شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الفصل الثاني عشر
لم يقل لنا أحد شيئاً عن الموعد الذي نغادر فيه جدة إلى مكة المكرمة، ولكن هذا لم يمنع أن نستعد بجمع ولف وتوضيب الأشياء التي جئنا بها من المدينة... وكان الجديد الذي فكر فيه ودعا إليه محمد شريف وفهمي الحشاني وغيرهما من الكبار هو (الإحرام) إذْ لا يجوز دخول مكة، إلا بالاحرام ونية العمرة... وأخذت أسمع تفاصيل العمرة وثوابها، والكعبة المشرفة والحرم المكي الشريف اللذين كثيراً ما سمعت عنهما من أمي وغيرها في المدينة. وتمنيت أن أنال ثواب هذه العمرة كالآخرين ولكن كانت المشكلة في رداء الإحرام... الذي كان لابد من شرائه من السوق بينما كان الزملاء قد استعدوا لذلك من المدينة.. والذهاب إلى السوق مشكلة إذ لم أكن اعرف الطريق إلى السوق، وقال فهمي:
:ـ ومين اللي يعرف يروح السوق اللي نشتري منه الإحرام؟ كلنا هادي أول مرة نشوف فيها جدة.. ثم توقف عن الكلام لحظات ليقول:
:ـ إنت ماتزال صغيرا.. ليس عليك أن تؤدى العمرة، أو ترتدي الإحرام.. يمكن عبدالحميد زيك كمان.
* * *
قبيل الظهر، جاء رسول من قادة الإدارة يخبرنا أن الرحلة إلى مكة ستبدأ بعد صلاة العصر، ولكم علينا أن نجهز أنفسنا ونحمل حاجاتنا على الجمال... التي ستكون عند باب المستشفى بعد صلاة الظهر..
وفي الموعد، وجدنا عشرة جمال عند باب المستشفى فعلاً... حمّلناها حاجاتنا.. وكما كنا في السفر من المدينة ترافقنا أنا وعبدالحميد على جمل وبدأت قافلتنا مسيرتها قبيل الغروب... وبدأ الزملاء (المحرمون بنية العمرة) يرددون (لبيك اللهم لبيك) اختلفنا قليلاً أنا وعبدالحميد على من يكون أمام الآخر على ظهر الجمل.. واتفقنا على أن نتبادل الأماكن بين وقت وأخر..
وكانت أمامنا من القافلة أربعة أو خمسة جمال يتقدمها محمد شريف وفهمي معاً..
وكان الجمال رجلاً طيباً حريصاً على ارضائنا.. وفي يده مغراف من النحاس كبير، يفرغ فيه حاجتنا من الماء من القرب المعلقة على الجمال.
وقال الجمال بعد مسيرة ساعة أو أكثر:
:ـ هادي أم السلم... فيها عسكر الحكومة. وعرفنا أنها أولى محطات طريقنا إلى مكة... لم يكن فيها شيء غير مقهى صغير، وشجر على ربوة خلف المقهى.. قالوا أنها شجر (الشوك) ولذلك سموها أم السلم أي (أم الشوك).
ونزلنا عن الجمال للوضوء والصلاة فقد غربت الشمس ودخل الليل.. ويومها عرفت صلاة الجمع والقصر) أفهمنا ذلك محمد شريف إذ قال:
:ـ صلاة المغرب ثلاثة ركعات، وبعدها صلاة العشاء ركعتان... وهذا هو الجمع والقصر.. فجمع بين فرضين مع قصر الأربعة ركعات إلى أثنتين... وكان هو إمامنا... وبعد الانتهاء من الصلاة عدنا إلى ركوب الجمال.
ومع أننا في الهواء الطلق فقد كان الحر شديداً وكانت اجسامنا لا تتوقف عن إفراز العرق، وهذا إلى جانب الرطوبة اللزجة التي تخنق الأنفاس... ولكن لم يكن أمامنا إلا الصبر...
وكان الظلام طافياً، وحتى الهلال وهو في أواخر أيامه، كان يحجبه الغمام.. لم يكن في السماء أثر للنجوم.
مررنا بمحطة اسمها (الشميسى) ولكن لم نتوقف عند المقهى الصغير الضئيل الذي لا يضيئه إلا فانوس هندي صغير.
وظلت القافلة تسير، وأخذ الجمال يغني ورفيقه يطيب له الغناء كلما انتهى من أقواله التي لم نكن تفهم كلمة من كلماته.
ثم سكت الجمال من غنائه، أحسسنا برهبة الليل في هذه القفار.. لم أشعر بالخوف إذ سبقت لي تجربة السفر على جمل واحد مع أمي في عودتنا من ينبع إلى المدينة... ولكن عبدالحميد قال:
:ـ أنا خايف يا عزيز
وما هي إلا لحظة حتى سمعنا عواء ذئب ثم عواء ذئاب أخرى.
قال عبدالحميد:
:ـ إنت سامع يا عزيز
:ـ بالطبع سامع، هادي الذئاب تعوي لأنها جائعة.
:ـ بس إنت ما أشوف أنك خايف.
:ـ أخاف من إيه؟ من صوت الدياب؟؟ أنا ما أخاف أبداً.. عشان اللي شفته وأنا طفل صغير علمني إني ما أخاف ابداً.
:ـ ولا تخاف من الأموات؟.. من الناس اللي يموتوا؟.. أنا اللي شفتهم ماتوا يغطوهم بشرشف، وبعدين ياخدوهم ويدفنوهم في البقيع... لكن أنا ما شفت وجوههم أبداً.
:ـ وإيش اللي جاب سيرة الاموات.. في عقلك.. خايف تموت؟
:ـ الظلام يا عزيز... الظلام هوّه اللي يخلّي الواحد يفكر في الموت... الظلام... في القبر اللي يدفنوا فيه الميت زي ما دفنوا عمي.
:ـ أعوذ بالله من ظلام القبر.. هادا ظلام الدفن تحت التراب.. أما هادا الظلام اللي نحن عايشين وماشيين فيه... ماهو ظلام... دحين يمكن يبان القمر والنجوم.
:ـ اللي مات شفتهم غطوه بشرشف.. وبعدين شالوه وفهمت إنهم دفنوه في البقيع كان وجهه يخوف... إنت ما تخاف لما تشوف الميت؟
ضحكت ضحكة خفيفة وقلت:
:ـ أنا شفت مئات الأموات في حلب وأنا صغير مع أمي في العربيات اللي تنقلهم بعدما تجمعهم من الشوارع والأرصفة... ويمكن معاهم العساكر اللي انقتلوا في الحرب... مساكين مكشوفين... ما عليهم غطا... ولا أحد يبكي عليهم...
:ـ ولكن إيش اللي موّتهم؟
:ـ المرض... والجوع... والحرب
:ـ قلت المرض؟! هوّ ما كان لهم أهل يداووهم؟...
:ـ أهلهم كانوا بيموتوا... يكونوا ماشيين في الشوارع وهم جيعانين ومرضانين ما يصحوا بهم إلا وهم طايحين في الأرض... يجوا يشوفوهم يلتقوهم أموات..
ثم أحببت اختصار الحكاية.. فقلت هوّ انتو ما سفركم فخري في البابور على الشام؟
:ـ لأ... نحن رحنا ينبع، وما شفنا أي شيء من الأشياء اللي شفتوها في الشام.
:ـ طيب رايح أحَكيك حكاية تخوّف اللي يخاف من الموت والأموات زيّك..
:ـ حكاية ميت؟
:ـ إيوه حكاية ميت.. وميت في قبره كمان... كنت بأتمشى في الطريق إلى العوالي... وناوي أرجع البيت قبل المغرب لكن اللي حصل إني بدون ما أدري وعلى غفلة سقطت في حفرة... وقبل ما أحاول أخرج منها شفت قدامي جمجمة واحد ميت من سنين.. اللي كان ظاهر منه هو الجمجمة ... أماجسمه فكان تحت التراب ... وما أدري كيف اتذكرت كلام عمّي جوز أمي عن جمجمة الإنسان وكيف تتفكك..
:ـ تتفكك؟
:ـ إيوه تتفكك أوصالها عن بعض.. والحقيقة إني خفت من شكل الجمجمة وقعدت أفكر كيف أقدر أفصلها عن الجسم كله.. وأخذها عشان أشوف كيف تتفكك.. وبعد شوية وجدت نفسي أنحني وأمسك الجمجمة بيدي وحركتها يمين وشمال، وبعدين بشيء من القوة سحبتها... والتقيتها في يديني... كنت لافف راسي بشماغ.. على طول فكيت اللفة وحطيت الجمجمة في الشماغ... وخرجت من الحفرة اللي هي في الأصل قبر واحد مات ودفنوه في هادي الحفرة... ورجعت أجري إلى البيت القريب ودخلت (حنية) أكياس الفحم وأخرجت الجمجمة وحطيتها في واحد كيس مفتوح من هادي الأكياس.
وسمعت عبدالحميد وهو يجلس أمامي يتكلم بصوت لا يخلو من الرعب.. سمعته يقول:
:ـ وبعدين يا عزيز؟
:ـ وبعدين تاني يوم اشتريت ربع كيلة حمص اللي يطبخوا منه البليلة... وحشيت الحمص في الجمجمة من فتحة الفم وفتحة الإدن وفتحة العينين وكل فتحة.
وعاد عبدالحميد يقول وفي صوته رعشة الرعب.
:ـ وبعدين؟
:ـ وبعدين رجّعت الجمجمة في كيس الفحم.
:ـ علشان إيه؟
:ـ علشان يبوش الحمص وينتفخ وبكدة تتفكك العضام اللي بتحفظ المخ.. وهادا اللي سمعناه من عمي... قال إنهم لما كانوا في مدرسة الطب في إستامبول كانوا، يفككوا الجماجم بهادي الطريقة.. لكن اللي حصل كان مصيبة.
:ـ مصيبة؟
:ـ إيوه... أمي بشرى جات تاخذ فحم من الكيس التقت الجمجمة فاتحة فمها في وجهها صرخت وارتمت على الأرض.. وجات أمي.. وصرخت كمان... وسمعت أنا الصراخ... نزلت أجري.. ورفعت الجمجمة عن كيس الفحم.. وخرجت من الحنية أجري... خايف من العلقة.
:ـ وإيش اللي حصل في الجمجمة مع الحمص.
:ـ اتفككت عن بعض.. وعرفت ربنا مركبها بالطريقة اللي يسموها عاشق ومعشوق... يعني زي أصابع اليد لما تشبكها مع بعض.
وهنا عبدالحميد رفع صوته ينادي الجمّال... واستغربت... ما الذي يريده ونحن في أحشاء هذا الليل المظلم.. وجاء الجمّال.. ليقول له عبدالحميد:ـ
:ـ أنا ما أبغا أركب مع عزيز...
:ـ ليه
:ـ هادا مخاوي الجن والعفاريت.
:ـ جن وعفاريت؟.. شفتهم معاه؟
:ـ لا... لكن أنا ما أقدر أركب مع واحد طول عمره مع الأموات.. ومع جماجم كمان. وضحك الجمّال، وهو يقول:
:ـ لا تخاف.. خليك في محلك.. بعد شوية نوصل بحرة وتشوف إخوانك وخلق الله.. ولا عاد تخاف من شيء.
* * *
وعندما وصلنا بحرة والوقت يقترب من الفجر... وفيها عدد من المقاهي الآهلة بالنزلاء من الحجاج العائدين إلى بلادهم وبالأهالي من سكان جدة ومكة.. انتعشت نفوسنا وأخذنا مجلسنا في الكراسي الشريط... وكان المقهى يجهز وجبات سريعة من الفول أو الرز البخاري فطلبنا من الأكل ما عوضنا الجوع بعد وجبة الكباب التي تكرم بها مأمور الإدارة في مستشفى جدة قبل سفرنا..
وقضينا النهار إلى العصر في بحرة... ولاحظت أن عبدالحميد، كان يحكي حكاية الجمجمة للآخرين.. وما أكثر ما سمعتهم يرددون:
:ـ العياذ بالله... هادا ما يخاف الله يفصل جمجمة الميت... ويفككها كمان؟ هادا لو ما كان صغير السن، كان ربنا يدخلوا النار.
وهنا تدخل فهمي الحشاني يقول:
:ـ هاداهوه اللي رايح يسبقنا كلنا في مدرسة الطب... علشان فاهم من عمه أشياء كتير، نحن مانعرفها ولا سمعنا عنها.
وقبيل أذان العصر، تأهبنا للرحيل إلى مكة المكرمة وفي أذهاننا ذلك الحلم الذي عشناه خلال هذه الرحلة الطويلة بالجمال في الشقادف، ثم في البحر على السفينة أم الخير، إلى جدة، ومنها هانحن من بحرة إلى مكة... إلى بيت الله الحرام، وفيها مدرسة الطب التي نحلم بأن نتخرج منها دكاترة.
وأخيراً مع الفجر دخلنا مكة عبر الباب الكبير في جرول... والجميع يرددون (لبيك اللهم لبيك).. وقال لنا الجمّال وهو يلفت نظرنا إلى المعالم التي تراها:
:ـ هادي القشلة... وأنا أعرف كيف أوصل (أجياد)... لكن ما أعرف فين اللي قالوا إنو اسمها (الصحة).
وأجاب محمد شريف:
:ـ إذا وصلنا أجياد، لابد نلقى اللي يدلنا على (الصحة) وهيّه اللي فيها المدرسة.
وظل الجمّال يذكر لنا ما نمر به في الطريق إلى أجياد إلى أن وصلنا منطقة فيها، ما عرفنا أنه يسمى (البازان) حيث يقوم السُّقاه، بالصفيحتين على الكتف، أو بالقربة الكبيرة من الجلد على الظهر بنقل المياه إلى البيوت... وهنا لم نحتج إلى من يدلنا على الصحة التي لا يعرف الجمال موقعها... فقد رأينا المبنى الكبير وعلى بوابته الواسعة لافتة قرأنا فيها (مدير الصحة العامة والإسعاف..).
وهتف بعضنا:
:ـ خلاص... وصلنا مدرسة الطب.
وللمرة الثانية قال فهمي الحشاني بنبرة خفيفة كأنه يحدث نفسه
:ـ ما قالوا أنها مدرسة الطب قالوا إنها مدرسة الصحة.
ولم يخطر لأحد أن يتساءل عن الفرق بين الاثنين.
* * *
ولم يطل انتظارنا لنواجه الحقيقة المذهلة، فقد استقبلنا شاب سوري اسمه (تيسير أفندي) وأرشدنا إلى غرف النوم.. حيث رأينا في كل غرفة ثلاثة أو أربعة أسرّة من الحديد عليها مراتب بيضاء نظيفة، ودولاب خشبي عريض حشدنا فيه أشياءنا بعد أن بسطنا عليها اللحف والمخدات التي جئنا بها من المدينة... وعند الظهر تقريبا جاءنا (تيسير أفندي) وقادنا إلى المدير العام عبر حديقة فيها بعض الأشجار وبركة ماء صغيرة جداً في الوسط والأرض خضراء بالنجيل.
وفي مكتبه الفخم رأيناه.. وهو رجل تجاوز الخمسين من العمر أبيض اللون أشقر الشعر.. طويل القامة... لم نجد على وجهه أثراً لابتسامة أو ارتياح... ولاحظنا ونحن أمامه أن معنا آخرين من الشباب سرعان ما علمنا أنهم أيضاً طلاب في المدرسة مثلنا ومن أبناء مكة..
لم يقل المدير العام وهو واقف ينظر إلينا ويتأمل وجوهنا بعينيه الزرقاوين وراء نظارة ذهبية الإطار وملامحه الصارمة، لم يقل إلا كلمتين هما:
:ـ التمريض مهنة شريفة... والمجتهد منكم سوف تكون له وظيفة (ممرض ممتاز)... ثم التفت إلى تيسير أفندي، وقال له:
:ـ خذهم إلى الدكتور خيري بك.. ليعرفهم ويعرفوا هم أيضاً أنه مدير المدرسة.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :720  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 83 من 86
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج