل جديد لا يمس أصولها وإنما يوضحها ويقربها ويختصرها كما نشاء ومحاولات الأساتذة حفني ناصف وزملائه وعلي الجارم وغيره محاولات مشكورة أدت دوراً هاماً وما زلنا في حاجة إلى المزيد من الجهد. فعلينا بكل جهات الاختصاص المعنية - العناية بوضع مناهج تعليم اللغة ومحاولة تبسيط قواعدها والاستغناء عن تعدد أوجه الإعراب في تعليمها المدرسّ وتوضيح هذه القواعد في مزيد من اليسر وبأساليب مشوقة وقد بذلت الجهات المعنية في كل البلاد العربية جهوداً مشكورة وما زلنا في حاجة إلى المزيد مع الاحتفاظ بالثروة الأصلية ذخيرة للمتخصصين وذخيرة للمزيد من محاولات التطوير.
وشأننا في ذلك ليس غريباً بل هو شأن المختصين في كل اللغات وكل المحاولات الجادة تعني مزيداً من الحفاظ على اللغة. فالمحافظة على أصول القواعد ضرورة اجتماعية لضبط المفاهيم وإلا اختلت المعاني والمفاهيم لو ترك الكلام بلا ضابط له. ولم تقم أية أمة دعوة الاستغناء عن أصول قواعدها.
وإذا أردنا نشر اللغة لغير العرب ففي الإمكان تأليف معاجم على نمط ما تفعل اللغات الأخرى تحتوي على كلمات تكفي للمحادثة والمطالعة العامة وعلى مراحل.
أما العامية والكتابة بها فإلى جانب الفوضى الذهنية المترتبة عليها فهي تعود باللغة إلى عهد اللهجات وما الفصحى إلا تطور وتجميع أفضل تلك اللهجات. وخطورة دعوات هدم اللغة أن انفصام الأمة عن لغتها انفصام عن سابق تاريخها انفصام عن ماضي حضارتها انفصام عن تراثها انفصام عن شخصيتها لأن في هذا التاريخ والتراث القديم حافز همة ودوافع تقدم وقوة وشخصية وروابط تاريخ وعقيدة وغذاء نفوس وعقول.
وحين تفقد الأمة هذا التراث تضطر إلى استيراد أفكارها كما تستورد حاجياتها وذلك هدف أعدائنا قبل كل شيء وتكون في الوقت أرضاً بيضاء للبيت الجديد وبذلك لا تجد الأفكار المستوردة أية مقاومة حتى ولا باجتثاث عشب قديم. وفي هذه الدعوات خطورة القضاء على الوحدة العربية والقضاء على الوحدة الإسلامية.
فما زالت الفصحى رباط الأمة العربية وما زال القرآن رباط الأمة الإسلامية وهمُّ أعدائنا حل هذه الأربطة الوثيقة الكريمة. فمهمة المعلم أن يشعر طلبته بلذة لغتهم. بجمالها، بسعتها، بعمقها، بمعانيها. بالاعتزاز بها بالترنم بموسيقاها. أي لغة لها جمال العربية واستيعابها. إن هذه اللغة وحدها دليل حضارة العرب قبل الإسلام كما قلت من قبل. فالمعاني المترادفة دليل التدرج الروحي والمسميات دليل التطور المادي وإلا لما وجدت هذه الألفاظ قريب، ولذلك جاءهم الإسلام بأكبر معجزاته القرآن منطقاً مُعْجِزات ومستوى بيانياً فوق النثر والشعر.
ومع ذلك فإننا إذا استثنينا استنطاق الأحكام وبعض كلمات قليلة فإن عامة العرب إلى اليوم يستمعون القرآن وهم له فاهمون أو شبه فاهمين. لأنه أسمى بيان. فليتنا نحرص -كما حرص أسلافنا- على أن ندخله قلوب أبنائنا وأسماعهم وتجري به ألسنتهم منذ الطفولة مدخل التشويق ومجرى النغم وهم إليه يهفون بفطرتهم المسلمة السليمة فنعمق إيمانهم بروحانيته ونرفق طباعهم بمعانيه، وتهذب أسماعهم وألسنتهم بلغته ونحبب إليهم العربية به. ولكنها مهمة دقيقة تحتاج إلى توفر كل هذه السمات في شخصية المعلم وعمق الإدراك عنده. لتلقينه منجماً على حسب قدرة التلقي فكذلك فعل الله من قبل. وعلى المعلم حسن تحضير درسه وتشويق الطلبة إليه وإن كان ذلك شأنه في كل علم وفن فللغة مكانها الخاص الذي تحدثت عنه في إطار معاني هذا الحديث وعليه إكساب الطلبة اللغة وقواعدها بالتطبيق والممارسة وبحلاوتها على لسانه قدر جهده وهو يدرسهم كل العلوم والفنون.
6 - تثبيت الشخصية العربية والإسلامية..
قلتُ.. إننا أمة نامية ومن عادة الضعيف أن يقلد القوي ومن هنا جاءتنا بعض الأمور النابية عن عاداتنا لأن تقليد الشكل أيسر من مضاهاة الموضوع فالجاهل أكثر ادعاء والعالم أشد صمتاً إلا إذا استنطق.
والغني أكثر اقتناعاً بقدرته والفقير أشد حنيناً إلى الكماليات لأن لذته بها ثروته من الدنيا. وكذلك كان شأننا مع غيرنا من الأمم شعوب الدول الكبرى. إذا نافسناهم على العلم والجهد والعمل فذلك موضع الحمد والثناء وهو الواجب. ولكن للعلم والجهد والعمل مسؤولية ومعاناة فكان أيسر على ناشئتنا أن يتعجلوا الشكل مع أننا للإنصاف لا ننكر حظهم اليوم من العلم والجهد والعمل. إنما هذا الشكل هو موضع النقد. إن الحضارة ليست شكلاً "موضة أو مودة" الحضارة موضوع وعمق.
وهذا الذي أقوله عن الناشئة أقوله عنا نحن الكبار ولكن الكبار إلى انتهاء والشباب هم المستقبل فهم الأولى بالعلاج. والكبار جاءتهم هذه الشكليات في شكل المنزل والسيارة ونحوهما وربما في أمور أخرى على قلة. ولكن الصغار تأتيهم هذه الشكليات في أنفسهم وفي أشكالهم وإذا كبروا عليها ضاعفوا أخطاء كبار اليوم وخطأ كبار اليوم نتيجة مفاهيمنا بالأمس. وأنا لا أعترض على السوالف مثلاً وطول الشعر باعتبار ذلك شكلاً لو كنا له مبتدعين ولو أنه ليس بدعة حسنة ولكن باعتباره تقليداً نظنه دليل الحضارة. ولا أطلب الردع بالقوة فالقوة لا تقضي على النظريات في النفوس وإنما أطلب الردع بالإقناع والفهم. لو فهم شبابنا أنها نكاية أوقعها بختنصر باليهود حين أجلاهم وفرضها عليهم تمييزاً لهم لتحقيرهم فمكر اليهود مكرهم فجعلوها من وصاياهم في تعليماتهم واندثرت مع الزمن ثم جاء ممثل يهودي أميركي كبير مشهور فطلع بها في فيلم فشاعت بين الشباب. لو اطلع الشباب المسلم على هذه الحقيقة لمقتوها وتخلوا عنها. وهذه الألوان المزركشة في ملابس بعض شباب البلاد الإسلامية. لا أعترض عليها كألوان فمن فرض الأشكال والألوان على الناس، ولكني أعترض عليها ميوعة وذوبان رجولة. وهذه الكوافي المائلة في بعض شبابنا ضرب من الفتوة كانت شمخة (أو قعطبة) بعض أبناء البلد خيراً منها لأنها أشبه بالرجولة من هذه التمايلات ومرة أخرى أعود فأقول لا عِبرَة بالشكل فإن الشكل المألوف اليوم لحلاقة شعر الرأس قد لقي يوماً بعض النقد الذي يلقاه شكل تربية شعر الرأس وربما كان الشكل الأخير أقرب إلى قبيلة عند البادية لولا السوالف فليست العبرة. بما فوق الرأس ولكنه بما في داخله لقد سمعنا في جامعة الملك عبد العزيز محاضراً أميركياً شاباً عجبنا لشكله أول الأمر ثم أنسانا ما أفاض علينا من داخل رأسه أن نذكر ما فوقها من الشكل: إن شكلاً واحداً يتفق فيه رجلان يجعلنا نسمي أحدهم "مائعاً" ويجعلنا نسمي الثاني "فيلسوفاً".
والقصير من ملابس الفتيات وهذا كلام للمعلمات من وراء حجاب كما هو للمعلمين بالمواجهة لا أعترض عليها مع من يجوز كشف عوراتهن عليه أو في مجتمع نسائي محض، ولكني أعترض عليها فَهْم أنها دليل حضارة ورقي وتفسخاً من الاحتشام والتوقر. إن زي نسائنا الطويل الأصيل ليس غريباً كبعض الأزياء التي يحافظ أهلها عليها مع كل التقدير لهم في ذلك وهو زي قابل لكل تطوير وتحسين في الصور (الموديلات) ولماذا لا يجتمع نساء المسلمين على زي ليس بالقنعة التركي ولا الجامة الهندي ولا العباءة بواقعها اليوم فذلك مغالاة في الدين وليس بالمحزق وعاري الصدر والقفا والميني جوب والميكرو جوب فذلك خروج عن تعاليم الدين وتفسخ في الطبيعة.
نريده زياً أنيقاً في المظهر خفيفاً في العبء بصيراً لا يحجب الرؤية طلقاً لا يكتف الأيدي ويمنع الحركة.
ذلك أكرم للمرأة وأليق بأنوثتها وأبقى لمعانيها وأرفع عن الابتذال فعلى المعلمين والمعلمات أن يوقروا في نفوس الناشئة -شباناً وفتيات. فإنهم شركاء في صنع الحياة من بعد- هذه المعاني وإن قيمة الإنسان ما يحسنه ليتنافسوا في الإحسان ويلتقوا عليه ولا يضيعوا الجهد في توافه الأشكال وذلك لا يعني الحرب على الأشكال أناقة وتنسيقاً ونظافة ويسر استعمال. ومن التقليد جاءتنا بعض صور التعامل التي لا تقيم للاحترامات المتبادلة بين الكبير والصغير وزناً فعلينا أن نقر في نفوس الناشئة أن الاحترام غير الذلة من الصغير وغير الهوان من الكبير وغير الاستخفاف من الصغير وغير الاحتقار من الكبير ومن التقليد جاءتنا بعض التخليات عن مشاعرنا الأصلية في تباعد الأُسَر وانفصال الأهل وأنا لا أدعو إلى تكويم أفراد الأسرة على بعضها ولكن أدعو إلى الحفاظ على روابطنا وتنمية هذه الروابط وعلى مشاعرنا الخيرة فأم الزوج أم لزوجته وأم الزوجة أم لزوجها هكذا كنا وما نزال في الأغلب فنحن لا نعرف هذه الصورة للحماة كما يعرفها غيرنا فلماذا نوجدها اعتباطاً، وأنا أرجو أن تعف وسائل الإعلام عن نشر مثل هذه الصورة المستوردة وإشاعة معانيها للتندر والفكاهة والقصص. إن إشاعة صورة ما للفكاهة وسيلة غير مقصودة لتركيز معانيها في النفوس. وكذلك زوجة الأب فكم من زوجة أب خير من أم ولكن إشاعة الصورة التي تعقد الأطفال وتحمق الكبار تحدث المشاكل في نفوسهم وتسيء الصورة في نفس الزوجة إلى درجة قد تكلفها ما ليس في طبعها ما دامت مذمومة على كل حال أو من حيث المبدأ. لماذا لا نشيع الصور الحميدة والمشعة بالتفاؤل والخير وبكل وسائل الإعلام في هذا المجال.
فعلى المعلم أن يركز هذه المعاني في نفوس الناشئة الذين سيكونون أسر المستقبل وأن رعاية هذه المعاني واجبة حسب مقتضيات الظروف. إن من حسن الحظ أن هذه الأفكار الواردة علينا حديثة العهد بنا غير بعيدة الغور في ناشئتنا فعلاجها بالعناية والدراسة والرعاية سهل ميسور.
وعلينا أن نثبت شخصيتنا العربية والإسلامية في نفوس أبنائنا فإننا نريد مثقفاً عربياً مسلماً لا مثقفاً أميركياً أو أوربياً في ثوب عربي أو شبه عربي إن الثقافة ليست مسخاً للشخصية وإنما هي عامل قوة. وأن نثبت في نفوس أبنائنا أن تقاليدنا الإسلامية هي خير التقاليد بالشرح والتمثيل والتطبيق. وهذا صحيح وليس ادعاء.
إذا كان بعض التقاليد القائمة قد شابها شيء من التشويه بحكم عصور التخلف فإن محاولة التعديل في تقاليدنا -كالزواج والمآتم وأسلوب الحياة- بالأحسن وهو دائماً متفق مع الأصل الإسلامي الأحسن محاولة مطلوبة. وإذا كان من مقتضيات العصر ما هو جديد على حياتنا فلنتناوله بما يتفق مع تقاليدنا أو نضع له تقاليد تنبعث عنها.
وإذا كان من مستوردات الصور ما تقتضيه مصلحة أو ضرورة حياة، فلنأخذه كما ينبغي أن يكون لنا وليس لزاماً أن نأخذه على علاّته تابعين مقلدين فليس من شرط الحضارة ذوبان الشخصية والسمة الخاصة بل أول معالمها بروز الشخصية والسمة الخاصة. وهذا ليس تزمتاً ولا تعنتاً بل إنه سمة لا تخلو منها كل الشعوب اليوم وأمس. حتى الشعوب الحديثة تحاول أن تصنع لنفسها السمة وهذه محاولة أمركة اللغة الانكليزية في الولايات المتحدة الأميركية ضرب من ذلك ومحاولة خلق الآثار أو اختلاق الآثار لمن لا آثار لهم.
إن أوفر الشعوب أصالة أبرزها سمة، بل إن الحرص على هذه السمة لم تعد مسألة أدبية فحسب وإنما اقتصادية كذلك و (صنع في كذا) عبارة لا تخلو منها قطعة مصنوعة.. ولنركز في نفوس الناشئة ووعيهم أن الحضارة غير المدنية.. المدنية رقي الوسيلة، أما الحضارة فرقي النفس والفكر والغاية.
ليس المهم غرفة الطعام ولكن المهم طريقة تناوله وليس المهم غرف المنزل ولكن المهم طريقة الحياة فيه فحضارة المادة لا قيمة لها إلا بحضارة الروح، والعَرَض لا قيمة له إلا بالجوهر وعلى ناشئتنا أن يدركوا أن أمتنا لن تأخذ مكانها المحترم إلا بارتفاع قيمة هذا الجَوْهر. وليطمئن شبابنا العزيز إلى أني حين آخذ عليه بعض المآخذ فأنا لا أعفي جيلنا من بعض منها ولكن الحديث عن جيلنا كترميم في بناء محطم كما قلت قد انتهى فعلينا أن نركز الجهد على الناشئة الحبيبة لأنها البناء المقبل وأقوى ما يكون البناء حين يكون على خرائط مرسومة. وناحية أخرى هي أن علينا نحن أن نقدم للجيل اللاحق صوراً مصححة لمفاهيم وصلنا إليها بعد عبور مراحل عديدة من التفكير فيها الخطأ وفيها الصواب.
وناحية ثالثة هي أن أخطاء جيلنا ذاتها كانت مسؤولية التوجيه والتعليم. لذلك نحرص اليوم على تلافي النقص في هاتين الناحيتين. ونحن -بكل ذلك- أشد الناس إعذاراً للشباب وإحساساً بواقعه وبالمسؤولية عنه وأملاً فيه وترقباً لصنع يديه. لذلك ربما أكثرنا الحديث إلى المسؤولين عنه في هذه الحقول والحديث إليه تقرباً إلى نفسه وتداخلاً مع أفكاره. إن حياة جيلنا نتيجة أخطائه وأخطاء أجيال قبله وحين نصحو اليوم فإننا نريد -من أعماقنا- لجيل المستقبل في بلادنا العربية والمسلمة كلها أن يعيش حياة التصحيح التي أرجو أن نكون بدأناها لا أن يعيش تجربة أخرى في صورة أخرى من الخطأ.
لقد كنت أتحدث مع سفير عربي مسلم من جيلنا عن السفور والحجاب وحدودهما الشرعية وإذا به يقول لي في حركات من عينه وشفتيه ويديه أو تريد أن تُغطي المرأة رأسها وشعرها؟ تماماً كمن يتعفف ويستنكف أن أدعو إلى قيام المرأة بعمل يعيبها ويثلم شرفها. ومرة أخرى لا يهمني هذا لو كان وجهة نظر تقوم على رأي. وإنما يهمني هنا أنه تقليد الضعف للقوة وانسياب في تيار ليس له فيه رأي ولا ذات وظنٌ بأن ذلك مفهوم الحضارة وصورتها وأن الصورة الأخرى سمة تخلف ومجلبة زراية.
وبلغني أن سفيراً عربياً مسلماً من جيلنا نزل من الطائرة التي تقله إلى بلد مسلم يمثل حكومته لديه وفي يده كلب. إن الكلب قد صحب قبله العربي البدوي ليس الحضري صحبه راعي غنم أو صياد ولكن الكلب هنا صحب صاحبه دلالاً وألفة لا تجلب خيراً ولا ترد شراً. إنها صحبة فكرية التقيا فيها على أسلوب العصر. إنني أعترض على المبالغة في أية صورة من صورها لأنها انحراف عَرّفه مثلنا العامي الذي يقول كل شيء يزيد عن حده ينقلب إلى ضده. وإذا كان الرفق بالحيوان دليل إنسانية الإنسان فإن العناية بالحيوان أكثر من الإنسان دليل حيوانية الإنسان. إن الإنس الزائد بالحيوان دليل فقدان الإنسان المعاصر إنسه بالإنسان وأحب أن أذكر أنني لا أمقت مجرد الصور ولا أحارب التجديد ولكني أعني تطهير المفاهيم من لوثة التقليد وتشويه مفهوم معنى الحضارة. وحين أتحدث عن جيلنا فلا أعني المحلية وحين أتحدث عن الشباب فلا أعني المحلية كذلك وإنما أعني الأمة العربية والإسلامية على الصورتين. وحين ضربت الأمثال فلا أعنيها أشخاصاً أو صوراً وإنما أوردت منها ما ورد على الذهن لا في مسائل – هي (1) إن الحضارة ليست شكلاً فقط ولكنها موضوع وإن غيرت من الأشكال القديمة ما لا يتفق مع تطور الموضوع وأحدثت من الجديد ما يستدعيه هذا التطور (2) وأن الجري وراء الشكل مشغلة عن صميم الغاية (3) وأن قيمتنا الحقيقية هي في نصيبنا من الغاية لا الشكل. (4) وأن الأخذ بالنافع والجميل من الأشكال في مختلف نواحي الحياة التي لا يمثل انهزامية الذات ولا ذوبانها مطلوب. (5) وأن التزام التقاليد والصور التي لا تنافي معنى الحضارة وموضوعها ليس عيباً بقدر ما هو أصالة.
فعلى المعلمين أن يرسموا الخطوط الفاصلة بين هذه المعاني المختلطة في نفوس أبنائنا الطلاب. وأن يقيموا منها الصوى النيرة معالم هدى لطريق تفكيرهم المستقيم.
7 - الثقة بقضايانا..
ونحن نعيش قضايا حاول أعداؤنا تشويه صورها وتحريف حقائقها وساعد الزمن على تمييع مسائلها وتضافرت قوى العدوان على طمس معالمها وحاولت القوة أن تفرض الواقع وأن تظهر حقنا بمظهر المستحيل على التحقيق فرسخ ذلك كله في عقول بعض شبابنا صوراً من ضعف المقاومة فبين من يرى الاستسلام للواقع وبين من يرى استحالة تحقيق الحق، وبين من أثرت فيه الدعاية المغرضة وحياة الاغتراب التي عاشها حتى رأيت شاباً يفهم قضية فلسطين على أنها قضية اللاجئين العرب المستحقين للعطف العالمي كما أرادت الدعاية الصهيونية للشعب الأميركي أن يفهم ففهم هو ما فهمه الشعب الأميركي. وحين شرحت له المسألة رأيته كنائم أفاق.
إن قصة فلسطين بإيجاز أن شعباً عربياً طرد من أرضه وأرض جدوده وأن شعوباً لا يجمعها نسب ولا أصل وان اجتمعت على دين احتلت أرضه، أما بنو إسرائيل من عرب اليهود فلم يطردهم أحد من قبل من أرض العرب وأن الدين لا يحدد وطناً ولا جنسية.
فعلى المعلمين أن يوضحوا لطلبتنا منذ الصغر في برامج توعية وفي سياق التوجيه حقائق قضايا الأمة الإسلامية في كل بلد وأن يرسخوا في نفوسهم صورها ويثبتوا في عقولهم وقلوبهم معاني الحق وكرامته والمطالبة به والإصرار عليه.
وأرجو أن تشترك وزارتا المعارف والإعلام في برامج توعية لهذا الغرض كل ذلك في أسلوب علمي وحقائق تاريخية وحجج ثابتة ووسائل صحيحة لا بالتهريج وإلقاء الكلام على عواهنه فإن هؤلاء الطلبة سينتقلون إلى مرحلة يتحكم فيها الفهم وتذوب فيها عاطفة هوجاء وربما يصادفهم في بعض المجتمعات خصوم ألحن بالحجة فلتخلق فيهم المناعة لرد هجوم وكسب أنصار. إن الذي لا يؤمن بحقه إيماناً عميقاً وكاملاً أو لا يعرف حجة فيه أو وسائل الحصول عليه وتحقيقه يقف اليأس في نفسه دون المطالبة به أو يخذل عند الدفاع عنه.
8 - الثقة في بلادنا..
ونحن كأمة نامية ننظر إلى حيوات الأمم الأخرى بكثير من الإعجاب تسحرنا الطبيعة فيها وتشدنا الحياة الاجتماعية بها. ويخيل إلينا أن في بلادنا العربية والإسلامية فقراً بالخليقة، وأن في مجتمعاتنا تخلفاً بالطبيعة لا مناص منه ولا أمل في إصلاحه.
بل وقد يبلغ بعض المسلمين اليوم سوء الظن بأنفسهم أن يعتبروا أمم الإسلام أصفاراً إذا تجمعت لن تزيد عن صفر.
إن هذه النظرية اليائسة هي التي تقعد بالشعوب عن التقدم وتفقدها الأمل في التطلع إلى حياة أفضل وتفقدها القدرة على صنع حياة أفضل. فعلى المعلم أن يغرس منذ البداية والصغر في نفوس الطلبة حب الوطن ليس بالأناشيد وما شابهها فحسب بل بما قلت من تنمية الثقة في النفس والتاريخ والعقيدة والكيان واللغة والشخصية.
وأن يفتح آفاق الأمل في عقولهم بالتماس مصادر القوة من روحية وطبعية وصناعية في بلادنا العربية والإسلامية.
وأن يملأ قلوبهم قدرة وروعة بمدى ما يحققه تعاون مشترك في كل الميادين لهذه الأمة العظيمة. وفي هذا المجال فأني أرجو أن يقوم تعاون مشترك بين وزارتي المعارف والإعلام على تنظيم رحلات علمية للطلبة في المرحلة الثانوية وللمعلمين في كل المراحل لتبادل الرحلات من منطقة إلى أخرى داخل المملكة على حساب وزارة المعارف، ولتنظيم رحلات إلى البلاد العربية والإسلامية على حساب وزارة الإعلام. على أن تكون هذه الرحلات تحت إشراف دقيق ومخلص وحازم وعالم وفي إطار برنامج علمي محدد وهادف. أما الاحتساب المادي فقد أوردته على سبيل المثال لا الإلزام.
وعلى المعلم أن يضع في تصور طلبته وحسهم تحمل المسؤولية وأن بلادهم تعلق عليهم الآمال، وستبني بهم المستقبل.
وعلى المعلم أن يؤكد لطلبته معنى أن كل بلد صُنْعُ أهله حتى الطبيعة تسخرها الأمة كما تريد لها أن تكون من حولها وكل هذه البلاد التي تخلبهم روعتها ليست هكذا خلقت وإنما صنع أهلها الكثير فيها.
وأن يستفز رجولتهم بأن الصُّنّاع في كل بلد رجال وأن الصُّنّاع في الماضي رجال مثلنا وليسوا ملائكة ولا جانّاً.
وعلى المعلم أن يؤكد لطلبته معنى أن المجتمع في كل أمة صنعها نفسها تُكَيّفه كما تشاء وتبنيه كما تريد.
وأنهم هم الذين سيصنعون هذه البلاد كما يريدونها وسيشكلون مجتمعها كما يريدون. وأنه إذا كان في تاريخنا أخطاء فهي أسباب هزائمنا الماضية وأن فقدان الثقة بالنفس والعقيدة والكيان والتاريخ ورّطنا في التصرفات الشخصية والأهواء الخاصة والمطامع الذاتية. فعلينا إصلاح أخطاء الماضي والاجتماع على الصواب.
فعلى السادة المعلمين:
أن ينفخوا من أبواق القوة في قلوب الناشئة وعقولهم وأحاسيسهم ليهيئوهم علماء عاملين وصناعاً مهرة وجنوداً بواسل فإن مستقبل أمتنا العربية والإسلامية في انتظار هؤلاء الرجال. وإذا بلغت هذه الصيحة أسماع المعلمات من وراء حجاب فإن مستقبل الأمة وليد وربيب البيوت العامرة بالثقة في النفس والعقيدة والتاريخ والأمة والبلاد.
9 - الثقة غير المغلقة..
ونحن نواجه -بعد ذلك- أزمة فكرية داخلية هي فعل طبيعي للغزو الفكري الوارد. فهناك من يواجهه بالتقلص والقوقعة. وهناك من يواجهه بالميوعة والانسياب. وكلا الوجهتين على حافة خطأ.
والوجهة الصحيحة هي الوجهة الإسلامية. مواجهة الرأي بالرأي والحجة بالحجة.
حين نموّن لجيل بالثقة في النفس والثقة في العقيدة والثقة في الكيان والثقة في التاريخ والثقة في اللغة والثقة في الشخصية والثقة بقضايانا والثقة ببلادنا - فإنه يكون مؤهلاً لهذه المواجهة.
وعلينا أن نثق بأن عقيدتنا أقوى من التحدي ومن طعون المغرضين أن الخوف نفسه دليل الضعف وليس في عقيدتنا موضع ضعف وإنما المهم هو الإبانة عن هذه القوة.
على المعلم أن يفسح صدره لكل سؤال وأن يُعِدّ نفسه بكل إجابة.. علينا أن نفتح آفاق المعرفة على عقول أبنائنا فإن فيها الحجة لنا دائماً وفيها الدليل على أهواء المغرضين.
ونريد أن نأخذ من كل ثقافة ما ينفع ونعربه أو نضيف إليه ونضيفه إلينا غير منكرين على أصحابه أصله. ذلك ما فعله أسلافنا من قبل كما قلت من قريب.
وعلينا أن نفهم الناشئة أن العلم ليس فيه جديد ولا قديم وإن كانت الجدة والقدم تاريخاً لا نوعاً. وعلينا أن نفهم الناشئة أنه ينبغي أن لا نعتبر كل مستورد حضارياً وكل تراث متخلفاً أو كل غربي حضارياً وكل عربي مسلم متخلفاً، ولا أن نعتز بكل قول غربي أو نحتج بكل قول غربي مهما قال ولو كان تافهاً فأنا أجد في أقوال بعض ناشئتنا من الكتاب مثل هذه السمة. لقد كان في إمكاني مثلاً - حين قلت أن الخيمة أو الأسرة تمثل الوحدة الاجتماعية الصغيرة في حياة العرب أن أقول.. وتلك هي أصغر وحدة اجتماعية كما قال (لوي).. ولكن ما هو فضل (لوي) في هذه المسألة البديهية؟.
وأنا أعذر الشباب فربما طاب لي يوماً أن أصنع مثل هذا الصنيع دالة بعلم أو سعة إطلاع ولكني اليوم أحدث الشباب عن أخطاء تجاربنا وليست أخطاءهم فقط ولكنا كبرنا فعقلنا، وأنا هنا لا أنكر الإسناد العلمي وقيمته في مواضعه ولكني أعارض الحذلقة في مثل هذه الصورة.
علينا أن نفهم أنه ليس من طبيعة العلم أن نأخذ كل آراء الغرب بالتسليم لمجرد أن فيهم حضارة أرقى اليوم وعلماً لا نجاريه ولكن ينبغي أن نفحصها. إن قيمة القول في الحقيقة وصوابه لا في مجرد من قاله. وأن لبعض الظروف أثراً في نظريات بعض الفلاسفة وحتى في نظرات غيرهم إلى الحياة ولقد مررت شخصياً بشيء من ذلك فعلمت أن ليس كل نظرية حقاً وأن على طالب العلم دراسة كل نظرية بصرف النظر عن قائلها إلا ما كان من قول الله ورسوله فعلينا استنباطه. ولا ننكر شأن القائلين ولكن لا عصمة لأحد، إننا جميعاً بشر خطاءون. إنهم أقرب منا إلى الصواب الذي توصلوا إليه عن طريق الاكتشاف المادي هذه حقيقة لا ننكرها ولكننا على الحق في المسائل المعنوية والروحية بالعقيدة والماضي وسلامة الفطرة ذلك ما ينبغي أن نعرفه لأنفسنا أيضاً بل إن كثيراً من تقدمهم المادي كان مديناً لبعض نظرياتنا الروحية.
وإن للغرب أخطاءه في فهم وتصور بعض أمورنا وتاريخنا نتيجة اختلاف الأجواء والظروف والبيئة والمشاعر.
إن بعض ما اعتبروه مآخذ في تاريخنا أو على بعض رجالات الإسلام بل على نبي الإسلام كان أحياناً عدم فهمهم لمعان في طبيعتنا لا يعونها. فعلينا أن نأخذ آراء المستشرقين بالحيطة. وأنا لا أتهم كل مستشرق بسوء القصد ولكن قد يكون لسوء الفهم في بعض الأحوال أو اللغة دخل في بعض أخطائهم إن بعض مؤلفاتهم الجليلة فعلاً كان بعض نواقصها من نقص الفهم في اللغة حساسية وإدراكاً. والمنصفون منهم يدركون هذا القدر.
قال لي العلامة عبد الكريم جرمانوس تعليقاً على إعجابه ببعض شعري وثنائي على علمه وأين أكون منه.. قال نحن نعرف الطوب ولكنكم تهندسون البناء ولست أعني إنصافه إياي ولكن إنصاف الفكرة بيننا وبينهم.
وعلينا -مع ذلك- أن لا نقابل الأغراض والأهواء المواجهة إلينا بأغراض وأهواء مماثلة لأن إسلامنا يعطي الأولية للحق في كل شيء ويساوي بين بني الإنسان وعلينا أن ندرك أن العلماء لم يتمتعوا بحرية علمية على مدى التاريخ كما تمتع علماء الإسلام في عصر حضارته وإن وقعت مسائل شاذة. إن الذي يراجع أبحاث الفقهاء يعجب بمبلغ ما كان لهم من حرية علمية. والتاريخ يؤكد أن كل حضارة لم تزدهر وتعش إلا في ظل حرية العلماء.
ولكن أية حرية هذه، إن الحرية ليست الفوضى والعلم ليس تهريجاً ولذلك وضع علماء المسلمين (فن المناظرة) لتنظيم الجدل وتنسيقه ومنطقيته. وتطور (علم المنطق) على أيديهم لتنظيم التفكير وتبويبه ووضع قواعد عقلية له.
ولكن الجمود الفكري والانغلاق النفسي مضر أشد الضرر بنفوس الطلبة وأن التناقض بين الواقع المباح بالنظام وبين الجائز المحرم بالجمود والانغلاق يخلق في الطلبة ازدواج الشخصية وهو أمر مضر بشخصية الطالب وبمستقبل الأمة فعلى المعلمين أن يتحرروا من هذه الأزمة الفكرية وأن يعنوا بمعاني التشريع قبل صورها وأن يواجهوا مسائل العصر على هذا النحو من التفكير.
كلمة أخيرة أقولها للسادة المعلمين.. إنهم ليؤدوا هذه الرسالة على وجهها الأكمل المطلوب مسؤولون أن يأخذوا أنفسهم بها في كل اتجاه من هذه الاتجاهات ففاقد الشيء لا يعطيه وأن يحققوا سرّ المهنة في ذواتهم وكلمة أخرى أقولها قلتها من قبل:
ليكن همّهم صناعة الرجال فإن صناعة الرجال هي رسالة المعلم والمادة الخام في صناعة الرجال هي هذه الثقة التي كانت مدار هذا الحديث.
أما نصيبهم من هذه الصناعة فأجرٌ من الله ومقام بين الناس وحظوة من الأمة والمجتمع والدولة وأبوة لا تموت على الأجيال.
أعانهم الله على مهمتهم العظمى فمن دونها كل المهام.
والله ولي التوفيق
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1016  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 1254 من 1288
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج