شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الفصل الرابع عشر
لم تطل إقامتنا في القبان.. أو في دار أبي سفيان فقد بشرنا السيد أحمد الدباغ أننا سنعود صباح يوم الجمعة إلى أجياد... كما بشرنا أيضاً بأننا سوف ننام في سطح مبنى القسم الذي فيه فصل المدرسة والصيدلية والعيادة، لأن (الدنيا حر!) وأصبح من المستحيل أن ننام في الغرف التي شملها الترميم.
وقال وهو يضحك: لم يبق في هذه الغرف والدواليب مجال للصراصير والفيران التي كان يشكو ويخاف منها محمد سعيد وحسن حامد.
وضحك السيد أحمد واستغرق في الضحك عندما تحدث إلى أحدنا عن أصوات (الجن) التي تصرخ وتشتم وتهدد، ثم قال إنها أصوات المصابين بأمراض عقلية محجوزين هناك.
:ـ في الحقيقة دار (أبو سفيان) قديمة جداً... سمعت إنو واحد من سلاطين الدولة العثمانية هوه اللي أمر ببناء هذا المكان عشان يحفظ موقع دار أبو سفيان اللي كان يصلي فيه بعد إسلامه.. ولابد أنكم درستوا في السيرة النبوية الشريفة انو سيدنا رسول الله ـ اللهم صلي وسلم عليه ـ يوم فتح مكة قال (من دخل دار أبي سفيان كان آمنا).
* * *
وفي صباح يوم الجمعة انتقلنا إلى غرف النوم في مبنى مديرية الصحة العامة والإسعاف... كانت فعلاً نظيفة ولا أدري كيف تم توسعة. غرفتنا التي كانت أكثر شبها بزنزانة منها بغرفة نوم ولثلاثة أشخاص.. ولم نوفق في اقتناص غرفة غيرها لأن كل مجموعة من الزملاء قد حرصت على الاحتفاظ بنفس الغرفة التي كانت تشغلها قبل الانتقال إلى دار أبي سفيان أو إلى (القبان) وهو الأسم الذي أصبحت تعرف به الدار الآن.
* * *
وقد شملت عملية الترميم غرفة الفصل الذي نتلقى فيه الدروس، إذ تم تنظيف جدرانها، وإعادة طلائها، كما تم تزويدها بسبورة تملأ مساحة واسعة من الجدار، الذي يواجه المقاعد الجديدة التي كان لها تأثيرها على مشاعرنا إذ أحسسنا أننا فعلاً في مدرسة، لم تعد يهمنا أن تكون مدرسة طب أو مدرسة (تمريض).. وقد زاد من مشاعرنا بالارتياح، أنهم قد حددوا عدد الحصص ومدة كل حصة، بحيث تبدأ الدراسة في الصباح الباكر.. قبيل الساعة الثانية (بالتوقيت الغروبي) وتنتهي عند صلاة الظهر أو في الساعة السادسة بهذا التوقيت.
وقد لفت نظري تعدد المدرسين ومنهم مدرس للغة العربية، إضافة إلى مدرسين للتشريح والصحة العامة والأمراض المعدية (الوبائية) وهي الجدري، والحصبة، والديزانتري والكوليرا، ومنها على الأخص السل الرئوي، وكان مدرس هذه الأمراض طبيب ربما كان متخصصاً فيها.. ضايقنا منذ البداية بعبوسه وتعبير الاشمئزاز والتعالي على الغير، وهذا مع انخفاض صوته، وغضبه إذا ما خطر لأحدنا أن يرفع اصبعه ليقول: (أنه لم يسمع ما يقال). فسرعان ما يطلب منه الوقوف ووجهه إلى الجدار لفترة لا تقل عن معظم وقت الحصة. أو الخروج من الفصل نهائياً مع الإنذار بالطرد من المدرسة أيضاً.
* * *
وبمرور الأيام، لم نعد نشعر بأثر تلك الصدمة العنيفة التي فوجئنا بها ونحن نكتشف أننا في مدرسة للتمريض وليس مدرسة للطب... ومن جانبي شخصياً عنيت بفكرة التفوق في الدراسة، حتى ولو كانت دروس تمريض، والحافز الذي حرصت على كتمانه على جميع الزملاء، هو أن هذه الدروس يحتمل أن تفيدني عندما ألتحق بمدرسةٍ أو كلية للطب في يوم ما، وربما كان للدكتور خيري القباني الفضل في هذه الفكرة، يوم أقترح أن استفيد من وقت الفراغ من الدراسة ـ بعد الظهر ـ بالمواظبة على القيام ببعض الأعمال في مكتبه... وقد لفت نظري أن أقتراحه قد جاء بعد مراجعته لما دونته في كراس المادة التي يدرسها لنا وهي (التشريح)... سألني بعد هذه المراجعة عن المدرسة التي تخرجت منها.. وهل كان من دروسها (حسن الخط) و (الإملاء) مما جعلني أدرك أنه معجب بالخط والإملاء فيما دونت..
وبطبيعة الحال، فرحت بإعجابه وإن كان لم يقل شيئاً أكثر من ذلك السؤال.. ولم أتردد في الصعود إليه في مكتبه ويومياً بعد الظهر بل حتى في الليل أحياناً وعلى الأخص بعد أن رأيت أنه قام بنفسه بتشغيل محرك لتوليد الكهرباء استوردته مديرية الصحة ولكنها لم تجد من يعرف تشغيله.. فتركته في صناديقه، ولذلك اكتفت بالإضاءة الضعيفة التي يستمدها المستشفى من كهرباء الحرم الشريف. وقد كانت المنشآت التي أقامتها الدولةالعثمانية في مكة المكرمة، ومنها إلى جانب الكهرباء المطبعة التي أصبحت تسمى مطبعة أم القرى، لأنها تطبع الجريدة التي اصبحت تسمى بهذا الاسم، بعد أن كانت تطبع جريدة (القبلة) في عهد الشريف حسين، ولا أدري إن كانت تطبع أي جريدة في عهد الاتراك ولكن لاشك في أنها كانت وما زالت تطبع السجلات والأوراق التي تتعامل بها الدوائر الحكومية.. وكان مما يلفت النظر تجاور هذه المنشآت التي ربما كان يهيمن عليها كلها ذلك المبنى الضخم الذي ظل يحمل اسم (الحميدية)، وقد أصبح الدور الأرضي منه مقراً للشرطة وفي غرفة من هذا الدور مقر المحكمة المستعجلة، بينما كان في الدور العلوي وزارة الخارجية ثم المجلس الكبير الذي كان الملك عبدالعزيز يستقبل فيه أفواج الذين يتوافدون لمقابلته وعرض شكواهم عليه من الأهالي، ومشايخ القبائل وفي الجانبين من هذا المجلس ممرات فيها غرف مختلف المصالح الحكومية... بعبارة أخرى، كان مبني الحميدية هذا هو المجمع الذي يضم المصالح الحكومية كلها... ويهيمن في نفس الوقت على المطبعة وكهرباء الحرم، ومباني مديرية الصحة والإسعاف وفيه مدرستنا التي ظلت تسمى مدرسة الصحة وهو الاسم الذي أعلنوا عنه منذ البداية، وفهمنا أنها مدرسة للطب، لنكتشف أنها مدرسة للتمريض وكل ذلك إلى جانب ما يسمى (بازان جياد) وهو الخزان الكبير لمياه زبيدة، الذي يتزاحم عنده السقاة ليتزودوا بحاجة السكان في محلة (أجياد) من هذه المياه... وهم سقاة (القِرَب) الكبيرة من الجلد تحمل على الظهر، وسقاة (الزفَة) وهم الذين يحمل الواحد منهم على الكتف صفيحتين معلقتين على عارضة من الخشب ثم يمشي بها ليفرغها في خزان المنزل لقاء أجر لا يزيد عن بضعة قروش من الريال. كلها منشآت قائمة منذ عهد الأتراك وقد قيل أنها أوقاف السلاطين لمصلحة الحرم الشريف وأهالي مكة المكرمة.
* * *
وقد يحسن بي أن أعود إلى الدكتور خيري القباني الذي قلت أنه صاحب الفضل في ذلك الحافز على الاهتمام بالدراسة بغرض التفوق لأن هذه الدروس قد تفيدني عندما ألتحق ـ في يوما ما ـ بكلية الطب في الخارج.. كان بحمد الله هو الذي يقوم بكتابة جميع رسائل مديرية الصحة العامة على تلك الآلة التي ظننت في البداية أنها جهاز إرسال للتلغرافات، ثم رآني أقف إلى جانبه وفي ملامحي مشاعر الدهشة والاستغراب، فقال لي أنها (الآلة الكاتبة) التي تطبع كلمات الرسائل، وليس ما يمنع أن أتعلم منه الكتابة بها.. وأجلسني أمامها على نفس الكرسي الذي كان يرتفقه، وأخذ يشرح لي كيف اكتب... وبعد أن وجد أني قد فهمت وضع أمامي جريدة ـ وحدد لي عموداً من الصفحة وهو يقول:
:ـ أكتب هذا الكلام المكتوب في الجريدة عدة مرات إلى أن تتعب.. ثم جلس على أحد المقاعد، وهو يقول:
:ـ اسمع يا ابني.. أنا أرى انك ذكي، ونجيب، وتحب أن تتعلم.. وما عليك إلا أن تجتهد وتتفوق... والدروس التي تتلقاها في المدرسة سوف تستفيد منها في يوم ما.. إذا وجدت فرصة للالتحاق بكلية الطب في دمشق أو مصر.. أنا يا ابني اليوم دكتور... لكن قد لا تصدق أني لم التحق بكلية الطب في استامبول إلا بعد أن درست في مدرسة الصحة في دمشق، وحملت شهادتها. اقصد يا ابني ان الدروس التي تتلقاها في مدرسة الصحة التي جئت مع زملائك من المدينة للدراسة فيها يمكن ان تساعدك في الالتحاق بكلية الطب في دمشق أو القاهرة أو غيرهما... في أيامنا كانت كلية استامبول هي الوحيدة.. وكانت الدراسة فيها باللغة التركية... وحتى مدرسة الصحة في دمشق كانت الدراسة فيها باللغة التركية.. بينما الدراسة عندكم باللغة العربية... ويجوز أن يكون من الضروري أن تتعلم اللغة الإنجليزية المهم أن تجتهد في الدراسة لتحصل على الشهادة إذا كنت تتمنى أن تكون دكتور...
وانقضت بضعة أسابيع كنت احرص خلالها على مذاكرة كل مادة من المواد التي نتلقاها في الفصل بدرجة جيدة جداً، بحيث اطمئن إلى إني أتفوق على الزملاء، ثم اتابع التمرين على الآلة الكاتبة ليلاً، بهدف أن أصل إلى مستوى السرعة التي كنت أرى الدكتور خيري يكتب بها مذكرات رسمية وبحوثاً ادركت أنَّه يترجمها عن لغة عرفت فيما بعد أنها اللغة الإنجليزية فإزداد إعجابي بكفاءاته المتعددة والمتنوعة، فهو دكتور مرموق المكانة بدليل أنه مدير المدرسة، ومدرس علم التشريح فيها وهو نائب أو مساعد مدير عام الصحة والإسعاف ويجيد اللغة التركية والإنجليزية وربما اللغة الفرنسية أيضاً. ثم لا أنسى أنه استطاع تشغيل محرك الكهرباء الذي لم يجدوا مهندساً يستطيع تشغيله فتركوه في صناديقه منذ استوردوه قبل سنتين، إلى أن شغله الدكتور فتم بذلك الاستغناء عن الإضاءة الضعيفة التي كانت تأتي من كهرباء الحرم الشريف.. وكانت إضاءة هذا المحرك قوية وواسعة شملت مكاتب المدير العام، وغرفة نومنا في الدور السفلي، وقاعات المرضى والممرات، ثم مكتب خيري بك نفسه... واغرب ما لاحظته ولا ازال اذكره حتى اليوم، هو حرصه على تخفيف الضجة التي تصاحب المحرك عند تشغيله فقد سمعته يتحدث عن الطريقة التي ابتكرها ثم يقول لمن سأله عن سبب ما عاناه من المتاعب لتنفيذ طريقته في تخفيف الضجة:
:ـ هذا مستشفى كثير من المرضى يحتاجون إلى الهدوء وفيه موظفون الذين يعملون في الليل ولا يستطيعون العمل إذا لم يكن الجو هادئاً... ولذلك فقد طلبت استيراد مراوح كهربائية لعنابر المرضي، ولغرف الموظفين، وأعتقد أنها الآن قد شحنت من المانيا.
وحين تمر بذاكرتي اليوم صورة هذا الإنسان أجد نفسي أحمد الله سبحانه على توفيقه بأن منحني رعاية هذا الإنسان في تلك السن وهي رعاية من حقه عليّ اليوم أن أذكرها بكثير من العرفان والامتنان، إذ أحسست أنه يعنى بتوجيهي عناية فيها مشاعر الأبوة وحنانها... ولا أنسى كم كان إعجابه بي كبيراً عندما وجد أني أصبحت أكتب أكثر من خمسٍ وثلاثين كلمة في الدقيقة ـ ولا أدري كيف أحصي عدد وزمن كتابة هذه الكلمات... فقد وضع يده على كتفي من موقفه خلفي وهو يردد:
:ـ أحسنت.. أحسنت. ثم فاجأني في اليوم التالي عندما جلست للكتابة بعد الغروب، بهدية أعتزبها وماازال أذكرها، وهي قلم حبر أخضر اللون وهو يقول:
:ـ هذا قلم (ووترمان) صنع ألمانيا اشتريته عندما كنت في دمشق منذ سنتين... استعملته قليلاً فهوليس جديداً ولكن لا يوجد مثله في أسواق مكة حتى الآن.
وقد احتفظت بهذا القلم دهراً طويلاً... أغرسه في جيب المعطف متباهياً به ولا أستعمله إلا لكتابة الرسائل إلى عمي وصديقي محمد نيازي رحمه الله.
* * *
كنا نتلقى الدروس في ذلك الفصل الذي لابد أن نتواجد فيه في الساعة الثانية (بالتوقيت الغروبي)، وكأن مدرس اللغة العربية رجلاً بديناً مهيب الطلعة يلتزم الكلام بالفصحى ليس فقط في الفصل، بل أيضاً فيما يدور بينه وبين الآخرين من أحاديث عابرة... ولم يكن يعتمد على كتاب مدرسي بل يرتجل الموضوع وعلينا أن ندوّن القواعد التي يشرحها بتوسُّع وإفاضة، كأنه يقرأ من كتاب مفتوح، وكان إذا ذكر قاعدة من قواعد النحو أو الصرف يستشهد بأبيات من الشعر يطلب منا أن ندونها وقد يطلب منا أن نقرأ هذه الأبيات، ويحتدم إذا اخطأنا فينبهنا إلى الخطأ ويستعيد سماع البيت مرات عدة، ولا يبخل بالثناء على من يحسن الإلقاء ثم يستطرد للحديث عن الشاعر ومكانته بين الشعراء في عصره، ومن هنا يوالي استطراده ليتحدث عن ازدهار الأدب وظهور الفحول من الشعراء... كان بعضنا يضيق وقد يقول بينه وبين نفسه ـ مالنا نحن وهؤلاء الشعراء؟، وعلى الأخص عندما ينتهي وقت الحصة وينسى أن حصة أخرى آتية بعد استراحة قصيرة تضيع علينا تماماً، وهو يتحدث ليفاجأ بدخول مدرس الحصة الثانية، فيتعذر ليسرع بالخروج وهو يقول:
:ـ لا تنسوا حفظ الأبيات غيبا وسأسمعها منكم في الحصة القادمة إن شاء الله.
وكانت أثقل الحصص علينا حصة ذلك الدكتور المتخصص في الأمراض المعدية... يدخل الفصل فنقف له كالمعتاد فيدور بنظراته في وجوهنا وطريقة وقوفنا، ويأمرنا بالجلوس، بينما يظل هو واقفا ليبدأ شرح الموضوع الذي ربما كان قد بدأه في الحصة السابقة... وأذكر حتى اليوم إننا قد تعلمنا منه أن الأمراض المعدية تنتقل من المصاب بالمرض إلى الآخرين بواسطة شيء أو مخلوق اسمه (الميكروب)... وإن هذا الميكروب يتكاثر بسرعة هائلة، كما تعلمنا أيضا أن الذي اكتشف ميكروب مرض السل، عالم فرنسي اسمه (كوخ) وعلى ضوء اكتشافه أثبت علماء آخرون أن لكل مرض نوعاً من الميكروب فهناك ميكروب الكوليرا.. وميكروب الزحار أو الديزانتري ومكروب الجدري، وحتى الزكام ينتشر بين الناس بواسطة ميكروب سريع الانتشار ولذلك يجب على المصاب بالزكام واسمه العلمي (انفلونزا) وقال وهو يبتسم:
:ـ إن العرب يسمون الأنفلونزا (أنف العنزة).. يجب على المصاب أن يضع على أنفه منديلاً يحجز السوائل المخاطية عن الآخرين، كما يجب على الآخرين أن يبتعدوا عنه بقدر المستطاع... ثم يتجه إلى السبورة ليرسم شكل بعض الميكروبات وكيفية تكاثرها... الواحد منها ينقسم إلى اثنين والاثنين سرعان ما يصبحان أربعة والأربعة ثمانية وكل ذلك بسرعة هائلة بحيث لا تمضي دقائق معدودة حتى يصبح الجسم مشحونا بالألوف أو حتى الملايين.
ورغم أهمية المعلومات التي يفيض في شرحها الدكتور بعبوس كنا نضيق به ونحسب الدقائق التي بقيت له من الحصة، فلا يكاد ينتهي ويخرج حتى نتسابق للخروج، أو للتعبير عن مشاعرنا نحوه بتعليقات نتفنن في ابتكارها... ولقد بلغ بنا الأمر، إننا ابتكرنا له أسماءً سخيفة لا ندري ماذا كان يمكن أن يفعل بنا لو سمعها... منها على سبيل المثال: (أبو رقعة) و (بارم ديله) و (العم شنطف)... وكان اسم (أبورقعة) لأن قميصه الأبيض كانت به رقعة عند الكتف من الخلف لا ندري كيف لم يحاول التخلص منها، أما (بارم ديله) فهو اسم لا علاقة له بشيء من المسمى، سوى رغبتنا في السخرية منه، ويبقى (العم شنطف) وهو مقتبس من كلمات لعبة كنا نلهو بها في المدينة يرددها المنتصر على زميله في اللعبة، ليقول: (عمك شنطف.. جاك ينطف.. إيش تديله) ويجيبه الآخر (اديله مداس أو كورة) مثلا وهي إجابة خاطئة وعندئذ يردد الجميع بصوت مرتفع وبنغمة خاصة مع التصفيق الحاد (عمك شنطف جاك ينطف إيش تديله)...
واستقر (عمك شنطف) على ألسنتنا، نسميه بها كلما دار الحديث عنه أو عن الميكروب، أو الجدري والكوليرا وهي المعلومات التي اعترف اليوم إنها كانت مفيدة وقد فتحت عيوننا على ضرورة الوقاية من مختلف العلل والأمراض.
لم يخطر ببال أحدٍ منا أننا سنكلف بواجبات في عنابر المرضى... وربما كان ذلك ما ينبغي أن ندركه عندما علّمنا رئيس الممرضين كيف تؤخذ درجة حرارة المريض بميزان الحرارة وكيف يحصى عدد نبضات القلب بلمس رسغ يد المريض... وكان الزميل فهمي الحشاني هو الذي أنذرنا بأنه قد (فهم الفولة!) إذ قال إننا سنقوم بأعمال في عنابر المرضى وضحك وهو يقول:
:ـ المهم أن لا يكلفونا بنقل قصارى البراز من أسرة المرضى الذين يعجزون عن الذهاب إلى الحمّام.
كان إنذار الحشاني صاعقاً.. أخذنا نفكر كيف نرفض القيام بمثل هذه الواجبات القذرة، وزعم بعضنا أن كلمة (مدرسة) معناها الدراسة في الفصل، والكتب وليس العمل في عنابر المرضى، ولكن الأكبر سناً منا وهو محمد الشريف، قال:
:ـ نحن في مدرسة للصحة أو التمريض (أو الطب) كما كنا نظن عند مجيئنا من المدينة.. وكل المدارس فيها نظرية، يعني قراءة الكتب وحفظ ما فيها، وعملية، وهي التمرين العملي... لقد سمعت أنهم في كليات الطب يعلّمون (التشريح) مثلاً، على جثث الأموات.. حتى ولو كانت متعفنة.
وتدخل فهمي الحشاني ليضيف قائلاً:
:ـ فعلاً... في المستشفى الذي كنت أعمل فيه في المدينة، رأيت الأطباء في عهد الشريف، يشرّحون جثة ميت قتل بضربة (نبوُّت) والمطلوب من الشرطة معرفة هل الضربة هي السبب في الموت، أم أن القتيل كان مريضاً...
ولا أخفي أني قد داخلني إحساس بالمهانة والذل لم يسبق قط أني عانيته حتى هذا اليوم الذي تأكدنا جميعاً أننا سنبدأ فيه مرحلة الدراسة العملية في عنابر المرضى... ولا أدري كيف ولماذا اجتمعت في ذهني صور جميع الأمراض المعدية مع صورة الدكتور الذي قطعنا معه مرحلة طويلة في شرح المعلومات الدقيقة عن الطريقة التي تنتشر بها، من شخص مصاب بها إلى آخر سليم، ثم العلاج الذي يخضع لكثير من عناية الأطباء والممرضين، ولنوع التغذية الذي يحتاج إليه المريض بالاضافة إلى الجو في مختلف الفصول ومنه الهواء النقي والتعرض للشمس والاستمرار في تناول العلاج...
وقد زاد من مخاوفنا وإحساسنا بالهوان أن (رئيس الممرضين) وهو رجل سوري تخطى سن الشباب ولكنه يحتفظ بنشاط ملحوظ في مشيته وحركته وفي ملامحه ما يطمئن ويبعث مشاعر الارتياح إذ لا تفارقه الابتسامة الخفيفة والنظرة الوادعة إذا ما تحدث مع أحدنا، أو مع زملائه من الموظفين. وهو الذي علمنا كيف نستعمل ميزان درجة الحرارة، ونحسب عدد نبضات القلب بلمس رسغ يد المريض.
هذا الرجل استدعانا إلى غرفته، ورحب بنا، حين دخلنا، ولكنه ظل واقفاً فوقفنا نحن أمامه إذ كانت الغرفة خالية من المقاعد أو الكراسي ما عدا الكرسي الصغير الملاصق لمكتبه المعد لجلوس شخص واحد فقط من الذين يراجعونه.. ولاحظنا على المكتب أمامه ورقة، لم يلبث أن ألقى عليها نظرة ثم قال:
:ـ كل من اقرأ اسمه منكم يقف إلى اليسار...
وأشار بيده إلى مساحة محدودة في الغرفة إلى اليسار من موقفنا. وأخذ يقرأ أسماءنا واحداً بعد الآخر، ولا أنسى تلك اللحظات التي كنت أنتظر أن أسمعه يقرأ أو يذكر أسمي ومعه رقم العنبر الذي سوف أكون المكلف بالأعمال التي قال لنا أنها جانب من الدراسة العملية لعلم التمريض.
لقد عصفت بذهني وحواسي مشاعر سخط واستنكار واستياء أعترف أنها استهدفت أمي وعمّي زوجها، إذ أن كلاّ منهما قد هان عليه، أن يتخلص من وجودي معهما... وذلك بإدخالي هذه المدرسة بعيداً عنهما في مكة بعيداً عن المدينة... فلا سبيل إلى أن أراهما، أو إلى أن يشهدا ما أعانيه من إذلال وهوان في أعمال التمريض... وإذا كانت أمي، لا تعرف شيئاً عن هذا التمريض فإن عمي ـ زوجها ـ دكتور ويعرف كل شيء عن هذا العمل السخيف الذي يهين الكرامة ويملأ النفس بمشاعر الذل والهوان.
وسمعت الرجل يذكر اسمي... أعترف بأني ارتعدت وتملكني شعور بالحسرة على الأيام التي انقضت من عمري، رغم كل ما عانيته مع أمي من مآس وأحزان بل وفجائع لازمتنا ولم تنته إلا بعد زواجها... كان منطقي في هذه اللحظة أنها كانت أياماً فيها بؤس وشقاء ولكن ليس فيها إذلال ومهانة ـ إذ لم أشعر خلالها بأني (خادم) ـ.. ممرض ـ مجرد خادم للمرضى.
وأضاف الرجل أن العنبر (وكانوا يسمونه القاووش) الذي سأكون المكلف بالخدمة فيه هو العنبر الذي يشرف عليه الدكتور (...) وذكر اسم الدكتور الذي كنا سميناه (أبو رقعة)... كان وقع الاسم على سمعي صاعقاً... ولم يكن هناك أي سبيل للرفض أو الاعتراض لأن جميع الذين ذكرت أسماؤهم، والعنابر التي سوف يعملون فيها، والأطباء المسؤولين عن هذه العنابر.. جميعهم التزموا الصمت.
* * *
ومنذ صباح اليوم التالي بدأت العمل في العنبر المقرر... كان فيه ما يقرب من ثلاثين سريراً وعلى كل سرير مريض شديد الهزال وبعضهم لا ينقطع عن السعال. وقد لاحظت ما هو معلق على نهاية كل سرير وهو ورقة مطبوعة قرأت فيها اسم المريض وحقل لتدوين درجة الحرارة... وعدد النبض الخ... وحقول أخرى أدركت أنها من اختصاص الطبيب.. وعرفت فيما بعد أنهم يسمون هذه الورقة (طَبَلة) بفتح الطاء والباء.. وقبل أن تمر دقائق، دخل العنبر شابٌّ فاحم السواد. بادي القوة والنشاط... وابتسم وهو يقول: صباح الخير...
ثم يضيف: يعني ما التقوا غيرك لخدمة هادا (القاووش) ؟. ؟
واستأنست به وأخذت أسأله عن المرض الذي يعاني منه هؤلاء.. فضاعت الابتسامة من وجهه وهو يقول:
:ـ ربنا يحمينا ويكفينا الشر
ثم وقف ليسألني عن اسمي ومن أي بلد جئت.. وقبل أن أجيبه قال:
:ـ ربنا يحمينا ويكفينا الشر ويكتب الشفاء للمساكين اللي شايفهم...
ثم سأل:
:ـ يعني انت ما تدري؟
قلت وأنا أكاد لا أملك القدرة على الوقوف من الرهبة التي ملأت قلبي ومشاعري.
:ـ لا أنا ما أدري... فقال:
:ـ يا أفندي.. هادا مرض (السل) وسمعتهم يسمّوه (السل الرئوي)... يعني والعياذ بالله (السل اللي ياكل (فِشّة) المريض... وإذا ربنا ما كتب له الشفا يموت..
وسرعان ما أبرق في ذهني اسم العالم (كوخ) الذي قال الدكتور (أبو رقعة) إنه الذي اكتشف ميكروب السل... وإنه من الأمراض المعدية التي تنتقل في الهواء مع الأنفاس وعلى الأخص إذا سعل المريض بالقرب من الإنسان السليم..
وكنت أعلم بالطبع أن الدكتور (أبو رقعة) هو المسؤول عن المرضى في هذا العنبر بالذات لأنه المتخصص في الأمراض المعدية.
وما هي إلا دقائق حتى دخل الدكتور وقد تدلّى من عنقه جهاز الاستماع إلى نبض القلب وحركة التنفس في الرئة.
ولم نسمع منه أية كلمة... إذ انطلق يمشي وهو ينظر إلى الأرض وجوانب الأسرّة... وقد عرفت فيما بعد من (محمد الأسود) كما كان يُسمّى أن الدكتور لابد أن يتأكد من أن أرض العنبر قد تم غسلها ثم مسحها بمحلول (الأسيد فينيك)..
وبعد أن قام بهذه الجولة التفت إليّ شخصياً وهو يسأل:
:ـ هل أخذت درجة الحرارة؟
وتناول أقرب (طبلة) من سرير أحد المرضى ورأى أنها خالية... فارتفع حاجباه وحملق في وجهي.. وهو يقول:
:ـ ما الذي قمت به منذ الصباح؟
قلت له بهدوء الخائف:
:ـ هذا أول يوم بدأت فيه العمل.
:ـ ولكن رئيس الممرضين ألم يعلّمك ما يجب أن تقوم به.. أين ميزان الحرارة؟
:ـ علمني.. وميزان الحرارة عندي... هذا هو
وقد أخرجته وهو في محفظة معدنية كالأنبوبة.
وارتاحت أساريره إذ عاد حاجباه مسترخيين مكانهما... وهو يقول:
:ـ ولكن هل أعطاك رئيس الممرضين الكحول، أو الديتول الذي تطهر به الميزان بعد استعماله؟
:ـ رئيس الممرضين قال إن هذه الأنبوبة فيها المطهّر الذي يتغير بمعرفته كل يوم:
ولأول مرة أرى في وجهه لمحة ابتسامة وهو يقول:
:ـ أنت ولد طيب وذكي... وأنا الذي طلبت أن تكون المسؤول معي عن هذا (القاووش)... وأضاف:
:ـ إنت عارف إن جميع المرضى هنا مصابون بالسل الرئوي... وقد عرفت من الدراسة في الفصل أن السل (الرئوي) على الأخص مرض معد ولذلك يجب عليك أن لا تقترب من أي مريض (يسعل).
وكان من أغرب نبض الذاكرة أن أعادت إلى ذهني أن خالتي خديجة كانت ضحية هذا المرض الخطير، واستغربت أني لم أصب به، رغم أني كنت في حضنها وكثيراً ما كنت أقبلها قبل أن تموت رحمها الله.
ويبدو أن الدكتور قد تسامح معي اليوم فلم أسمع منه كلمة تأنيب... بل قام هو يأخذ درجة حرارة كل مريض واستمع إلى دقات قلبه وحركة تنفسه ولكنه لم يعف أو يتسامح مع محمد الأسود إذ نبهه بغلظة إلى ما لاحظه تحت أحد الأسرّة من مزقة (الخيشة) التي يمسح بها.
ثم خرج... لينظر كل منا ـ أنا ومحمد ـ نحو الآخر ويتنفس الصعداء.
* * *
وعندما اجتمعنا لطعام الغذاء، سمعت من الزملاء ملاحظاتهم على الأعمال التي قاموا بها في ذلك اليوم... وهو اليوم الأول، لما سمّوه (التدريب العملي) على التمريض وارتفع صوت أحدهم يعلن أنه لابد أن يترك هذه المدرسة ويعود إلى المدينة لأن جميع المرضى في العنبر الذي عمل فيه مصابون (بالإسهال) والمغص ورائحة العنبر لا تطاق. ثم أردف يقول:
:ـ أنا لم أستطع أن أقوم على خدمة جدتي عندما كانت مصابة بهذا الإسهال، وتكلفني أمي بالبقاء إلى جانبها لتقوم هي بأعمال المنزل.. هذا شيء لا يطاق أبداً.
وعلق آخرون بالنكات والضحك وأضاف فهمي الحشاني:
:ـ هادا هو عمل التمريض... جميع المستشفيات فيها هذه الحالات. كان الأفضل أن تعرفوا هذه الحقائق من الأهل الذين توهمّوا أنكم تذهبون لمدرسة الطب..
وارتفع صوت عبد القادر اولياء يقول:
:ـ والمصيبة حفظ هادي الدروس اللي فيها كلام ما يمكن حفظه، وانتو سمعتوا ان الامتحان خلاص يبدأ في أول الشهر.. شهر شعبان..قبل رمضان...
* * *
قبل أن ننهض عن المائدة سمعت من يناديني بأسمي: (عزيز) والتفت لأرى مراسل الدكتور خيري القباني يتقدم نحوي..ويقول:
:ـ خيري بك يريد أن تكون عنده في المكتب بعد صلاة المغرب... ولا تتأخر..
وقد سعدت بالطلب، مع أني كنت قد تعودت ان أكون عنده بعد الغروب ولكن التذكير من خيري بك بعدم التأخر، جعلني أتوقع أن يكلفني بكتابة مذكرات هامّة ومستعجلة على الآلة الكاتبة التي أصبحت بارعاً في استعمالها إلى حدٍ جعله يثني عليّ ويؤكد أني سبقت حتى صهره (شفيق الإمام) الذي يعمل في مكتب المدير العام...كما كان يعجبه (خطي) وإملائي عندما أكتب ما يمليه عليّ بالقلم....
وكان في انتظاري عندما صعدت إليه في مكتبه... رأيت ذلك في نظرته وهو يقول:
:ـ إسمع... وانتبه جيداً لما أقول.. محمود بك (المدير العام) قرر أن يدعو الأمير فيصل نائب الملك، لزيارة المستشفى...
ومن جانبي لم أدرك أي علاقة لي بهذة الزيارة.. ولكن قبل أن أقول شيئاً أضاف:
:ـ وأنا قررت أن نقيم مسابقة في الكتابة على الآلة الكاتبة... وهي بينك... وشفيق أفندي وكاتب سمعت أنه يعمل في الخارجية اسمه السيد عيدروس السقاف... المسابقة بينكم أنتم الثلاثة.. وأنت قد تعلم أنه لايوجد في مكة كتاب آلة كاتبة غير السيد عيدروس في الخارجية وشفيق أفندي في مكتب محمود بك، وأنت عندي... والمطلوب منك أن تواظب على التمرين وعلى شرط بدون أي خطأ..إلى اليوم الذي يزورنا فيه الأمير فيصل...
:ـ متى ؟
:ـ بعد أسبوع...اليوم الأحد، والزيارة سوف تكون يوم الاثنين من الأسبوع القادم.
ثم مد يده إلى مجموعة من الصحف العربية وضعها أمام وهو يقول:
:ـ أكتب من هذه الجرايد بقدر ما تستطيع.. من أي موضوع... وأنا أعتقد أنك سوف تكون من الفائزين..
واستدرك يقول:
:ـ ولكن لاحظ أن الموضوع الذي تكون به المسابقة سيختاره محمود بك بنفسه، وهو الذي سوف يمليه عليكم.. بحضور ومشاهدة الأمير فيصل.
ولن أنسى حتى اليوم كيف التهبت حماساً لفكرة المسابقة، بحضور الأمير فيصل نفسه... وأمام المدير العام، وربما معه عدد كبير من المدعوّين.
فقد كنت أجلس إلى الآلة الكاتبة طوال الوقت الذي أفرغ فيه من الدراسة، والتدريب في عنبر مرضى السل الرئوي ثم الغداء والعشاء. ولا أغادر مكتب خيري بك إلا عندما يأمرني هو بالانصراف في وقت متأخر من الليل...
وقد لاحظ الزملاء غيابي في مكتب خيري بك... وتساءل بعضهم عما أقوم به من عمل كل هذا الوقت فأجيبهم بأني أكتب مذكرات... وقد حرصت على أن أخفي خبر زيارة الأمير فيصل ومسابقة الآلة الكاتبة بحضوره يوم الاثنين القادم.
* * *
بعد صلاة الجمعة التي كنا نؤديها في الحرم يصاحبنا السيد أحمد الدبّاغ المسؤول عن مراقبة خروجنا وعودتنا، ونحن على مائدة الغذاء قاطع أحاديثنا فهمي الحشاني ليقول:
:ـ عندي لكم بشارة... عطلة من الدراسة من يوم السبت إلى يوم الاثنين.
انتبه والتفت إليه جميع الزملاء يتساءلون بكلمات مثل:
:ـ خير إن شاء الله.. الله يبشرك بالخير وربما توقف أكثرهم عن موالاة الأكل فقال فهمي:
:ـ كلنا رايحين نساعد، في نظافة المستشفى... الغرف والأرض... والجنينة.. وحتى (القواويش) والأسرة.
:ـ بس علشان إيه؟..
:ـ محمود بك ـ المدير العام ـ عزم نائب الملك... الأمير فيصل.. طلب منه زيارة المستشفى.. والأمير وافق على الزيارة يوم الاثنين بعد المغرب...
أوشكت أن أفاجىء الجميع بأن الأمير، وجميع المدعوّين سيشهدون مسابقة في الكتابة على الآلة الكاتبة وأني سأكون واحدا من ثلاثة في هذه المسابقة لكني تمالكت واستطعت أن ألتزم الصمت مكتفيا بأن أسمع تعليقات الزملاء عن أعمال النظافة، وعلى الأخص منها عنابر المرضى والأسرة والغرف الأخرى في مبنى مكتب المدير العام، ومكتب خيري بك.
وابتداء من صباح يوم السبت بدأ جميع من يعملون في المستشفى أعمال التنظيف... بمن فيهم رئيس الممرضين، وموظفي المدير العام وفيهم (شفيق أفندي الإمام) الذي سيكون أحد المتسابقين في الآلة الكاتبة لأنهم جاءوا به أصلاً من سوريا ليقوم بعمل الآلة الكاتبة في مكتب المدير العام... بل منهم أيضا من كانوا يحرصون على أن يمنحوه لقب (بك) عندما يتحدثون عنه.
كلهم ـ ونحن معهم بذلوا كل ما في وسعهم ليظهر المستشفى، ليس نظيفا فقط وإنما على جانب كبير من الفخامة والرواء حتى في المناطق التي لا ينتظر أن يراها الأمير، وقد كانت طافحة بالقاذورات والنفايات والمهترىء من شراشف الأسرّة وفضلات المرضى..
ولأول مرة في حياتي رأيت صفا من مصابح الكهرباء تزيّن باب المستشفى وبعض الممرات التي تفضي إلى المواقع التي ينتظر أن يراها الأمير.. وكان خيري بك هو الذي قام بكل أعمال إضاءة هذه المصابيح وتنسيقها وتعليقها، وأهم هذه الأعمال إدارة (المحركات)... والتأكد من قدرتها على أداء مهمة الإضاءة كما ينبغي خلال الفترة التي يقوم خلالها الأمير بجولة على هذه المرافق في المستشفى الكبير.
* * *
لا مناص من أن أقول أن يوم زيارة الأمير فيصل بن عبدالعزيز للمستشفى كان يوما مشهودا، ربما لم تشهد مثله مكة من قبل، فقد أضيئت مصابيح الكهرباء قبيل الغروب... وحرص الموظفون على أن يكونوا في أجمل ما يملكون من الثياب والكوفيات البيضاء يضعونها على رؤوسهم بالطريقة المعروفة لأبناء مكة، إذ لم تكن قد انتشرت بعد ضرورة ارتفاق (الغترة والعقال)... بل يمكن القول أن الأمير وحده هو الذي كان يظهر متوجا بالغترة والعقال القصب (بلون الذهب).
وبعد صلاة المغرب عندما كنت في عنبر النوم ـ وإلى جانبي عبدالقادر أولياء رحمه الله، جاء مراسل خيري بك يخبرني أن أكون في مكتبه بعد قليل.. وأن لا أتأخر عن الحضور فساروني شعور بالفرحة والرعب أو الرهبة.
كان خيري بك في مكتبه، وقد أقام فيه مكتبا أو منضدة طويلة، عليها ثلاث آلات كاتبة... وخلفها ثلاثة كراسي وقال لي وهو يشير إلى كرسي في الوسط بين اثنين:
:ـ أنت تجلس هنا..
ثم وهو يرامقني بنظراته، قال:
:ـ أراك خائفا... يجب أن تكون شجاعا... لا تخف أبدا.
ثم قال وهو يرتب بعض الأوراق والكتب والأضابير على مكتبه.
:ـ أنا سأكون هنا... ومحمود بك هو الذي سوف يملي عليكم الكلمات... والآن إلى أن يحضر الأمير... اجلس على هذا الكرسي، وأشار بيده إلى عدد قليل من المقاعد... وأضاف:
:ـ أظن أنك تعرف شفيق أفندي فهو سيحضر بعد قليل.. وبعده سيحضر السيد عيدروس السقّاف.
ولم تمض دقائق حتى حضر شفيق أفندي الإمام.. فأخبره خيري بك أنه سوف يجلس إلى يميني...
وبدا، كأن شفيق أفندي لم يكن يدري أني سأكون أحد المتسابقين، ولكنه رمقني بنظرة لم تخل من الدهشة والشك وربما الاستهانة إذ لم يكن يدري شيئا عن شخصي أكثر من أني أحد تلامذة مدرسة التمريض. وقبل أن يجلس على أحد المقاعد، سمعنا صوت المراسل يقول:
:ـ هذا الباب... تفضل..
ودخل السيد عيدروس.. رحب به الدكتور خيري بك، وحدد له مكانه الذي يجلس فيه إلى يساري.. وعندما تساءل عن الآخرين، عرفه بنا.. فنهضنا وصافحناه.. ولم يجلس... بل أخذ مكانه خلف الآلة الكاتبة... وشرع يكتب... ثم قال:
:ـ إنها جيدة...
وفهمنا أنه أراد أن يتأكد من صلاحيتها.
ثم رأيناه يخلع (الجُبّة) التي يرتفقها في العادة أعيان السادة في مكة... وعلّقها بعد أن طواها على أحد المقاعد، إذ لم تكن في الغرفة (شماعة) لتعليق الملابس بل ربما لم تكن شيئا مألوفا في تلك الأيام...
* * *
ترامت إلى أسماعنا ضجة أصوات الناس في الشارع، في اللحظات التي رأوا فيها الأمير فيصل الذي لا أدري حتى اليوم كيف جاء من قصره الذي لم أكن أعرف أين هو إلى المستشفى... والأرجح انه جاء راكبا حصانا وحوله الحرس راكبين مثله... وذلك لأن السيارة لم تكن قد دخلت أو عرفت في مكة حتى ذلك اليوم.
ومضت فترة طويلة من الوقت قبل أن يدخل علينا مراسل خيري بك وغيره من الموظفين ليقول:
:ـ الأمير.. الأمير..
أسرع خيري بك عند الباب ناهضا من مكتبه ونهضنا معه، ووقفنا إلى جانبه لنستقبل الأمير... الذي دخل وعلى وجهه ابتسامة عريضة وهو يصافحنا... ودخل بعده المدير العام وكبار الموظفين وعدد من رجال الحرس.. فأسرع كل منا إلى مكانه خلف الآلات الكاتبة لنسمع محمود بك يقول:
:ـ مسابقة في الكتابة على الآلة الكاتبة.. يسرنا يا سمو الأمير أن تروها.
ثم تقدم خيري بك يقدمنا وهو يقول:
:ـ السيد عيدروس السقاف وتعرفونه بالطبع... وهذا شفيق افندي الإمام كاتب الآلة في مكتب محمود بك... وهذا عزيز ضياء.. تلميذ في مدرسة الصحة وقد تدرب على الآلة الكاتبة وأصبح كاتبا جيدا يسركم أن يتم تدريبه إلى حد استحق معه أن يكون أحد المتسابقين.
* * *
وبدأت المسابقة عندما أعلن محمود بك أن نستعد بعد خمس دقائق:
ومضت الدقائق الخمس، وأعصاب كل منا مشدودة متوترة.. ولا أخفي أني في هذه الدقائق قد خالجني شعور بالرهبة، وأنا ألمح الأمير فيصل واقفا... قلت في نفسي لو أن الأمير يبتعد عنا قليلا.
وبدأ محمود بك يملي من ورقة في يده التي نتسابق لكتابتها عند سماعها منه، كان يملي جملة بكاملها وكان علينا أن نفرغ من كتابتها قبل أن يملي الجملة التالية.
وكان هناك بالطبع شرط عدم الخطأ في إملاء أي كلمة في الجملة.
وأذكر أني أحسست بالارتياح والثقة عندما كنت أسبق الاثنين في كتابة الجملة... إلى حد جعل محمود بك يسألني وقد فرغت من كتابة جملة أملاها: هل كتبت ما سمعت..؟ ولم ينتظر جوابا إذ أخذ يملي جملة أخرى... وأخيرا قال: انتهت المسابقة... ولاحظ أني كنت قد انتهيت من كتابة آخر جملة أملاها وتوقفت عن الكتابة بالطبع بينما ظل شفيق افندي، والسيد عيدروس يكتبان ويراجعان ما كتبا.
وقدمنا الأوراق بعد توقيعها وكان الأمير مايزال واقفا أمامنا يتأمّل ما بدا أنه يراه لأول مرة، وانقضت بضع دقائق قبل أن يعلن محمود بك نتيجة المسابقة حيث قال:
:ـ التلميذ عزيز... (52) كلمة في الدقيقة بدون أي خطأ.
شفيق افندي.. (43) كلمة مع ثلاثة أخطاء.
السيد عيدروس (35) بدون أي خطأ.
ثم أضاف..
:ـ الأول هو التلميذ بمدرسة الصحة عزيز.
والثاني كاتب الآلة شفيق افندي الإمام.
والثالث هو السيد عيدروس السقاف.
وما كاد ينتهي من بلاغة حتى رأيت الأمير يبتسم وهو يقول:
:ـ ما شاء الله..
ثم أدخل يده في جيب الصدر من المعطف الأبيض الذي يرتديه، وأخرج منه ما نفحني به وهو ثلاثة جنيهات ذهب وتابع يقول:
:ـ باكر تصلك الهدية التي تستحقها بارك الله فيك.
واستدار متأهبا للخروج وهو يقول:
:ـ لو لم يكن صغير السن وتلميذا في المدرسة لكان يمكن توظيفه للعمل مع السيد عيدروس.
واتجه إلى الباب، وخلفه المدير العام، وبقية من كانوا يشهدون المسابقة معه مع المدعوين ورجال الحرس.. ولحق به شفيق افندي والسيد عيدروس... ولم يبق في المكتب أحد سوى خيري بك.
كان هذا الإنسان طيب القلب إلى حد يجعلني لا أنسى أبدا ما غمرني به من عطف وحنان وحّثٍ على الصبر وبذل الجهد في المدرسة في مدرسة الصحة التي قال أنها يمكن أن تفتح لي باب القبول في كلية الطب إذا أحسنت استيعاب المواد العلمية التي ندرسها:
تخلص من بعض الأوراق أمامه إيذانا بانتهاء وقت العمل ثم قال:
:ـ أحسنت... وأبشرك بمستقبل طيب إن شاء الله.
وجدت نفسي عاجزا عن التعبير عن مشاعري نحوه فالتزمت الصمت ورأسي منحنِ ونظرتي متجهة إلى الأرض.
وغادر المكتب، لأخرج خلفه إلى عنبر العشاء مع الزملاء... وكانوا قد سمعوا أو عرفوا أني فزت في مسابقة الآلة الكاتبة... ولكن أدهشني بعضهم بالتزام الصمت وكأنهم لم يسمعوا شيئا... أما الآخرون، وفي مقدمتهم فهمي الحشاني ـ وهو على فكرة ـ مايزال الوصي عليّ... كان الابتسام أو هي الفرحة بفوزي تملأ وجهه.. وقال أنه سيكتب إلى عمي في المدينة... ثم عبدالله المنديلي الذي عبر عن سعادته بفوزي، بإعلانه أنه يدعونا للعشاء في منزله يوم الخميس القادم.
وعندما اضطجعت على السرير في عنبر النوم وبجانبي سرير عبدالقادر أولياء.. ترك لي أقل من عشر دقائق ليطلب مني أن أذاكر له درس اللغة العربية... والكلمات غير العربية التي يجدها في كتاب (الأمراض المعدية)... وقال:
:ـ خلاص... الإمتحان أول شهر شعبان... يعني الباقي عشرة أيام...
ونهضت وجلست أسمع منه يقرأ لأصحح له ما يرتكب من أخطاء في قراءة قصيدة شعر من دروس اللغة العربية... ولكن لا أدري كيف لاحظ أني أغالب حالة نعاس أكاد لا أستطيع معها أن أظل مفتوح العينين... فقال وهو يلمس كتفي:
:ـ اسمع... انت نعسان بالمرّة... لكن لو شربت سيجارة واحدة راح يطير عنك النوم..
وقبل أن أجيبه بشيء.. أخذ (يلف) سيجارة في ورقة خاصة بالدخان الذي كان في علبة أذكر حتى اليوم أنها كانت حمراء وعليها عنوان أو تعريف (سمسون).. وأشعلها.. ثم قال:
:ـ هيا... اسحب منها وهي في فمك.
رفضت في البداية.. ولكني وجدت نفسي اسحب منها بين شفتي... ليتسلل الدخان إلى صدري... وكانت نوبة سعال استغرقت دقائق...
وكان المفروض أن لا أعود إلى التجربة ولكن عدت إليها.. ليس في تلك الليلة فقط إنما كل يوم طول العمر.. ولكن لم اكن ألف.. بل كنت اشتري علبة فيها عشرون سيجارة.. تحمل اسم (ماتوسيان) تستورد من مصر..
وبهذا يمكن أن اقول أن السيد عبدالقادر أولياء هو الذي ضمني إلى الملايين من مدمني التدخين في العالم.. ولا حاجة بي أن أذكر أنواع السجاير التي كنت أدخنها بعد (ماتوسيان) إذ وجد ما كان يسمى (أبو جنيه) يستورده السادة، بن زقر... ثم (الثلاث خمسات) و (الثلاث تسعات) وهذه تتميز (بمبسم) ذهبي ولكن الكثيرين كانوا يفضلون (الثلاث ثلاثات)..ثم السجاير الأمريكية التي أسموها (أبو اسطوانة) وهي (لكي سترايك) ومثلها (أبو جمل). كانت تجربة لعينة دون شك، ولابد أن الذين وقعوا في المصيدة مثلي، كانوا ضحايا أنواع من الإغراء عنصره الأساسي تقليد الآخرين، ثم هذه الدعاية الواسعة في الصحف والمجلات والإعلانات الجدارية الضخمة حينما يتاح أن تلصق في الشوارع ووسائل النقل على اختلافها من الحافلات والقطارات والباخرة إلى الطائرة... ربما بإستثناء مركبات الفضاء الآن.
* * *
وقبيل الظهر في اليوم التالي لليوم المشهود وهو زيارة أو تكريم الأمير فيصل نائب الملك، حين كنت مع الزملاء في الفصل ـ أستأذن مراسل الدكتور خيري بك في الدخول ثم استأذن مدرس الحصة في أن أذهب إلى مكتبه حالاً.
وكانت المفاجأة في المكتب إذ كان فيه إلى جانب الدكتور خيري أحد (خويا) أو حرس الأمير... جالساً وبين يديه (بسكليته) (عجلة) ماتزال ملفوفة في ورقها... فما كاد يراني حتى وقف مادا يده بعلبة مستطيلة وهنا تكلم خيري بك ليقول:
:ـ هذه هدية الأمير فيصل التي وعدك بها البارحة.
كانت العلبة الطويلة التي فتحها خيري بك وطلب أن أمد يدي اليسرى (ساعة).. كان (سوارها) من الجلد الأسود واسعاً بحيث اضطر خيري بك إلى زيادة خرومها، ثلاثة خروم... ثم قال:
:ـ مبارك يا أبني هذه ساعة ثمينة... ماركة (زينيث) من أرقى الماركات في سويسره... ثم أضاف..
:ـ وهذه العجلة ـ من النوع الجيد وأظن أن الأمير رآك صغير السن تستطيع أن تتدرب عليها... ولكن ليس في الشارع... ربما لا يوجد مثلها عند الكثيرين.. وجلس إلى المكتب وكتب ورقة دفعها إلى الحارس الذي غادر الغرفة... وما كاد حتى وجدت الدموع تنذرف من عيني، وأكاد لا أستطيع أن أجهش بالبكاء.
فتقدم منى الدكتور الحبيب.. ووضع يده على كتفي... يربت ويكرر:
:ـ مبارك.. مبارك وسأكتب إلى عمك في المدينة...
ولم أجد ما يمكن أن أقوله سوى ترديد جملة: (الحمد لله.. الحمد لله..)
* * *
مع أني كنت حتى اليوم خالي الذهن كليا من علم أو فن أو أي شيء اسمه (الأدب)، الا أنني أخذت ألاحظ أنني قد استوعبت الكثير من المعلومات التي كانت تنشر في الصف والتي كتبتها على الآلة الكاتبة بغرض التدريب... معلومات متنوعة استقر الكثير منها في ذهني.. بحيث لم أعد أجد صعوبة في استيعاب درس اللغة العربية، نأخذه من الأستاذ سعيد بك... بل كنت في مقدمة الذين يعجب بهم الأستاذ وعلى الأخص في النحو...
إذ سرعان ما أجيب الإجابة الصحيحة في إعراب جملة يطلب إعرابها وهذا مع حفظ أبيات القصائد التي يشرح لنا معاني ألفاظها مع إعرابها... ولكن الغريب إنه لم يقل قط أن هذا الذي ندرسه يسمى (الأدب) ولابد أن أعترف اليوم أني قد أخذت أحب مدرسة التمريض هذه.. ونسيت تماماً مشاعر الذل والهوان التي عشناها عندما اكتشفنا أننا سوف نكون (ممرضين ممتازين) كما قال رئيس الممرضين عندما كلفنا بالعمل في عنابر المرضى.
حتى العمل أو التدريب في عنبر المصابين بالسل الرئوي، لم أعد اشمئز منه أو أضيق به باستثناء الدكتور (أبو رقعة) الذي أسرف في الإساءة إليّ وإلى (محمد الأسود) بالازدراء، والألفاظ الجارحة للكرامة... مما يدخل في معنى الشتائم ومنها (يا حمار.. يا مغفل).
ولا أخفي أني من جانبي لم أعد أحرص على الدقة في تدوين درجة حرارة المرضى حيث أدون (38) أو حتى (40) ويكتشف الدكتور أني دونت هذه الأرقام بدون استعمال ميزان درجة الحرارة... فيشتعل غضباً.. وتتدفق الشتائم وعبارات التحقير والإهانة، واعترف إني تصرفت على ضوء معرفتي أن درجة الحرارة تبدأ من 37 وتنتهي عند 40 فلا حاجة للميزان.
تحملت كل ذلك لأني وضعت نصب عيني أن أنجح. وأن أتفوق كما نجحت وتفوقت في الكتابة على الآلة الكاتبة بل كما أصبحت متفوقاً على الزملاء في مادة اللغة العربية، والأمراض المعدية والتشريح الخ... وحين كان هذا الواقع يسعدني ويدفعني إلى التفرغ للدراسة فإنه كان يثير حفيظة بعض الزملاء فأرى في علاقتهم بي مشاعر النفور وربما الكراهية، ولا بد أن استثني فهمي الحشاني، وعبد القادر أولياء وعبد الله منديلي رحمهم الله.
وكان المنديلي بالمناسبة قد وعد بأن يدعونا للعشاء في منزله يوم فوزي في المسابقة.. وحدد مساء يوم الخميس إذا وافقت إدارة المدرسة على أن نظل خارج المدرسة إلى ما قبل الساعة الرابعة ليلآ (بالتوقيت الغروبي). ولا اطيل، فقد وافقت الإدارة، وكان الذي طلب الموافقة هو عبد الله نفسه... وذهبنا جميعا إلى منزله في حي الشبيكة.. وكان منزلاً ضخماً له بوابة كبيرة ضمن إطار كله مستدير من الحجر ومكون من أكثر من أربعة أدوار مشيدة بالحجر الأسود.
واستقبلنا عبد الله وأخوه ثم مجموعة من الأشخاص ربما كانوا من أقاربه أو (أتباع) أسرته لأنها من الأشراف وقد كان مألوفاً أن يكون للشريف عدد من الأتباع أو الحاشية.
وكان المجلس ـ في الدور الأول ـ كبيراً واسعاً كما كانت أرضه مكسوة بالسجاد الإيراني الثمين والمقاعد صف طويل مما كان يسمى (الباطرمة) مكسوة بالقطيفة الخضراء الموشاة بالقصب أما الإضاءة فكانت بثلاثة أتاريك معلقة. ولفت نظري في أحد الأركان العود وآلات عزف أخرى.. كنت أعرف العود، والطار أبو شناشن منذ كنت أراها في سهرات الشريف ناصر في منزلنا بالمدينة، ولكني حتى ذلك اليوم لم أعرف القانون.
كانت سهرة جميلة لولا الحر الشديد إذ كانت جميع النوافذ محكمة الإغلاق خوفاً من أن يسمع (المطاوعة) العزف والغناء.
كان عبد الله يعزف العود، ولكن لا يستمر إذ يعطيه لآخر... وكان المغني رجلاً عرفت فيما بعد أنه (حسن جاوه) الذي لم يبق في مكة أو في الحجاز من لا يعرف أنه المطرب الكبير الذي تفوق على آخرين قبله لا أتذكر أسماءهم.
* * *
وفي الموعد المحدد بدأ إمتحان تلاميذ مدرسة الصحة. واستمر ما يقرب أسبوع. ولا أنسى يوم انتهت الإمتحانات وظهرت النتيجة، وكنت الأول وهو ما أعلنه تيسير أفندي عندما جمعنا في فصل... وخاب ظننا في أنتهاء الدراسة نهائياً إذ قال:
:ـ وفي السنة القادمة تنجحون إن شاء الله وتأخذون الشهادات، ويتم توظيفكم (ممرضين ممتازين) بالرواتب التي تساعدون بها عوائلكم... أو تساعدكم على الزواج.
من جانبي وأنا أسمع هذا الكلام كنت أهيم في حلمي الكبير، وهو أن تساعدني هذه الشهادة على دخول إحدى كليات الطب، كما قال الدكتور خيري بك.
* * *
ولكن حدث ما لم يكن في الحسبان، وبدّد كل ما كنت أحلم به وأتمناه...
وكان العمل في عنبر المصابين بالسل الرئوي لم يتوقف، رغم كل ما يصفعنا به الدكتور من الشتائم والسباب، وما سبق أن اعترفت به فإنني لم أعد أعتمد على ميزان درجة الحرارة فيما أدونّه في الأوراق التي تسمى (طبلة) وزاد من سوء تصرفي، حوادث موت أكثر من مريض خلال أسبوع واحد... ثم ازدياد نقمة الدكتور وشتائمه والتهديد بطردي من المدرسة..
ولم يكن (محمد الأسود) أقل مني ضيقاً وحرداً على الدكتور.
ولا أدري حتى اليوم كيف وجدت نفسي أقول ـ بعد خروج الدكتور من العنبر وبعد كل ما أمطرنا به من الشتائم.
:ـ هادا ما ينفع فيه غير الضرب.. ولكن إذا ضربته لا بد أنهم يطردوني..
فإذا بي أسمع محمد الأسود يقول:
:ـ صدقت...ما يبغاله غير ياكل علقة ثم بعد لحظات قال:
:ـ اسمع... بكرة.. أنا وأنت نديله العلقة اللي عمره ما أكلها... أنا أكتفه... أمسكه من ورا وأمسك يدينه.. وأنت تنزل فيه ضرب بيدك، وبالجزمة كمان..
واتفقنا... وبأختصار نفذنا الخطة في اليوم التالي...إذ ما كاد يبدأ في مراجعة الطبلات والكلام والشتائم حتى وجد نفسه في حضن محمد الأسود لايستطيع شيئاً..لا يستطيع أن يدافع عن نفسه...
وفي ثورة عارمة مكبوته وجدت نفسي أنهال عليه ضرباً باليدين ثم بعصي المكانس التي كانت تجمع في أحد أركان العنبر.
كان المرضى يروننا وربما يصرخون، فلم نلتفت أو نهتم بشيء... استمرت المعركة بضع دقائق، حيث طرح الدكتور على أحد الأسرة الخالية... لأطلق سأقيَّ للريح، ومعي محمد الأسود...
أذكر أني تركت في عنبر النوم حقيبة ملابسي... أسرعت راكضاً.. فتحتها وأخذت منها الكيس الصغير الذي أضع فيه ما أجمعه من النقود، ومنها الجنيهات التي نفحني بها الأمير فيصل... وفي اللحظات التي سمعت فيها من يذكر اسم الدكتور وأنه طريح في عنبر مرضى السل كنت أنا أركض وأخرج من باب المستشفى الكبير وأظل اركض في ساحة الحرم التي دخلتها من باب إبراهيم... لأخرج من باب زيادة واتجه إلى منزل الشيخ عبدالعزيز القارىء المصري الذي وكله عمي على رعاية ما يحتاج إلى الرعاية من شؤوني.. ومنها تسليمي ما يرسله عمي شهرياً لنفقاتي وهو مبلغ قدره جنيه إنجليزي ذهب: فقد كان الشيخ يجيء إلى المستشفى كل شهر، وينتظرني في الصيدلية ليسلمني الجنيه.
كان منزل الشيخ في محلة الشامية، على مقربة من قصر يوسف قطان من أعيان مكة، وهو قصر كبير فيه عدد من الخدم والحشم، ويفد إليه كثير من الناس.
طرقت باب منزل الشيخ مستعجلاً عدة طرقات متوالية خائفاً، وسمعت صوته يستمهلني إذ لم يكن يدري مَنْ الطارق:
وما كاد يفتح الباب حتى اندفعت وأنا الهث من شدة الجري، والخوف ممن يمكن أن يكون في اثري من موظفي الصحة بعد اكتشاف اعتدائي بضرب الدكتور.
ولا أطيل فقد رحَّب الشيخ بي واغلق الباب بالترباس وقد أدرك فيما يبدو أني هارب وأن هناك من يجري ويحاول إلقاء القبض عليّ.
وبعد أن صعدنا معاً عدداً من درجات المنزل، تضيئه المناور الصغيرة، توقف وهو يقول:
:ـ اجلس لترتاح قليلاً... لن يلحق بك أحد هنا.
وجلست على إحدى الدرجات وأخذت أتنفس وأمسح ما تراكم من العرق على وجهي بطرف كم الثوب الأبيض الذي ارتديه.
وبعد ما يقرب من خمس دقائق سمعت صوت السيدة زوجة الشيخ تتساءل في قلق وبخوف:
:ـ إيه اللي حصل؟.. أنت فين؟
وأجاب بصوت منخفض أنا هنا مع ولدنا عزيز.
رفعت صوتها مندهشة
:ـ عزيز؟؟
:ـ أيوه عزيز.. دي الوقت نطلع وتشوفيه
:ـ بس إيه اللي حصل له؟
:ـ لما نطلع حنعرف إيه اللي حصل.
ولكنها لم تنتظر أن نصعد، بل سرعان ما رأيتها واقفة إلى جانب زوجها الشيخ ومدّت يدها تساعدني مع الشيخ على الصعود إلى الدور الذي يعيشان فيه من المنزل.
وجلست على أحد (الطواويل) وأخذت أخبرها بالحادث... بالجريمة التي ارتكبتها بعد أن ظللت أتحمل من إهانات الدكتور وشتائمه واحتقاره وتهديداته المتواصلة مدة تكليفي بالعمل في عنبر مرضى السل الرئوي، وتهديده الأخير، بطردي من المدرسة...
خلال هذا السرد الطويل لما كان السبب في الاعتداء عليه، كنت أرى في عيني السيدة الدموع حزناًعلى ما كابدته من معاناة وتعليقاتها بأن أمي وعمي في المدينة هما اللذان قذفاً بي إلى هذه المدرسة اللعينة... أما الشيخ عبدالعزيز فقد كان يسمع ويردد:
:ـ خيبة الله عليه.
وهو يقصد ما يسمع من تصرفات الدكتور ثم أضاف متسائلاً:
:ـ هل يعرف أحد أني وكيلك، وانك تختبىء عندي.
:ـ الذي يعرف ذلك هو فهمي الحشاني...
:ـ هل تظن انه سوف يرشدهم إلى منزلي.
:ـ أنه لا يعرف أين منزلك... حتى لو تذكّر أنك وكيلي، وربما رآك وأنت تجىء كل شهر لإعطائي (المصروف).. ولكنه لا يعرف أين تسكن.
أسرعت السيدة تقول:
:ـ خلاص يا ابني... لا تخاف ابداً.. وسيدنا الشيخ يكتب اليوم جواب لعمك وأمك في المدينة يخبرهم إنك عندنا... وأنت رايح تقعد معانا إلى أن يفرجها ربّنا... بس خذ بالك... أوعى يخطر لك تخرج من باب الزقاق...
ولم يكن في منزل الشيخ عبدالعزيز أطفال أو حتى أشخاص غيره وزوجته... وقد ظللت ألقى نظرة على الشارع من النافذة الصغيرة المكسوّة بالشيش الذي يسمح للجالس خلفه بأن يرى الشارع، ولا يراه أحد.. وهو نفس الشكل الذي كان شائعاً في المدينة ومكة وجميع مدن الحجاز.
وساورني السأم والضيق وأخذت تعاودني ذكرى الحدث الذي تورطّت فيه، والمخاوف من عواقبه التي لم استطع تصورها، ولكني لا أشك في أنها سوف تكون شديدة القسوة والعنف، إذ ليس من السهل أن يعتدي تلميذ صغير على الدكتور ثم لا يعاقب أن لم يكن بالجلد فبالسجن كأي مجرم من المجرمين...
وحان وقت الغذاء الذي كانت زوجة الشيخ قد انصرفت لتجهيزه واكتشفت، حين كانت تضع الأطباق على (طبلية) على الأرض أني جائع جداً... فكنت أول من جلس إلى جانب الشيخ وقد جلست السيدة أمامنا وهي تقول:
:ـ أنا ما أنسى ابداً أمك الله يذكرها بالخير.. والأكلات التركية اللي كنا نأكلها عندها... أنا ما أعرف أطبخ زيها... هيّا كل هادي الأكلة المصرية ـ اللي يمكن تعجبك.. هادي أكله مشهورة في مصر.. اسمها (فتة).. أنا عملتها باللحم علشان ما في في البيت (كوارع) يعني... وهنا قاطعها الشيخ قائلاً:
:ـ خلاص نأكل اليوم الموجود وبكرة إن شاء الله تعملي لنا (ملوخية بالأرانب).
وبعد تناول الغذاء عدت إلى مجلسي إلى النافذة، أفكر فيما سوف اواجهه من عقاب بعد الكتابة إلى عمي وأمي...
دخل الشيخ وقد توضّأ وأخذ يقيم صلاة العصر، فأسرعت إلى الحمام وتوضأت وأدركت معه صلاة ركعتين جماعة والركعتين الباقيتين منفرداً... عند جلوسي للتشهد لفت نظري رف هناك فيه مصاحف ومجموعة من الكتب. فرحت بها، وأسرعت بعد الصلاة إلى الرف أقلب الكتب لأجد بينها كتابا عنوانه (نور اليقين في سيرة سيد المرسلين) واعترف أني حتى تلك اللحظة لم يكن في ذهني من السيرة النبوية أكثر من الذي تلقيته في المدرسة الراقية الهاشمية، وهو زهيد محدود، وقد نسيت معظم التفاصيل... ومع أني تمنيت لو أن بين الكتب الموجودة على الرف أي كتاب أتسلّى بقراءته، فقد وجدت نفسي أقبل على قراءة الصفحات الأولى من الكتاب، ثم استغرق في القراءة شاعراً بأني اكتشف في سيرة سيد الخلق ما أحسست أن الجهل به شيء معيب لا يليق بي وأنا ابن المدينة المنورة، وفيها مثواه صلوات الله عليه، ومسجده الذي يتوافد لزيارته المسلمون من جميع أقطار العالم...
وقبيل الغروب، وبين يدي الكتاب وفي ذهني زحمة من الأفكار والمخاوف والتوقعات سمعت السيدة تناديني وتقول لي:
:ـ اسمع يا عزيزي، ده واحد بيصيح وبينادي، ويقول كلام فيه اسمك ومدرسة الصحة..
وهرعت إلى النافذة وراء الشيش أسمع واحاول أن أرى هذا الذي ينادي ويذكر اسمي، كان صوتاً قوياً لرجل رأيته يمر بالقرب من المنزل الذي أختبىء فيه في يده نبوت يتوكأ عليه... ينادي ثم يلتقط أنفاسه ليعود إلى النداء ومضمون النداء، الذي يصعب أن أصوغ الآن عباراته: أن المطلوب هو القبض على (ولد) عمره 12 سنة، هارب من مدرسة الصحة في ثوب أبيض، مكشوف الرأس... الخ.. وتسليمه للشرطة أو للمدرسة الصحية في اجياد.
ومضى الرجل في طريقه... لأدرك أن وضعي اصبح ينذر بأوخم العواقب إذا ما أمكن إلقاء القبض عليَّ... كدت أجهش بالبكاء... قبل أن يدخل الغرفة الشيخ عبدالعزيز مبتسماً يقول:
:ـ خلاص أنت لازم تعرف أنك محبوس عندنا إلى أن يتصرف عمك من المدينة.. أنا كنت ناوي أبعت تلغراف لكن تذكرت أن التلغراف يمكن أن تعرف منه الحكومة أنك عندي.
على كل حال... لا تخاف.. بس أصحا تخرج من باب البيت.
ولم اخرج من باب البيت إطلاقاً وعلى الأخص عندما تكرر النداء بالقبض عليَّ وتسليمي للشرطة ثلاثة أيام متوالية.
ومع أن السيدة زوجة الشيخ كانت تحاول الترفيه عني بما تقصه عليَّ من حكايات عن مصر، وحياة الفلاحين ويساعدها الشيخ تذكيرها ببعض الطرائف في حياتهما، قبل أن يهاجر معها إلى الحجاز عندما عرض عليه أحد معارفه أن يهاجر لأن صوته جميل، وقراءته للقرآن مطلوبة في المدينة ومكة، وهو يحمد الله على نعمة التوفيق، فقد نجح في المدينة وأصبح له فيها عملاء لا يستغنون عن دعوته للقراءة في ساعات الغروب وليالي رمضان وفي مناسبات الوفاة، ولكن بعد دخول حكومة بن سعود، تكرر منعه من القراءة (المنغمة) فاضطر إلى الانتقال إلى مكة طلباً للرزق، ويحمد الله على (الستر).
وكانت المشكلة التي عاناها الشيخ وزوجته بوجودي معهما في المنزل، هي النوم... وقد واجهتها معهما منذ الليلة الاولى، وذلك لكثرة البعوض، ولأن الفراش الذي ينامان عليه، واحد... مرتبة واحدة عريضة تنصب عليها (الناموسية) ولا سبيل للخلاص من لسعات البعوض إلا بالنوم داخل هذه الناموسية...
فكر كل منهما في البداية أن يقسما الناموسية بأن يقتطعا منها شريحة تنصب لأنام داخلها وحدي ولكنهما وجداً أنها عملية يمكن أن تحرم الجميع من الناموسية إذ كيف يمكن قص الشريحة دون ان تتم خياطة الفتحة في الشريحتين..
وانتهى الأمر بقرار فوجئت به وكان غريباً جداً، أخجلني وحيرني وجعلني اشعر بما جرّته عليَّ الجريمة التي ارتكبتها واضطرتني إلى الهروب واللجوء إلى منزل هذين الزوجين أزعجهما وأضعهما في موقف بالغ الحرج،
كان القرار الذي أعلنه الشيخ أن أنام معهما بينه وبين زوجته في الفراش العريض.
تمنّعت... بل رفضت وأخذت أرجوهما أن يتركاني أنام بدون هذه الناموسية ولكنهما أصرّا على قرارهما... فأذعنت في النهاية... وأصبح مكان نومي بين الزوجين وكان ما سمعته منهما أني صغير كابن لهما،... وكانت تلك حقيقة إذ كنت في الحادية عشرة من عمري، ودون البلوغ.
لن أنسى ما حييت ذلك العطف والحنان اللذين غمراني به بروح فيها مشاعر الأبوة والأمومة التي حرمت منهما منذ تزوجت أمي، ولم يعد لي مجال أن أنام بجانبها وفي حضنها كما كان الحال قبل زواجها... لقد هيأت لي أمي غرفة نوم وسرير مريح، وظلت تحرص على ان تنحني عليَّ وتقبلني قبل أن تذهب لتنام مع زوجها... كانت تذهب فأشعر أني أصبحت وحيداً محروماً من عطفها، كما كنت دائماً الطفل المحروم من الأب الذي لم أره ولم أسعد قط بوجوده إلى جانبي منذ فتحت عيني في الحياة، ورغم انتظار عودته من سفره طوال السنوات التي عشتها واسمع من أمي أنه لا بد أن يدخل علينا في يوم من الأيام التي انطوت وذهبت ادراج الرياح..
* * *
وانقضت أيام لم يتلق خلالها الشيخ من عمي أي خبر وكان ذلك باعثا لقلقي أنا قبل الشيخ، إذ ظللت أتساءل: ترى ما هو مصيري إذا بقيت في هذه الحال؟ !
ترامت على ذهني موجات متلاحقة من الأفكار... كان أخطرها أن أهرب من هذا البيت وأحاول السفر إلى المدينة... وكان ما يدعم هذه الفكرة في تقديري أن كيس النقود الذي حرصت على انتشاله من حقيبة ملابسي في لحظات هربي من المستشفى.. كان مايزال بخير، فيه عدد من الجنيهات الذهبية.. منها تلك التي تسلمتها هدية من يد الأمير فيصل ومنها كذلك البقية مما كنت استلمه من الشيخ مرسلا من عمي في المدينه... هذه النقود تساعدني على أن أستأجر جملا في قافلة إلى المدينة... واسترحت لهذه الفكرة التي أخفيتها عن الشيخ وحرمه، ولم يبق إلا أن أحدد يوم الهرب... وكنت أعرف الطريق إلى (جرول) حيث رجحت أن قوافل الحجاج الذين يذهبون لزيارة المسجد النبوي الشريف تتجمع وتنطلق من هناك.. وحتى ما احتاجه من الغذاء طوال اثنى عشر يوما، لم أشك في أني أستطيع شراءه وأنا في طريقي إلى جرول. ولكن وقفت أمامي عقبة هزت خطتي... وهي أني ماأزال أبدو لمن يراني أني طفل... والناس على الأخص منهم (الجمّال) يتجنبون التعامل مع الأطفال... لابد أن يسألوا عن ولي أمري.. فمن هو الذي يرضى أن يكون ولي أمري؟
تذكرت فهمي الحشاني... وهو لن يتردد في مساعدتي، ولكن كيف يمكن أن تصل به وهو في المدرسة.
خلاصة الموقف أني عشت عدة أيام مضطرب الذهن ضائعا لا أدري كيف أجد المخرج من هذا الوضع.
كنت نائما بين الشيخ وزوجته حين سمعت السيدة توقظ الشيخ وتقول:
:ـ انت سامع، ده خبط على الباب.
وتنبهنا أنا والشيخ وأرهفنا السمع لنسمع هذا الخبط في الباب فعلا... كانت أضواء الفجر قد بدأت تلوح عبر النافذة ذات الشبك... نهض الشيخ، خرج من الفراش مسرعا وخرجت وراءه إلى النافذة... وكانت المفاجأة...جمال يطرق الباب وجمل عليه (شقدف)...
لم يخطر إطلاقا أن في الشقدف أمي وأخوتي الصغار.. ولكن هذا ما اكتشفته وأنا أراهم يتسللون من الشقدف ويقفون أمام الشيخ عبد العزيز وهو يرحب بهم.
والتفت لأبشر السيدة، ولكني رأيتها تترك الغرفة مسرعة فلحقت بها... وفي الدهليز المعتم تم لقاء ماتزال صورته عالقة بذهني حتى اليوم... لقاء كان فيه عناق أمي وبكاء فرحتها برؤيتي... وبكائي أنا على كتفها...وعناق الصغيرين...وهما أختي منها وهي التي تصغرني تسع سنوات، وقد سبق أن تحدثت عن ليلة ميلادها فيما مضى من فصول هذا الكتاب وأخي الذي يبلغ من العمر سبع سنوات.
ولا أطيل... صعدنا إلى المجلس في الدور الثالث الذي امتلأ بالأحاديث والأخبار ومنها أنها لأنه ذكر لعمي في رسالته أن المنزل بالقرب من بيت القطان، وهو كما سبق أن ذكرت بيت يعرفه أهل مكة كلها، لأنه لشخصية لها اسمها ومكانتها العريقة في البلد.
وسردت قصة هروبي، واضطراري للجوء إلى بيت الشيخ عبد العزيز..كنت أنتظر أن أسمع منها شيئا عن الطريقة التي تراها أو نصحها بها عمي لخروجي من هذا المأزق، ولكنها لم تقل شيئا، وانصرفت إلى الحديث عن المدينة والصديقات اللائي يتساءلن عن الخالة تفيدة زوجة الشيخ.
ومرت بضعة أيام بدأ خلالها الكلام عن الحج، فأمي بعد أن وصلت مكة، وأدت مناسك العمرة، تريد أن تحج، ولا يفوتها أن تحكي عن الحج مع والدها (سيدي أحمد صفا)، ثم هي لا ترى أن تصطحب أحدا منا ـ أعني شخصي وأختي وأخي، وأقنعت الخالة تفيدة بأن تصاحبها، وهذا يعني أن الشيخ عبد العزيز هو الذي سيعنى برعايتنا... ولا أدري بأي صدر رحب ونفس كريمة أخذ الشيخ على عاتقه هذه المهمة، وأهم ما فيها تجهيز وجبات الأكل، وملاحظة عدم خروج أحد منا إلى الشارع فقد ظللت أشفق عليه من المتاعب التي سيواجهها دون أن أملك أكثر من أكون تحت يده، فيما يطلب أو يحتاج إليه من الأدوات واللوازم لتجهيز كل وجبة.
وسمعت أمي ذات صباح تسأل الخالة تفيدة، إن كانت تعرف منزل (الشيخ سلطان) الذي قالت انه زميل جدي أحمد صفا، وإنها في المرات التي حجت فيها، معه كانت تنزل في هذا البيت، وتعرف من أهله فاطمة وسعدية وأبو الخير، أبناء الشيخ سلطان الذي علمت انه توفى إلى رحمة الله أيام حكم الشريف. ولم تكن الخالة تعرف شيئا عن الذين ذكرتهم أمي، ولكن حين فهمت أن بيتهم في (الشامية) وهي الضاحية أو (الحارة) كما كانوا يسمونها قالت أن الشيخ عبد العزيز، يعرف أكثر سكان هذه الحارة.
وكانت مفاجأة للشيخ أن تسأله أمي عن بيت (الشيخ سلطان)...شيخ حجاج القازاق في مكة... إذ أجابها أنه يعرف البيت وفيه عائلة المرحوم.. وابنه (أبو الخير) الذي كثيرا ما يراه مع أقرانه من أبناء الحارة ولا يدري إن كان يتعلّم في المدرسة أم لا؟
* * *
كانت فرحة أمي بهذه المعلومات عن بيت الشيخ سلطان، أكثر مما كنت أتوقع فقد أخذت تتأهب للذهاب بعد أن فرغنا من تناول طعام الغداء... وقبيل الغروب، كانت تمشي وراء الشيخ إلى ذلك البيت وقد فضلت أن أكون معها... وحين ذكرتها بأن (الحكومة) تبحث عني ويمكن أن تلقي القبض عليَّ... قالت:
:ـ لا تخف.. لا أظن أنهم مايزالون يبحثون عنك... والتزم الشيخ الصمت ـ فلم يقل شيئا.
ولم يكن البيت بعيدا، إذ لم يطل مشينا أكثر من دقائق، حتى وقف الشيخ في ساحة واسعة تطل عليها بيوت كثيرة والتفت يقول وهو يشير إلى بيت مرتفع عن مستوى الأرض بعدد من السلالم: هذا بيت الشيخ سلطان.
ودهشت كثيرا حين سمعتها تردد..
:ـ عرفته... خلاص يا سيدي الشيخ... أنا أطلع مع عزيز.
وفي هذه اللحظات رأيت فتى شابا يلحق بنا ويقف إلى جانبنا وهو يقول:
:ـ انتو تبغو تشوفو أحد في البيت؟
والتفتت إليه أمي تقول:
:ـ ايه يا ولدي... هادا بيت الشيخ سلطان وأبغا...
وقبل أن تكمل قاطعها يقول:
:ـ وأنا يا خالة ولد الشيخ سلطان... أنا ولده (أبوالخير).. لكن انتو مين؟
:ـ أنا بنت الشيخ أحمد صفا شيخ (الكازاك) في المدينة.
وسرعان ما رأينا أبو الخير يقفز ويتقدمنا مسرعا صاعدا على السلالم العريضة وهو يقول:
:ـ يا مرحبا... اتفضلوا... اتفضلوا.
* * *
وتركنا أبو الخير خلفه وانطلق ودخل دهليز البيت مسرعا، ورأيناه ـ رغم عتمة الغروب يصعد إلى أعلى وسمعناه وهو يهتف مناديا:
:ـ يا سْتيته...
وظللنا أمي وأنا نصعد خلفه في انتظار (ستيته) التي يناديها..
وكانت ستيته... هي (فاطمة) التي ما كادت ترى أمي حتى أخذتها في أحضانها وأخذت أمي تشهق باكية فرحا بهذا اللقاء... ورأيت إلى جانب ستيته وأبو الخير صبية وطفلا... علمت فيما بعد أن ستيته هي أمها..
وأصّرت الأسرة على أن نبيت عندهم الليلة.. ولكن أمي اعتذرت... وإن كنا قضينا وقتا طويلا دارت خلاله أحاديث ذكريات بعيدة منها أو أهمها انهما سافرنا معا في حياة أبويهما الشيخ سلطان والد فاطمة، والشيخ أحمد صفا والد أمي إلى بلاد ـ (الكازاك) عدة مرات، أكلتا لحم (الحصان) وشربتا اللبن الذي أذكر حتى اليوم ان اسمه (قِمِّيز).
وملأ الفضاء صوت آذان العشاء لننهض عائدين إلى منزل الشيخ عبدالعزيز.. يرافقنا ويضيء طرقنا بفانوس يحمله أبو الخير، لأن الطرق والشوارع في مكة في تلك الأيام كانت محرومة من الإضاءة إلا ما يسمى (فانوس البلدية) المعلق على أعمدة بين أحدهما والآخر مسافة طويلة يلفها الظلام.
* * *
وأخذت الأحاديث تدور بين أمي وحرم الشيخ عن هذه الزيارة التي كان واضحا أن أمي فرحت بها إلى الحد الذي أنساها وجبة العشاء للصغيرين اللذين كانا يجلسان في انتظارها وقد غلبهما النعاس.
وقبل أن تنقضي فترة قصيرة سمعنا طرقا على باب البيت فانتبه الشيخ وأسرع إلى النافذة يستطلع... ثم أخذ طريقه مسرعا خارج الغرفة وهو يقول:
:ـ خير إن شاء الله... هادا واحد رجال ومعه ولد يحمل فانوس.
وغادر الشيخ الغرفة وفي يده هو أيضا فانوس صغير يضيء طريقه إلى باب البيت... وتوترت أعصابنا قلقا وترقبا... بينما أخذ قلبي أنا يكاد يقفز من صدري رعبا، إذ لم يساورني شك في أنها (الحكومة)... اهتدت إلى مخبئى فأرسلت من يلقي القبض عليَّ... فأسرعت أزحف إلى حضن أمي التي بدا لي أنها هي أيضاً ومعها الخالة تفيدة قد ساورتهما نفس المخاوف إذ لم تنسيا أني ظللت مختبئا ولم أخرج من المنزل إلا في هذا اليوم...
ولم يطل بنا الترقب والانتظار بل ـ والخوف ـ لنسمع صوت الشيخ يردد عبارات الترحيب وكلمات (اتفضل.. اتفضل).. أهلا وسهلا.. ثم يرتفع صوت الشيخ مناديا:
:ـ يا أم عزيز.. يا أم عزيز تعالي في المجلس... هادا الأخ محمد يبغي يكلمك.
وأسرعت أمي تنهض وتغادر الغرفة لتهبط إلى (المجلس) وهو عادة (غرفة استقبال الضيوف).. وخفت مشاعر الخوف عندي إذ رجحت ان الذي يستقبله الشيخ ويرحب به مجرد (ضيف) ومع ذلك ظللت جالسا في مكاني في انتظار أخبار هذا الضيف.. الذي سمعت الشيخ يقول انه (الأخ محمد).
وعندما عادت أمي بعد فترة قصيرة رأيت على وجهها ابتسامة عريضة وهي تقول:
:ـ هادا زوج فاطمة... جا يعزمنا كلنا على الغدا بكرة... والولد اللي معاه هو أبو الخير ابن الشيخ سلطان.
* * *
وفي صباح اليوم التالي كنت مع أمي والخالة تفيدة والطفلان والشيخ عبدالعزيز قد استكملنا ارتداء ما يليق بالعزومة من الملابس، وقبيل ارتفاع آذان الظهر كنا ندخل منزل الشيخ سلطان... حيث كان (العم) محمد، ومعه بعض معارفه وأصدقائه يستقبلوننا بكلمات الترحيب المألوفة بينما كان (أبو الخير) يتقدم أمي والخالة تفيدة إلى حيث كانت الخالة فاطمة مع بنتها وولدها وسيدات أخريات في استقبالنا...
ولابد أن أقول أنها كانت (عزومة) ضخمة بكل معنى الكلمة.
كان هناك مجلسان... أحدهما للرجال والآخر للسيدات... ولا أذكر أين كان مجلس الرجال... ولكن مجلس السيدات كان بالغ الفخامة... مازلت أذكر سقفه المزخرف والإطار الذهبي الذي يستوعب السقف على امتداده بزخارفه الرائعة. كما أذكر تلك المقاعد الوثيرة المتلاحقة وعليها (المساند)... وكلها مكسوة (بالدومسك) الأخضر المشجر الذي سمعت فيما بعد أنه يستورد من استنبول ولا يقتني الأثاث الذي يكسي به إلا الأثرياء والوجهاء في تلك الأيام.
وقد ينبغي أن أذكر أن العلاقة بيني وبين العم محمد، والأسرة كلها قد تطورت. وأن جور الظروف والأحداث التي ظلت تواجهها المملكة قبل الحرب العالمية الثانية وبعدها، قد أسرفت في العصف بواقع كثير من العوائل، ومنها عائلة الشيخ سلطان أو العم محمد، بحيث لم يبق من تلك الوجاهة والأبهة التي عشتها في يوم تلك (العزومة) إلا المنزل نفسه وسكانه وزخارف ذلك المجلس وقد حال لونها وبهت راوؤها وقد أخذت تهب على المنزل كله رياح الفاقة والعوز ولكنها تعجز رغم استمرارها إلى حد يشبه الاستيطان عن أن تمس الكبرياء والكرامة وعزة النفوس التي لن أنسى أنها رغم هذه الظروف الخانقة كانت لا تبخل على من يلوذ بها أو يسألها العون بما يتيسر حتى ولو كان جانبا من عشاء الليلة أو غدائها. بل ولا أنسى أيام الأعياد وحاجة البعض من المعارف والجيران إلى ثياب جديدة للأطفال الذكور أو الإناث... كانت الأسرة تستعد بالميسور من الأقمشة تعكف على خياطتها الأم تساعدها إبنتها.
وليلة العيد يتوافد هؤلاء الصغار إلى بيت الشيخ سلطان، ويخرج كل منهم وفي يده (بقشة) يجد فيها الثوب ـ أو الفستان للإناث ـ والملابس الداخلية، وعلى وجوههم ابتسامة الامتنان والعرفان.
* * *
ويوم عادت أمي مع الخالة تفيدة حرم الشيخ عبدالعزيز بدا أنها كانت مرهقة جدا، إذ ما كادت تستقر في الغرفة ثم تستحم، حتى استلقت على الفراش واستغرقت في نوم عميق حرصت الخالة أن تبعد عنها الطفلين اللذين فرحا بعودتها وأصرت ابنتها على أن تظل في حضنها، بينما ظل ابنها يلهو باللعب التي كان اشتراها له الشيخ عبدالعزيز.
وفي اليوم التالي عرفت أن أمي قد اعتزمت العودة إلى المدينة، ولذلك فقد تكررت زيارتها لبيت الشيخ سلطان، وفي نفس الوقت انصرف الشيخ عبدالعزيز، لترتيب الجمل والشقدف الذي نرتفقه في الرحلة التي لا يجهل أحد أنها تستغرق اثنى عشر يوما... لم تنس أمي أنها قامت بها في مجيئها إلى مكة فهي لا تهتم بطولها.. وإن كانت قد استوفت من الشيخ وحرمه معلومات عما يسمى (الوسْق) الذي فهمت أن يكون في الوسط على ظهر الجمل بين جزئي الشقدف... حيث تكون أمي في أحد الجزئين والطفلان في الجزء الآخر وأكون أنا في الوسط على ظهر الجمل مباشرة، ولا أخفي أني قد ارتحت وفرحت بذلك، وشرعت أنتظر اليوم الذي نبدأ فيه الرحلة، ولم يطل انتظارنا، فما هي إلا يومان حتى رأيت الشقدف عند باب البيت.
وهنا تذكرت حكاية أني مطلوب عند الحكومة فكيف تستطيع أمي أن تخلصني منها... فلم أتردد في أن أسألها وأن أقول لها:
:ـ هادي يا أمي الحكومة... والناس كلهم سمعوا المنادي... وسمعوا كمان عن مكافأة ياخدها اللي يدلّهم عليَّ أو يمسكني.
وهنا رأيتها تضحك ضحكة قصيرة لتقول:
:ـ انت ما تدري إني ما جيت مكة إلا عشان أخلصك من هادي الحكومة...
والتزَمت الصمت لحظات لتقول:
:ـ عمّك (وهو كما نعلم زوجها) قد كتب إلى محمود بك حمدي المدير العام للعفو عنك... يعني المسألة انتهت من يوم ما وصلت مكة... سيدي الشيخ عبدالعزيز هو اللي سلم المكتوب للمدير وسمع منه انو المسألة انتهت خلاص.
* * *
ووصلنا المدينة المنورة بعد رحلة اثنا عشر يوما... لا أنسى أنها كانت من أجمل الرحلات بالجمال لأن الأرض كلها على امتداد الرحلة تقريبا، كانت مكسوة بالعشب بل والأزهار البرية، بل كانت بعض المواقع ماتزال تركد فيها بقية المياه التي يحرص الجمّال على أن نرتفق في خوضها خوفا من أن يكون بعضها عميقا يتعثر فيها الجمل.
وفي المدينة كانت الحفاوة بي كبيرة وليس فقط من عمّي وأصدقائه وإنما أيضا من الأصدقاء الذين كنت أراسلهم، ومنهم على الأخص (محمد نيازي) الذي كان شديد الإعجاب بما أكتب، إذ كنت متأثرا بأسلوب (جبران خليل جبران) الذي عكفت على قراءة كتابه (العواصف والعواطف) عدة مرات عندما كنت في مدرسة التمريض.
وقد لفت نظري في المدينة أنها بدأت تتغير في بعض أسواقها، ثم في الحرم النبوي الشريف الذي أصبح لا يخلو من عدد من الذين أوكل إليهم منع الاقتراب من باب الحجرة حيث أضرحة الرسول صلوات الله عليه وصاحبيه، سيدنا أبو بكر وسيدنا عمر رضي الله عنهما، ثم انتشار الداعين إلى الصلاة في الأسواق، وفي يد كل منهم عصاة يخيفون بها الذين يتأخرون عن ترك متاجرهم ولا يسرعون إلى الصلاة جماعة في المساجد، ومنها مسجد الغمامة الذي يقع في قلب السوق الذي يتميز بمحلات كبار تجار الغلال، وبأولئك النسوة اللائي يفترشن الأرض تحت ظلال أشجار (النبق) حيث يعرضن سلعاً من صنع أيديهن، كالمراوح، والمكانس المصنوعة من سعف النخل، مع (البيض) والورد والتفاح والفل والدوش وهي التي لا يستغني عنها بيت في المدينة، حيث لا يطيب مذاق الشاهي إلا بنكهتها تعبق بها الفناجين في أيدي السيدات في مجالسهن بعد الغروب.
وكان عمّي قد علم بكثير من تفاصيل أسباب هروبي من تلك المدرسة، ولكنه كان يضحك وهو يطلب مني أن أقص عليه هذه التفاصيل ليسمعها ضيوفه الذين يندر أن يتخلفوا عن قضاء السهرة معه... كان الجميع يرون أن الطبيب الذي ضربته ثم هربت يستحق هذه (العلقة) نظراً لما في سلوكه وتعامله من عنف وإهانة وإذلال.
ومع أن الذين كنت ألعب معهم في حي الساحة أيام الحرب كانوا في هذه الفترة موجودين أيضاً، ولكن حياتهم أصبحت أقرب إلى الرجولة. وكان منهم من فضل الاستمرار في الدراسة، بينما سمعت أن آخرين قد أصبحوا موظفين في الدوائر الحكومية، حيث يتقاضون رواتب شهرية، ولا أخفي أن هذه المعلومات قد أيقظت في نفسي هاجس (الوظيفة) والعمل في الحكومة، وليس رغبة في الراتب الشهري ـ فقد كانت حياتي برعاية عمّي رحمه الله، حياة موفورة الحظ من الرغد والرفاهة، ولكنها بادرة الطموح والتطلع إلى أن أكون (رجلاً) كما أصبح غيري من أقراني يوصفون بأنهم أصبحوا (رجال)... ومع هذا الهاجس مشحوناً بالطموح، أخذت اسأل نفسي عن الأعمال التي أستطيع القيام بها في أية وظيفة فإذا بي أجد، أني بارع في الكتابة على الآلة الكاتبة... وعادت إلى ذاكرتي تلك العناية التي خصني بها الدكتور خيري القباني، بحيث استطعت أن أفوز بالدرجة الأولى في المسابقة بيني وبين السيد عيدروس السقاف وشفيق الامام، وأن يهديني الأمير فيصل تلك الساعة، والعجلة، والجنيهات الذهبية الثلاثة... كما استطعت أن أستوعب الكثير من المعلومات العامة لكثرة ما قرأت من تلك الصحف التي أكتبها بغرض إتقان الكتابة، وهي معلومات كنت أشعر بالارتياح وشيء من الزهو عندما أسمع ضيوف عمي يتحدثون عن الأخبار وعن غيرها من الشئون العامة التي أشعر أني مُلم بها أو سبق أن مررت بها فيما قرأت من عشرات الصحف والمجلات بل وبعض الكتب في مكتب الدكتور خيري بك، الذي يبدو لي اليوم إنه كان أشبه بدائرة معارف يدعمها في دراساته معرفته باللغة الإنجليزية والتركية والفرنسية واستمرار عكوفه على القراءة والبحث بحيث لا يتوقف إلا عندما يقابل زائريه... وهنا أذكر وفي نفسي لوعة حارقة كيف عصف به الحزن عندما فقد ابنته في الثامنة من عمرها في حادث سقوطها من اِلمنْور في المنزل إلى قاع الدهليز.. ولن أنساها، كان اسمها فاضلة كانت برعم وردة تتفتح وإشراقة حياة تشع الفرحة والبهجة بين من هم حولها من الأب والأم والأخوة بل وكل من يراها ـ وكنت منهم حين تجيء للعب في حديقة المستشفى مع ابنة الدكتور محمود حمدي.
* * *
ولم يطل بنا المقام في المدينة فقد صدر أمر تعيين عمّي (رئيساً للصيادلة) في مكة فقامت والدتي بتصفية الأثاث في المنزل... ظلت تواصل بيعه في سوق الحراج، باستثناء السجاد والتحف من البلور وما شابه ذلك من الأشياء الثمينة التي أحسنت تعبئتها في صناديق صغيرة... وما هي إلا بضعة أيام حتى كنا على ظهور الجمال في طريقنا إلى مكة.
وأعجب ما قد يحسُن أن أذكره اليوم هو أن هاجس الوظيفة ظل يدور في ذهني إلى أن وصلنا مكة، فإذا بعمّي رحمه الله يعود يوما بعد الظهر من عمله في مستشفى أجياد ليدعوني إليه ـ ويضع يده على رأسي مبتسماً ويقول:
:ـ إنت من بكرة موظف في مكتب المدير العام مقيد وكاتب آلة.
كان الخبر بالنسبة لي مفاجأة مذهلة، إذ لم أكن أتوقع إطلاقاً أن أجد وظيفة بهذه السرعة ولم يفت أمي أن تسأل عن مقدار الراتب لتسمع من المرحوم أنه (ستة جنيهات)...
وهكذا وجدت نفسي موظفاً في مكتب المدير العام أمامي مكتب متوسط الحجم ولي مقعد أو كرسي مثلي مثل بقية الموظفين في هذا المكتب.
وكانت للمدير العام غرفته التي يفصلها عنا باب، يفاجئنا بالدخول منه علينا... وكان رجلاً مهاباً يشعر الجميع، ليس فقط باحترامه، بل بالخوف منه.. كما كان يشاركه في غرفته، مساعده الذي يقوم هو أيضاً بالدخول علينا بنظارته السميكة وصلعته الواسعة وابتسامته العريضة، ليسأل عن أوراق معينة، أو ملف يقوم أحد الموظفين بتقديمه إليه.. نسمع منه عبارة (شكراً... شكراً).
* * *
وقد كنت أصغر الموجودين في المكتب عمراً وأقلهم حجماً، وليس في وجهي شعر للشارب أو اللحية... ويبدو أن واقعي هذا لم يمنع أحد الموظفين، أن يرفع صوته وهو يطلب مني رقم معاملة من المعاملات التي أقيدها... يناديني:
:ـ يا ولد
فالتفت إليه منفعلاً، لأقول له:
:ـ لولا أني أحترم من هم أكبر مني سناً لقلت لك:
أنت الولد
ثم أضفت بصوت حاد:
احترم نفسك...
وكان يحاورني مكتب كبير يجلس وراءه بكرسي خاص يستوعب حجمه الفخم، موظف عرفت انه رئيس (القلم) وهو مجموعة الموظفين ـ هكذا كانوا يسمون المكتب أو القسم الذي يجمع الموظفين بمختلف تخصصاتهم.
فما كدت أنتهي من قولي منفعلاً:
:ـ احترم نفسك.
حتى سمعت جاري يرفع صوته ولكن دون انفعال ليقول:
:ـ أحسنت يا ابني.. الذي ينقص إخواننا في هذا (القلم) هو أن يحترموا أنفسهم، قبل أن ينتظروا الاحترام من الغير.
وهنا نشبت معركة حوار بين جاري والآخرين اكتشفت خلالها أنه لا يتكلم إلا بالفصحى وأنه يحمل لقب (بيه... بك) منذ كان يعمل في الجيش التركي وفي غيره، مع هذه المعلومة عرفت اسمه: فهو (سعيد بك) وهو الذي كان يدرّسنا اللغة العربية أيام الدراسة.
وكانت مسئوليته كرئيس (للقلم) أن يطلع على كل مذكرة أو رسالة يكتبها أحدهم لتصحيح الأخطاء النحوية واللغوية... وكان مما يضحكني (بيني وبين نفسي) أنه يرفع صوته كلما صحح كلمته ـ وكانت الأخطاء كثيرة ـ ليقول:
:ـ وهذا خطأ نحوي..
ثم يضيف وهو شبه منفعل
:ـ بل هذا خطأ في الإملاء أيضاً،
ثم يتساءل بلهجة ساخرة
:ـ لا أدري في أية مدرسة تعلمتم القراءة والكتابة؟
وهنا كان لابد أن تنشب معركة الحوار بينه وبين كاتب المذكرة وترتفع أصوات الجانبين إلى حد أن يسمعها المدير العام، الذي ينتدب مساعده الذي عرفت أنه (الدكتور حسني الطاهر) يفتح الباب برفق، ويدخل فيسود الصمت ويبدو أنه كان قد ألف أسباب الشجار فيتجه إلى (سعيد بك)، ويقف أمامه ليقول متسائلا:
:ـ طبعاً أخطاء نحوية ولغوية؟
:ـ ولا تنتهي أبدا... كل مذكرة يكتبها أحدهم تحتاج إلى تصحيح... يستلزم أن يعيد كتابتها... كان الله في عون كاتب الآلة... لا أدري كيف يستطيع كتابتها.
ويضحك الدكتور حسني ضحكة خفيفة وهو يقول بلهجته المصرية:
:ـ ماعليش يا أستاذ طوّل بالك.. كلهم لازم يستفيدوا من التصحيح، وراح يجي يوم تلاقيهم كلهم يكتبوا بدون أخطاء.. انت يا سعيد بك أستاذنا... كلنا بنتعلم منك...
وتهدأ ثائرة سعيد بك فيبتسم وهو يقول:
:ـ انت الوحيد يا دكتور الذي يكتب بدون أي خطأ..
ويمر بي الدكتور حسني ويقف لحظات يتأمل خلالها عملي في (دفتر) القيد.. ثم يقول:
:ـ خطك جميل ولغة (خلاصة الموضوع) سليمة...
ثم يغادرنا عبر الباب إلى مكتبه في غرفة المدير العام.
* * *
كانت تلك هي بداية حياتي في وظائف الدولة كما كانت أيضاً بداية إحساسي بأني أتمتع بموهبة في الكتابة تبشر بأني سوف أحقق طموحاً لم يسبق أن كان مما أعني بأن التفت إليه أو أحاول إفساح الطريق لتفاعله وتطلعه إلى العطاء الذي أدهشني وألهب مشاعري أنه الطريق إلى الشهرة ينعشها ويزيد من التعلق بها (الإعجاب) وعبارات الثناء والإطراء.
وكان الفضل في كل ذلك للدكتور حسني الطاهر رحمه الله، إذ قرأ لي رسالة أو كلاماً أكتبه إلى صديق في المدينة، فأبدى إعجابه بما قرأ وسألني عما إذا كنت أحتفظ بغيرها فقدمت إليه مجموعة من هذه الرسائل التي كنت أكتبها وأضعها في درج المكتب.. أخذها وعاد إلى مكتبه وبعد أقل من ساعة عاد بها وهو يقول:
:ـ من هم الذين قرأت لهم من الأدباء.
:ـ جبران خليل جبران.
وتلعثمت وأنا أحاول ذكر اسم أو اسمين من الذين قرأت مؤلفاتهم التي يعيرني إياها صديق من الذين عرفتهم في مدرسة الصحة من أصدقاء فهمي الحشاني ومحمد شريف، وكان أول هذه المؤلفات التي قرأتها عدة مرات كتاب (العواصف والعواطف) لجبران خليل جبران.
قال الدكتور حسني الطاهر:
:ـ ولكن هل قرأت شيئا للمنفلوطي.
ثم تابع قائلاً:
:ـ أظن أنك تستفيد لو قرأته لتحسين لغتك وأسلوبك.
ثم دخل مكتبه، ليتركني أفكر في (المنفلوطي) وأتساءل بيني وبين نفسي
:ـ من هو هذا المنفلوطي الذي لم يسبق قط أن سمعت عنه.
وكانت مفاجأة الدكتور حسني بعد أقل من يومين أن خرج من مكتبه ومعه رجل آخر.. وفي أيديهما معاً مجموعة من الكتب...
كان الرجل الآخر زميلاً للدكتور حسني... عرفت انه (الدكتور مصطفى عبدالخالق) طبيب في التكية المصرية.
وقفت مأخوذا بالمفاجأة، إذ وضعا مجموعة الكتب على المكتب ليقول الدكتور مصطفى:
:ـ هذا الذي وجدناه في (باب السلام) من كتب المنفلوطي.
وأضاف الدكتور حسني:
:ـ والدكتور مصطفى سيطلب البقية من مصر.
ولم أعرف كيف أعبر عن شكري وامتناني... يبدو أنهما رأيا في عيني دموعاً فقال الدكتور مصطفى:
:ـ ننتظر أن نقرأ لك الكثير إن شاء الله.
وأضاف الدكتور حسني:
:ـ لا توجد في مكة غير جريدة أم القرى ولذلك احتفظ بما تكتب لينشر في جريدة يمكن أن تظهر، أو حتى في الجرائد المصرية.. ما تكتبه يستحق النشر فعلاً.
* * *
ولا أذكر اليوم، كيف شعرت بأن قلبي يكاد يقفز من صدري، وإن رأسي قد تضخم فلا تتسع له الغرفة كلها..
أن يأتي يوم أرى فيه اسمي منشوراً في جريدة تحت هذه الكلمات التي اعجب بها الدكتور حسني الطاهر وصديقه الدكتور مصطفى، فذلك حلم لم يسبق قط أن طاف بذهني في صحو أو منام.
ومنذ ذلك اليوم، لم أقرأ مؤلفات المنفلوطي فقط وإنما أخذت أقرأ الكثير من الكتب التي أجدها في مكاتب باب السلام بل وجدت نفسي أتلهف على شراء الصحف والمجلات التي توجد في المكتبات، ومنها الأهرام، واللطائف المصورة والمقطم... كنت أقرأ الصحيفة من الألف إلى الياء... لا أترك خبراً. أو كلمة، أو قصيدة شعر،... ثم كانت المفاجأة التي لن انساها يوم وجدت بين ما يعرض من الصحف والمجلات، مجلة (السياسة الأسبوعية)... اصطحبتها إلى المكتب ثم إلى البيت وانهمكت ألتهم ما نشر فيها بأقلام كتاب عرفت بمرور الأيام انهم أعلام الفكر والأدب في العالم العربي، وهم:
محمد حسين هيكل رئيس تحرير المجلة. ثم ابراهيم المازني والدكتور طه حسين، والأستاذ مصطفى عبدالرازق، والأستاذ عباس محمود العقاد، والشاعر ابراهيم شكري، إلى جانب رعيل من الشعراء ذاع صيتهم وتهافت المثقفون على قراءة شعرهم إينما وجدوه إلى أن ظهرت لهم مجلة أبوللو وقد كانت مجلة شعر متجدد وشعراء تطلعوا إلى التجديد لم يقدر لها أن تعيش طويلاً لأن رئيس تحريرها أحمد زكي أبو شادي تركها وهاجر إلى امريكا. ولن أنسى علي محمود طه المهندس الذي مازلت اذكر قصيدته التي ترحم بها قصيدة لألفونس دي لامارتين، وقد بلغ إعجابي بها أن عنيت بحفظها. ولعلي مازلت اذكر مطلعها وهو:
ليت شعري أهكذا نحن نمضي
في عباب إلى شواطيء غمض
وقد لا أذهب بعيداً إذا قلت اليوم ان مجلة (السياسة الأسبوعية) كانت بالنسبة لي مدرسة ادركت بالحرص على قراءتها أن (الكلمة) هي القدرة على بعث الحياة في الكون كله... وبدونها ليس الا الخواء والهباء، ثم أخذت أعيش الكلمة واستضيء بنورها في القرآن الكريم وأشعر انها هي في هذا الكتاب المبين التي تكمن فيها تلك القدرة الخارقة على بعث الحياة في هذا الكون.. ولابد أني أنه لم أصل إلى هذه الأفكار وما يتفرغ عنها ـ وهو كثير جداً ـ الا بعد عمر وجهد طويلين كما انها لم تتبلور في صيغتها التي تقرأ اليوم الا على تراكمات من التناقض اثباتاً ونفياً ورفضاً وقبولاً.. كانت تلك هي الدوامة الرهيبة التي يغوص فيها الفكر إلى أعماق سحيقة، كثيفة الظلمة، وقد لا يطفو إلى السطح والنور، وذلك هو الضياع والبوار... ذلك ما أطبق على منطق شرائح من المفكرين مايزالون هم الذين تعلق بهم وتعشق منطقهم كثير من رواد الفلسفة وعلوم إكتشاف ما قبل (الوجود) وما بعده. والوقفات الطويلة المتمردة الضائعة في آفاق من المجاهيل عند الخلق كما جاء في القرآن الكريم. وفي رسالات السماء... وفي هذه الوقفات خيال يبدو واسعاً مترامي الأبعاد والأمداء. يزدحم أحياناً بمسلمات يستوعبها منطق شديد الصلف والعناد، لا يفرض عليك بصلفه وعناده هذه المسلمة أو تلك، بل يجعلك أنت الذي تفرضها أو تقتنع بها، ومن هنا يجرفك التيار لتجد نفسك في النهاية في مستنقع ربما تعود فيه إلى البداية في آفاق المجاهيل التي لا يحسم موقفها ووقفاتها إلا (الإيمان) بما جاء به ودعا إليه القرآن الكريم، ورسالات السماء.
* * *
وبعد فإني أجد من حق القارىء على أن أعطيه من هذا الحديث الذي جَّر اليه الأدب كما شدتني اليه، منذ بداية حياتي الفكرية مجلة السياسة الأسبوعية ومعها الكثير الذي انهمكت في قراءته من الكتب التي أجدها في مكتبات باب السلام.
أعفيه لأنتقل إلى مرحلة جديدة في حياتي الوظيفية بدأت عندما سمعت أن الحكومة قد أمرت بنقل مهدي بك مدير الشرطة بالمدينة، ليكون مديراً للأمن العام بمكة.. وكنت على شبه علاقة به، كان قد تزوج من ابنة الشيخ يوسف بصراوي الذي كنت صديقاً حميماً لأبنائه، أنور، وفريد وبهجت بل كنت اعرف الفتاة التي تزوجها مهدي.. كنت أراها ـ قبل زواجها ـ في النافذة فأحْصبها ببعر الجمال. كما يفعل أخوها أنور وهو يرى أن عليها أن تحتجب فلا تقف عند النافذة، سافرة وشعرها متهدل على كتفيها.. قد ينبغي أن لا أجد حرجاً في أن أقول اليوم أنها كانت جميلة فاتنة، وهي في سن اليفع والتفتح للحياة، وأن مهدي يوم تزوجها ربما كان أكبر من أبيها سناً. ولا أخفي أن موافقة ابيها على هذا الزواج كانت موضوع تساؤل واستنكار في ذهني إلى وقت طويل.
كان الذي سمعت منه خبر مهدي بك مديراً للأمن العام بمكة هو عمّي رحمه الله، وفيما كان يتحدث عن الموضوع، وجدت نفسي معجباً ليس بمبنى (الحميدية) الفخم وربما كان هو المبنى الوحيد ـ في تلك الأيام الذي يقف على كل من بوابتيه الكبيرتين واحداهما في مواجهة أبواب الحرم الشريف في الشارع العام والأخر في الشارع الذي توجد فيه مطبعة الحكومة التي سميت فيما بعد جريدة أم القرى (وقبلها جريدة القبلة) ـ يقف جنديان مسلحان يؤديان التحية العسكرية عند دخول أو خروج أحد الضباط... وذلك مشهد أعاد إلى ذاكرتي مشاهد وحركات أولئك الجنود والضباط الذين كنت أراهم في قلعة حلب عندما كانت في حوزة الأتراك حيث كانوا في قلعتها العتيدة، والذين كنت اعجب بهم إيما إعجاب. ومع هذه الموجة من المشاعر المتوفزة، تساءلتُ.
:ـ ما الذي يمنع أن أنتقل إلى وظيفة (مقيد أوراق ـ ولكن في الحميدية) ـ بكل ما يحيط بها من فخامة وأبهة... نفس الوظيفة التي أشغلها في مديرية الصحة العامة... ليس فيها من جديد، سوى أني سأكون بين من يزدحم بهم المبنى من الجنود والضباط، ثم جماهير الناس الذين كانوا يترددون على المبنى الذي كان يجمع في الدور الثاني منه عدداً من المصالح الحكومية، والذي تقع فيه القاعة الكبرى التي يجلس ويستقبل فيها بن سعود الكثيرين من الأهالي والبادية، وكبار الموظفين عندما يكون في الحجاز.
وحزمت امري على تحقيق هذا المطمع.. وكان عمي يعرف مهدي إذ هما معاً من بقايا الجيش التركي.. فتقدمت إليه، وعرضت عليه الفكرة، فابتسم، وهو يقول:
:ـ أنا ومهدي أصدقاء ويسره أن يقدم لي أي خدمة... ولكن كيف تتخلص من وظيفتك في الصحة.. لابد من التفاهم مع محمود بك حمدي أولاً.
ولا أعرف تفاصيل ما تم التفاهم عليه واكتفي بأن أذكر أن عمي ناولني غلافاً فيه رسالة إلى مهدي بك.. وهو يقول:
:ـ خلاص.. أنت من اليوم موظف في مكتب مدير الأمن العام.
وأسرعت إلى مبنى الحميدية، وسألت عن الغرفة أو المكتب الذي أقابل فيه مهدي بك... ووجدتها... ولكن على الباب (باب الغرفة) جنديان مسلّحان، منعاني من الدخول وقال أحدهما وهو يشير بيده إلى غرفة بجانبه.
:ـ تقابل محسن أفندي أولاً.. وهو الذي يدخلك غرفة (البيه). ودخلت غرفة محسن أفندي، لأجده أمامي ومعه موظفان كان أحدهما عبدالسلام الساسي رحمه الله.
ومد محسن أفندي يده تناول الرسالة التي أحملها إلى مهدي بك.. قدمتها إليه.. ففض الغلاف وقرأ الرسالة.. ثم قال
:ـ اتفضل استريح شويه...
ولم يطل انتظاري فقد دخل محسن أفندي غرفة مهدي من باب جانبي يفضي إلى مكتب المدير العام.. وخرج وهو يقول:
:ـ اتفضل
ودخلت خلفه غرفة مهدي بك... كان يجلس خلف مكتب عريض، وفي الغرفة عدد من المقاعد ولا أخفي أنه كان على جانب كبير من المهابة والرهبة... وقدمني محسن أفندي، ثم غادر إلى مكتبه... وانتظرت أن يسمح لي مهدي بالجلوس ولكنه تركني واقفاً لحظات قرأ خلالها الرسالة.. ثم أنزل النظارة التي يرتفقها عن مكانها المألوف من أعلى أنفه إلى الأرنبة ثم قال:
:ـ هذه المعلومات عنك طيبة... محسن أفندي يرتب لك العمل...
وبعد أن سرح بنظرة في الغرفة قال:
:ـ أظن تعرف تتكلم اللغة التركية
وما كدت أقول له.
نعم أعرفها جيداً.
حتى ملأت وجه ابتسامة عريضة وأخذ يسألني باللغة التركية عن مواضيع اجيبه عليها بإتقان ودقة.. والأرجح انها كانت نوعاً من الإختبار... قال بعدها بالعربية:
:ـ تعرف اللغة التركية أحسن من محسن أفندي.
:ـ وهنا رفع صوته منادياً أحد الجنديين على باب غرفته. وأمره أن يذهب بي إلى محسن أفندي... وأسرع يعيد موقع النظارة ليقرأ ما كان منثوراً أمامه من أوراقه..
ويطيب لي اليوم أن أقول أن إجادتي اللغة التركية التي يفضل مهدي بك التحدث بها ويسره أن يجد من يعرفها ممن يزورونه من أكابر الأهالي ـ وكثيرون منهم يعرفونها لأنهم كانوا من موظفي الدولة العثمانية قبل حكم الأشراف ـ ثم حكم بن سعود ـ كانت معرفتي بهذه اللغة هي ـ قبل أي شيء التي وثقّت علاقتي به ووضعتني في المقدمة من الموظفين الذين يعتمد عليهم، بل ويعطف عليهم إلى حد ملحوظ،
وقد يكون من المضحك أن يعلم القاريء أن عطفه الذي يملأ قلوبهم إمتناناً وعرفاناً. كان يتجلى عندما يوافق على إعطاء احدهم (سلفة على الراتب)...
واترك للقارىء أن يحاول معرفة مقدار هذه السلفة التي يتقدم بطلبها الموظف، ويوافق عليها مهدي، الاّ بعد تردد ووقوف أمامه أكثر من مرة.
إنها لم تتجاوز قط مقدار (ريالين)... تحسم من الراتب الشهري الذي كان في العادة ـ أيامها ـ لا يصرف الاّ مرة كل شهرين أو ثلاثة شهور (ريالان فقط) يتقدم الموظف بسند استلامها وفيه النص بأنها (سلفة)، يذيله مهدي بتوقيعه العريض... وكأنه يوقع ايصالاً بالمئات أو الألوف.
والواقع أن أسعار السلع التي يحتاجها الموظف أو المواطن لتأمين معيشته مع أسرته الكبيرة ـ وغالباً ما يكون بينها الأم والأب والأخوة والأخوات ـ كانت اسعار هذه السلع في الأسواق تافهة إذا قيست أو قورنت بأسعارها بعد هذه الأيام... كان الريال الواحد يملأ البيت بما يحتاجه ـ وليس فقط ليوم واحد بل بالأسبوع أو حتى أسابيع.
* * *
مدير الأمن العام منصب ضخم ولكن مسؤولياته كانت تكاد لا تتجاوز مكة والمدينة وجدة والطائف أو فلنقل مدن الحجاز التي كان الأمير فيصل نائباً للملك فيها.
وجاء الوقت الذي وجدت فيه الحكومة أن الكثير جداً من المدن في نجد وغيرها من مدن المملكة تحتاج إلى الشرطة... وكان من السهل تجنيد (الأفراد) وتدريبهم، ولكن المشكلة كانت في القادة والضباط... إذ لم يكن في مكة وجدة والمدينة الاّ ذلك العدد القليل جداً من الضباط من بقايا عهد الأشراف والأتراك وفي الحديث الذي كان يدور بيني وبين محسن أفندي عن هذه المشكلة اشتعل ذهني بفكرة فتح أو تأسيس مدرسة لتخريج ما يحتاجه الأمن العام من الضباط.
لم أصارح أحداً بالفكرة، ولكني شرعت أخطط لتنفيذها، ثم لم أتردد في أن أقابل مهدي بك وأقول له أننا نستطيع أن نؤمن حاجة الأمن العام إلى الضباط..
أنزل نظارته من موقعها في أنفه إلى الأرنبة، ثم سألني مندهشاً: كيف؟
فقلت:
:ـ نفتح مدرسة للشرطة... طلابها من هؤلاء الذين يعملون (كتاباً برواتب جنود) وعددهم كبير في القسم العدلي، والأداري والتحرير والمحاسبة.. كانوا يعملون في هذه الأقسام كتاباً أو مساعدين. ولكنهم يقيدون كجنود، ويتقاضون رواتب جنود، إذ لا توجد وظائف. ثم تلاميذ (دار الأيتام) التي كان أسسها مهدي بموافقة الأمير فيصل والكبار الذين انتهوا من دراستهم الإبتدائية... كلهم سيفرحون جداً إذا وجدوا أن أمامهم فرصة ليكون لهم مستقبل وظيفي أفضل من واقعهم.
قاطعني قائلاً:
:ـ ولكن أين البناية التي نفتح فيها هذه المدرسة؟... ثم أين الأساتذة؟
فأكملت له شرح المخطط، فالأساتذة هم الضباط الموجودون... وأما البناية فهي تلك القاعة الواسعة واسمها (قاووش) التي تستوعب أكثر من خمسين طالباً وهي تستخدم الآن لراحة الجنود ثم قلت:
:ـ لقد اتفقت مع نجّار أعرفه لصنع المقاعد والسبورة.. وسأدفع له قيمة كل ذلك بالتقسيط.
* * *
وفتحت المدرسة، ونجحت الفكرة وأخرجتْ عدداً من ضباط الصف، برتب، منها (عريف ممتاز) (ونائب) إلى (وكيل ممتاز)... يذكر الكثيرون من المواطنين اليوم. أن من وصل إلى رتبة اللواء من هؤلاء بل ـ إذ لم تخني الذاكرة ـ إلى رتبة (فريق) ويمكن القول أنهم قد ملأوا الفراغ طوال سنين، حاجة الأمن العام إلى خدمة الأمن أو الشرطة في جميع انحاء المملكة... وعلى الأخص منها تلك المناطق النائية التي كانوا يتهيبون العمل فيها، بمرور الزمن من جهة، وتحسُّن الدخل وسبل المواصلات والإتصال من جهة أخرى أصبحوا يجدون فيها الوسائل لتحسين أوضاعهم وشق الطريق إلى حياة أفضل مما لو ظلوا في المدن الكبيرة في الحجاز.
* * *
كان الشيخ يوسف بصراوي وهو والد زوجة مهدي بك رجلاً ودوداً كما يمكن أن يقال أنه كان على جانب من الثقافة التي يشعر الجالس إليه أنه في مستوى أعلى من أقرانه من رجال المدينة في تلك الأيام، وعرفت مع الأيام أنه ممن درسوا في اسطمبول في جامعة ربما كانت معروفة باسم (دار الفنون)، وكان في المدينة من هؤلاء، السيد حسين طه والأستاذ ماجد عشقي وربما آخرون لا أعرفهم.
والمشكلة مع الشيخ يوسف رحمه الله هو ضعفه في اللغة العربية التي أصبحت هي اللغة الوحيدة التي لابد أن يجيدها الموظفون في جميع مصالح الدولة.
وكانت المفاجأة بالنسبة لي، أن طلب مهدي أن اقابله، وقال لي السيد محسن حواري، وهو كما نعلم رئيس القلم، أو ما يعرف هذه الأيام، باسم (مدير مكتب.. المدير.. أو الوكيل، أو الوزير) قال لي:
:ـ يا بختك.. أنت صدر الأمر بتعيينك (كاتب ضبط) مع رئيس القسم العدلي العم يوسف بصراوي في المدينة، وما هي الاّ دقائق حتى قابلت مهدي بك وسمعت منه أن الأمر قد صدر ـ (وأيامها كانت أوامر تعيين ونقل الموظفين تصدر من نائب جلالة الملك) ـ بتعيينك (كاتب ضبط) عند رئيس القسم العدلي في المدينة وبعد أن أنزل نظارته إلى الأرنبة من انفه قال وفي وجهه ظل ابتسامة.
:ـ وقد ازداد راتبك... راجع المحاسب أبو الخير وقد أمرته بإجراء اللازم لسفرك بسيارة البريد. واسرعت اراجع المحاسب الأخ عبدالقادر أبو الخير الذي ما كاد يراني، حتى بدأ يقول:
:ـ مبارك... مبارك... سيارة البريد تسافر يوم السبت... واليوم (الربوع). يعني تجهز نفسك للسفر بدون أي تأخير... هادا أمر مهدي بيك بنفسه.
ولم أجد حرجاً في أن أقول.
:ـ مهدي بك بشرني بزيادة في الراتب... كم هادي الزيادة؟
وابتسم وهو يدور بنظراته على الموظفين حوله ليقول:
:ـ تحمد ربَّك، والشكر لله... الزيادة ما هي قليل.
:ـ طيب.. لكن كم؟
:ـ ريالين
واعترف بأني صعقت، وظللت فاغراً فمي أمامه لحظات، أذ ما قيمته الريالين لموظف ينقل من عمله في مكة إلى المدينة؟ ولكن لا سبيل إلى المناقشة أو الرفض، لأن أوامر النقل والتعيين في وظائف الدولة في تلك الأيام، مهما كان شأنها وأهميتها كانت تصدر بأمر (سام) بتوقيع الأمير فيصل بن عبدالعزيز، وهو النائب العام في الحجاز.. فما الذي يمكن أن يوصلني إلى مقام سموه لأرجوه بقائي في وظيفتي بمكة...
ومع أني لم أكن راضياً أو حتى متطلعاً إلى واقع أفضل. فقد كانت المفارقة في البيت إذ فرحت أمي فرحاً شديداً. بلغت بها أنها أخذتني في حضنها وقبلتني وهي تقول:
:ـ أنا من زمان قلت إنك (رجّال). وكل يوم أصلي وأدعي لك.. هيا روح المدينة رجّال وسيد الرجال.. الله يكون في عونك... ولما عمك يجي بعد شوية ويسمع بالخبر... هوّه كمان رايح يفرح ويساعدك باللي يقدر عليه.
وبعد أن التزمت الصمت بضع لحظات قالت:
:ـ لكن يا ترى فين رايح تسكن؟ يا عزيز
والواقع أني كنت خالي الذهن تماماً من حكاية السكن بل لم يخطر لي ببال أني أحتاج إلى غسل الملابس، وسرير النوم الخ، وكل ذلك في منزل آوي إليه. عني مبلغ من المال استطيع أن أستأجر به منزلاً ولكن ماذا عن الكثير جداً من الحاجات التي لا يستغني عنها من يعيش منفرداً وحيداً.
وهنا لا أخفي أني تذكرت صديقي (محمد نيازي) ابن العم اسماعيل الذي كان أول من عاملناه بعد العودة إلى المدينة من تلك الهجرة إلى الشام أيام الأتراك... كان صاحب ما كان يسمى (مغازة) يتاجر فيها بالأقمشة الصوفية للشتاء والحريرية للصيف، وكان محمد نيازي هو ابنه الثاني أو الثالث وقد استمر في المدرسة الراقية، ولكنه كان شغوفاً بالأدب، ومن هنا كان إعجابه البالغ بما كنت أكتب إليه من رسائل تعجبه أيما إعجاب.
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1252  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 85 من 86
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج